عماد فؤاد - صورة

الصّورة ذاتها حين تتآكل وتصفرُّ وتهترئ أطرافها
الصّورة لا تعني في ذاتها شيئاً
سوى أنّها ورقة ذات وجهين
واحد مصقول
مهيّأ لتشرِّب محاليل التّحميض
وآخر عاديٌّ
أبيض في الغالب
ليُظهر الملاحظات والتواريخ
ويرفض التأثّر ببصمات الأصابع
الآخر هو ما يعنينا لأنّه
يحمل بصورة ما شيئاً منَّا
هو ما يجبرنا على منحه القداسة اللازمة
لنحتفظ بهذه الورقة في ألبوم الصّور
القداسة ذاتها التي تجعلنا في لحظات الحنين الآسر إلى الماضي
نتذكّر بابتسامة حالمة ما كنّا عليه
وعضَّة خفيفة من ناب الذّكرى على بطن شفتنا السّفلى
كفيلة بردِّنا إلى ما صرنا إليه
المسافة كبيرة فعلاً بين هذه الابتسامة وتلك العضَّة
تشبه إلى حدّ بعيد المسافة بين مفهومينا عن القبلة
وتكاد تتطابق مع اختلافنا في حركة شفتينا حين تتلامسان
المسافة كبيرة فعلاً
بين عضَّتي التي جعلت شفتكِ العليا تتورَّم بعد قُبلتنا الحقيقيّة الأولى
وبين ابتسامة التلذّذ التي أهديتنيها
وأنتِ تعاتبينني على توحّشي
أثناء تقبيلك.
أنظرُ إلى الصّورة المهترئة بعين تحاول تلافي تكسُّر السّطح المصقول
أتغاضى عن الخربشات التي خلَّفتها الأيام على الوجوه فمحتها
محاولاً أن أتبيّن ما غاب من ملامحكِ بسبب الأبيض والأسود.
الوجوه بلا ألوان كما تعرفين
فلا وجهكِ أبيض ولا هو أسمر ولا هو بنيٌّ ولا هو أشقر
وجهكِ هو وجهكِ
وهذا يكفي كي أراه بلا لون محدّد
انثناءة حاجبيكِ لا تشبه قوسين مفتوحتين فوق عينيكِ
ولا تتطابق رسمة شفتيكِ مع رسمة شفتيَّ
جبينكِ يلمع تحت الشّمس
وكذلك شعرك المصبوغ
العدسة كانت ذكيّة وهي تلتقط التّفاصيل كلّها
وكانت قاسية.
حين لم تُبقِ شيئاً من التّفاصيل
أظلّ أدور بعينيَّ محاولاً إمساك لحظة البهجة السّاكنة في عينيكِ البنّيتين
دون فائدة حقيقيّة
فتعصر يدٌ غامضة قلبي الصّغير:
لماذا يا الله خلقت قلوبنا قلوباً؟
إن خيّرتني بين الصّور التي أعجبتني
فسأختار تلك الصّورة التي لا أعرف كيف استطاع مصوّرها
أن يبرز وجودنا ونحن على هذا البعد في الكادر ذاته
وأنا جالس في المقهى المشمس القريب أشرب قهوتي الصّباحيّة
وأنتِ قادمة بمشيتكِ الوئيدة ترتدين نظّارة الشّمس البُنِّية
وتبحثين عنِّي على مقاعد المقاهي المتراصّة كالتّلاميذ في طابور الصّباح
سأختار صورتكِ وأنتِ تعانقينني حين فاجأتكِ
وفتحتُ باب غرفتكِ
بعدما أغلقتُ معك الهاتف للتوّ وأوهمتكِ أنّني ذاهب لشراء حاجيات للبيت
وأنّني لن أراك الليلة
سأختار صورتكِ وأنتِ واقفة أمام مرآتك
تعدِّلين من شعركِ
وأنا جالس أشد تنُّورتك الطّويلة على ردفيكِ
وأتأمّل الاستدارة السّاحرة والبروفيل الآسر، لهذه الفخذ الحيّة التي أعشقها
سأختار صوراً كثيرة
كلّها بالأبيض والأسود
وسأترك كلّ صور الكاميرا الدّيجيتال جانباً
لأنّها بصورة ما
كاذبة.
أسبوع بكامله
ونحن في مدينة غريبة
لا يعرفنا فيها أحد
ولا نعرف فيها أحداً
لم نحمل الكاميرا مرّة واحدة
ولم نتوقّف أمام باب كاتدرائية لنبتسم أمام عدسة ما...
من أين جاءت كلّ هذه الصور إذاً؟



.

صورة مفقودة

فتاة من الجزائر العاصمة لوحة الأمريكي فريدريك برجمان
 
أعلى