عزت القمحاوي - فقه الرغبة من الروض العاطر إلى مواقع الجنس على الإنترنت

ليس هناك ما هو أكثر حكمة من حكاية تحكى جيدا.

هذا ما آمنت به في نهاية رحلة طويلة بين الكتب والمخطوطات الشهوانية بحثا عن شيء يتعلق بأماكن الحب. وكانت دهشتي كبيرة؛ إذ إن الكتب العربية التراثية ـ وهي عمدة في هذا الأمر ـ تخلو من أية إشارة إلى الأماكن المستحبة لفعل الحب أو الأماكن المؤججة للرغبة. ورغم اهتمام كتب مثل: تحفة العروس، رجوع الشيخ إلى صباه، ونزهة الألباب بكثير من التفاصيل التي زعم مؤلفوها صلتها بهذا الأمر ابتداءً من صفات الرجال والنساء بعامة، مرورًا بالمقاييس الجمالية لأعضاء الجسد، والأطعمة المقوية التي يسهل التحصل عليها والأخرى التي تقع في باب المستحيلات. ولكن تلك الكتب تتعامل مع كل هذا وكأنه يجري في اللامكان!

في الروض العاطر يعلنها الشيخ النفزاوي بلا أدنى تردد:”اعلم أن أسباب شهوة الجماع ستة: حرارة الصبا، وكثرة المني، والتقرب فيمن يشتهى، وحسن الوجه، وأطعمة معروفة، والملامسة“.

وقد كلف مؤلفو هذه الكتب أنفسهم وكلفوا قراءهم مالا يطيقون من وصفات الأطعمة والأشربة المقوية للباه، ومن ذلك ما يوصي به أبوالنصر علي بن عبد الصمد الشهير بالكاتب الطبيب في ” جوامع اللذة” من أكل قضيب الذئب المشوي إلى مرارة الدب (إذا أخذها الرجل وربطها على فخذه الأيمن عند النوم جامع جماعا كثيرا من حيث لا يضره)، وزبل الثعلب (يسحق ويذاب بدهن ورد ويطلى به الإحليل وقت الجماع ) وأسنان التمساح( إذا أخذت من الجانب الأيمن وعلقها الرجل على عضده) خصي الثعلب اليمنى، قلب الهدهد، جلد القنفذ، جلد السلحفاة.. الخ

ربما وضع مؤلفو تلك الكتب الوصفات الغريبة من باب السخرية من آلام البشر، وربما كانت على العكس من ذلك تنطلق من نبل الطبيب تجاه الميئوس من حالاتهم، إذ يوارب لهم بابًا ضيقًا لأمل لن يبلغوه أو يفقدوه، بتعليق الشفاء على بعض من حسن الحظ ييسر لهم صيد ذئب يستأصلون عضوه أو دب يحصلون على مرارته، أو ضبط ثعلب يخرأ للحصول على زبله. وكان من الممكن توفير كل هذا العناء لو أنهم انتبهوا لأهمية المكان ونصحوا بالأماكن الجيدة التي قد تعيد للبدن قوته وتغني صاحبه عن ملاحقة الضواري.

والغريب أن مؤلفي هذه الكتب ينتمون إلى حواضر الدولة العربية أيام عزها، ومع ذلك كان من الممكن أن نعلق عدم عنايتهم بالمكان على تأصل انتماء خيالهم إلى طبيعة البيئة الصحراوية قليلة التباينات، إلا أن هذا ليس وقفا على المؤلفين العرب للأسف، فحتى الكاماسوترا: التي وصفت بإسهاب الأوضاع الأربعة والستين لم تذكر شيئا عن المكان اللهم سوى نصيحة عابرة للملوك بعدم دخول بيوت رجال آخرين، والتحايل بدلا من ذلك لإدخال المرأة المشتهاة إلى القصر (حتى لا يقتل الملك في بيوت العامة) وهي نصيحة قليلة النفع لأنها لا تهم سوى بضعة رجال في العالم، أو بضعة مئات من الرجال إذا ما أضفنا للقائمة القادرين على مثل هذه المغامرات من الرؤساء وقادة الانقلابات المتتابعة في المناطق الحارة، ويزيد من قلة نفع هذه النصيحة أنه لم يعد هناك الكثير من الرجال على استعداد للغضب من زوجة عاشقة لرجل مهم!

المواقع الجنسية على الإنترنت تبدو أكثر حفاوة بالمكان من الكتب الشهوانية القديمة، فأحد هذه المواقع يحوي عناوين فرعية كالأتي: الجنس في المطبخ، غسيل السيارة، مجموعات في الهواء، سحاقيات في الغابة، الجنس في القارب، الجنس في الساونا، إلى آخر هذه الأماكن، ومعظمها مع ذلك مسارح استعراض، ولا يمكن أن نتوقع فيها حضور الرغبة الحقيقية، فنحن نتوقع أن يطلق اللعب بمرش الماء شرارة الرغبة بين اثنين يغسلان سيارة، لكننا لا يمكن أن نتخيل كيف ينهمكان في فعل الحب بالحديقة. والشيء نفسه يمكن أن يجري مع اثنين في مطبخ، ولكن الذوق السليم يقتضي المغادرة إلى مكان آخر، على الأقل لأن الأنف الطبيعي لا يستطيع أن يهتم بروائح احتراق الجسد والأكل معا!

الحكايات وحدها تهتم بالمكان كنوع من الإمعان في الواقعية. ولكنها دون قصد تسدي للمأزومين خدمة كبيرة بتنبيههم إلى الأماكن الأنسب للحب، وتكاد الروايات تأخذ بالنصيحة العادية التي ينصح أحدنا بها صديقه وهو يتثاءب في نهاية ليلة من ذم الملل: حاولا القيام برحلة غير عادية.

الصديق أوالصديقة الذي ينصح بتلك الرحلة غير العادية من أجل إنقاذ علاقة تبدو مهدمة قد لا يصارح الآخر بأن أول شروط كسر الاعتياد هو تغيير الشريك، لكن لا أحد على استعداد لقبول تكلفة قول الحقيقة. ومن حسن الحظ أننا نستطيع أن نقول ذلك بكثير من المواربة من خلال أمثولة رواية جيدة.

وسنلاحظ أولاً أن أماكن الرغبة هي الأماكن الحدية في الخطر والأمان والنظافة والقذارة، والنعومة والخشونة، حيث يتهيج البشر في الأماكن المخالفة لأماكن عيشهم، ولذلك فإن معلمي القص العظام ( أعني الرواة المجهولين لألف ليلة وليلة ) اعتادوا أن يحملوا الفقراء إلى القصور، بينما يخصون الملوك والوزراء وأثرياء التجار بالبيوت الخطرة في نهايات الحواري الفقيرة المهجورة أو الجزر المنعزلة الموحشة في عرض البحر.

ولا يشترط في المكان الجيد أن يكون على مسافة كبيرة تستلزم السفر، فـ “كوني” أو الليدي شاترلي لم تكن بحاجة سوى للسير بضع خطوات لكي تغادر ملل القصر وتجلس مثل متسولة على عتبة كوخ مربي الطرائد وتجد لذتها في خشونة الخيش الذي تستلقي عليه وخشونة أداء الرجل الأجير لدى زوجها وقد أسرها بكبريائه الصامت. ويمكننا أن نرى كوخ ميلورز في رواية عشيق الليدي شاترلي مستنسخا في غرف السائقين والخادمات بكثير من قصور هذه الأيام، والتي تذهب إليها الزوجات: في المجتمعات المفتوحة بدافع من الملل والضجر من رجال طبقتهن المتكلفين، وفي المجتمعات المغلقة بدافع من الضرورة، حيث يصعب الاختلاط برجال غير خدم الزوج الغائب بصفة مستمرة.

ديسيديريا بطلة أنطونيو جالا في “الوله التركي” ليست من ساكنات القصور وليس لديها غرفة لسائق بجوار باب القصر، ولذلك كان عليها أن تسافر كل هذه المسافة من إسبانيا إلى تركيا لكي تتحد مع الدليل السياحي يمام في السندرة المظلمة سيئة التهوية بمتجر يبيع فيه السجاد والهيروين. ذلك المكان البعيد شهد اشتعال ولهها وقادها إلى الموت غريبة وحزينة ولكن مشبعة. أما إيزابيل الليندي المرأة التي تبدو خبيرة بشئون الكتابة وأشواق الجسد فقد جعلت الفتاة البرجوازية إلزا سومرز ” ابنة الحظ” تتعرف على جسدها في لحظة ومكان ومع شخص يمثلون ثلاث إهانات متراكبة لطبقتها، فهي وقعت في سحر الفتى المعدم قليل الوسامة خواكين أندكيتا العامل عند عمها، وبدأت تقابله خلسة في مخزن حار قذر. وكانت هذه العلاقة الغريبة الذروة التي عرفت أنها لن تصلها مرة أخرى فعاشت عليها مكررة خطأ عمتها روز التي حاولت حمايتها بشتى السبل من مثل مصيرها، لكن العمة ـ على عكس ابنة أخيها ـ بلغت ذروتها الأولى والأخيرة مع مغني أوبرا افتضها في مسرح.

الشاب الفقير جوليان بطل الأحمر والأسود لـ ستاندال (الذي تكاد مدام بوفاري لفلوبير تكون معكوسه في النوع والطبقة ) عاش حياة مشوشة خالية من السلام لأنه كان يطارد قصور الطبقة الراقية أو أن قصور هذه الطبقة كانت تطارده كقدر عنيد انتهى به إلى المقصلة.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فصل “مطارح الغرام” من كتاب “الأيك”.


.




صورة مفقودة

البراق للرسام كاظم حيدر
 
أعلى