قصة ايروتيكية محمد السقفاتي - المتاهة والتشهي

  • بادئ الموضوع محمد السقفاتي
  • تاريخ البدء
م

محمد السقفاتي

قبلت الدعوة بتلقائية دونما تفكير مسبق. حينما وصلت إليهما، أخذت كرسيا ودون تفكير مسبق أيضا وضعته بينهما أمام مائدة الغذاء. وهكذا جلسنا نحن الثلاثة كلنا جنبا الى جنب على طرف واحد من المائدة.

كنت قد تأخرت عن الموعد بدقائق عديدة، ولم يتسن لي أن أفكر بعمق في السؤال الذي راودني لحظة الجلوس، حول سبب ميلي إلى الزحمة واختياري هذا المكان بالضبط بينهما.

ربما الجواب بسيط ومر في آن واحد، لأنه يجابهني بحقيقة أنني مازلت أتخبط في نفس المأزق بين هاتين الإثنتين وأخفق كل مرة أقدم فيها على الإختيار.

لم يكن حديثهما من ذلك النوع المرح الذي ترقبته من هذا اللقاء الذي باغتني بعد قطيعة طويلة بيننا. كان من ذلك الصنف المألوف المتخم بالحزن والمثقل بالشكوى من القدر التعيس الذي كتب لهما، والإخفاقات التي تطال كل محاولاتهما لتحقيق السعادة في حياتهما، وصعوبة إيجاد رجل مناسب لكل منهما.

قالت الواحدة للأخرى ربما كخلاصة لإنهاء الموضوع سريعا والانتقال الى موضوع آخر يناسب حضوري، أو ربما لـجري إلى موضوع مدبر لاختبار نظرتي المغايرة للأشياء:

- ومن جهة أخرى فإن الأمر فظيع جدا، إن هذا الوضع الذي نتواجد فيه غير صحي بالمطلق وغير مقبول تماما.
التفتت نوال إلي وهي تتابع:
- أنظر إلينا وكن صريحا معنا كما اعتدنا ذلك منك. أخبرنا يا سمير ماذا يخصنا وماذا ينقصنا نحن الاثنتين لنبقى حبيستي هذه الوضعية المتأزمة؟ أهو الجمال والأنوثة أم الهندام والأناقة؟

استدارت نوال بعد طرح هذه الأسئلة إلى صديقتها وبنبرة فيها مزيج من مشاعر التألم، وعدم الفهم، والتحسر، والاستنكار، أكدت:

- إنها حقا مأساة كبيرة لا يقدر المرء حجمها، وإلا فكيف لامرأة مثلي أو مثل سميرة "أن نبقى جافات* لمده ثلاث سنين تقريبا؟

حقا استغربت واندهشت لما سمعته، لكن ما أدهشني أكثر هو إقحام نوال لصديقتها في هذا الإعتراف بالجفاف الجنسي، وأكثر من هذا في حضوري، دون أن تظهر سميرة أدنى اعتراض. كيف لها ألا تعترض وتقول مثلا لصديقتها: أتركيني جانبا يا نوال، وتكلمي فقط عن نفسك وعن حالتك التي تخصك أنت بمفردك، فهذا الجفاف لا ينطبق علي أنا بتاتا.

إني أعرف نوال أكثر من صديقتها سميرة، إنهما غاية في الجمال، ومن ذلك النوع الأخاذ والمشتهى، بقوام ممشوق، وحس كبير بالمسؤولية، وليونة وحنان وتخلق كبير في السلوك، إضافة إلى نضج أنثوي عابق يطفح من كلتيهما. أضف إلى ذلك أناقتهما وذوقهما الرفيع في اختيار ملابسهما، الشيء الذي يضاعف من قوة وبهاء السحر الذي تمتلكانه. فرغم أنهما امرأتان مطلقتان تقتربان من سن الأربعين، فإن اليفاعة والحيوية والعنفوان الذي ينبعث ويشع منهما، قلما نجده لدى شابة في العشرين.

في الحقيقة عندما رأيت نوال للمرة الأولى وهي تمر قبالتي عبر ممر المبنى حيث نشتغل، بتلك المشية المترنحة والخطوات الواثقة، وتلك السيقان المكتنزة الساحرة الحاملة لتلك الأرداف المثيرة المؤججة للرغبة، قررت مباشرة أن أتقرب إليها وأتعرف عليها قصد الفوز ولو بمغامرة عابرة أو بليلة معها، ولو لمرة وحيدة.

بدأت التعرف عليها وبرغم احترامي لها ولمواقفها الذي يكبر تدريجيا ويزداد. فإن رغبتي فيها أصبحت متأججة، وكان ملزما أمام هذا الوضع أن أصارحها أو على الأقل أقنعها لتشاركني السرير. لذا عرضت عليها قبل شهور أن نزور معا حفلة رقص ووجدت في هذه الدعوة فرصة علي أن أغتنمها.

كي يتحقق كل هذا، فإني هيأت الخطة جيدا ووضعت المصيدة في الوقت والمكان المناسبين، وكان لزاما لنوال أن تسقط وتقع فيها... على الأقل هذا ما استنتجته أو تبين لي من رد فعلها وهي ترميني بتلك النظرة البطيئة العميقة الثملة، دون أن تنبس بكلمة حينما تقاسمت معها بعض تفاصيل الخطة .

"وبعد الحفلة سنرى إن كنا سنواصل سهرنا وننتقل إلى حفلة أخرى أم نعود إلى بيوتنا.. وعلى ذكر العودة إلى البيوت فلا تهتمي بالسفر وحيدة في وسط الليل إلى بيتك، يمكنك أن تبيتي عندي وليس لدي أي اعتراض.. في شقتي عدة أسرة ولك أن تختاري منها ما تريدين".

حينما حان وقت الحفلة، دخلت القاعة لأبحث عنها في المرقص، وأكتشف من يشاركها الرقص، أبعدت عني كل مخططاتي فورا ورميتها دون رجعة.

لم أتوجه نحوها. بقيت واقفا مسمرا في زاوية أراقبها منها وأستمتع بتلذذ غريب بما أراه، لكنها باغتتني بالتفاتة إلى الخلف لتبادلني نظرة حنونة مفعمة بالمحبة والفرح.

كنت اعتقد بأن الموضوع الذي يدور حوله الحديث على وشك الإنتهاء، لو لم تسألني نوال بنبرة أنثوية مثيرة:

- وأنت يا لذيذ يا طيب.. ألا تستطيع أن تساعدنا في هذا؟
- كيف؟ سألتها مندهشا، أي مساعدة تقصدين؟
- أن تقوم بمحاولة الربط بيننا وأحد من أصدقائك أو أقاربك ومعارفك؟ أحد تضع فيه ثقتك كثيرا وتعرف أنه رجل يناسب؟

فكرت في قصة ارتباط سميرة التي روتها لي شخصيا بلسانها، وداهمتني لحظتها تساؤلات كثيرة التزمت معها الصمت .

لاحظت نوال اضطرابي ورجحت ذلك إلى أن طلبها المساعدة مني هو السبب الذي طوح بي في متاهات الصمت العميق، فقررت أن تسترسل لتقنعني أكثر :

- إنني بسيطة يا سمير، وكما تعرفني فإني أيضا متواضعة جدا. أحس أن الحاجة تُلِّح علي، وأنا قد تنازلت عن الكثير من الشروط التي كنت أفترض وجودها في الرجل الذي سأختار العيش معه. لا تهمني الآن مهنته ولا دخله ولا مستواه الدراسي ولا أشياء أخرى كثيرة. أقبل الآن حتى بشخص يصغرني بعشرة أعوام إذا كان هذا ضروريا.

- وعلي أنا أيضا ينطبق نفس الشرط. قالت سميرة، إني أتنازل عن بعض مبادئي، وسأقبل بخمسة عشر فارق سن، فوق سني أو تحته، لم يعد أمر السن يهمني. إنه لا يهم بتاتا، الرجل المناسب هو ما نريد..

قالتها وهي تبادلني نظرة جعلتني أستعيد المرقص واستحضر تعثراتي وإخفاقاتي في تلك الأمسية التي جمعت بيننا.

- إنها هي من كانت السبب. هي التي جعلتني أنبذ كل مشاريعي وأتخذ مسافة من مخططاتي.

كم لمتها في السر والعلانية لتضييعها علي فرصة الدخول في مغامرة عاطفية أكتشف في ثناياها كيف هي نوال جنسيا وعلى ماذا تتوفر من ملذات ومهارات في هذا المجال.

كانت سميرة في تلك الأمسية تراقص نوال بشكل حميمي جدا يطلق العنان للشكوك والتساؤلات، وكانت تظهر في رقصها خفيفة رشيقة وكأن أجنحة لا مرئيّة تحملها وترفعها إلى الأعلى. رجلاها تبدوان وكأنهما لا تلامسان الأرض بينما هي غارقة كليا في نشوة من "الترانس" الروحي من ذلك الصنف الرفيع المستوى الذي تنسلخ فيه الأرواح عن الأجساد، والمادة عن الأرض وتتخلص الأثقال من جاذبيتها.

كانت غائصة عميقا في عالم أسمى وأحلى، غير آبهة بتلك العيون الكثيرة التي صوبت نحوها وتتابع بتركيز شديد اهتزازات جسدها مستمتعة متلذذة.

لقد سبق لي أن رأيتها هي أيضا في مبنى العمل واستنتجت سريعا أنها صعبة ومستعصية المنال ولن ينجح أي مشروع معها. كان يشع منها كبرياء لا يوصف وثقة نفس لن تجدها إلا في ثلة قليلة من الأشخاص بين آلاف الناس، وتعطي انطباعا بأنها مستقرة تمتلك كل شيء، وراضية جدا على حياتها أو كما يقول المثل الهولندي:

huisje boompje beestje

( بيت، شجرة، مخلوق)

بالرغم من أن جمالها أدهشني، فإني لم أفكر أبدا في التقرب منها، مثلما أجهل أيضا أنها مغربية.

إن سميرة مخالفة تماما لنوال. جسمها أطول، شعرها أشقر، لون عينيها يراوح بين الأزرق والأخضر، التكورات في جسمها رغم صغرها مقارنة مع نوال، بارزة مصقولة ومشدودة أكثر، وتبدو أكبر حجما مما هي عليه في الحقيقة بسبب خاصرتها النحيفة وجسمها الرياضي الرشيق.

ومع ذلك فإنهما تكملان بعضهما بعضا، وتبدوان معا كشخصيتين مؤطرتين في لوحة فنية واحدة، متناغمة في ألوانها ومنسجمة في تفاصيلها.

لو لم أكن أعرفهما من العمل، أو كانتا من جنسية أخرى غير المغربية، لطلبتهما معا وفي نفس الآن في ثلاثية (trio ) يحلم الكثيرون بها ولا يدركونها إلا بالتخيل والإستحلام.

كانت ترقص بدهشة، وتتأنق في حركاتها التي تتم بالشكل الذي اعتدت على رؤيته منذ الصغر.

- لا بد أن تكون هي أيضا منحدرة من الريف إذن. همست لنفسي

- وحدهن نساء الريف من يستطعن أداء هذا الرقص بهذه الطريقة المدهشة، أكدت وأقنعت نفسي بشكل مطلق.

حينما رمقتني هي أيضا وأنا أتابع حالما وفي انتشاء بارز رقصها، بدأت تبادلني نظراتها الساحرة الجذابة متناسية الاهتمام بنوال، صديقتها وشريكها في الرقص، وأنستني شخصيا الهدف الذي أتيت لأجله وجعلني أؤم هذا المرقص وأتواجد فيه.

لكن سرعان ما لاحظت نوال هذا التغير الذي طرأ على سلوك صديقتها والتفتت إلى الخلف باحثة في المحيط مستكشفة من يكون الشخص الذي تغازله صديقتها بتلك النظرات العاشقة الشفافة الولهانة. حينما اكتشفتني ارتبكت قليلا وتغيرت ملامح وجهها التي تجلت تعابيرها واضحة تحت أضواء المرقص الكاشفة. ترقبت منها غضبا شديدا وسخطا عارما، لكن بدل ذلك، استجمعت قواها واصطنعت بسمة على جنبات فمها، وأشارت إلي بحركة من يدها لأقترب منها. بادلتني التحية بشكل لم أكن انتظره تماما أمام هذه الوضعية التي انزلقت فيها بسبب صديقتها.

أمسكت نوال أولا بيدي التي مددتها إليها لأحييها، وجرتني نحوها. أعطتني ثلاثة قبلات حميمية دافئة، وطبعت قبلة أخيرة على شفتي كما يفعل حبيبان في لحظة جنون وهيام شديد في بدايات عشق عنيف... ضمتني إليها وعانقتني بشدة حتى أحسست بصدري يغوص في ليونة صدرها العريض، محاولا دك نهديها الواقفين. بفعل شدة عناقها هذا، تلاصق بطني ببطنها وكنت أحس بالتكتل في سروالي يتوغل في انخفاض محتكا بعانتها. بعدما أرختني، قدمتني لصديقتها لكن بصوت متذبذب.

- هذه صديقتي سميرة
- سميرة.. هذا هو اسمي
- يا للصدفة! أسماؤنا تتشابه.. إنها تشكل زوجا.. أنا اسمي سمير.

نظرت سميرة في عيني صديقتها نوال بتركيز وجدية مدورة نظرتها كتعبير على الإندهاش والإستغراب، سائلة بشكل لم أفهم معناه:

- سمير؟ أهذا هو ال- سَّمير؟

وبعد هذا السؤال الذي لم أتمكن من فك شفرته، تغير كل شيء، وأضحت الأمسية رهينة بهذين الإسمين.

لم أعر انتباها كبيرا لنوال فيما بعد ولم أتفاعل مع كل ما فعلته لجذبي والفوز بانتباهي.

وفي الأخير أوقفت مبادرتها وكل تلك المحاولات التي قامت بها لأجل هذا، فتراجعت مخذولة مستسلمة أخيرا للأمر الواقع.

في البدء كنت أريد الفوز بنوال، والآن لم أعد أرغب إلا بسميرة الفاتنة. لكن مزاجها تغير سريعا مع مرور دقائق ذلك المساء، فمباشرة بعد التقديم وطرحها للسؤال حول من يكون هذا " الــ - سَّمير"، تبدلت الأمور جذريا. في الأول تصنعت بعض البرودة في تعاملها معي، بعدها كفت عن الرقص الريفي الذي جذب انتباهي واختارت رقصا أخر تصنعت فيه حركات خشبية رتيبة كي لا تشجعني على مواصلة النظر إليها. توقفت أيضا عن مبادلتي تلك النظرات السحرية وغادر عينيها ذلك الوميض الساحر. وبدأ حديثي معها يضجرها. فكان التجاهل من طرفها. في البداية ظننت أنها مجرد لعبة أو دعوة للأخذ بالتحدي وهي ترفع من سقفه ليكون الفوز بها أكثر حلاوة، لكني لما وعيت برفضها الصريح لكل مبادراتي وتجاهلها لإشاراتي وتمنعها من الإستماع الى كلامي. قررت أن أبتعد عنها نهائيا. فغادرت المرقص دون كلمة وداع وعدت وحيدا إلى البيت.

بسبب تصرفي هذا انقطع التواصل بيني وبين نوال. مضت أسابيع لم نتكلم فيها مع بعضنا البعض. حتى التحية لم نعد نتبادلها.

حز هذا الوضع في نفسي كثيرا. فكرت في هذا الأمر جيدا وقيمته بعقلانية، أحسست معه بغبني وغبائي وبدأ شعور شديد بالذنب يعتريني تجاهها..

"لا بد لهذا الوضع أن يتغير. علي على الأقل أن اعترف لها بأخطائي وأقدم لها اعتذاري على معاملتي لها وتصرفي معها"

لكن في الوقت الذي قررت مفاتحتها في الموضوع، تلقيت دعوة من سميرة لتناول غذاء معها.

دعوتها جعلتني أتراجع عن قراري مع نوال وأؤجل أمره، لكن سميرة لم تكن بتلك السهلة الهينة، تناولنا غذاءنا وتكلمنا عن العمل ومشاقه، عن النقابة وقوة تمثيلية العمال فيها، عن الأزمة وعن الأجور والتسلق المهني وأشياء أخرى. لما هممنا بالانصراف أمسكت بيدي وتركتها بين راحتي يديها وكأنها تدفئها، فقالت:

- أتتذكر تلك الحفلة عندما سقطت نظرتي عليك وأنت تنظر بشكل حالم إلي؟ تلك اللحظة تدفق في أعماقي شعور لذيذ لم أحس مثله طول حياتي. قلت آنذاك في نفسي وأنا جد مقتنعة مما أقول: أوريكا... إنه هو... اوريكا.. هو قدري وتوأم روحي وعلي أن لا أضيع هذه الفرصة، لكن لما سمعت إسمك أثناء التقديم، ورأيت تغير نوال، أدركت أن أمنيتي في مهب الريح. حينها توضح لي الأمر بأنك نفسه ذلك المدعو سمير، والذي كانت نوال تحدثني عنه عند كل لقاء يجمع بيننا، وفي بعض المرات طول ساعات الليل كان الحديث يدور حولك، شعرت آنذاك بوخز حاد، بشيء أكبر من الإحساس بالخيانة التي يمكن أن نقترفها تجاه أحب شخص وأقربه إلى قلبك.

لم تسهل دعوة سميرة والغذاء الذي تناولناه الأمور، بل عقدتها أكثر وأحسست مع مجرياتها كأني ريشة خفيفة تطيرها الرياح، وتلوح بها أينما اشتهت بين نوال وسميرة، دون أن تدرك هذه الريشة تربة آمان تؤويها ولا أرضا ثابتة تستقبلها وتتركها تركن إلى مستقر لها.

أحسست بأن دخولي لهذه المغامرة مجازفة بحد ذاتها. كمن يركض خلف سراب، فسميرة امتنعت ورفضتني بسبب صداقتها مع نوال. ونوال بدورها فعلت نفس الشيء والكل سيتفهم تصرفها هذا. كيف لها أن تدخل المغامرة مع شخص يميل ويحب صديقتها؟

بعد بضعة أسابيع من موعد الغذاء، خمنت بأن الأمر أتى من باب الشفقة، فحين عرضت علي نوال مساعدتها في التوسط بيني وبين سميرة، لم يكن الامر لأجل إسعادي أو إسعاد صديقتها، وإنما لتخلص نفسها من وخز ضميرها وإحساسها بذنب وقوفها حجرة عثرة بين متحابين. قبلت مساعدتها لكن رد فعل سميرة على هذه المبادرة أدهشني حقا.

- ارجوك يا سمير لا تفكر فيّ منذ الآن فصاعدا. انساني وإلى الأبد. أريد أن أكون واضحة معك. أنا لا أحبك ولا أحس نحوك بأي شعور... أنت لا تجذبني ولا تثيرني ولن يتغير شيء من هذا أبدا، أولا لأنني الآن مرتبطة وأنا سعيدة بزوجي، وثانيا لأن فصيلة الرجال مثلك لا أحس معها بأي شيء ولا تثيرني. سنبقى زملاء فقط وسأعتز بك كزميل.. لا أكثر، وإذا أردت ربط علاقة حقيقية بنوال فإني أستطيع مساعدتك والتوسط بينكما، إنها تحبك كثيرا يا سمير. فكر في هذا الأمر جيدا وسأنتظر جوابك.

فكرت آنذاك في المأزق الذي خلقته بنفسي لأسقط عميقا في هوَّته، وقررت الإبتعاد قدر الإمكان عنهما معا. لا أريد لا سميرة ولا نوال. هذا هو الخيار الصحيح. فلنسمه كما نشاء: الحسم الأخير، القدر الحتمي أو القضاء النهائي.

لقد أختبرتهما كثيرا. لم أفز بأية واحدة منهما، وخسرت فوق كل هذا ذاتي. الثقة بنفسي، جسارتي، النضج الذي أتباهى به، ومصداقيتي. أصبحت مع كل خطوة صغيرة أقدم عليها، أتردد كثيرا وأحتار بين الأمور أكثر. حتى اليوميات التي أدوّن فيها مواعيدي، تعكس نفس الصورة. كم من مواعيد مزدوجة تتضمن، وحين يحين وقت تنفيذها، أحتار بينها، أَطْفِئ هاتفي وأفضل البقاء في البيت، كي لا أقدم على الإختيار.. أخسر.. أو أربح.. لا يهم.. أضحى الأمر عندي سيان.

لقد تعلمت من كل هذا أن معرفة الأشياء.. لا تجدي، ستكون مجدية فقط إذا تعدت حدود الفهم والإستيعاب، لتضمها بداخلك، لتدخلها في أحشائك، وتجعلها تختلط بمعدنك وبذاتك حتى إذا أردت أن تنتقيها من الخليط الذي هو أنت وتعزلها، فإن الأمر سيستعصي عليك. لأنها صارت جزءا من سلوكك، لهاثا من أنفاسك، سمة من تقاسيمك، حرفا من الجمل التي تركبها وتنطقها.

فكرت في كل هذا وأنا أنظر إلى مكاني الذي اخترته لكرسيي بالتحديد بينهما، ليتضح لي الأمر بوضوح وجلاء واقتنع به نهائيا:

إني لم أتغير ولو قلامة ظفر طول هذه المدة. إني لم أشهد أي تغير أو تغيير.. ولو قليلا..

تلك المشكلة ستبقى دوما تعترض طريقي دون ان أستطيع مجابهتها ومواجهتها. تلك هي المشكلة، ذلك هو الإختيار.

حاولت كثيرا تجاوز هذه الوضعية، وتحويل مكامن ضعفي إلى قوة، لكن محاولاتي كانت تذهب أدراج الرياح.

فكرت في طلبهما لإيجاد رجل يناسبهما قبل أن تتوقف عقارب الساعة البيولوجية التي تقلق جميع نساء العالم بصخبها الذي بدوي يمتد ويحتد ويمضي أمام أعينهن دون رجعة.

تساءلت وأنا أفكر في كل هذا، وفي تلك الأشياء الأخرى التي احتفظت بها لنفسي ولم أقلها.. هل هما حقا تطلبان مساعدة مني؟ أم تريدان اختباري من جديد؟ لم أكن متيقنا من جدية هذا الطلب وشككت في أن يكون الأمر مجرد هزل، أو سخرية مني. لذلك كان ردي بعد النفي القاطع، مازحا. أليس هكذا يكون حال الضعفاء، ينطلقون غالبا من موقع الضعف.. ويلجأون إلى الضحك بلا سبب.. والسخرية والدعابة كي لا يضطرون للاختيار؟.

- إنني لا أعرف أحدا، لكن ربما وجب عليك أن تفعلي نفس ما أفعله أنا. أنظري أين أنا جالس. يجب عليك أن تستغلي أية فرصة وتختارين مكانك بين رجلين، ثم تهمسين لنفسك بأمنية عند الجلوس بينهما. إذا فعلت هذا فلابد لأمنيتك أن تتحقق. أليس هذا ما يصدقونه ويؤمنون به في هذا البلد وتؤكده تلك الحكمة الهولندية؟

- أعرف هذا.. فعلته مرارا لهذا تراني أغلق عيني وأرفع وجهي الى الأعلى متضرعة داعية متمنية، لكن هذا لا يجدي معي.. كل هذا دون جدوى.. لقد بدأت الآن أفقد حتى إيماني في سحر هذه الوصفة، عقبتْ علي.

دون أن أدري أو أعي تبعات كلماتي، قلت:

- أنت متعلمة وربك الأعلى خلقك بعقلك، فقط أرجوك استعمليه. فإذا كان "الجلوس بين" لا يجدي، فربما قد يكون "الجلوس عليه" ينفع أكثر، وسيأتي أكيدا بالنتيجة، من يعلم؟

لم تفكر نوال أو تتصور إمكانية أني أمثل بقولي هذا دور رجل في حديث وهو في مقهى خاص بالرجال. أو ربما أتلاعب بالكلمات لأدخل المرح عليهما، لأتسبب في ضحكة أو لأخفف من ثقل الأجواء المحيطة بهذه المحادثة. فرمتني بنظرة معاتبة وهي تستفسرني وتطلب مني بجدية صارمة لم أعتدها منها، أن أشرح لها بالتدقيق والتفصيل ما أقصده بكلمة "عليه".

لم تترك نوال لي حيزا للفرار وبقيت لاصقة بي. إرتبكت أولا من تصرفها وتنقلها الصارم من منطقة العتاب الرمادية إلى هذه المنطقة الجدية القاتمة اللون أو الصافية الواضحة، وزاد الأمر فظاعة عندما حاولت سريعا أن أستشف ما قد تكون فهمته هي من كلماتي. إذ ذهب بي التفكير إلى مداه وأنا استحضر إمكانية أن تكون قد اعتقدت أني أعني بها "أيرا".

تلعثمت عند توقف تفكيري عند هذه الفكرة، وأعتراني حياء تجاه الموقف. فحاولت إبعاد هذه الكلمة التي تسبب حساسية، وتجاهلت الفكرة التي أوحت بها هي لي لتجعل تفكيري ومفرداتي حبيسة هذه المفردة التي لم أنبس بها، والمحاطة بالخوف والخجل.

أردت أن أقول لها موضحا وأنا أحاول قدر المستطاع أن أوسع أفق معاني كلماتي، دون أن أنطق بكلمة "الأير"، أني أقصد بــ "عليه" " الحضن"، لكن قبل أن أتفوه به وأنا أنظر إلى حضني، بدت لي الكلمة في صورة وكأنها حقا هي الأير. كلما فكرت أكثر أو أنزلت نظرتي، إلا وبدا لي ما أراه. الحوض.. ذلك المثلث الذي تتوسطه منارة سامقة أو صومعة طويلة نسميها أيرا.. نعم أيرا.

لم يكن بمقدوري على الإطلاق أن أفعل أكثر، غير كبح لساني والاكتفاء بالإشارة إلى ساقي. فعلت طبعا هذا بشكل مبالغ فيه. فعلت وأنا أضع باطن راحتي على ساقي وأمررها عليه حتى الفخذ وأنا أتوسل الله وكل آلهة الكون وقواه إبعاد الشبهة عني، ومسح كل فهم أو تأويل خاطئ سببته كلماتي أو سلوكي خصوصا أن هذا اللقاء هو الأول الذي يجمع بيننا حول مائدة الأكل منذ مدة طويلة من برودة وانفصال تام .

لاحظت نوال ارتباكي، وربما شفقة علي أو محاولة منها لإخراجي من هذا المأزق الذي وضعت فيه نفسي، فنظرت إلي بأحداقها المتسعة الطافحة بأنوثة ناضجة منسية، وغير ممسوسة لمدة طويلة. كانت نظراتها مفعمة بطيبوبة ممزوجة بشيء من التحدي. ثم وقفت وقالت.

- لا تجهد نفسك. لقد فهمت قصدك وأنا أتجرأ. أملك كل الجرأة لفعل هذا.. سأفعل دون تردد إن كان الجلوس "عليه" حقا ينفع..

بعدها تقدمت إلي.. دنت مني.. استدارت بظهرها، ثم جلست.

حاولت أن لا أركز على ما كنت أحس به وهي تضع ثقل أردافها المقبول جدا عليه.. علي.. على ساقي.

- بين رٓجُلين قال وليس بين رِجلين أو عليهما أو فوق شيء آخر. لقد قالها بوضوح لا يترك مجالا للغموض، نطقت سميرة معاتبة صديقتها وكأنها قذفت مرماها بكرة نصفها عتاب ونصفها الآخر غيرة.

مباشرة أقدمت نوال على ردة فعل ضغطت فيها بمؤخرتها علي، وحركت أردافها يمنة ويسرة في حك واحتكاك دافئ شديدين بي، بينما تركت كل يد من يديها تمسك بأذن وترفعها، مصاحبة هذه الحركة بإخراج لسانها من الفم واطلقته منقبضا ملتويا في وجه صديقتها, تماما كما يفعل الأطفال الصغار فيما بينهم في دعابة مرحة أو إساءة خفيفة.

لم أعر اهتماما لما يحدث بينهما من مداعبات ودلال. كنت منشغلا بتعديل جلوسي وترتيب فوضى حواسي والبحث عن طريقة مناسبة للتعامل مع تلك الأحاسيس التي كانت تتدفق بغزارة في داخلي.

من شدة هذه الفوضى وتلك الإثارة التي رافقتها، كنت أسمع خفقان قلبي وهو يضخ الدم بقوة وبكثافة إلى أطراف قدمي. كانت شراييني تنتفخ وكانت عروقي تتمدد.

هدوء روحها وسكون جسدها بهرني مع الضغط ومحاولات التوغل الذي تسبب في إيقاظ الأحاسيس بأعضائي..

لم أستطع فعل أي شيء ولم أعد أتحكم في أي شيء، لا في انقباض وتصلب عضلاتي ولا في تضخم وامتداد عضوي. اكتفيت فقط كمتفرج غير معني ولا يتحمل أية مسؤولية في ما يحدث، بمتابعة الطريق الذي يسلكه هذا الإمتداد وهو يتوغل شيئا فشيئا عبر الفلق المنفتح الدافئ، باحثا عن المراكز والبؤر الحامية المسؤولة عن كل هذا الدفء المتدفق، مستكشفا المحيط في فضول ومتفحصا الأشياء التي يصادفها على الطريق، في نشوة وتلذذ.

في لحظة شاردة هائمة، باغتتني نوال باستدارة وجهها إلي. عيناها تظهران وكأن خدرا غريبا اكتساهما، تحريك أهدابها بطريقة " slow motion " الفنية البطيئة، أضفت عليها هالة حالمة متوهجة. شفتاها الشهيتان وقد ازداد تضخمهما واحمرارهما، وهي تحركهما بسحر نفس الطريقة الفنية، محاذرة أن لا ينبعث أي صوت منهما، رغم أنها كانت تريد أن تقول لي شيئا. استنتجت هذا لأنها حاولت جليا أمام عيني التخلص من بطء الخدر الذي اكتنف حركاتها. لما لم تتوفق أو لم يفلح الصوت في الخروج، استعانت بحركات من رأسها لأفهم أخيرا تلك الحركات الناهية الزاجرة، خفت جراءها من أنه إذا ما أفلح الصوت من التشكل والانبعاث، فإنها ستبوح بما يحدث بين جسدينا من تقارب وانصهار تفضحه الكلمات التي لا تترك أي غموض، لكنها اكتفت بإصدار صوت متذبذب رخيم:

- توقف عن الإهتزاز وتحريك قدميك. امنحني من فضلك فرصة التركيز على أمنيتي..

مباشرة سمعت سميرة ترد عليها في مداعبة وسخرية أظن وهي تقول:

- آه على ما يفعله الجفاف بالمرأة، وكم يُبرز فينا إذا طال الزمان، من تهور ومجازفة وبلادة.

اكتفيت بالإبتسام لأركز على أمنية نوال. أدعنت إلى أمرها وتوقفت حالا عن إصدار ذلك الإهتزاز الذي لم أكن أعي بأنه يصدر عني.

غيرت وضعية قدماي وركزت أخمصيهما جيدا على الأرض، استعنت بهذا التحكم، لكن في المقابل وأمام حركة من نوع آخر، كنت في مكمن أضعف، وباءت محاولاتي بالفشل، بما فيها استحضار جدول مهام الشغل التي تنتظرني بعد الإستراحة، وكذا القيام بالعد من الصفر إلى عشرة في تكرار مستمر.

استمر التضخم والامتداد في التوغل وواصلا مسلكهما في عزم وثبات وتصلب حتى صارا سيدا الموقف. فعلا وقفت عاجزا أمام هذا وإنا أشعر وأرى كيف يتم تدريجيا الإستيلاء على مساحات شخصية منها، بل تعدى الأمر هذا الحد: ازداد النبض الذي يحدثه ضخ الدم وجريانه بهيجان وقوة في عروقي، واشتدت حركات الإنقباض المتبوعة بالارتخاء والتمدد.

كان لا بد لنوال من أن تحس أيضا بهذا جيدا. مسام جلدها كانت تتفتح ووليونة جسدها وعاج عنقها العاري وحرارة أنفاسها على مقربة من وجهي. عبق الأنوثة الذي ينبعث منها أستنشقه وأكاد أحس به يسري ناعما حاميا ليملأ الفضاء من حولي بفحيحه. راودتني رغبة أن أقرب منها أنفي وشفتي وأطلق العنان لحاسة الذوق في لساني كي تتذوق طعمها، لكني تراجعت. اكتفيت بالتخيل وبنفث أنفاسي الدافئة وتوجيهها إلى فتحات مسامها والى الزغب الخفيف الذي يظهر كسحابة خفيفة من هذه المسافة، حيث تتقادفني كل هذه الأمواج العاصفة المتلاطمة المفعمة بالإثارة.

لاحظت سميرة انفعالاتي وبادلتني نظرة عسلية خاطفة، لتركز بعد ذلك النظر على صديقتها وتتأمل وجهها الحالم. فتغيرت ملامحها وكأن العدوى أصابتها بدورها بالخدر. كانت تتفحص وجه نوال وكنت أتأمل وجهها وكأنه مرآة تعكس ما يخالج نوال من شعور، وما يتشكل أمام ناظري من صور لا أراها إلا في حالات النشوة.

بادلت صديقتها نظرات كادت تجعلني أشك في ميولاتهما الجنسية، لكني أبعدت الفكرة عني وطردتها لأركز على ما يعتريني من أحاسيس.

عندما أنهت نوال مهمتها في صمت وخشوع، أبعدت ظهرها عن صدري عبر دفع بطنها إلى الأمام، تقوس جراءه الظهر وتشكل فيه منحنى مثيرا، جعل مؤخرتها تتكور أكثر وترتفع. أبعد هذا التقوس أيضا قمريها عن بعضهما البعض لتتوسع الفلقة بينها، إلى درجة أنني كدت أحس بعضوي يلامس ويتلمس المجرى والحوافي وهو يمتد بين أشفار العين التي تصدر كل هذه الحرارة الرطبة المبللة وتنثرها كدخان في المحيط.

عندما أحست نوال بتدفق الدفعات وبمحاولاته التمكن من الإنغراز الذي كنت أوجهه خفية وفي السر، حركت قطبي دائرة مؤخرتها ليبتعد بَدْراهما عن بعضهما أكثر، ويزدادا انفراجا ليزيدا من الحظوظ ويوسعا من الإمكانيات في الإنتشار بين سحابة الحرارة المبللة التي وجدت منفذا لها إلي. زاد في هذا الإحساس سروالها الجلدي الأسود الضيق الذي كانت ترتديه ويصفه الناس بالجلد الثاني، لكن كيف له أن يكون جلدا ثانيا وأنا لم أحس به تماما، وكأنه لا يوجد ولا يفصل شيئا.

حركت نوال لمرة أخيرة كتلة لحمها ومررته ماسحة المنطقة حيث تلتقي السيقان، على طول ساقي حتى أدركت ركبتي وحكت لحمها على مفصلها العظمي المدور، ثم وقفت.

- "ثلاث سنوات وهي جافة، قالت، لكن أنظر إلى هذه الحرارة المفرطة يا سمير.. أتصدق هذا؟ "

عنفت هذا الصوت الداخلي وكبحته وأنا احاول - تحت نظرات سميرة الفاحشة الفضولية المركزة على أزرار سروالي - التعديل من انتصابي وأخفائه ما استطعت مصطنعا ترتيب هيأة سروالي التي أحدثها الجلوس. ودون أخذ الوقت الكافي لأستعادة أنفاسي التحقت بمكتبي..

بعد الزوال لم استطع القيام بما تبقى من المهام التي كانت تنتظرني ذلك اليوم. لم أستطع التركيز على أشياء أخرى مع ذلك التمدد الذي لم يرد أن يرضخ لرغبتي ويفارقني. عجزت كل الوقت عن خلق موجة تنهيه وتوقف الجزر فيه، وتعيد الأحوال إلى مجاريها الطبيعية.

كنت خلف مكتبي، أحدق في الشاشة أمامي ولا أرى شيئا، أتصلب ولا أرتخي.. أتلذذ ولا أنتشي.. أتألم وأعاني وأغيب في نشوة لا تستطيع حروف الكلمات التعبير عنها.

فكرت أن أكتب لنوال برقية سريعة. لعل الكتابة تستطيع مساعدتي، وتضع حدا لما أنا فيه من ارتباك، وتعيد الأمور إلى طبيعتها الهادئة. لكن من أين أبدأ؟

"عزيزتي نوال،
هذا الزوال انتابني إحساس غريب لا أعرف له سببا معقولا. فكرت كثيرا في أحاسيسي التي استيقظت فيّ والى حدود هذه الساعة.. لا أعرف السر، أيكون في رقة ونعومة سروالك الجلدي؟ أم في القنب الخشن الذي صنع منه سروالي؟ "

عندما أعدت قراءة ما كتبته، وجدته من أسوء ما كتبت أناملي طول مساري المهني.

الظاهر أنني لا أزال مبعثرا ولم أوطن نفسي كفاية لأستطيع التركيز واستقبال ما يعترض طريقي من جديد ومختلف. حتى فكرة كتابة رسالة أخرى استبعدتها. وقررت امام هذا الوضع أن أنتظرها حتى تمر من امامي وأقول لها ما أريد قوله بشكل مباشر، لكن برغم مرورها المتكرر ذلك المساء، لم أقدر أن أنبس بأية كلمة.

ذلك وبحكم عمل نوال فإنها تسلك لمرات متكررة في اليوم الواحد هذا الممر الذي يتواجد مكتبي على أحد جوانبه. لكن ذلك النصف الأخير من ذلك اليوم أفرطت كثيرا في المرور مترنحة بجسمها مطلقة وعول أثارتها في دمي، حتى أنني كدت أن أصرخ بملء حنجرتي في وجهها: "أما زلت تقوين على الحركة؟ ألم تتعب قدماك من هذا المشي ذهابا وإيابا عبر الممر وعبر الدروب الكثيرة في مخيلتي؟ اللعنة.. لعنة الرب والسماء عليك يا أيتها اللعينة التي تركتني هذا اليوم دون قدرة وبدون شغل".

الشعور الذي اكتنفني منذ جلوس نوال على ساقي، ما زال يدغدغ حواسي. لقد بقي قليلا من الوقت وسينتهي يوم العمل ويأتي المساء. وأتمنى من كل قلبي أن أستعيد مع حلوله تحكمي في نفسي والاستفادة ولو بمقدار ضئيل من ضياء القمر. فالقمر وحده يستطيع أن يبدل من أحوالي ويحدث الجزر في أعضائي كما يفعل بالبحار والمحيطات الواسعة.

ما ان فكرت في هذا، حتى تبخرت المعيقات التي وقفت حاجزا بيني وبين الكتابة. بدأت مباشرة في هذه القصة وأتبعتها بكتابة برقية، وهذه المرة أيضا دون أن ادرك تبعات حروفي:

" شكرا عزيزتي على دعوتك لي وشكرا على الغذاء، إنني لا أزال أحس بحرارة الطعام في فمي -عفوا- أقصد دفئه في جسمي.. - عفوا- أعني لذته في أعضائي.

على أية حال وأنا لا أعرف ماذا أصابني اليوم، بقي لي أن أقول لك وداعا والى الأسبوع القادم. قدماي أصابهما الإعياء والإجهاد من كل ذلك الجهد الذي قامت به لتحمل جلوسك. وداعا مرة أخرى.. وتقبلي تحياتي. وأعتذر لك أيضا إذا صدرت مني أية إساءة في حقك.
وداعا ونهاية عطلة أسبوع سعيدة".

أنهيت ارتباك هذه الحروف بالضغط على زر الإرسال. غادرت مكتبي لأغسل يدي، وأستمتع بدخان سيجارة تهدئ من روعي.

عدت بعد ذلك إلى مكاني وارتديت معطفي. لكن في الوقت الذي مددت أصبعي للضغط على زر الإغلاق، رأيت رسالة قد وردتني:

"والله أنت لا تستحي. كتبت عني وعن سميرة كل ذلك بالتفصيل، وتغادر مكانك دون إغلاق الشاشة؟ ألم تخف أن يطل زميل على الشاشة ويقرأ كل التفاصيل عنا؟ امحي النص وأطفئ الحاسوب واخرج الآن.. لعنك الرب والسماء يا لعين.. ماذا فعلت بي هذا اليوم؟ هيا أسرع، فوالله ثم والله لن يخلصنك من يدي أحد هذا المساء، ستتمنى لو كانت سميرة حاضرة لتفكك مني. هيا أسرع، إني أنتظرك عند باب الصيدلية مقابل البناية".

تفاجأت بهذه البرقية التي أرسلتها نوال من جهاز هاتفها. لكنها أبهجتني كثيرا، وشرعت أمامي أفقا واسعا لخطوات أخرى وأحلام أحلى.

أثناء مغادرة البناية استرجعت في سرعة كل التفاصيل والأحداث التي وقعت بيني وبين نوال وسميرة. وضعت الصورة أمام عيني ووصلت الى الخلاصة، لأجلها سأغير أشياء من نفسي. للفوز بها سأنسى سميرة. سأبين لها ولنفسي أولا أنني حقا رجل، وأستطيع خوض الاختبارات التي تتنظرني.. ساختار بحزم وعزم، ولن أترك أهوائي تهيم بين "الهذا" و"الذاك".. أو"الهاته".. و"التلك"، وأبقى أخيرا صفر اليدين... بدون شيء. سأدع سميرة بمفاتنها وسحرها وجاذبيتها لما هي عليه وأختار نهائيا نوال.

غادرت البناية وقطعت الطريق لألمحها وأسمع صوت سميرة يملأ أذني:

- لم لا تكون رجلا يا سمير.. ليس بالرجل من يترك امرأة تنتظر.

وجود سميرة كان مفاجأة كبيرة أعادني إلى التفكير في قراري الأخير، لأستنتج بأنني أضعف شخص يوجد على هذه الكرة الأرضية اذا كان الأمر يتعلق بالإختيار.

عند وصولي إليهما فتحتا لي ذراعيهما في عناق حار توجتاه بقبلة مصفقة.

أخذت مكاني بينهما لأجد أياديهما تمسكان من كل طرف بذراع.

- لا نريد أن نسمع بأن هناك برنامجا ينتظرك نهاية هذا الأسبوع، سيكون انتقامنا مرا، ولن تنساه طول الحياة، قالت نوال مع بسمة وغمزة من عينها.

- لقد رتبنا معا كل التفاصيل واتفقنا على كل شيء، باستثناء نقطة واحدة لم نستطع أن نتفق عليها. إننا تركنا أمر الحسم فيها لك. قالت نوال. وقبل أن أسأل، وضعتني نوال أمام ما أتقن الرسوب فيه جيدا وأجتهد في تجنبه.

- ماذا تفضل؟ بيت سميرة؟ أم بيتي؟

بهذا السؤال وجدت نفسي مرة اخرى عند تلك النقطة بالضبط التي يتشكل فيها ضعفي. هكذا ستبقى لعنة الاختيار دوما تطاردني.

طردت السؤال من مخيلتي، أحكمت إغلاق النوافذ والأبواب على التفكير في الجواب. نظرت إلى نوال ثم إلى سميرة. تلقيت صفعة من يد على المؤخرة. لكسر الجليد.. ابتسمت لسميرة، ولكزت خاصرة نوال، قبلت شفة نوال السفلى من فمها وعضضت سميرة في شفتها العليا.

البيت ليس مهما.. السير لا يهم... إلى أين المسير غير مهم... ماذا هو المهم.. سميرة ونوال هما ما يهم.. وما سيأتي هو الأهم.. فحيح الأنفاس المهيج.. الغرائز التي تغلي وتتهيج.. الشفاه التي تدغدغ البطون والأعناق وتمنح أملا وتفتح آفاقا في عتمة الأنفاق. اكتشاف البحور والتصدي للطم الصخور وارتطام الأمواج. اختراق تحصينات الجبهات، وتدمير بؤر الحرائق في جدران الرغبة.

الصعود ما عاد يهم.. وكذا النزول.. في ذهاب وإياب.. في ثقل وفي خفة.. في مرح وجدية، في خدر وصحو.. كل تلك الربوات والمنحدرات والمنعطفات تهم. وتهم المجازفات.. وشق المسالك الجديدة، وتحريك البرك الآسنة في الأعماق، العبور عبر البلل ولزوجة المجاري. التنقل بين الإنزلاق والغرق ثم النجاة.

الأنهار ومجاريها ما يهم، منابع المياه وعيون الحياة.. الإغتراف منها حتى الإرتواء.. الإنتشاء فيها حتى الإرتعاش والإنتعاش من جديد. القسطاس والعدل في القسمة ما يهم، عند حوافي الميتات الصغيرة وأمام نوافذ الحياة. هذا ما يهم كثيرا.. يهم الإحتفال ثم الإحتفال... يهم إطفاء الحرائق.. وإخماد جذوة ثلاث سنوات من الجفاف.

كان خيالي ينط كما لو أني أقفز، وكانت ذراعاي تمسكان بذراعي نوال وسميرة، وكنا نضم بعضنا إلى بعضنا.. فنتلاصق حين ندنو.. ونتباعد حينما نفترق. والبيت يقترب من حيث نسير.. وفي الأفق نحن ثلاثة بنا، كانت رشاقة خطواتنا تُسمع، وتناغم خطانا بيِّنا بارزا... وفي دواخلنا تتأجج الأشواق، وفي جوف الإثارة تتكون الحمم والبراكين... ووجوهنا تتورد.. وعلى مباسمنا تونع وتزهر الضحكات..



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- بقيت جافة: تعبير هولندي يستعمل كثيرا في علانية وشفافية ويعني: لم تُمارس الجنس او لم يمسسها أحد جنسيا



.

صورة مفقودة
 
أعلى