صبحي حديدي - امرأة نزار قباني

ذات يوم هتف نزار قباني (1923 ـ 1998)، بحرقة وبتضرّع: «هل من الممكن، إكراماً لكلّ الأنبياء، أن تخرجوني من هذه الضيقة التي وضعتني فيها الصحافة العربية: أي قارورة الحبّ والمرأة؟».
لم يكن ذلك ممكناً بالطبع، أو لم يكن له أن يستقيم أساساً، في أيّ منطق بسيط. كان قباني «شاعر المرأة»، في المقام الأوّل والأبرز والأشدّ شيـــوعاً لدى الملايين من قرّائه؛ فـــي أوساط الشـــباب، ذكوراً وإناثـــاً على حدّ سواء؛ وفي وجدان العاشق العربيّ الفتيّ، حيث تصالح غزل النصف الثاني من القــــــرن العشرين، مع نمــــاذج عريقة خلّفتها تقاليد الغزل في التراث الشـــعري. أمّا الذي استقام، واستوى طويلاً حتى رسخ واستقرّ، فهو أنّ قباني واحد من اثنين: الشاعر التقدمي الذي حثّ المرأة على الثورة والتحرّر، أو الشاعر الرجعي، الذي سجنها في قارورة عطــر وجورب حرير؛ ولا توسّط بين الأقصيَيَن!
والحال أنّ قباني، نفسه، كان يوفّر المادة لمزيد من غياب هذا التوسّط. إنه حليف تقدمي للمرأة حين كتب، منذ العام 1944: «يا لصوص اللحم.. يا تجّاره/ هكذا لحم السبايا يُؤكلُ/ منذ أن كان على الأرض الهوى/ أنتم الذئب ونحن الحملُ/ نحن آلات هوى مجهدة/ تفعل الحبّ ولا تنفعل». وهو، في المجموعة الشعرية ذاتها، «قالت لي السمراء»، حليف رجعي للرجل الشهواني، المتعجرف، البهيميّ في علاقته بجسد المرأة: «عبثاً جهودك.. بي الغريزة مطفأةْ/ إني شبعتكِ جيفة متقيئة/ إني قرفتكِ ناهداً متدلياً/ وقرفتُ تلك الحلمة المهترئة». ولكنه، بين الصفة ونقيضها، إيروسيّ مَرِح، وعاشق، طَرِب: «منضمّة، مزقزقة/ مبلولة كالورقة/ سبحانه من شقّها/ كما تُشقّ الفستقة/ نافورة صادحة/ وفكرة محلّقة»…
ومن العبث، في يقيني، أن تُلصق صفة الرجعية، ولا التقدمية في هذا المضمار، بشاعر من هذا الطراز؛ بل بهذه السيرورة، المعقدة المتغايرة في نهاية المطاف؛ التي تكاد تختصر الكثير الجوهري من آلام وآمال النخب العربية في أطوار ما بعد الاستقلال. امرأة قباني أنثى بالمعنى الأرستقراطي المستنير للكلمة، وهي لم تكن أنثى محمد مهدي الجواهري أو علي محمود طه أو أمين نخلة أو بدر شاكر السياب؛ ولكنها، أيضاً، لم تكن موضوعاً أنثوياً بهيمياً، لجسد ذكوري وبطريركي ونرجسي وشهواني، فحسب.
وهكذا، فإنّ قصيدة قباني الشهيرة «الرسم بالكلمات»، والتي يقول فيها: «لم يبق نهد أسود أو أبيض/ إلا زرعتُ بأرضه راياتي/ فصّلتُ من جلد النساء عباءة/ وبنيت أهراماً من الحلمات»، لا تصلح كوثيقة اتهام بالرجعية إلا في عُرْف تأويل نسوي متشدد يقصي المستوى العنفي في الهلوسة الجنسية الحرّة. وهذا تأويل يلتقي ـ دونما مفارقة كبيرة، في الحساب الأخير ـ مع تأويل طهوري، متشدد بدوره، يرى التهتك والخلاعة في أبيات كهذه. وليس غريباً أن يتناسى طرفا التأويل، كلاهما، ما يقوله قباني في القصيدة ذاتها: «اليوم تنتقم النهود لنفسها/ وتردّ لي الطعنات بالطعنات/ مأساة هارون الرشيد مريرة/ لو تدركين مرارة المأساة»!
كذلك فإنّ من التعسف، والإفراط في حسن الظنّ، اعتبار قباني محرّراً للمرأة، بالمعنى الإنساني والتقدمي العميق للتحرّر. ففي مجموعته «يوميات امرأة لامبالية»، 1968، وهي الأكثر اقتباساً في الترويج لهذا الجانب من شخصية الشاعر؛ ظلّ قباني وفياً للمنطق الفكري الأرستقراطي المستنير، الذي حكم موقفه من المرأة منذ مجموعته الشعرية الأولى. ولكنه بدّل الكثير من مفردات البيان الداعي إلى الانعتاق، إذ هيهات لشاعر كبير مثله أن يراوح مكانه، في الأسلوب واللغة والموضوعات، مثلما في الزمانين الاجتماعي والجمالي.
مناسبة هذه المادّة عن قباني، وعن المرأة في شعره تحديداً، هي أنّ «يوميات امرأة لامبالية» صدرت بالإنكليزية مؤخراً، بترجمة وتقديم جورج نقولا الحاج؛ الذي اعتبر أنّ كتابات قباني «تشكّل مدرسة فكرية، وحركة، واتجاهاً، خلّف عدداً كبيراً من الأتباع على امتداد العالم العربي، حاولوا محاكاة نزار واعتناق الدرب الذي دشّنه، ولكن أياً منهم لم ينل الشهرة التي حققها». وبمعزل عن الحماس المفرط الذي يكتنف هذه السطور، لستُ أختلف جوهرياً مع أيّ تثمين لإرث قباني ينصف ريادة الشاعر الكبير الراحل؛ الذي اقتحم المشهد الشعري السوري، والعربي، في سنة 1944، بمجموعة شعرية فارقة حقاً، وانتهاكية تماماً.
ففي زمن القصائد الوطنية العصماء، الصادحة المجلجلة، والنبيلة الملتزمة، كانت «قالت لي السمراء» مجموعة حافلة بقصائد حبّ غنائية، وغزليات حسّية، ورشاقة مباغتة في تطويع المعجم، وأناقة رهيفة في اختيار المفردات، وشجاعة عالية في المجاورة بين الفصحى والعامية؛ فضلاً، بالطبع، عن تمثيلات امرأة جديدة، طارئة على الذائقة العربية يومذاك، تحلّق في «أبدٍ يبدا ولا ينتهي/ في ألف دنيا بعدُ لم تخلقِ/ في جزر تبحث عن نفسها/ ومطلق يولد من مطلق»!




صبحي حديدي
 
أعلى