صلاح زنكنه - المقدس والمدنس

تقديس الرموز الدينية والسياسية والأجتماعية والعسكرية وتبجيلها وأضفاء صفات الآلوهية عليها , هو بمثابة توقف العقل البشري وتراجعه وتحجره وغياب الوعي النقدي , وجعل الناس كل الناس قطيعا من الخراف تمشي خلف راعيها الى المراعي البور, وتحويل الرمز المقدس الى صنم مخول بتزكيتهم الى جنان الله التي لاتسع الا اياهم , يا لغباء القطيع ويا لبؤس الصنم .
فكل الخلفاء الراشدين والامويين والعباسيين والفاطميين والبويهيين رضا الله عنهم ولم يرض الكثير من البشر عنهم في زمنهن , وهكذا القادة والأمراء والسلاطين والولاة والرؤساء الذين عاثوا في الأرض فسادا وسفكوا الدماء وسبوا النساء وتحولوا الى أبطال فاتحين محررين , نسلتهم العبر من أنجازاتهم التاريخية وندرس سيرهم في المدارس والجامعات , كونهم ايقونات تاريخية تتلألىء في ذاكرة الاجيال التي تتخم باسماء ومسميات لا تعد ولا تحصى , ليكتشفوا في النهاية أن هذا التاريخ المجلجل تاريخ مزور كتبه الأقوياء والجبابرة والطغاة .
هذا التعظميم والتبجيل والتهويل ثم التقديس لشخصيات يختلف عليها عادة هذا الطرف أو ذاك يغذي الحس الطائفي والنزعة الطوباوية والنعرة العنصرية ويستخف بالأخر ويستحقر الشعوب والأمم ويقزمها مما يؤدي الى تورم الذات وانتفاخها وأصابتها بسقم الماضوية والتغني بأمجاد ذلك الماضي الغابر الذي ذهب الى غياهب التاريخ الميت منذ قرون , أن المقدس الذي يتلبسهم تلقينا وخوفا وخنوعا عبر الوعي الجمعي المحكوم بالشرع والعرف والتقاليد المقرونة بركام
من التابوات والخرافات والخزعبلات يجعل منهم قطيعا غير متجانس يستمد وجوده وكينونته وحتى هويته من ثبات المقدس وهيمنته لأن ديمومة المقدس من ديمومتهم كما يلقنون .
أن التشبث بالماضي والتعكز على معطياتها التي أكل الدهر عليها وشرب وتقمص شخوصها هو دليل ساطع على على غشاوة الوعي وعقم الفكر وهلاك المعرفة وتصلب شراين الثقافة وتقهقر الحياة برمتها .
ترى ماذا عن المدنس ؟
فكل ماهو دنيوي مدنس من وجهة نظر الفقه الديني المتعصب , الحب والعشق والرغبة والفن والجمال والغناء والموسيقى والرسم والرقص والمسرح والسينما والمتعة والمرح واللعب والرياضة والأدب والشعر والقصة والقبلة وشعر المرأة وجسدها والتنورة والبنطلون والستيان والمايو والبحر والبيرة والعرق والويسكي والكونياك والنبيذ والسكائر والغزل والسرير وحتى القمر الذي يتغنى به العشاق هو كوكب مدنس مغضوب عليه لا ينفع سوى لتحديد بدء شهر رمضان وبيان يوم العيد السعيد , حتى الحياة تبدو مدنسة مادامت فانية وعلى الأنسان السعي الحثيث نحو دار البقاء حسب وصفتهم السحرية الطوباوية .
حتى أن تمثال الشاعر العباسي الشهير أبو نؤاس الحسن بن هانىء الذي يتوسط الشارع المسمى باسمه في قلب بغداد والذي يشكل جزءا من وجدان الأمة وذاكرتها الجمالية الجمعية قد تعرض لهجمة شرسة من لدن الظلامين القابعين في كهوف القرون الغابرة , وأبو نؤاس كشاعر وأنسان ينتمي لمنظومة التمرد والمعارضة والمشاكسة وتهشيم الثوابت الأخلاقية والمجتمعية وحتى الشعرية , وغالبا مايرتبط اسمه بالخلاعة والمجون والكأس والمدام في عصره وهو أنموذج الشاعر غير المؤدلج وغير الخاضع لسلطة المجتمع وهو أحد رواد الحداثة العربية في الشعر العباسي الذي زلزله وحطم عموده , وهو وغيره من صناع الجمال يقلقون ويزعجون المتأسلمين والمنافقين الذين يتلبسون لباس الدين ويزدرون الفن والشعر والموسقى , وينظرون الى الحياة بمنظار كالح السواد ويعدون تمثال الشاعر صنما مدنسا من أصنام قريش وتحطيمه وازالته واجب ديني مقدس , ولا يفقهون أن أبا نؤاس جزء من الذاكرة العراقية المتوهجة والصادمة لمعتقداتهم البالية , الشعراء باقون في ضمائر الناس , والساسة والسلاطين والحكام راحلون حيث مكب النسيان .
المقدس واقف جامد محنط في سيرورة الحياة التي تركض وتسير ولا تلتفت أبدا
وحده الأنسان القيمة العليا ووحدها الحياة مقدسة والكل باطل وقبض ريح .


.
ds_11750.jpg


Rima Salamoun
 
أعلى