فواز حداد - الرواية أولاً

لم تكن مقاربة الجنس في الأدب محظورة على الأدباء، فالجنس بحكم شيوعه في الأجناس الأدبية منذ القدم، كان ملكية عامة مبذولة للجميع دون استثناء، دون اقتصاره على النخبة أو العامة، ولذلك كان الخلط فيما يوحي به من مشاعر سامية أو أحاسيس دنيوية، بالإضافة إلى الطرافة والتسلية والاستئناس بالمجون. مثلما كان العري تارة فاحشاً، وأخرى مثال الفن الجميل.

يرتبط الجنس بالهيئة الاجتماعية، أكثر من ارتباطه بالفراش والطيش والخلوات المشبوهة. ولم يكن الزواج إلا صيغة للحفاظ على ترابط المجتمع وتماسكه، وبالتالي مارس عليه الكثير من الضوابط والقيود، فأدت مظاهر الحشمة والتزمت إلى اعتبار تناول الجنس انحطاطاً لا يليق بالأسر المحترمة والمحافظة، بقدر ما هو لصيق بالطبقات الفقيرة والرثة. مما انعكس على الأدب كأداة تعبير، لا سيما حين اعتبر الشعر، وفيما بعد الرواية، أدوات تعبير راقية، اتسعت للكثير من الرومانسية البريئة، وفيما بعد للنضال والكفاح، مع اشتباههما بالطهرانية الثورية، شملت التحرر من رياء الأخلاق البرجوازية، كإحدى سمات الطبقة المتحللة. وعلى الرغم من توخي رفعة الأدب، صدرت سواء في العلن أو سراً، كتب تتعرض للجنس بشكل مباشر وفج، استفزت قيماً سائدة ومستقرة، ككتابات دو ساد وكازانوفا، لا يمكن تصور أن كاتباً تجاوزها حتى الآن. وكتب أخرى نشرت بأسماء مستعارة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أخذت في الازدياد في القرن اللاحق حتى باتت تشكل تياراً لا ينضب من الاجتراء على المحرمات، ثم أصبحت موجة لا تني كل فترة عن اختلاق فضيحة ما. ليس أن الجنس موضوعاً جذاباً وحيوياً، وإنما أمر لا يمكن تفاديه، وإلا كنا تحت زعم دعاوى أخلاقية زائفة، تقمع عواطف ومشاعر ورغبات ونزعات مهما بلغ شذوذها تمور داخل البشر، وتتبدى بطفرات من هوس مستهجن، قد يبلغ حد الجريمة والجنون. يتحدد الخلاف بكيف يتعامل الأدب مع الجنس؟ إذا اعتقدنا أنه يجب التعامل معه كأي موضوع، فهذا يعني إدخاله إلى عرين الأدب، ليس للإثارة وتصيد الشهرة والاتجار به، وإنما كموضوع حساس وجوهري. لكن يعتقد بعض الكتاب والكاتبات أن الجرأة هي الإنجاز الأهم في الأدب، وموضوعها الأول هو الجنس. وإذا أدركنا بأن المحرمات الجنسية نتاج التقدم والحضارة، وإن عهود الهمجية تحفل بالمسموحات مما جرى التعارف عليها على أنها موبقات. يأتي الأدب ليس كي يكرس مفهومات خاطئة، وإنما كي يخلص الحضارة من تصلبها وجمودها. وهذا لا يكون بالتسيب ولا بالإسراف في العلاج، كما تفعل أفلام البورنو بافتعال شذوذ يتخطى قريحة أي كاتب مهموم بالجنس مهما بلغت وقاحته وتبذله. الهدف بالنسبة إلى صانعي تلك الأفلام: المال، أما الكُتاب فأكثر جشعاً: المال والشهرة معاً. الأدب ليس ضد الجنس على الإطلاق، وبلا ريب يبقى الأدب هو المجال الأرحب والأقدر، وإن كان شائكاً، ليواجه الإنسان نفسه ويضع مشكلاته الروحية والمادية تحت مبضعه. ولا يمكن أن يتم هذا بالنسبة للجنس إلا بادراجه ضمن شرطه الاجتماعي والنفسي والتاريخي والأخلاقي... عندما نقرأ “عشيق ليدي تشاترلي” نقرأ أخلاقيات المجتمع الفيكتوري وأمراضه، ولا نقرأ فقط علاقة امرأة ورجل بين أربعة جدران في كوخ، وإنما علاقة كاشفة لتصدعات خطيرة في مجتمع متكلس. كذلك روايات جين أوستن على الرغم من كل تهذيبها، نقرأ عواطف البشر الجامحة تحت غطاء من التعقل والكبرياء. وينطبق هذا على روايات كبار الروائيين؛ دوستويفسكي، بروست، محفوظ... يتعدى الجنس كونه جنساً محضاً، ينحو إلى التهييج والإثارة واختلاق الأوهام والأحلام كما تفعل الإعلانات أو ابتذاله بقذارة كما في الأفلام الزرقاء، وإنما الجنس البشري الساعي لاكتشاف الإنسان في غرائزه ونزعاته الخبيئة ومجاهيلها السوداء، وحاجاته الحقيقية. إن الجنس أحد أشكال الاتصال بالذات والآخر الأشد عمقاً، ومثلما هو من علامات الصحة، هو أيضاً من علامات المرض. وإذا أردنا الإشارة إلى ما يكتب أو ما يصلنا من كتابات تنزع إلى الجرأة بافتعالها تحت عنوان فضح المسكوت عنه، أو غيرها من العناوين المخادعة، والتي غالباً ما تأخذ شكل الرواية، فالنصيحة المجدية هي: الرواية أولاً وبعدها يأتي الجنس كجزء من عالم الإنسان، إذ لا يمكن أن يكون إلا جزءاً من كل. وليس الجنس أولاً، أو كل شيء، وبعده قد تأتي الرواية، أو لا تأتي.




صورة مفقودة
 
أعلى