مهند مبيضين - الجدل الدمشقي حول الرقص في العصر العثماني

شغل حكم الرقص الفقهاء ورجال الصوفية في دمشق العثمانية، فشكل حيزاً في الجدل الفقهي الدائر بين الإباحة أو عدمها، ويظهر من اسم كتاب إبراهيم الدمشقي نزيل القسطنطينية الحلبي (ت:956هـ/1549م) «الرهص والوقص لمستحل الرقص»، أن الرقص كان مثار جدل في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، وقد أباح الفقهاء الرقص في حال كان مشفوعاً بذكر الله، ويقدم الشيخ سعيد بلبل في كتابه «أحكام الذكر» مجموعة من الأحاديث والآيات وفتاوى العلماء الدالة على الإباحة.

ويشير سعيد بلبل إلى أن السؤال عن إباحة الرقص وقع في مصر سنة 1105هـ/ 1693م بالنص التالي: «وما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم في رجل معترض يقول حق السادة الخلوتية وغيرهم حين يقومون للذكر ويدورون محلقين آخذاً بعضهم بأيدي بعض ويسمونها «الهُوية»، إنهم يكفرون، لأنهم يرقصون ويتلاعبون بالذكر ويكفر من يقول بجواز ذلك، فماذا يترتب على هذا الخبيث في إنكاره على هذه الطائفة الفائزة الناجية إن شاء الله الذين يجتمعون على تلاوة القرآن العظيم وذكر الله تعالى...وهل لهؤلاء الطائفة مستند من السنة المطهرة أو من أحد من السلف الصالح أم لا؟ ومن جملة اعتراضه وشدة افترائه أنه قال لجماعة: اقضوا جميع صلاتكم التي صليتموها خلف من يفعلها أو يقول بجوازها..» (بلبل، أحكام الذكر، ص88).

وبعد جدل فقهي بين العلماء، أجاب أئمة الحنفية والمالكية كلهم على هذا السؤال بالموافقة من غير مخالفة، وكانت حجتهم أن في القيام والقعود والميلان بالجسد عبادة وتقرباً لله، استناداً إلى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. (آل عمران: 191) وورد عن الفقهاء أن التمايل عند التهليل وارد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذكروا الله تمايلوا شمالاً ويميناً كما تتمايل الشجرة في الريح العاصفة. ومن الذين قالوا بالإجازة الفقيه أحمد بن عبدالله الحافظ (ت:430هـ/1038م) صاحب كتاب «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء»، والفضيل بن عياض التميمي اليربوعي (ت:187هـ/803م).

وارتبط الجدل حول الرقص بالسماع والقول على حدو الحادي وشدو الشادي، «وفيه يشتغلون عن الذكر بسماع مغاني الشعر ويتباهون. وأما إذا غنى لهم منشد حالة الذكر فهناك راغوا – طلبوا بشدة وإلحاح- ألحانه وحكايته وجعلوا الذكر تابعاً للهوى... ومحمل التحريم في حدو الحادي أن فيه من الفحش والخروج على قانون الأدب من ذكر الخدود والقدود والشعور والخمور والأعطاف والأرداف».

وقديماً صنف المسعودي الرقص وجعله على ثمانية أنواع: الخفيف والهزج، والرمل، وخفيف الرمل وثقيل الثاني وخفيفه، وخفيف الثقيل الأول وثقيله. وقال المسعودي: «الرقاص يحتاج إلى أشياء في طباعه، وأشياء في خلقته وأشياء في عمله، فأما ما يحتاج إليه في طبعه فخفة الروح وحسن الطبع على الإيقاع، وأن يكون طالبه مرحاً إلى التدبير في رقصه والتصرف فيه» (المسعودي، مروج،ج4، ص225). ومن صفات الراقص في خلقته التي يحددها المسعودي: «... طول العنق والسوالف وحسن الدّلل والشمائل والتمايل في الأعطاف ودقة الخصر وحسن أقسام الخلق، وواقع المناطق واستدارة الثياب من آسافها ومخارج النفس والإراحة، والصبر على طول الغاية ولطافة الأقدام ولين الأصابع وسرعة الانفتال والدوران ولين الأعطاف. ومما يحتاجه الراقص في عمله كثرة التصرف في ألوان الرقص وإحكام كل جزء من حدوده وحسن الاستدارة وثبات القدمين على مدارهما واستواء ما تعمل يمنى الرجل ويسرها. ولوضع القدمين وجهان: أحدهما أن يوافق بذلك الإيقاع والآخر أن يتثبط به فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن...» (المسعودي، مروج، ج4، ص225).

ومع ان الجدل الفقهي انحصر في رقص الصوفية، إلا أن الرقص في دمشق كان شائعاً في مجالس الخاصة والعامة وفي الأفراح، وهو برأي محمد كرد علي معاصر الشيخ سعيد بلبل فرع من فروع الموسيقى. ويعرف حاجي خليفة (ت:1060هـ/1656م) الرقص بأنه: «علم يبحث عن كيفية صدور الأفعال التي تصدر عن العذارى والنسوان الفائقات الجمال، والمتصفات بالظرف والكمال» (حاجي خليفة، كشف الظنون، ص231).

ويصف محمد كرد علي رقص أهالي الشام بأنه مقتبس من أوضاع كثيرة، ويدخل كرد علي الرقص إلى فن التمثيل، ويرى أن إنشاء دار للتمثيل في دمشق على يد أحمد أبو خليل القباني سنة 1282هـ/1865م كان يمثل بداية جديدة لوجه من وجوه التسلية والترفيه . يقول: «... وبدأ يضع روايات تمثيلية وطنية من تأليفه وتلحينه ويمثلها فتجيء دهشة الإسماع والإبصار، لا تقل في الإجادة من حيث موضوعها وأزياؤها ونغماتها ومناظرها عن التمثيل الجميل في أوروبا... واعتاض لأول مرة عن النساء بالمرد، ولما انتقل إلى مصر لنشر فن التمثيل العربي هناك، عاد إلى الطبيعة واستخدم في كل دور من يصلح من الجنسين. ووجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية ولم يذهب للغرب، بل قيل له إن في الغرب فناً هذه صورته فقلده، وقيل إنه شاهد رواية واحدة مُثلت أمامه، ولما كانت عنده أدوات التمثيل، وهي الشعر والموسيقى والغناء، ورأى أنه لا ينقصه إلا المظاهر والقوالب، أوجدها وأجاد في إيجادها، ولذلك كان أبو خليل القباني مؤسس فن التمثيل العربي ونابغة العرب في فن الموسيقى...» (كرد علي، خطط الشام، ج 4،ص 143).

يؤكد نص كرد السابق أن دمشق الشام برغم الثقافة الدينية الهائلة التي كانت تطغى على طبيعة مجتمعها، إلا أنها كانت قابلة للتغيير، وبرغم الجدل الفقهي الكبير الذي كان يتصاعد عند كل حادثة أو نازلة، ويبدو جلياً أن استمرار تراث أبي خليل القباني ما هو إلا تأكيد على أن فضاء الفن والموسيقى في دمشق كان رحباً، بما يسمح بتجاوز السائد حتى لو كان بالاقتباس من الثقافات الأخرى. لكن فن التمثيل الذي استلهم من الغرب، ونُظر إليه على أنه حادث في الثقافة الدمشقية، لم يتقدم كثيراً بعد أن غادر أبو خليل القباني إلى مصر، فقد تلقى نكسة كبيرة وتراجع، وهذا ما يؤكده كرد علي بقوله: «ولما كان التمثيل كما قلنا عارضاً على مدنيتنا رجع القهقرى بعد أبي خليل».

* كاتب أردني
الحياة
 
أعلى