قصة ايروتيكية ماريو بارغاس يوسا - امتداح الخالة - ت: صالح علماني

«3»
أذنا يوم الأربعاء
«إنهما مثل القواقع التي تحبس في متاهتها الصدفية موسيقى البحر». هذا ما تخيله دون ريغوبيرتو. فقد كانت أذناه كبيرتين جداً ومرسومتين جيداً، وكلتاهما، وإن كانت اليسرى بصورة أساسية، تنزعان إلى الابتعاد عن رأسه في الأعلى وتنحني كل منهما ملتفة على نفسها، مصممتين على أن تحتكرا لنفسيهما وحدهما كل ضجيج العالم. ومع أنه كان يخجل في طفولته من حجمهما ومن شكلهما المنحني، إلا أنه تعلّم تقبلهما. وقد وصل به الأمر إلى الإحساس بالفخر بهما بعد أن صار يكرس ليلة كاملة كل أسبوع للعناية بهما. ولأنه توصل فوق ذلك، بقوة التجريب والإصرار، إلى جعل هاتين الزائدتين غير الموفقتين تساهمان مع حماسة الفم أو فعالية اللمس، في لياليه الغرامية. ولوكريثيا تحبهما أيضاً، وتسرف الابتسامات المفتونة بهما. وقد اعتادت في فقرات الاختلاطات الزوجية أن تقبلهما: «دومبوياي المحببين».
زهريتان متفتحتان، جناحان حساسان، مسمعان للموسيقى والحوارات»، استشعر دون ريغوبيرتتو.
« وكان يتفحص بالعدسة المكبرة الحواف الغضروفية لأذنه اليسرى. أجل، لقد برزت أخرى رؤوس الشعيرات التي اقتلعها يوم الأربعاء الماضي. إنها ثلاث شعرات، غير متناظرة، مثل النقاط الثلاث التي تتشكل منها أضلاع مثرات متساوي الساقين. وتصور منفضة الريش السوداء التي ستتحول إليها تلك الشعيرات إذا ما تركها تنمو، إذا ما امتنع عن إزالتها، وداهمه إحساس عابر بالقرف، وبسرعة، بالمهارة التي توفرها المثابرة على الممارسة، أمسك تلك الرؤوس الشعرية بفكي الملقط وانتزعها واحدة بعد أخرى. الشدة المدغدغة التي رافقت الانتزاع سببت له قشعريرة لذيذة. وخطر له عندئذ أن دونيا لوكريثيا، بأسنانها البيضاء المنتظمة، تحلج، وهي مقرفصة، شعر عانته الأجعد، فوفر له هذا الخاطر نصف انتصاب. فكبحه على الفور متخيلاً امرأة غزيرة الشعر أذناها راكدتان بأجمتي شعر متهدلتين وفي ظلالهما المرتعشة يوجد بئر يلفظ حبيبات عرق. وعندئذ تذكر أن أحد زملائه في مهنة التأمين كان قد روى له، في تلك المرة، لدى عودته من إجازة في منطقة الكاريبي، أن الملكة دون منازع في أحد مواخير سانتو دومنغو هي خلاسية خشنة لها ما بين نهديها قنزعة شعر لا يمكن تصورها. حاول أن يتخيل لوكريثيا بمثل تلك الميزة ـ خصلة حريرية! ـ بين نهديها العاجيين فأحس بالرعب. واعترف لنفسه: «إنني ممتلئ بالأحكام المسبقة الجاهزة في القضايا الغرامية». ولكنه غير مستعد في الوقت الراهن للتخلي عن أي من تلك الأحكام. فالشعر أمر جيد. وهو من التوابل الجنسية القوية، شريطة أن يكون في أماكن معينة. على الرأس وفي قمة فينوس، جيد التسريح ودون إفراط؛ ويمكن التسامح به تحت الإبطين مرة، من أجل التجريب ومعرفة كل شيء (وهذا هاجس أوربي كما يبدو) أما على الذراعين والساقين فلا وألف لا؛ وبين النهدين، مطلقاً وأبداً!
«هذه الليلة لن أفعل شيئاً سوى سماع الحب»، قرر، وكان هذا ممكناً، فقد توصل إليه في مرات أخرى وقد أمتع ذلك لوكريثيا أيضاً، على الأقل كمقدمة. «دعيني أسمع نهديك». سيهمس، وسيريح بحب فتحة أذنه شديدة الحساسية على حلمتي نهدي زوجته، واحدة بعد الأخرى ـ فتنطبق فتحة الأذن على الحلمة مثلما تنطبق قدم في حذاء ـ وسيسمعهما بعينين مغمضتين، بتوقير وذهول، بتركيز مثلما في رفع خبز القربان، إلى أن يسمع في سطح الحبيبات الخشنة لكل حلمة، الصعود، من الأعماق اللحمية، لبعض الإيقاعات المختنقة، ربما هي أنفاس مساماتها التي تتفتح، وربما هو فوران دمها المندفع من التهيج.
كان ينتزع الزوائد الشعرية في أذنه اليمنى. وحدد فجأة وجود وافد غريب، فالشعرة الصغيرة الوحيدة كانت تتأرجح، بصورة مشينة، في منتصف شحمة الأذن. انتزعها بشدة خفيفة، وقبل أن يلقي بها إلى المغسلة ليدفعها ماء الصنبور إلى المصرف، تفحصها باشمئزاز. هل سيتواصل ظهور شعيرات جديدة في السنوات القادمة، في أذنيه الكبيرتين؟ ولكنه لن يتنازل أمامها على كل حال، حتى وهو على فراش الموت، إذا توافرت له القوة، سيواصل تدميرها (أليس من الأصح القول تشذيبها؟). ولكن فيما بعد، عندما سيرقد جسده دون حياة، سيتمكن هذا الشعر الدخيل من الظهور على هواه، وسينمو ويقبح جثته. وسيحدث الشيء نفسه بأظفاره. وقال دون ريغوبيرتو لنفسه إن هذا المنظور هو حجة لا تدحض لصالح إحراق وترميد جثته. أجل، فالنار تمنع حدوث تشوهات ما بعد الموت. اللهيب سيؤدي إلى إخفائه كاملاً، وسيحبط بذلك الديدان. وأحس بالراحة لهذا الخاطر.
وبينما هو يلف كرات صغيرة من القطن على رأس دبوس شعر ويبللها بالماء والصابون لينظف الشمع المتراكم داخل الأذن، استبق ما سيسمعه هذان القمعان النظيفان عما قريب، نازلاً من نهدي زوجته إلى سرتها. وهناك لن يكون مضطراً لإجهاد نفسه من أجل مفاجأة موسيقى لوكريثيا السرية، إذ أن سيمفونية حقيقية من أصوات سائلة وصلبة، طويلة وقصيرة، مشوشة وصافية، ستهرع لتكشف له حياتها الدفينة. واستبق بامتنان الانفعال الذي سيشعر به من خلال جهاز السمع هذا الذي يمسحه الآن بود مسهب، مخلصاً إياه من القشرة الدهنية التي تتشكل فيه كل فترة معينة، شيء من الوجود السري لجسدها: غدد، عضلات، أوعية دموية، حويصلات، أغشية، أنسجة، فتائل، أنابيب، أقنية، كل هذه الأجهزة البيولوجية الغنية والرقيقة الكامنة تحت بشرة بطن لوكريثيا المشدودة. وفكر: «أحب كل ما هو موجود داخلها وخارجها. لأن كل ما فيها يمكن أن يكون مهبجاً».
لم يكن يبالغ منقاداً للرقة التي يدفعها إلى الظهور دوماً في تخيلاته. لا، لم يكن يبالغ أبداً. فبفضل إصراره المثابر، نوصل إلى حب امرأته كاملة وكل جزء منها على حدة، حب لتفاصيل ولمجموع مركبات هذا الكون الخليوي. وهو يعرف أنه قادر على الاستجابة الإيروتيكية، بانتصاب مفاجئ وقوي، لتحريض أي جزء تافه منها، بما في ذلك اشد الأجزاء تفاهة فيها، بما في ذلك ـ بالنسبة للإنسان العادي ـ الأجزاء التي لا يمكن تصورها وأكثرها إثارة للنفور. «هنا يرقد دون ريغوبيرتو الذي أحب بطن زوجته مثلما أحب فرجها أو لسانها». فلسف الأمر مفكراً بأن هذه العبارة ستكون مناسبة للوحة الرخامية التي ستوضع على قبره. وهل ستكذب تلك الإشارة المأتمية؟ في أدنى الحدود. وفكر كيف سيأخذ بالتأجج عما قريب بالتقلبات المائية التي ستفاجئ مسمعيه عندما يطبقان بجشع على معدتها الطرية، وها هو ذا يسمع الآن الفوران السعيد للغازات المعوية، أو الضرطة المرحة المفرقة، أو الغرغرة والتناؤب المهبلي أو التمطي الفاتر لأفعى أمعائها. وها هو ذات يسمع، وقد أعماه الحب والشهوة، العبارات التي اعتاد أن يكرم بها زوجته بينما هو يداعبها. «هذه الأصوات التي أنت أيضاً يا لوكريثيا؛ إنها موسيقاكِ... الكونشيرتو الخاص بك... شخصك الرنان.» كان واثقاً من أنه قادر على التعرف على تلك الأصوات فوراً، وعلى تمييزها عن الأصوات التي يصدرها بطن أي امرأة أخرى. وهذه فرضية ليست هناك أي فرصة لإثباتها، لأنه لن يحاول أن يجرب أبداً سماع الحب مع امرأة أخرى. ولماذا يفعل ذلك؟ أليست لوكريثيا أقيانوساً بلا قرار لن يتمكن، هو الغواص العاشق، من استكشاف كل أغواره أبداً! ودمدم: «أحبك»، وهو يشعر بفجر انتصاب جديد. أراد تفاديه بضربة على الرأس، أثارت فيه ـ فضلاً عن مضاعفته إلى اثنين ـ نوبة من الضحك. وسمع امرأته توشوشه من غرفة النوم: «من يضحك وحيداً، يتذكر آثامه!» آه، لو أن لوكريثيا تعرف ما يضحكه.
سماع صوتها، التأكد من قربها ووجودها، ملأه بالسعادة. «السعادة موجودة»، كرر ذلك، مثلما يفعل كل ليلة. أجل، ولكن بشرط البحث عنها بحيث تكون ممكنة. في جسد المرء وفي جسد محبوبته مثلاًَ؛ أو على انفراد في الحمام؛ لساعات أو لدقائق على سرير تقاسمه مع الشخص المنشود. لأن السعادة عابرة، وفردية، وثنائية بصورة استثنائية، ونادراً ما تكون ثلاثية، ولا يمكن مطلقاً أن تكون جماعية... بلدية. إنها مختفية ـ لؤلؤة في صدفتها البحرية ـ في بعض الطقوس والممارسات الاحتفالية التي تقدم إلى الإنسان ومضات وسراباً من الكمال. ولا بد من الرضا بهذا الفتات لكي يعيش المرء متلهفاً ويائساً، محاولاً نيل ما هو مستحيل. وفكر بألمعية: «السعادة تختبئ بين فتحتي أذني».
كان قد انتهى من تنظيف مجريي أذنيه، وها هي ذي أمام عينيه كرات القطن المتضمخة بالمادة الدهنية الصفراء التي أخرجها منهما للتو. مازال عليه أن يجففهما، حتى لا تتبلور على قطرات الماء تلك بعض الوساخة قبل أن تتبخر. وفتل مرة أخرى كرتين من القطن على رأس دبوس الشعر وفرك مجاري أذنيه بنعومة وكأنه يدلكهما أو يداعبهما. ثم ألقى بكرات القطن إلى المرحاض وشد السلسلة ليتدفق الماء. نظف دبوس الشعر ووضعه في علبة أدوات تجميل امرأته.
نظر إلى أذنيه في المرآة من أجل تفحص أخير. وأحس بالرضا والحماسة. فها هما هذان المخروطان الغضروفيان نظيفان من الخارج والداخل، ومستعدان للانحناء من أجل الاستماع إلى جسد المحبوبة بتوقير وشبق.




.

هنري ماتيس

مشاهدة المرفق 1129
 
«5»
ديانا بعد حمامها
هذه التي إلى اليسار هي أنا، ديانا لوكرثيا. أجل، أنا ربة السنديان والغابات، ربة الخصوبة والإنجاب، ربة الصيد. الإغريق كانوا يسمونني ارتيميسا. وأنا متساوية مع القمر، وأبولو هي أخي. وبين من يعبدونني تكثر النساء والعوام. هناك معابد منتشرة لتأليهي في كل غابات الإمبراطورية. والمنحنية إلى جانبي، تنظر إلى قدمي، هي خوستينيانا، المفضلة لدي. لقد انتهينا من الاستحمام للتو وسوف نمارس الحب.
الأرانب البرية والزرازير وطيور التدرج اصطدتها فجر هذا اليوم، بالسهام التي أعيدت إلى كنانتها بعد أن انتزعتها خوستينيانا من أجساد الطرائد ونظفتها. كلاب الصيد هي للزينة فقط؛ فنادراً ما أستخدمها لدى خروجي إلى الصيد. ولم استخدمها مطلقاً على أي حال من أجل طرائد حساسة كهذه التي اصطدتها اليوم، لأن أنيابها تتلفها فلا تعود صالحة للأكل. هذه الليلة سنأكل هذه الحيوانات ذات اللحم الطري واللذيذ، متبلاً ببهارات غريبة وسنشرب من نبيذ كابوا إلى أن نخر منهوكتين. أنا أعرف كيف استمتع. وهذه كفاءة رحت أطورها دون راحة على امتداد الزمن والتاريخ، وأؤكد دون تفاخر بأنني قد توصلت في هذا المجال إلى الحكمة. أعني: فن مزج نيكتار لذة كل الثمار ـ حتى المتعفنة منها ـ في الحياة.
الشخصية الرئيسية ليس موجوداً في اللوحة. أو أنه بكلمة أدق، لا يظهر فيها. إنه في الخلفية، متخفٍ في الدغل، يتلصص علينا، إنه هناك، يجثو في غيبوبة ليعبدني. بخصل شعره الأشقر المتشابك مع الغصون الكثيفة وعضوه الصغير ذي البشرة الشاحبة المنتصب مثل بيرق، يرتشفنا ويلتهمنا بمخيلته... مخيلة الطفل النقي، إنه هناك. ومعرفتنا بوجوده تفرحنا وتضفي مزيداً من الخبث على ألعابنا.إنه ليس إلهاً ولا حيواناً، بل هو جنس البشر. يرعى الماعز ويعزف المزمار. واسمه فونشين.
لقد اكتشفته خوستينيانا في يوم عيدس آب، حين كنت أقتفي أثر غزال في الغابة. وكان الراعي الصغير يتبعني مبهوراً، متعثراً، دون أن يرفع عينيه عني لحظة واحدة. وتقول مفضلتي إنه حين رآني منتصبة ـ وكان شعاع من الشمس يشعل شعري ويهيج حدقتي عيني، بينما كل عضلات جسدي مشدودة استعداداً لرمي السهم ـ انفجر الصغير بالبكاء. فاقترب خوستينيانا منه لتواسيه، وانتبهت عندئذ إلى أن الطفل يبكي من السعادة.
«لا أدري ما الذي أصابني»، اعترف لها بذلك والدموع تسيل على خديه، وأضاف: «ولكن كلما ظهرت السيدة في الغابة تتحول أوراق الشجر إلى نجوم ساطعة وتبدأ الأزهار بالغناء. فتنسل إلى داخلي روح ملتهبة تهيج دمائي. أراها فأحس وأنا ساكن على الأرض بأنني أتحول إلى طائر وأنطلق محلقاً.
وفلسفت خوستينيانا الأمر بعد أن روت لي الواقعة: «هيئة جسدك أوحت باكراً بلغة الحب لسنوات عمره القليلة. لقد فتنه جمالك مثلما تفتن ذات الأجراس عصفور الكوليبري. أشفقي عليه يا ديانا لوكريثيا. لماذا لا نلعب قليلاً مع الطفل الراعي؟ سنمتعه ونمتع أنفسنا كذلك.
وهذا ما حدث. فخوستينيانا المحبة للهو بالفطرة، مثلي، وربما أكثر مني، لا تخطئ أبداً في الشؤون المتعلقة باللذة. وهذا هو أكثر ما يعجبني فيها، أكثر من وركيها الوارفين أو من زغب عانتها الحريري ذي الطعم اللذيذ في المداعبة: إنها مخيلتها السريعة وغريزتها الصائبة في التعرف، وسط صخب هذا العالم، على منابع اللهو واللذة.
منذ ذلك الحين صرنا نلعب معه، ومع أن وقتاً طويلاً قد انقضى، إلا أن اللعب مبهج لا يسبب لنا أي ملل. ففي كل يوم يسلينا أكثر من سابقه، مضفياً الجدة والطراقة على الحياة.
إن فونشين، إضافة إلى مفاتنه الجسدية، كإله رجولي صغير، يجمع كذلك روح الخجل والحياء. فالمحاولتان أو الثلاث التي قمت بها للاقتراب منه والتحدث إليه لم تثمر نفعاً. فهو يمتقع، وينطلق راكضاً مثل غزال نفور ويختفي بين الأغصان كما في أعمال السحر الأسود. لقد همس إلى خوستينيانا بأن مجرد التفكير، ليس بلمسي، وإنما بالاقتراب مني، أو بأنني أنظر إلى عينيه أو أتحدث إليه يفقده صوابه ويقضي عليه. وقال لها: «أعرف بأن جمالها سيحرقني إذا ما اقتربت منها مثلما تحرق شمس ليبية فراشة حائمة.
ولهذا السبب نمارس ألعابنا خفية. في كل مرة لعبة مختلفة، ألعاب تصنع تشبه تلك المشاهد المسرحية التي يختلط فيها الآلهة والبشر ليتألموا ويتسلوا، والتي يحبها كثيراً أبناء بلاد الإغريق العاطفيون. فخوستينيانا تتظاهر بأنها شريكته المتواطئة معه وليست حليفتي ـ والحقيقة أن تلك الخبيثة متواطئة مع كلينا، ومع نفسها بصورة خاصة ـ، فتضع الراعي الصغير بين صخور مجاورة للمغارة التي أقضي فيها الليل. وعندئذ تعريني على ضوء الموقد ذي اللهب الأحمر، وتطلي جسدي بعسل نحل صقلية العذب. إنها وصفة إسبارطية للحفاظ على الجسد صافياً ولامعاً، فضلاً عن أنها وصفة مهيجة. وأغمض أنا عيني بينما هي قابعة فوقي، تلك أعضائي وتحركها وتعرضها على فضول مريدي العفيف. وأغور في أثناء ذلك في نفق الحس وأرتعش في تشنجات لذة قصيرة وأنا أتخيل فونشين. بل أكثر من ذلك، فأنا أراه، أشمه، أداعبه، أشده وأخبئه في داخلي، دون أن أكون بحاجة إلى لمسه. ويضاعف تهيجي علمي بأنني بينما أنا أستمتع تحت يدي مفضلتي المجتهدتين، يستمتع هو أيضاً معي، على إيقاع متعتي. جسده الصغير البريء، المتلألئ بالعرق وهو يتأملني وينتشي برؤيتي، يضيف لمسة حنان تلون لذتي وتبعث فيها الحلاوة.
وهكذا رآني الراعي الصغير بمساعدة خوستينيانا وهو مختبئ ما بين تشابكات الغابة، وأنا أنام وأستيقظ، ورآني وأنا أرمي السهم والنبلة، وأنا ألبس وأتعرى. رآني أقرفص على حجرين لأتبول بولي الأشقر في جدول ماء رائق شفاف يسارع هو، بعيداً عني في أسفل المجرى، إلى الشرب منه. رآني أقطع رؤوس الإوز، وأصفي دم الحمائم لأقدمه للآلهة وأتقصى في أحشائها مجاهيل المستقبل. رآني أداعب جسدي وأنتشي بنفسي وأداعب مفضلتي وأبعث فيها النشوة، ورآنا، أنا وخوستينيانا، نغطس معاً في النهر، وتشرب كل واحدة منا ماء الشلال البلوري من فم الأخرى، مستمتعين بمذاق لعابينا ورحيقينا وعرقينا. ليس هناك ممارسة أو عمل، ولا مجون أو طقس من طقوس الجسد أو الروح إلا وعرضناه عليه، عليه هو سيد الامتياز في الإطلاع على لقاءاتنا الحميمة من مخابئه المتنقلة. إنه مهرجنا، ولكنه سيدنا أيضاً. يخدمنا ونخدمه. ولقد استمتعنا مرات لا حصر لها دون أن يلمس أحدنا الآخر أو يتبادل معه كلمة واحدة، وليس من الظلم القول إنه على الرغم من الهوة الشاسعة التي تفصل بين طبيعتينا وسنينا، إلا أننا، أنا وهو، أشد اتحاداً من أي عاشقين متيمين.
الآن، في هذه اللحظة بالذات، سنمثل أنا وخوستينيانا من أجله، وسيبقى فونشين ببساطة هناك في الخلف، ما بين السور الحجري والدغل، وسيمثل كذلك من أجلنا.
وباختصار، سوف تدب الحياة والحركة في هذا السكون الأبدي ليصبح زماناً وتاريخاً. ستنبح كلاب الصيد، وستغرد الغابة، وستجري مياه النهر مغنية ما بين الحصى والقصب، وستسافر الغيوم المنفوشة نحو الشرق، مدفوعة بالرياح اللعوب نفسها التي تهز تجعيدات شعر مفضلتي السعيدة. إنها ستتحرك الآن، ستنحني بفمها ذي الشفتين الورديتين لتقبل قدمي وتمص كل إصبع مع أصابعي مثلما تمص الليمون في أمسيات الصيف الحارة. عما قريب سنتشابك معاً، متداعبتين على حرير الشرشف الأزرق، غارقتين في النشوة التي تنبثق منها الحياة. وفيما حولنا ستحوم الكلاب مطلقة الأبخرة من أشداقها المتلهفة، وربما ستلحسنا متهيجة. والغابة ستسمعنا نتنهد، نغيب عن الوعي، ثم نصرخ فجأة مجروحتين جراحاً مميتة. وبعد لحظة من ذلك سيسمعنا نضحك ونمزح. وسيرانا نستغرق في نوم هادئ دون أن تنفصل إحدانا عن الأخرى.
ومن المحتمل عندئذ، حين يرانا وقد صرنا أسيرتي الإله هبنوس[1]، سيتخذ أقصى الاحتياطات لكي لا يوقظنا بأدنى حفيف من خطواته، وسيغادر شاهد تغنجنا مخبأه ويأتي ليتأملنا من حافة الشرشف الأزرق.
سيكون هناك، وسنكون نحن أيضاً، جامدين مرة أخرى، في لحظة أبدية أخرى، وستكون جبهة فونشين شاحبة، وخداه متوردين، وعيناه مفتوحتين بذهول وامتنان، وخيط لعاب رقيق يسيل من فمه الطري. أما نحن المتشابكتين والتامتين، فسنتنفس بإيقاع واحد، بأقصى تعبير من يعرفن كيف يكنّ سعيدات. سنكون هناك نحن الثلاثة،ساكنين، صابرين، بانتظار فنان المستقبل الذي ستهيجه الشهوة، فيحبسنا في حلمه، ثم ينقلنا إلى لوحة القماش بريشته معتقداً أنه يبدعنا.
 
أعلى