قصة ايروتيكية الياس الماجري - أوَّلُ مضاجعة

لديَّ مشكل، لستُ أدري حقيقةً ما هو، مع البدايات. مع كل بداية. ربما هي الرهبة، أو الخشية، أو رغبةٌ جامحة في أن أصنع أحسن ما بوسعي صنعه، تتحوَّلُ عفوياًّ إلى خوف من أن أبدأ. أذكرُ فترة الدراسة، بقدر ما كنتُ فاشلاً فشلاً ذريعاً في الرياضيات والفيزياء وبقيّة المواد العلمية، كنتُ بارعاً في الأدب العربيّ والفرنسيّ، متفوّقاً منذ الصغر في التحرير والإنشاء. ولولا ذلك، بصراحة، لإنقطعتُ عن الدراسة منذ الطفولة - في الحقيقة، لم يشفع لي ذلك مطولاً، وتمَّ طردي فيما بعد من كافة المعاهد الحكومية عند سن السابعة عشر-… على كل، أذكر جيِّداً إمتحانات الإنشاء، عربيَّة أو فرنسيّة، كنتُ أبقى قرابة الساعة والنصف مُحملقاً من حولي، شاخصاً في الأستاذ، في زملائي الطلبة وهم منهمكون، في الجدران، في أثر الطلاَّسة على السبُّورة والماء المجفف وما يصنع من أشكال تصير، في غيبوبتي تلك، أشبه بصورٍ ورسوم، متطلّعاً من النافذة، مُدققاً النظر في أصابع زميلة فاتنة الجمال، أو في تكوّر ثدييْها، أو تقوّس ظهرها، ومؤخرتها، مع خفقان القلب الملازم، قارئاً كل أسماء العشاق المخطوطة على الطاولة Khalil + Farah = APT (خليل + فرح = حب إلى الأبد)، متسائلاً إن كنتُ سأصير بدوري، يوماً ما، من أولئك الفتية المزهوين، بثقة كبيرة في النفس وصدر منتفخ فخراً، أمام باب الكوليج أو المعهد، أو في الزقاق المخفية المحاذية له، مع صبايا جميلات رؤوسهن معلَّقةٌ إلى أكتافهم. وربما بين الحين والآخر، في غفلةٍ من الأعين، يقتنصون قبلات حميمة. تدوم غيبوبتي تلك مطولاً، وفي الأثناء أكون لا أبحث في ذلك الزخم سوى عن شيء واحد: بأية عبارة، جملة، أو فكرة، أبدأ التحرير!؟! قبل أن أشرع في الكتابة عند نصف الساعة الأخير. حينما لا يبقى أمامي من خيار. وأعثر على تلك الجملة التائهة. وأشرع في الكتابة بلا توقف. لا شيء يوقفني سوى يد الأستاذ وهي تفتكُّ مني ورقة الإمتحان أو مغادرته للقاعة الفارغة من جميع التلاميذ مهدداً بأنه إن جاوز عتبة القاعة، لن يقبل مني الورقة… حتى هذا النص الذي بين يديَّ الآن، في الحقيقة، كان عليَّ أن أسلِّمه قبل أيام، ولكني لم أكن قد شرعتُ حينها في كتابته، وطلبتُ مهلةً مجددَّة، ولم أبدأ في تحريره سوى في اليوم الأخير من المهلة الجديدة.
خوفي هذا، من البداية، من كل بداية، لازمني في كل مجالات الحياة. حتى علاقاتي بالجنس… ولأقُل صراحةً، بالأخص في علاقتي بالجنس. اليوم، أحياناً، في أحدى جلساتنا الخمرية مع بعض الندامى، أو في لقاءٍ حميميٍّ مع أحدى البنات، يدور الحديث عن بداياتنا في الجنس، وأرى التفاجؤ، والصعقة، والعجز عن التصديق، من الفتيان والفتيات على حد السواء، حينما أُسرُّ لهم أني لم أعش أول علاقة جنسيّة سوى في سن الخامس والعشرين. “لاااااا لا أصدّق! إلياس الماجري لم يعرف الجنس إلاَّ في الخامس والعشرين من عمره!؟!”، تلك عبارات تعوّدتُ سماعها. وصرتُ أفهم أسبابها. فكلُّ من يعرفني، عن قربٍ أو بعد، يعرفُ شغفي الملازم، وتوقي الذي لا يني، للنساء والجنس. ولكن تلك هي الحقيقة: لم أعرف أول علاقةٍ جنسيَّة إلاَّ في سن الخامس والعشرين.
لم تكُن كل تلك السنوات، قبل الخامس والعشرين، بيسيرة. أذكر كل أصدقاء تلك الفترة من العمر، ما بين التاسع عشر والخامس والعشرين، وقد عرفوا كلهم الجنس وصاروا يتحدثون عنه في كل مجلس. كنتُ أنا أتراجع قليلاً، أنزوي، وأرهف السمع إلى كل تفصيل. كانوا يصفون عالماً سحرياًّ، خارقاً، عجيباً، وغريباً كل الغرابة عني. عالم كان يزداد توقي إليه كل يوم… إلى أن عرفتها، هي. كانت فائقة الجمال. بقيتُ سنةً أرمقها بإعجاب شديد. وكلما انضمَّت إلى شلّتنا، في كلية الفنون الجميلة، لتجلس معنا، أبقى ألتهمها خلسةً بعيْنيَّ. وإلى جمالها، كانت لا تفتقر للمرح، والهزل، والذكاء البهيج. تغيَّبتْ لفترةٍ عن الكليَّة، فبحثتُ عنها حتى عثرتُ عليها. وعلمتُ منها أنها تعيش حالةً من الإحباط بسبب مشاكل عدة. اتَّفقتُ معها أن أزورها في مدينتها الشاطئية، مدينة المرسى، حتى نسبح معاً في البحر. كنا في أولى أيام الصيف سنة 2008. حملتُ معي بعض قوارير البيرة في حقيبة الظهر، وذهبتُ للقائها. اتَّخذنا مكاناً قصياًّ من الشاطئ ليس فيه غير العشاق المختبئين. فشرب البيرة، كما الحب، كما القُبَل، كما غيرها من نشوات الحياة، ممنوعة علناً في هذه البلاد. سكرتُ بعض الشيء، رغم أني تعوَّدتُ أن لا أسكر إلاَّ بعد الكثير من البيرة. ولكن هدير البحر، ورائحته المالحة، نسيمه، ممتزجاً بالبيرة، بنشوة النظر إلى جمال عينيها الممتزج لونهما الأخضر، بسُمرة بشرتها، جعلني أبلغ حثيثاً حالةً رائعة من السكر. كانتْ بجانبي، نضحك، تمسك بقنينة بيرة. لا أعلمُ أيَّ جنٍّ ألمَّ بي: “هل أستطيعُ إقتراف فعلٍ مجنون؟”.
- ما هو؟
- لا أستطيع الإفصاح عنه قبل إتيانه…
- أريد أن أعرف قبل أن أوافق!
- إذاً، انسِ الأمر… لا شيء.
- لا!
- مسموحٌ لي بإقترافه أم لا!؟!
- ممممم… أطرقتْ مُفكّرةً، بهزلها المعتاد، ثم: لديَّ ثقة بك، نعم.
- في الحقيقة، أنتِ تجعلين الأمر أعسرَ عليَّ بهذه الثقة. أنا نفسي الآن ليست لديَّ أدنى ثقة فيما سأهمُّ بفعله… ولكن…
أخذتُ قارورة البيرة التي بيدي. صوَّبتُها نحوها. وسكبتُ شيئاً من المشروب الأصفر العجيب على كتفها الملتمع من قطرات ماء البحر وضوء الشمس المنعكس عليه. وشرعتُ ألعقه بلساني. ثم توقَّفتُ برهةً، وتطلَّعتُ إلى وجهها حتى أرصد ردَّة فعلها. كان على وجهها علاماتُ الذهول. اتَّسعتْ حدقتا عينيْها الخضراويْن المائل لونهما إلى الرماديّ. لم تكن قادرةً على قول شيء. فقط تنظر إليَّ في ذهول. أحسستُ في تلك اللحظة بثقل الموقف. حاولتُ أن أقول شيئاً، أي شيء، حتى أبرّر صنيعي:
- اشتهيْتُ أن أعرف طعم البيرة، مع نكهة ملح ماء البحر، ممتزجاً ببشرتكِ الفائقة الجمال المائل لونها إلى حمرة الخمر، كيف يكون…
لم تُجب. لم تقل شيئاً. ظلَّتْ مصعوقةً، تنظر إليَّ بإندهاشٍ طغى على ملامح وجهها الساكنة واتّساع عينيْها كبحرٍ أخضرَ ساجي. لم تكن تفهم كيف بوسع هذا الشاب الخجول، الذي لم يُظهر يوماً أيَّ نوعٍ من الشجاعة الذكورية مع فتاة، كيف بوسعه أن يفعل ما فعل. شعرتُ أني بدأتُ أفيق من نشوة البيرة، أني جاوزتُ حدودي، والأسوء أني خذلتُها كصديقٍ من المفترض أنه جاء ليُخرجها من حالة الإحباط التي هي فيها :
- أعتذر… حقاًّ… لا أدري ما أصابني.
- “لا تعتذر، ربك!” قالت، وطوَّقتْني بذراعيْها. شعرتُ بثدييْها تخترقان صدري. ونشأتْ بيننا قبلةٌ مطوَّلة. أولى قبلاتنا. ثمَّ انفصل جسمانا، حتى ينظر كلٌّ منا إلى الفرح المشعِّ في وجه الآخر. قبل أن تتكرر وتتعدَّد قبلاتنا. بين كل جرعة بيرة وأخرى، صرنا نلتهمُ كلانا ما تبقى من قطرات في شفتيْ الآخر. ندخل البحر، نختبئ وراء قوارب الصيد، ويشتبك جسدانا المتراقصيْن من مدِّ الموج وجزره، من أثر البيرة، من نشوة الحب الناشئ، من شوقٍ انعتق من أصفاده وتحرر. لم نستطع يومها مغادرة البحر، والإذعان لضرورة العودة، إلاَّ ساعة مغيب الشمس. ولكن، من يومها، أينعتْ ملايين القُبَلِ بين شفتيْنا، زهوراً بِرّيَّة. بقينا أشهراً طويلة نغتنم كلَّ فرصةٍ، مهما كانت صغيرةً أو ضئيلة، كلَّ هامشٍ، لتبادل قبلة. وحتى حينما لا يكون هنالك أيُّ مجالٍ لها، نخلقه. في مقهى، في محطة القطار، وراء لافتة إشهارية، خلف شجرة، في عرض الرصيف، في المقعد الخلفيّ لسيارة صديق، في درجٍ منزوي بالكليّة، في ورشة رسم فارغة، في أيِّ مكان، كناَّ نفكُّ الحصار المفروض على شوقنا ونعلنُ قيام قُبلة.
أحياناً كنا نمضي إلى ما أبعد من قبلة، وننساقُ غير عابئين، حتى نكاد نمارس الحب. لا أذكر من كل تلك الأشهر، غير جمالها، جمال لون عينيْها، جمال سُمرة بشرتها، وجمال قبلاتنا الللامنتهية. وربما، بإستثناء القبلات، لم يبقَ بذاكرتي سوى مشهدٍ واحد، يوم كنا نتمشَّى سوياًّ، أنا وهي، حتى أصحبها كعادتي إلى محطة قطار “التي جي آم” (1) لكي تعود إلى مدينتها، المرسى، وكنتُ كعادتي بصدد الثرثرة، باسطاً أفكاري عن الوجود وشارحاً رؤيتي للحياة، وهي تستمعُ إليَّ. لا أدري إن كنتُ الرجل الوحيد الذي شعر بذلك، ولكن لا شيء بوسعه أن يُطلق عنان أفكارنا غير إمرأةٍ تُرهف إليك السمع وتشغفُ بما تحكي. وربما لذلك، فإنَّ أول من صدَّق بنبوءة المرسلين، كما المُلهمين، كنَّ نسوة. في سياق حديثي، حينها، قلتُ أني إن تزوَّجتُ يوماً، لن أقبل بالزواج من إمرأة عذراء. وتابعتُ حديثي. قبل أن ألتفتَ فأجد عيناها مغرورقتيْن دمعاً: “ماذا هنالك!؟!”، سألتها في ذهول وأنا أمسح الدمع المنسكب فوق وجنتيْها. “لا شيء”، كانت تُجيب وهي تنهنه. ألحَّيْتُ حتى أعرف سبب بكائها، ولكنها لم تشأ أن تخبرني. ثم سرعان ما تذكرتُ شيئاً حدثني عنه، حينما عثرتُ عليها بعد فترة إختفائها، وفهمتُ الأمر: “أعتقدُ أنكِ أسأتِ الفهم. قلتُ أني لن أتزوَّج إمرأةً عذراء، ولم أقل أني لن أتزوَّج إمرأةً ليست عذراء!”. وسرعان ما أشرقَ وجهها، وانبثقت فيه ضحكة مشعّة. ضحكنا سويّة. ولكن آلمني ما جال للحظة بداخلها. ولعنتُ ذلك الفتى الذي افتضَّ بكارتها رغماً عنها. لم يكن لديها إشكال مع فقدان البكارة في حد ذاتها. ولكن كانت تتمنى لو حدث الأمر مع شاب تحبه، أو حتى تكنُّ له بعض المشاعر، أو على الأقل شاباًّ منطبعاً في ذاكرتها بصورٍ جميلة. لا فتى لئيم يقتنص لحظة ضعفها ليغدر بثقتها. على كل… أخبرتها أني لا أكترث لأمر البكارة، وأني محظوظ لكونها تفوقني بعض الشيء خبرة في الجنس. وبقينا، كعادتنا، نقطفُ القبلات من حدائق الشهوة المخفيَّة عن أعين الآخرين.
في صبيحة أحدى الأيام، كنا في ذلك الدرج القصيّ، في خلفية ساحة الكلية، نتبادل القبل. قبل أن أستجمع كل شجاعتي، وأقول:
- بيتنا فارغ الآن. والديَّ بالشغل… ما رأيكِ إن ذهبنا إلى البيت؟
ووافقتْ بسرور.
ذلك المشهد، هو أكثر مشهدٍ بقيَ راسخاً بذاكرتي طوال ما عشتُ إثره من الحياة. لا ينقضي يومٌ من دون أن يعاودني. ولا مشهد يملأ كياني كله مثله. أتممنا ممارسة الجنس. كنتُ فوقها. سحبتُ جسمي قليلاً فوق، حتى أفصله عن جسمها. كنتُ أريد أن أنظر إلى وجهها، إلى عينيها، حتى أعرف: هل كنتُ جيّداً؟ هل أحسنتُ صنعاً؟ هل أسعدها ما فعلتُ؟ هل أجيد المضاجعة؟ هل بمقدرتي أن أفرح إمرأةً؟ زحفٌ من الأسئلة كان يجتاحني. ولفرط السؤال، لم أستطع أن أهتدي للجواب في وجهها وعينيْها. نهضتُ مغادراً السرير، وبقيت هي مستلقية. عمَّ الصمت. ضقتُ ذرعاً بالإنتظار: “مااااااذا؟ أخبريني! هل كنتُ جيّداً؟ هل أعجبكِ الأمر!؟!”.
تحركتْ محاولة القيام من السرير. خطَتْ خطوةً خارجه، وحينما همَّتْ أن تخطوَ الخطوة الموالية، خارتْ قواها، وسقطتْ أرضاً. نظرتْ إليَّ وهي طريحة بالأرض: “شُششششششششت.. اسكُت.. ها أنك ترى الإجابة أمامك بأم عينيك. لم أعد أستطيع الحراك من فرط ما كان ذلك قوياًّ. من فرط ما كان رائعا”…
انفجرتْ منا، معاً، ضحكة مبتهجة. توجهتُ نحوها، استلقيتُ أرضاً إلى جانبها. قبلتها خفيفاً، وعانقتها. كانتْ أول مرةٍ أضاجع فيها إمرأة. أول مرة أعرف أنَّ بوسعي إسعاد إمرأة. أول مرة أكتشفُ أن هنالك شيءٌ في هذا الكون بمثل تلك الروعة، شيء بهيج إسمه الجنس. وعلى ما يبدو، كنتُ بارعاً فيه. كانت لديَّ أول شهادة.
ولكن، منذ ذلك اليوم، تحولتُ. تحولتُ جذرياًّ. لم أعد ذلك الفتى المتردد، الخجول، العديم الثقة بنفسه، الذي يتلعثم ويفقد الكلام كلما وجد نفسه وجهاً لوجه مع فتاة. صرتُ رجلاً. رجلاً يُجيد إستمالة النساء واصطيادهنَّ كالفرائس، واستدراجهنَّ بإقتدارٍ حتى السرير. نمَتْ فيَّ سريعاً براعةٌ فذَّة في تلك اللعبة المغوية. أو كأني صرتُ أبحث عن أكثر شهادات، كتلك الشهادة الأولى، لأثبت جدارتي الجنسيّة التي حرمتُ منها طويلاً. أو أنَّ من فرط ما أعجبتني تلك المرة الأولى، أردتُ أن أبقى أعيشها إلى ما لا نهاية، مع كل إمرأةٍ تعترضني، شيءٌ يشبه تجربة “الهيروين”. أو ربما أني كنتُ أبحث عن تعويض عن كل تلك السنوات التي لم أعرف خلالها من الجنس غير التخيّل، والتشوّق، والإحتراق.
اعترضتني مرة، في رواية، جملةٌ تشبهني بشدَّة. في رواية “على الطريق”، للكاتب الأمريكي جاك كيرواك، يقول سال بارادايس متحدثاً عن صديقه المُلهِم بإحتراقه شوقاً للنساء والمغامرات والطريق، دين مورايرتي: “كان بوسعي الإستماع إلى دين، في أوج نشوته، وهو يهمسُ ويُصارع مُهتاجاً. وحده شخصٌ قضى خمس سنوات في السجن بوسعه أن يُسلِمَ نفسه إلى هذا الإفراط في الهذيان والخراب؛ متضرّعاً عند عتبة منبع الغبطة، مذعوراً بفطنةٍ جسمانيةٍ بأتمّها من أصول النعيم الحيويّ؛ نازعاً بعمى إلى اللحاق بكل طريق جاء منه. إنَّ هذا لنتاجُ سنواتٍ قُضيَت في النظر إلى الصور الأيروسية وراء القضبان، في النظر إلى سيقان وأثداء النساء في الرسوم الشعبية؛ في تبيّن الفارق البصريّ بين صلابة الغرف الفولاذية ونعومة المرأة الغائبة”. نعم، هو ذا، إنَّ سنوات من الحرمان من المرأة هي أشبه بسنوات انقضتْ في زنزانة. لا نخرجُ منها إلاَّ بشغفٍ مرضيٍّ، هائجٍ، لا يني، لا يُشبَع، ولا يستكين. صرتُ أخونُ الفتاة التي أحبَّتني، وأحببتها، بلا هوادة. كلما غفلتْ عني يوماً واحداً، أو تركتْ لي هامشاً ضئيلاً، اصطدتُ فريسةً جديدة أزهو بإرتمائها إلى عنقي. إلى أن أبلغها بعض الوشات بشأن علاقاتي السريّة، فتصدَّعتْ علاقاتنا. حاولتُ طويلاً أن أحافظ على تلك العلاقة، أول علاقة حب، ولكنها خيَّرتني: إما البقاءُ معها، والوفاء لها، وأن لا أضاجع غيرها. أو أن أنفصل عنها. شيءٌ ما قد بترته عني حينما خيَّرتُ الإنفصال عنها، راح عنّي إلى الأبد. أعلم. ولكن، لم يكن بوسعي حينها الإكتفاء بأول إمرأةٍ ضاجعتها لتكون هي آخر شريكةٍ جنسيَّة.
تركتها إلى حال سبيلها… وانصرفتُ أنا سالكاً سبيلي.
بعدها صار عندي بيت. كان كلُّ أثاثه وما فيه مهيئاً لإستقبال البنات، للجنس، ولشخصيَّتي الجديدة تلك.
في أحدى الأيام، كنتُ عائداً مترجلاً من وسط البلد إلى بيتي، بعد أن تأخرت الساعة وتوقفت كل المواصلات عن العمل. ولكي أنسى طول المسافة، شرعتُ كعادتي أتذكّر كل الفتيات اللواتي ضاجعتهنَّ، محاولاً إحصائهن. ولكن، ليلتها، حاولتُ مراراً وتكراراً، ولم أستطع أن أحصيهنَّ. كل مرةٍ أعيد الحساب، ثم أتذكر أني نسيتُ أحداهنَّ. شعرتُ بذعرٍ شديد. انتباني قلقٌ خانقُ ذلك المساء، ممزوجاً بالرهبة. قررتُ أن أتوقف عن تلك اللعبة، أن أبتعد لفترة عن المضاجعة بتلك الوتيرة المحمومة. لم أكن أرغب أن أصل إلى هذا الحد. أريد أن أتذكَّر جيداً كل إمرأةٍ عرفتها، كل عالمها، فأنا أستثمر هذه العلاقات للكتابة. ما جدواها إن تغمَّدها النسيان؟ ولكني لم أصبر أكثر من بضعة أيام، قبل أن أعود مجدداً، بلا سابق قرار، للمضاجعة يمنةً ويسرى.
ربما عليَّ أن أعترف بأني قد صرتُ حقاًّ مغلوباً على أمري. أعتقد. وبكل تأكيد، فإني فرَّطتُ من بين يديَّ في نساءٍ رائعات، فائقات الروعة، رائعات جداًّ، وخسرتهنَّ. كلهنَّ هربن من جحيمي، أو أني هربتُ من جنَّتهنّ. أنا رجلٌ مهوُوسٌ بالبدايات.
ولذلك أيضاً فإنَّ حياتي تمزُّقٌ مُعاد ما بين النهايات المتكرِّرة، كل مرة، والخوف المُلازم من النهاية. شغفي بالبدايات صار مجالاً لمزاح الأصدقاء. كلما شرعتُ بالحديث عن فتاة جديدة استوقفوني متهكّمين قبل حتى أن أشرع: “هاذي أزبر زبور في العالم؟”. تلك كلمتي المفضلة. كلما التقيْتُ بفتاة جديدة، أتحدَّثُ عنها بولَعٍ غير مسبوق: “اعترضتني اليوم أزبر أزبر أزبر أزبر زبور في العالم!” (2). و”أزبر زبور في العالم” هذه، في الحقيقة، لن ألتقيَ بها يوماً. لأني ألتقي بها كل يوم. كأنما حياتي بحثٌ لا يني عنها.
لنقُل أنَّ قلبي كرةٌ أرضيَّة ما تنفكُّ تدور حول نفسها وحول الشمس من دون أن تُلامسها. إن لامسَتها إحترقتْ وهَلكَتْ وانْتَفتْ نهائياًّ. لذلك، فإنَّ على قلبي أن يُكرِّرَ نهايته يومياًّ، إفلاتاً من النهاية. ليس أنَّ “أزبر زبور في العالم” غير موجودة حقاًّ، ولكن عليها أن توجد كل يومٍ مجدداً.
يقول نزار قباني في أحدى قصائده: “إني أتنفّسُ تحت الماء. إني أغرق.. أغرق”. وهذا بالضبط، بالنسبة لرجل مثلي، معنى أن تكون في علاقةٍ ما بإمرأة. أن تُلقيَ بنفسك، بكل ما تملك من شجاعة، تحت الماء. وأن تستنفذ أنفاسك هناك، ليس حتى النَّفَس الأخير، بل ما قبله. عند النفَس ما قبل الأخير، بكلِّ ما فيكَ من خوف، تنفلتُ من تحت الماء صاعداً إلى السطح، هارباً. لأنكَ لو واصلتَ استمرَّت العلاقة وغرقتَ نهائياًّ.
ليس هنالك إبداعٌ ممكن إلاَّ عند الشجاعة أو عند الخوف. عند البداية وعند النهاية. ولكننا حمقى… نعتقد أنَّ البداية تأتي قبل النهاية. نظنُّ أنهما شيئان منفصلان. ولكنَّ الحقيقة أننا نبدأ بشوق، ونُنهي حفاظاً على ذلك الشوق.
(1) : قطار التي جي آم TGM : هو قطار يصلُ بين وسط البلد بالعاصمة تونس إلى الضاحية الشمالية، شاقاًّ البحر، ماراًّ بحلق الوادي، وقرطاج، وسيدي بوسعيد، والمرسى…
(2) : زبور : كلمة عامية باللهجة التونسية لها معنييْن: المعنى الأول والمباشر هو فرج المرأة. ولكن شاع إستعمالها أيضاً، سوقياًّ، للدلالة على الجمال.


*شاعر وفنان تشكيليّ تونسيّ




.
صورة مفقودة
 
أعلى