بلال فضل - "متى جاء تحريم الهوى عن محمدٍ"؟

"متى جاء تحريم الهوى عن محمد = وهل مَنعُهُ فى مُحكمِ الذِّكر ثابتُ
إذا لم أواقِع محرمًا أتّقي بهِ = مجيئي يوم البعثِ والوجهُ باهت
فلست أبالي في الهوى قول لائمٍ = سواء لعَمري جاهر ومخافت
وهل يلزم الإنسان إلا اختيارهُ = وهل بخبايا اللفظ يؤخذ ساكت"

لم يكتب العلامة علي بن حزم الأندلسي هذه الأبيات الجميلة من فراغ، بل كتبها بعد اتهامات حادة له بالخروج على الشرع والدين، بعد أن أخذ يحدّث مريديه بآرائه في الهوى والغرام، والتي جمعها فيما بعد في كتابه الفريد (طوق الحمامة في الألفة والأُلّاف)، والذي كان حريصاً فيه على أن يستبق الراغبين في اتهامه بإشاعة الفاحشة بين الناس، فبعد أن كتب فصولاً جميلة عن ماهية الحب وعلاماته، ووصف من أحب في النوم، ومن أحب من نظرة واحدة، وفصولاً أخرى عن الإشارة بالعين والمراسلة والسفير وكتم السر والرقيب والواشي والوفاء والغدر واللين، ختم الكتاب ببابين، تحدث فيهما عن قبح المعصية وفضل التعفف وقمع الشهوات وعدم إثارة الغرائز وفضيلة التعفف في الغرام. ومع ذلك، كان يعلم أنه لن يسلم من هجوم المتربصين به، فقال في مقدمة كتابه إن "بعض المتعصبين سينكرون عليّ تأليفي لمثل هذا.."، موصيا هؤلاء بأن بعض الظن إثم، وأن عليهم أن يقرأوا كتابه بعين ودقة.

كان ابن حزم هو الفقيه والعلامة الأشهر الذي وصل ما كتبه عن العشق والغرام إلى عموم الناس، في زمنه وبعد زمنه، لكنه لم يكن الوحيد في ذلك المجال، فقد شاركه في ذلك كثير من الفقهاء والعلماء الذين ستجد لهم قصائد غزلية جريئة ورائعة، يمكن أن تعود إلى نصوصها في كتبٍ معاصرة، جمعتها من بطون كتب التراث القديمة، مثل (الإلمام بغزل الفقهاء الأعلام) للدكتور غازي القصيبي، و(من غزل الفقهاء) للشيخ علي الطنطاوي، و(أدب الفقهاء) للأستاذ عبد الله كنّون، حيث ستقرأ قصائد غرامية وغزلية لعلماء وأئمة، مثل الشافعي وعبيد الله بن عتبة وسعيد بن المسيب وابن القيم الجوزية والشريف الرضي وفخر الدين بن تيمية والزهري وأبي حامد الغزالي ويحيى بن أكثم وابن داود الظاهري والقاضي عياض والقشيري وغيرهم، وكل هؤلاء لم يروا الغزل حراماً، بل صاغوا فيه شعراً يشيع بين الناس ويتغنون به، وكان بعضهم يقول لمن يستنكر عليه ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على كعب بن زهير حين أنشده قائلا:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول = مُتيّمٌ إثرها لم يُفدَ مكبولُ
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا = إلا أغنّ غضيض الطرف مكحول

بل أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على كعب بن زهير، ومنحه عباءته، ولم يكن يعقل أن يفعل ذلك مع من يتغنى بمحرم، وحتى لو كان ما قاله كعب بن زهير في مقدمة قصيدته ـ كما يقول بعضهم ـ مجرد استهلال بلاغي، دأب عليه الشعراء العرب، مثل ما دأبوا في قصائد كثيرة أخرى بالبكاء على الأطلال، وأنه ليس غزلاً صريحاً في أحدٍ بعينه، فإن هذا لا ينفي حقيقة أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بالاستماع إلى كعب بن زهير، بل قام بتشجيعه بأقصى ما يمكنه، حين منحه عباءته، وأثنى عليه، ما يجعلك تتساءل عما كان سيفعله اليوم المتشددون ممن يزعمون الدفاع عن حياض السنة النبوية، لو حضر مجالسهم شاعر، وقرّر أن يلقي قصيدةً تبدأ بمقطع غزلي، أيا كانت طبيعته. وبالطبع، لن نسأل عما جادت به قرائح هؤلاء من شعر غزلي، مثلما جادت به قرائح الفقهاء السابقين لهم من غزل، فكلنا نعلم أن قرائح هؤلاء مجدبة جافة، خاوية على عروشها، وأنك لو ذكّرتهم بما كتبه الفقهاء من غزل وقصائد غرام، لانشغلوا بتكذيبها، ولأعطوك محاضراتٍ عن الدس والانتحال في التراث الإسلامي، في حين أنهم لا يتركون نصاً يضيق على الناس، ويشدد عليهم، إلا ورووه واحتجوا به، من دون أن يلقوا بالا لمن يتهمه بأنه مدسوس أو منتحل، أو مخالف لنصوص قرآنية محكمة.

في ذم الهوى

يروي ابن قيم الجوزية عن الفقيه يحيى بن سفيان أنه رأى بمصر جاريةً بيعت بألف دينار، فقال يصفها: "فما رأيت وجهاً قط أحسن من وجهها صلى الله عليها"، فقال ابن القيم مستنكراً: "يا أبا زكريا مثلك يقول هذا مع ورعك وفقهك؟، فقال وما تنكر عليّ من ذلك؟، صلى الله عليها وعلى كل مليح، يا ابن أخي الصلاة رحمة".

بالطبع، لم يكن ابن القيم الجوزية، في استنكاره ما قاله يحيى بن سفيان، يعبر عن رأي شخصي يخصه وحده، بل كان يعبر عن رأي عام بين أهل زمانه، يستنكر أي رأي جريء في العلاقة بالمرأة، خصوصاً وقد سادت المجتمعات العربية والإسلامية، في ذلك الوقت، مظاهر الترف والرفاهية، خصوصاً بعد أن أغرقت البلاد بالجواري التي يتم سبيهن في الغزوات والحروب، لينتج عن ذلك آلاف الروايات والأخبار عن الغرام بالجواري والقيان والغلمان، ولتنتج في مواجهة ذلك أيضاً عشرات الكتب التي أصدرها علماء وفقهاء وحفّاظ، تنشغل بذم الهوى وتحريم الغرام والعشق، وهي كتب ظلت، كغيرها، جزءاً من التراث الإسلامي، لكنها تحولت إلى الجزء الأكثر انتشاراً، بعد أن تم تغييب السياق الذي كتبت فيه، وأخذ يستغلها المتشددون في زماننا في التضييق على القلوب التي تخفق بالغرام والحب، لتختفي روايةٌ، مثل رواية يحيى بن سفيان التي ترى أن النظر إلى الوجه الجميل أمر يستوجب الدعاء بالرحمة لصاحبته، في حين تسود الروايات التي ترى أن مجرد النظر إلى الوجه الجميل فعل شنيع منكر يستوجب اللعن والزجر.

في كتب كثيرة، مثل (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) لابن القيم الجوزية، و (ذم الهوى) لأبي الفرج الجوزي، و(طوق الحمامة) لابن حزم، ستجد انعكاساً لتلك الرغبة في كبح جموح المجتمع المنفلت، في عشرات المرويات التي تحض على العفاف في العشق، والتي جاء، بعد ذلك، المحققون، ليحكموا بأنها موضوعة ومنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من وضعوها ونسبوها إليه كانوا يفعلون ذلك، رغبة منهم في نشر العفة ومقاومة التهتك والانحلال، لكن تلك الرغبة في كبح جموح المجتمع وجدت لها منفذاً غير وضع الأحاديث، فأنتجت نصوصاً معبرة عن الحيرة الإنسانية في التعامل مع الغرام والعشق، منها مثلا هذا النص لإبراهيم بن محمد:

كم قد ظفرتُ بمن أهوى فيمنعني = منه الحياء وخوف الله والحذر
وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني = منه الفكاهة والتأنيس والنظر
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم = وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحب لا إتيان معصية = لا خير في لذةٍ من بعدها سقر

وهو ما يعبر عنه شاعر مجهول، في بيت آخر يقول فيه:

إن أكن طامح اللحاظ (أي جريء النظر) = فإني والذي يملك الفؤاد عفيف

وفي ذلك، يروى عن جميل بثينة مجنون الغرام الشهير، أنه حين كان يحتضر، دخل عليه العلامة أبو سهل الساعدي، فسأله جميل بثينة: "إن رجلا يلقى الله، ولم يسفك دماً، ولم يشرب خمراً، ولم يأت فاحشة، أفترجو له الجنة؟ فقال أبو سهل: أي والله، فقال جميل: إني لأرجو أن أكون ذلك، فلما سأله: وبثينة؟ قال: إني لفي آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة لا نالتني شفاعة محمد، إن كنت حدثت نفسي بريبة قط"، وسواء كانت الرواية صحيحة أو مختلقة، فإن معنى اختيار الحرمان من الشفاعة عقوبة يؤكد الرغبة في نشر معنى التفريق بين العشق العفيف والعشق المرتبط بالريبة، وهو ما يحيلنا إلى تعبيرٍ معاصرٍ، يستخدمه العشاق في بواكير حبهم، حين يقولون عن محبوباتهم "أنا عمري ما فكرت فيها بشكل وحش"، معتبرين أن أي تفكير جنسي، أو ممتزج بالشهوة، يخرج الحب من الدائرة البريئة النقية إلى الدائرة الآثمة، أو المرتبطة بالريبة، وهو تفكير صمد عبر السنين، منذ أيام جميل بثينة، لكنه في الواقع لا يصمد كثيراً أمام التجارب التي تلي المراحل الأولى من العشق، حين يكتشف المحب غرائزه، وحيث تتحكم عوامل كثيرة في قراره بترويضها، أو إطلاق العنان لها. وهنا لا يخرج الحب بعيدا عن إطاره الشفاف الرومانسي، فيما يتعلق بالريبة والإثم، بل يخرج أيضا بعيدا عن إطاره البسيط كشعور بين حبيبين، ليتحول إلى موقف معقد يدخل الكثيرون طرفا فيه، رغما عن المحبين، وأحيانا برغبة المحبين.

على أية حال، كانت بثينة نفسها تشارك مجنونها جميل في رأيه، اسمعها مثلا في هذه الرواية التي تنسب إليها أنها قالت لعبد الملك بن مروان، حين قال لها: ما أرى فيكِ شيئاً مما كان يقوله جميل، فقالت له: يا مولاي، إنه كان يرنو إليّ بعينين ليستا في رأسك. لقد كان في عشقه كما قال الشاعر:

"لا والذي تسجد الجباه له = مالي بما تحت ذيلها خبر ـ أي بما تحت ثيابها ـ
ولا بفيها ولا هممت بها = ما كان إلا الحديث والنظر".

في السياق نفسه، سنرى عمر بن أبي ربيعة، شاعر الغرام الشهير وهو يقول قبل أن يموت لمن عاتبه على أشعاره، إنه غير نادم لأنه "لم يلمس أبداً فرجاً حراما"، وسنرى ليلى الأخليلية معشوقة مجنون الغرام توبة، وهي تجيب عن سؤال عبد الملك بن مروان، عمّا إذا كان قد وقع معها في الخطأ تأويلا لما جاء في إحدى قصائده، فقالت: "لا والذي ذهب بنفسه، ما كلمني بسوء قط، حتى فرق بيني وبينه الموت"، وهي رواية تشبه كثيراً، في مضمونها، رواية بثينة مع عبد الملك بن مروان، فتشير إلى إمكانية انتحال الروايتين، للرغبة في إيصال المعنى الذي يفرق بين الغرام العفيف غير المختلط بشهوة أو ما يمكن أن يطلق عليه في أيامنا "الغرام الهادف"، أو ما يسميه الكثيرون "الحب العذري"، من دون أن يعرفوا، بالضرورة، أن هذا المصطلح ينتسب إلى قبيلة بني عذرة العربية التي تروي كتب التراث رواياتٍ كثيرةً عن اشتهار أهلها بالعفاف في العشق، ومن ذلك ما يُروى أن أحدهم سأل امرأة من بني عذرة: ما بال العشق يقتلكم معاشر بني عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت: "إن فينا جمالاً وتعففاً، فالجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يفني آجالنا".

ولعلك لن تجد ما يفيد كيف تغيّرت طقوس العشق في المجتمعات العربية والإسلامية، مع تغير الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، إلا حين تقرأ، مثلاً، لأحد الفقهاء، وهو يترحم على أيام الغرام العفيف، قائلا: "كان الرجل يحب الفتاة، فيطيف بدارها حولا، يفرح إن رأى من رآها، فإن ظفر منها بمجلس تشاكيا، وتناشدا الأشعار، واليوم يشير إليها وتشير إليه، فيعدها وتعده، فإذا التقيا لم يشك حباً، ولم ينشد شعراً، وقام إليها كأنه قد أشهد على نكاحها أبا هريرة"، وهو كلام يطابق، في معناه، ما يقوله كثيرون ممن يتحسرون الآن على زمن الأخلاق والقيم والمبادئ الذي كان الشاب فيه لا يجرؤ أن يرفع نظره في وجه الفتاة التي يحبها، ولا تجرؤ الفتاة على أن تضحك في وجهه، لكي لا يظن بها سوءاً.

ستجد المعنى نفسه في رواية أخرى، سألوا فيها عاشقاً قديماً: "ما أنت صانع لو خلوت بمحبوبتك، ولا يراكما غير الله عز وجل؟، فقال: إذن، والله لا أجعله أهون الناظرين، لكنني أفعل بها ما أفعله بحضرة أهلها: حديث طويل ولحظ من بعيد، وترك ما يكره الرب، ويقطع الحب". ويروون عن عاشق آخر أنه قال عندما سألوه السؤال نفسه: "كنت أمتع عيني في وجهها وقلبي من حديثها، وأستر منها ما لا يحبه الله، ولا يرضي بكشفه إلا عند حله"، وحين سألوه: "فإن خفت ألا تجتمعا بعد ذلك؟"، قال: "أكِلُ قلبي إلى حبها، ولا أصير بقبيح ذلك الفعل إلى نقض عهدها"، وهو ما يقوله، بشكل أكثر وضوحاً، عاشق آخر يمتلك مفهوماً أكثر تحرّراً، حيث يفرق بين القبلة والمضاجعة، فحين سألوه: "ما الذي ينال أحدكم من عشيقته إذا خلا بها؟ قال: اللمس والقبل والحديث. قال : فهل يطؤها؟ قال بأبي أنت وأمي، ليس هذا عشقاً، وهذا طالب ولد".

هل يسلم أحد من العشق؟

ولعل من أبرز ما يروى في العلاقة بين الغرام والحرام، ما يرويه راوية العرب الشهير، الأصمعي، عن أنه وجد حجراً في البادية، وقد كتب أحدهم عليه:

"أيا معشر العشاق بالله خبروا = إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع"

فكتب الأصمعي تحته:
"يداري هواه ثم يكتم سره = ويخشع في كل الأمور ويخضع"

وحين عاد في اليوم التالي، وجد مكتوباً تحته:

"فكيف يداري والهوى قاتل الفتى = وفي كل يوم قلبه يتقطع"

فكتب الأصمعي تحته:
"إذا لم يجد صبراً لكتمان سره = فليس له شيء سوى الموت أنفع"

وحين عاد الأصمعي بعد ذلك، وجد شاباً ملقى ميتاً إلى جوار الحجر، وقد كتب قبل موته:

"سمعنا أطعنا ثم مُتنا فبلِّغوا = سلامي على من كان للوصل يمنع".

يذكر بعض المحققين أن الأصمعي انتحل هذه الرواية، وأن الإمام الشافعي هو أول من قالها، لكن الأصمعي أضاف لها خاتمةً أكثر درامية، هي خاتمة الموت، ولعل تهمة الانتحال هنا تُذكّرنا بروايةٍ منسوبةٍ إلى الشافعي، تروي فتوى غرامية للإمام الشافعي، حين استفتاه رجل فقال له شعراً:
سَلِ المفتي المكي هل في تزاورٍ = وضمة مشتاق الفؤاد جناحُ

فقال الشافعي:

أقول معاذ الله أن يذهب التُّقى = تلاصقُ أكبادٍ بهن جراحُ

تحضرني، هنا، أيضاً قصة عشق فقيه مكة عبد الرحمن القس، والذي كان لدى أهل عصره بمنزلة التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح، كان عبد الرحمن القس قد أحب سلّامة مغنية المدينة الشهيرة، لتسير الركبان، عبر الأزمان، بقصة حبهما التي حملت اسميهما معاً من دون حواجز: "سلامة القس"، وعلى الرغم من أن حب عبد الرحمن القس لسلّامة اشتهر بين أهل زمانه، إلا أنه لم ينزل مكانته لديهم، ولم يهز مكانته كفقيه بارز، لكن قصة حبه سلّامة، صارت موضوعاً لعشرات الروايات الموجهة التي تضرب جميعاً على وتر أهمية الغرام العفيف والتفرقة بينه وبين الغرام ذي الريبة، من ذلك مثلاً ما يرويه ابن قتيبة الدينوري في (عيون الأخبار) عن أن عبد الرحمن القس خلا بسلامة يوماً، فقالت له: أنا والله أحبك. فقال: وأنا والله أحبك. قالت: فأنا أحب أن أضع فمي علي فمك. قال: وأنا والله. قالت: وأنا والله أحب أن أضع صدري على صدرك، فقال: وأنا والله. قالت: فما يمنعك، والله إن الموضع لخالٍ، فأطرق ساعة، ثم قال إني سمعت الله يقول "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، وأنا والله أكره أن تكون خِلّةُ ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة، ونهض".

وحين صاغ الأديب الكبير علي أحمد باكثير قصة سلامة والقس في روايته، نقل على لسان سلّامة شعراً معبراً عن هذا المعنى، لحنه فيما بعد رياض السنباطي، وغنته كوكب الشرق أم كلثوم:

"قالوا أحب القس سلامة = وهو النقي الناسك الطاهر
كأنما لم يدر قبلي الهوى = إلا الغوي الفاتك الفاجر
يا قوم إني بشر مثلكم = وفاطري ربكم الفاطر
لي كبد تهفو كأكبادكم = ولي فؤاد مثلكم شاعر"

في كتابه الشهير (ذم الهوى) الذي يستخدم متشددون كثيرون، حتى الآن، مروياته لتحريم الغرام والعشق والغزل، يحرص أبو الفرج الجوزي على أن يؤكد أن العشق المذموم هو "لمن جعلوا دأبهم إرخاء عنان الشهوة من أهل النفوس العاطلة والقلوب الفارغة". وفي حين يبدو الرجل متأثرا بأحوال زمانه، فيخصص فصولاً في كتابه عن حرمة الزنا واللواط وتحريم النظر إلى الغلمان المرد وسيمي الشكل، مغرقاً في رواية وقائع انتشرت في ذلك العصر، يعدها فظائع استوجبت تأليفه كتابه، لكنه، مع ذلك كله، يقرّر اختلاف الحكم في العشق بين المدح والذم، قياساً على مجاوزة العاشق حد العقل والحكمة، ووقوعه في الحرام، أما إذا لم يفعل العاشق ذلك، فإن العشق حينها لا يصبر مذموماً أبداً، وفي ذلك يستشهد برأي أبي نوفل الذي سُئل هل: يسلم أحد من العشق؟، فقال: "نعم الجلف الحافي الذي ليس فيه فضل، ولا عنده فهم". وهو ما يعبر عنه فقيه خراساني، قال موصيا أهل زمانه: "اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العَييّ، ويفتح حيلة البليد والمختل، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، ويشد في الهمة، وإياكم والحرام". ولعل أفضل ما أختم به هذه القراءة التراثية عن حدود الحرام في الغرام هو ما قاله أحد كبار فقهاء التابعين وظرفائهم، الإمام الشعبي، الذي ساوى بين من لا يعرف العشق والبهائم، ولا مؤاخذة، حين قال:

"إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى = فأنت وعِيرٌ بالفلاة سواء".




- عن العربي الجديد
 
أعلى