محمد الهجابي - ماءُ العيْنِ

(1)
أريدُ أنْ أَبكي،
وأذرفَ الحبّةَ الواحدةَ بحجْمِ شرغوفٍ.
وهذا الدّمعُ لا يكفي كيْ يملأَ دوْرقَ الكفّيْنِ،
عديني، أيّتها المرأةُ/المرآةُ، باليديْن مبسوطتيْن مثلَ سَبْلاتِ الزّهور
ينداحُ منْهما مائي صوبَ المغايضِ؛
وإذْ تحُفُّها شتلاتُ نبات الصبّارِ كما أهدابُ العيْنِ،
وإذ يشمَلُها رجيمُ الشّهبِ كلّما اغدودقت في زحْمةِ الأعطابِ،
حبّةٌ بحجمِ شرغوفٍ لا تكفي،
وهذي أعطابي لا تعدّ!

(2)
كمْ منْ هِنْوٍ سيَسْتغرقُ هذا الطوافُ حولَ قبابِكِ، والخطوةُ منّي بمقدارِ الفِتْرِ الواحدِ؟
ولدان مخلّدون، هوَ الخطوُ إليكِ، ولا أريدُه أنْ يتّسعَ،
وأخافُ، ولا بدّ، منْ قِصَرِ المسافاتِ.
أَمْهليني، آخذُ نفَساً، لعلّ وَقْدَ الرّياح يدبّ منْ جديدٍ تحتَ رماد المساءاتِ
هلْ أخطأتُ العدَّ؟
أمَا كانَ عليّ أنْ أقلِّمَ منْ مرْودِ هذا الكحل الاستبْرقِ؟
أمَا كانَ عليّ أنْ أستجيرَ بأقدامٍ خَبرَت بسْطةَ الأرباضِ؟
أَمْهليني قليلاً، فقد يطيبُ لي الفِتْرُ على ضيقِه،
ربّما استجليْتُ به نواقضَ الأعْطابِ،
فيكونُ لي منكِ مقامٌ،
ويكونُ محاجّاً، إذا ما استكثَركِ عليّ العذّالُ.
أَمْهليني قليلاً، أو كثيراً، حتّى أوصدَ دَرفتيْ هذا الكِنّ دونَ عيْنِ الشمسِ الوطفاءِ، ولا تَغمِضي الجفْنيْنِ سريعاً قبل أنْ تَغْنَمي بعضَ دفءٍ، فللجسدِ ملاوٍ تومضُ منْ وقعِ الخطواتِ، وللملاوي في مظانّها غَمْرٌ منْ حلكةٍ لا تشبهُ كُحْلَ المراودِ في شيءٍ..

(3)
يا التي راكبتِ الثَّقَليْنِ منْ غيرِ إهابٍ،
هي ذي كفِّي، فامسَحي عليها بريحٍ منْ لُجيْنٍ، تريْنَ صورتكِ، منْ صورتي، منْ ذاكَ التّراكُبِ،
وخُذيني إليكِ، خُذيني كما لو تحضنينَ أعزّ ما تَطلبينَ،
واعمديني مثلما يُعمد الثّرى.

(4)
كلُّ هذه الحواشي لا تزيّنُ قفلةً،
يعوزُها ما يعوزُ الأسنانَ اللّططِ،
يعوزُها الأسناخُ.
مَنْ زرعَ الإسفينَ في لحمةْ اللّوحِ؟
مَنْ أهالَ الرّمسَ على اللّحمةِ قبْلما تشهق، وتشرق؟
وهذا اللّوحُ يَسْتجيرُ بقَرْوٍ بيْنَ الترقوّةِ والثّندُوةِ.
يا ماءً، يا ماءَ الأَزَلِ، أيّها الواصلُ/ الفاصلُ،
كمْ تحتاجُ منَ الاستعاراتِ كيْ تعيدَ رسمَ المشْهدِ،
كما في بدايةِ البداياتِ؛
إذْ حنَّ اللّوحُ إلى نطافِه العذابِ،
وحنَّ الإلفُ إلى إلفِه،
وحنَّ الماءُ إلى عيْنِه.
يا ماءً، يا بوسيدون، أعِدْ القسمَتيْن قسمةً واحدةً،
أعِدْ غايا إلى مَجرّتِها،
وأعِدْ المجرّةَ إلى صُلبها، به يلتئمُ صفْقا الأخدودِ؛
هوَ الزّمنُ البدْئي، إذاً، ذاكَ قبلَ قصّة الانشطارِ الموجعِ.
لكن، آهٍ، رسمُكَ هذا لا يَفي،
وهذه الاستعاراتُ لا تسعفُ.

(5)
سأظلُّ مُبْتلاًّ بأسئِلتي فوقَ كتابِ الأرضِ،
كقَمَّاطٍ يجسُّ بالقمَاشِ تقاسيمَ وجهِ الترابِ، ولا يدري أَيجسُّ القناعَ أم القُلاعَ؟
ماءً أريدُ،
مَنْ يُطفئُ ظمأَ هذهِ الأصابعِ قبلَ أنْ يلحقَها النِّقْرِسُ؟

(6)
أيّتُها المرآةُ/ المرأةُ، هل حدّثتُكِ عنْ سرّ الماءِ، أقصدُ سرَّ مائي؟
هل يحسنُ آدابَ التّرحابِ، إذا ما اتّسعتِ الفجواتُ على حينِ غرّةٍ؟
ماءَ العيْنِ أمْ ماءَ البيْنِ، أَعْني؟
قبلَ الانشطارِ العظيمِ،كانَ الماءُ ابنَ السّليلِ الخالدِ،
كتابُ الأرضِ أَنْبأَ.
وكانَ اللّيلُ طويلاً،
ثمّ كانتِ الغُبْشةُ، فشَّبُّورةٌ زاحمَةٌ،
وكانتْ أطيافٌ تتحرّكُ هناكَ،
وطودٌ، أو ما يُشبهُه، وسفحٌ.
وكنّا اثنيْنِ فحسبُ، نَستعدّ للانْشيالِ كما تفاحةٌ طازجةٌ لم تنفلقْ بعدُ.
وكانَ ثمّةَ اسمٌ واحدٌ، هو اسمُنا، مرقوناً في الكتابِ الذي هو صفحةٌ بلا آخِر،
وشطرٌ واحدٌ لا يُحدُّ، هو الماءُ.
وكان الماءُ الذي حملَ التفّاحةَ إلى السّفحِ،
ومنْ ذلكَ هذه العينُ،
ومنْ تلكَ العيْن هذا الهورُ.
ثمّ حلّ البلاءُ المبينُ.
انسحبَتِ الظّلال أوّلاً،
ومِنْ لا مكانٍ نبقتْ فزاعاتٌ،
ثمّ نضَبَ الماءُ،
وصرْنا اسميْن، وشَطريْن صرْنا،
فكانتِ الفجيعةُ الكُبرى.
أيّتها المرآةُ/ المرأةُ، هبْ أنّني اتّخذتُ الارتماسَ طقساً وديْدَناً يومياً،
فهلْ يعودُ للسّليلِ نبْضُه؟
إنّ سرَّ مائي منْ هذا النّبضِ لوْ تدْرينَ،
كيفَ تدْرينَ؟

(7)
هلْ لنا فائضٌ منَ الوقتِ كيْ نرتوي،
وهذا الامتدادُ قدّامنا كيفَ نعبرُه منْ غير ركوةٍ؟
أنا أنتظركِ عندَ العطفةِ كما بندول ساعةٍ،
وكما معطف أسود بارحَ العنوانَ، وصار أعمى،
أو كما زحار يبحثُ عنْ ريحٍ يقيمُ أودَهُ.
وأنا عندَ العطفةِ أصفنُ وبصري على آخر الدربِ،
والبردُ يرجفُ منّي الأضلاعَ.
أرغبُ في أنْ نغرقَ معاً في هذه الحفرةِ،
بعد العطفةِ مباشرةً،
هيَ آخر الرغباتِ لو تعلمينَ،
أنا الذي دغّمتِ الأيّامُ حِكْمتي فيكِ،
لو فقط تريحينَ رأسي المهدود على فخذكِ لساعاتٍ،
وبالهُدبِ تمسحينَ على شعري،
كيْ أستوْدفَ الخبرَ لدى العَبّارِ،
ثمّ بَعْثِريني، إنْ شئتِ، في نباتاتِ أصصكِ، لا في القبورِ، فقد أتعرّشُ وأورقُ.
نقّعي عطَشي، أكونُ لكِ مِجَنّاً.

(8)
أريدُ أنْ أبكي في الشّارع العامِّ، لا في دورة مياهٍ،
ولا أطيقُ ضجيجَ الإردبّاتِ.
لا يكونُ البكاءُ كالمتاعِ المهرّبِ تحتَ الآباطِ،
يكونُ كلاماً تبلّلُه الأملاحُ على المكشوفِ،
لا يكونُ أسطرلاباً لقياس خطِّ الماءِ،
يكونُ عيْناً هتوناً به تلقَّمُ عراجينُ النّخلاتِ
تلكَ التي تخالفُ مَمْشايَ،
وتلكَ التي إذا ما استُحدثَت تقادمَت.
الماءُ الذي يمجُّ المَحْرَماتِ،
والماءُ الذي ينكأُ سِرارَ الوجهِ،
و يخضخضُ الزّوْرَ،
والذي يترُكُ النّطعَ حارقاً كما النَّطْل،
وكما باقي الخثورِ؛
هذا الماءُ، لا أريدُه مصادفةً مثلَ موعدٍ في قطارٍ،
أريدُه منْ وَدَكِ النّار لا منْ صَهْدِها.




____________
٭نص من ديوان «زنبركات» لمحمد الهجابي



.


http://www.aljarida.com/images/1462212180262945300/1462212180000/1280x960.jpg



.
 
أعلى