رباب كمال - ازدراء الأديان أم ازدراء العقول؟

استشعرتُ نبضات قلبه المتسارعة وأنا أتأبَّط ذراعه وأشد على يده بقوة، أسندت ظهري إلى جِدار قاعة المحكمة، ورفض هو أن يميل ميلا ولو كان بسيطًا، حواسه كلها منتبهة، فهو ينتظر الحكم الذي سينقذه من السجن المُحقق أو يُلقي إليه بطوق النجاة

مثُل أمام المحكمة ليس لأنه سارق أو قاتل أو متحرش أو مغتصب، بل أن تهمته أكثر فداحة، جريمته شنعاء يندى لها جبين الإنسانية، فهو مبدع في زمن فتاوى بول البعير، وموهوب في زمن إرضاع الكبير وقلمه رشيق في زمن فتاوى نكاح الصغيرات. وهكذا أضحى مجرمًا في زمن وطء العقول بقضيب التطرف والأصولية.

المتهم الذي أمسكت بيده و العياذ بالله روائي، يُدعى كرم صابر، ارتكب جُرما عظيما حين كتب مجموعة قصصية اسمها "أين الله"، بها 13 قصة قصيرة تُمثل ما يعانيه المواطن المصريّ من ظلم وقهر باحثا ومتسائلا عن رحمة الله؟ لولا عنوان الرواية ما كان كرم صابر ليمثل أمام المحاكمة في تهمة ازدراء أديان، وما كانت المحكمة لتحكم عليه بأقصى العقوبة.

حُكم على كرم صابر بالسجن 5 سنوات، استند القاضي لقانون العقوبات المصريّ لا الطالباني في الإدانة خاصة بعدما اطلع على تقرير الأزهر الذي أدان الروائي، أما الطامة الكبرى أن الكنيسة متمثلة في مطرانية بني سويف كتبت تقريرا يدين الكاتب.

القاعدة الشائعة هي عدم التعليق على أحكام القضاء، لكن هذا لا يعني الصمت تجاه قوانين محاكم التفتيش.

قضايا الحسبة وازدراء الأديان ليست غريبة على ساحات القضاء المصري، قد يختلط عليك الأمر وتظن أنك تقف في ساحة محكمة في قلب "قندهار"، بينما تسمع حيثيات الحكم، هكذا استقر ضمير المحكمة أن الماثل أمامها ارتكب جريمة التفكير في زمن التكفير.

كانت هذه أول مرة أعايش فيها تفاصيل محاكمة روائي مثل كرم صابر على أرض الواقع و ليس من خلال الصحافة و الإعلام، وكانت تجربة موجعة لأنها لم تكن قضية كرم وحده، بل كانت قضية وطن. لم أكن أشد على يد كرم صابر بل كنت أشد على يد الوطن .

وكم كان شجاعًا حين رفض أن ينجو بنفسه، وقرر أن يحمل الأمر على عاتقه هو وهيئة دفاعه الموقرة للطعن على قانون ازدراء الأديان جملة و تفصيلا.

( أمام مجلس الدولة مع الروائي كرم صابر – بعد تقديم الطعن على المادة 98 الفقرة ( و) من قانون العقوبات المعروفة باسم ازدراء الأديان).

كل ما كان يدور في ذهني حينها هو- إن لم نتمكن من الطعن على عقوبة ازدراء الأديان وتعرضنا للمطوحة القضائية ما بين محكمة دستورية وقضاء إداري - من سيكون ضحية قضايا محاكم التفتيش القادم؟

تاريخ قانون ازدراء الأديان

لعبت أحداث "الزاوية الحمراء" الطائفية عام 1981 دورًا محوريًا في صياغة قانون ازدراء الأديان، وبدأت الأحداث بسبب قطعة أرض، اعتزم أحد الأقباط بناء كنيسة عليها بعدما استصدر حكمًا قضائيًا بحيازتها، وبدأ الشجار على قطعة الأرض مع بعض الإسلاميين، والذين قاموا بتحريض الصبية على الهتاف ضد "النصارى" ووضع علامات على بيوت المسيحين إيذانًا بحرقها، بل و ذبح القس مكسيموس جرجس بعدما رفض نطق الشهادتين على يد عصابة من الجماعات الإسلامية.

بالرغم أن الرئيس السادات أعلن مقتل 9 أقباط في الحادث إلا أن عدة تقارير تشير إلى أن العدد بلغ العشرات ومنها شهادة اللواء حسن أبو باشا وزير الداخلية الأسبق في جريدة الأهرام الدولي بأن عدد القتلي بلغ 81 قبطيًا . وانتهى الحادث بمجزرة ومحرقة حيث تم حرق ونهب بيوت ومتاجر الأقباط.

شعار الوحدة الوطنية

ظل الإعلام يطلق على المجزرة حادث الزاوية، وبدأت شعارات الوحدة الوطنية تتصدر المشهد بالرغم أن تلك المجزرة سبقتها عدة جرائم طائفية ومن أشهرها:

حادث المدينة الجامعية في الإسكندرية في أبريل 1980، حرق كنيسة العذراء بمصر القديمة عام 1979، الاعتداء على كنيسة الملاك ميخائيل بالعوايسة مركز سمالوط عام 1976 ، الهجوم على كنيسة البيطاخ بسوهاج عام 1975 و غيرها من الحوادث التي نفذتها الجماعات الإسلامية المتطرفة، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

المادة 98 من قانون العقوبات الفقرة ( و )

كانت ذريعة صياغتها الحفاظ على الوحدة الوطنية بعد حادث الزاوية الحمراء و خاصة بعد ما أثاره أئمة المساجد في التحريض ضد الأقباط من على المنابر، فتم إضافة الفقرة (و) إلى المادة 98 بموجب قانون 29 لسنة 1982 (عهد مبارك) وجاء في نصها أنه:

"يعاقب بالحبس مدة لاتقل عن ستة أِشهر ولاتتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولاتجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة، لقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية".

قانون الازدراء سلاح ذو حدين

بعد 33 عاما من هذه الصياغة علينا أن نطرح تساؤلات هامة:

أولا: هل تصدى القانون للجرائم الطائفية ضد الأقليات الدينية بشكل عام والأقباط بشكل خاص باعتبارهم أكبر كتلة للأقلية الدينية؟ هل توقفت الاعتداءات على الكنائس واستهداف الأقباط والتهجير القسري؟ ألم تكن الجلسات العرفية هي سبيل الحكومة لحل مثل هذه الأحداث لتتحول الدولة إلى قبيلة كبيرة؟ ألن تغض الحكومة الطرف عن كثير من الأحداث الطائفية ضد الأقباط؟

ثانيا: القانون يخص بالذكر ازدراء الأديان السماوية وأصحابها، ورغمًا عن وجود عشرات اليهود في مصر وكأنهم من العصر الأحفوري، هل منع هذا القانون الاعتداءات التي طالت مقابرهم مثلا؟

ثالثا: هل تعني هذه الفقرة أن القانون لا يعاقب من يعتدي على منازل البهائيين أثناء إقامة شعائرهم إن تم التحريض ضدهم باعتبارهم أصحاب ديانة غير سماوية غير معترف بها رسميًا من الدولة ؟

رابعًا: هل تحول قانون ازدراء الأديان إلى قانون ازدراء الإسلام السني، بعدما أصبح أداة في يد الأصوليين ليرفعوا به ما أرادوا من قضايا تكفير ضد خصومهم؟

خامسًا: ألم يتم استخدام هذا القانون في رفع قضايا ضد المفكرين والكتاب وأصحاب الرأي وأودعهم السجون كما المجرمين أكثر مما تم استخدامه لردع المحرضين ضد الأديان وأصحابها؟ لقد وصل الأمر بمطالبة مجمع البحوث الاسلامية بإسقاط الجنسية المصرية عن نوال السعداوي اعتراضًا على كتاباتها!

الطعن على قانون ازدراء الأديان

هيئة الدفاع عن كرم صابر شملت حقوقيين من الطراز الثقيل مثل حمدي الأسيوطي الذي صدر له مؤخرًا كتاب "ازدراء الأديان" والمحامي أمير سالم وغيرهم وقد تم الاستناد في الطعن إلى عدم دستورية المادة 98 فقرة (و) لمخالفتها المادة 67 من الدستور، والتي تكفل فيها الدولة حرية الإبداع الأدبي والفني، وكذلك مخالفته للمادة 64 من الدستور، والتي تنص على أن حرية العقيدة مطلقة ولا زالت القضية قيد النظر.

حجية رفض إلغاء القانون

سيلجأ المؤيدون لبقاء قانون ازدراء الأديان إلى حجة أن إلغاء القانون قد يتسبب في الاعتداء على المقدسات والتحريض الطائفي، وفي حقيقة الأمر فإننا نتناسى أن المادة 160 من قانون العقوبات قامت بصياغة قانونية ضد المحرضين وحددت الحد الأقصى لعقوبة( 5 سنوات) في حالة تخريب أو تدنيس دور العبادة أو انتهاك حرمة القبور أو الاعتداء على شعائر دينية لغرض ارهابي. ولو أن العقوبة في رأيي ليست كافية، إلا أنه كل ما ينقص المشرع في هذه المادة هو تغليظ العقوبة من 5 سنوات إلى المؤبد.

إذن فلا يوجد سبب للتمسك بالمادة 98 (و) على اعتبار أنها هي التي تحمي الأوطان ضد الإرهاب.

الاستخدام السياسي لقانون ازدراء الأديان

لا شك أن قانون الازدراء وقانون الحسبة من القوانين التي لا تخلو من استغلال للتكة الدينية، فمثل هذه القضايا لا يتم التقاضي فيها بشكل مباشر أي أنه يتم رفعها إلى النائب العام أولا و من ثم ُتحال إلى المحاكمة أو يتم حفظها ، عادة فإن قرارات الإحالة أو الحفظ ( بدون تعميم ) قرارات سياسية حسب الشخص المقدم ضده البلاغ، و قد يلعب تأييده أو معارضته للسلطة القائمة دورًا كبيرًا في هذا السياق .

الخاتمة :

قضايا ازدراء الأديان كانت في مجملها تلاحق المبدعين من الشعراء والأدباء و الصحفيين في الماضي، لكن الجديد أنها ستلاحق كذلك دعاة تجديد الخطاب الدينيّ أو على الأقل هؤلاء الذين يتصدون للتطرف وألغام التراث. هل ُيعقل مثلا أن أقف أمام المحكمة في قضية ازدراء أديان إن أنكرت حديث إخراج المسيحيين من جزيرة العرب كما ورد في صحيح مسلم، لأنه لا يمكن إخراج شركاء وطن لمجرد اختلاف عقيدتهم ؟ هل أعتبر مجرمة إن أنكرت حديث يصف أهل الذمة بنصف عقل كما ورد في سنن النسائي؟ ألا تعتبر هذه الأحاديث ازدراء لغير المسلمين؟ ألا تعتبر ازدراء للوطن؟

معدلات قضايا ازدراء الأديان بغرض الوصاية الفكرية زادت بالتأكيد مع حكم جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها كانت قضايا شائعة قبل 2011 ولازالت مستمرة حتى الآن، وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على أن العوار في القانون وليس فيمن يقوم بتطويعه واستغلاله فحسب، فكيف تسمح الدولة التي تحارب الإرهاب والتطرف بأن ُتبقي على قانون يستخدمه المتطرفون في سجن المفكرين والُكتاب والمدافعين عن مدنية الدولة؟

أليس من ازدراء العقول أن تطالب الدولة المفكرين بمناهضة التطرف وتطالب المجددين بتطوير الخطاب الديني وتلقي بهم إلى السجن في ذات الوقت بموجب قوانين رجعية دون أدني محاولة أو نيه لتعديلها أو إلغائها؟



18 أكتوبر 2015
 
أعلى