ذ. محمد الناجي - العِشْقُ الفَقيهُ والعاشق ُ.. ت: مصطفى النحال

يُعتبر التفكير في الإسلام اليوم ضرورة من الضروريات التي تكتسي طابعا استعجاليا اليوم بالنسبة للمسلمين أنفسهم، وبالنسبة لغير المسلمين أيضا. ومع ذلك، فإنّ إعمال هذا التفكير هو ورش كبير وصعب يبقى، رغم كلّ الإيجابيات الكبيرة التي تحقّقتْ، مفتوحا على مصراعيه لإنجازه. إنّ التفكير بالنسبة لي معناه فهم دلالات الدّرس الذي تحمله هذه الديانة، ومعناه أيضا الوعْي بأسسه، بعيدا عن كلَ ما يكتسي طابع القداسة. إنَ الفهم، المقصود هنا، يقوم على إلقاء الضوء على مختلف التشريعات التي جاء بها النّص القرآني. ومن ثمّ، فإنّ النصوص التي تتكوّن منها هذه السلسلة من الحلقات تساهم بكل تواضع ضمن هذا الطموح. وهي تسعى إلى تسليط الضوء على الجذور العميقة والاجتماعية، والتاريخية العميقة إذن، لمثل هذه التشريعات. وهي تنطلق من قناعة مفادها أنّ سرّ تلك التشريعات يكمن في تاريخ البشر، الأمر الذي لا يمسّ في شيء محتواها القدسي. إنّ المسلمين اليوم مهتمون أكثر، في سياق مغامرة الحداثة، بمعرفة بأسس ديانتهم الخاصّة من خلال إنجاز قراءة عقلانية. وقد آثرتُ أنْ أتناول بالتحليل مظاهر محددة من الممارسات الدينية، ولم أقُم بشيء آخر سوى إنجاز قراءة أخرى للحجم الهائل من المعطيات التي أوردها المفسّرون العرب والمسلمون قديما. وأعتقد أن رفع المظهر الأسطوري والخرافي، بمعنى التمييز ما بين الحدث الأسطوري والحدث التاريخي، تمرّ من هنا. وقد فضّلتُ أن أتناول بالتحليل مظاهر حاضرة بقوّة في الحياة اليومية للإنسان المسلم، والتي تبدأ من شعائر الصلاة إلى السلطة، وإلى مختلف الوقائع الاجتماعية. إنها عناصر تنطوي على أهمية قصوى تهمّ وتشغل بال المؤمن وغير المؤمن.
هناك أوّلا وقبل كلّ شيء ألفاظ أخرى لا يتمّ اللجوء إليها إلا في القليل النادر، على الرغم من أنها لم تتعرّض صراحة للذّم من طرف الفقهاء ورجال الدّين. وهنا، مثلا، يكفي الاطلاع على ديوان قيس العامري لكي يتبيّن لنا أنّ «الهيام» و»اللوع» هما من هذا القبيل. وبالفعل، يمكننا التمييز ما بين نوعين من الانجذاب العاطفي في السياق الذي يهمّنا هنا. النوع الأوّل هو الذي تكون فيه الرغبة الجسدية بارزة بجلاء، أما النوع الثاني فهو الذي يكون فيه الانجذاب العاطفي أكثر من الرغبة الجنسية، بحيث يكون محطّما، ويمكن أن يؤدّي بصاحبه إلى الجنون.
ومن ثم، فإنّ «اللّوع» هو الدالّ على الحبّ الذي يتولّد عنه ألم كبير؛ إنه مؤشر على الرّغبة الحارقة، على الشّوق. الإحالةُ على الدّابة هنا كذلك واضحة وجليّة، على الرغم من أنّ حرارة الأنثى لا تتجلّى هنا إلاّ بصورة ضمنيّة. إنها تشير إذن إلى الأَتان (أنثى الحمار) المتعلّقة بالحمار بشكل جنوني. غير أنّ الحرارة المتوارية والمختفية داخل التعلق الكبير بالحيوان الفحْل، سرعان ما تبرُز بالإحالة على المرأة المثيرة التي تسعى بكلّ ما أوتيتْ لكي تثير الرغبة الذّكورية. ومن هنا فإنّ لعبة تبادل النظرات تفترض بالفعل أنّ الجسد يعتبر جزْءا لا يتجزّأ من هذا العرض. والاسم هنا ينطوي عليه، بدون مواربة، بصفته اسما للثدي، وبالنسبة للبعض الآخر اسما للسواد المحيط به، والذي هو موضوع للعديد من الاستيهامات. صحيح أنّ فائدة الثدي لا تتجلّى فقط في الرغبة الجنسية، بقدر ما تتجلّى كذلك في تعلّق الرضيع بمُرْضعته. هذه الثنائية، المضافة إلى كوْن اللّوع ينطبق أيضا على علاقة النسب، وعلى ألم الفراق الذي يؤدي إليه، من شأنها التخفيف على الأرجح من قوّة ولا أخلاقية العلاقة العاطفية المشار إليها سابقا، ومن الألم الذي تفضي إليه. ومن ثمّ، فالكلمة لا يقتصر استعمالها على الحبّ، ومع ذلك فإنّ استعمالها ليس منتشرا كثيرا، ربّما بسبب صفة العُرْي التي تنمّ عنها، وخصوصا الدور المنوط بالمرأة التي توظّف جميع مزاياها في مجال الإغْراء.
ومن أجل توصيف هذه الأهواء العاطفية التي يطغى فيها الألم، هناك كلمات أخرى تستعمل في اللغة. منها «المذلّة» وهي تقود بدورها إلى فقدان العقل، إلى الجنون، غير أنه بالإمكان مع ذلك ألاّ يكون الحبّ هو المسؤول الوحيد. أما لفظة «اللاّعج»من جهتها، فتعني الحب الحارق، غير أن اللفظة تعني أيضا المعاناة الناتجة عن سوء المعاملة. و»المتلعّجة» هي المرأة المرغوب فيها، هي المرأة المشتهاة والحارّة. وبالنظر لمصير هذه الحالات العاطفية، فقد تكون ثمّة إذن قاعدة تدين وتذمّ، بصورة صريحة أو ضمنية، العلاقات العاطفية التي لا تثار فيها الرغبة الجنسية بكلام مبطّن. وهناك أهواء أخرى تطرح مشاكل أخرى في مستويات أخرى. تلك هي الحال مثلا مع كلمة «الهيام»، القريبة جدّا من كلمة «العشق». فهي مثلها تؤدّي بالمحبّ الولهان إلى حالة من الجنون. مثلما تشير اللّفظة إلى النّوق العطشى، أو التي أصابها مرض لكوْنها شربتْ من ماء فاسد، والتي تهيم على وجهها في الفيافي والقفار. إنها تشير إلى عالم الانتشاء العاطفي الذي يؤدي بالمحبّ إلى الحيرة والتّيه. وعليه، فإنّ الحيوان والبشر الذين أصيبوا به معرّضون إلى الضياع، ويبدو أنّ الصحراء هي وحدها الفضاء الملائم لاستقبال جنونهم وخبلهم.
فالألم الكامن فيهم يستدعي فيافي بدون ماء يمكنها أن تؤدّي إلى الموت. الكلمة نجدها مستعملة بطريقة غير مباشرة في النّصّ القرآني من خلال كلمة «الهيم» المرادفة للنُّوق العطشى:»فشاربون عليه من الحميم، فشاربون شرُْب الهيم»(1). إنّ الظل المذموم لنزعة جنسية مفسدة للأخلاق لا يقع على هذه الكلمة القرآنية كما يقع على «العشق»، إلى درجة إبعاده من المراجع الكبرى للذاكرة. لكن يبقى مع ذلك هامشيا بفعل العالم الشّبحي الذي يسبح فيه، وبفعل الفاعلين الذين يبدون تقريبا مثل كائنات فارغة وبدون كثافة جسمانية. «الهامة»، التي تنتمي إلى نفس الجَذْر اللغوي، هي ذلك الطائر الذي يهيم فوق أجداث الموتى، ويكون مألوفا في عالمهم الذي تطوف فيه كائنات خرافية. يتم التركيز هنا على الجانب المحطّم من الحبّ، وعلى هامشية يحميها الاستشهاد القرآني من هجمات حرّاس الفضيلة.
وهناك كلمة أخرى تسلط الضوء على قوّة العلاقة العاطفية، وهي كلمة «المتيّم». والتّيْم هو الشخص الولهان والمفتون إلى حدّ الجنون، هو عبْد للحبّ يعيش بعيدا عن الآخرين، وفي منأى عنهم. نجد هنا، كما هي الحال مع كلمة «الهيام»، العاشق المفتون الذي يؤكّده ترادف كلمة «تيماء» مع الصحراء التي لا ماء فيها. ويعتبره ابن العربي مرادفا لفعل «عَشَقَ». و»التَّيْمة» هي الشاة التي تُذبح في المجاعة، أو تلك التي تنتظر أن تُذبح، أي هي الدّابة المهيّأة للتضحية (والإتئام ذبحها). نحن أمام كلمة لم يتمّ إبعادها وملاحقتها بسبب محتواها العبوديّ على وجه الخصوص، والذي يمكن للألوهية أن تستعملها لحسابها بدون مجازفة ولا خوف. وهكذا، ف»تيم الله» تعني: عبده، كما تقول: عبد الله، التي هي مرادف لها. ليست هناك علاقة تبادليّة في مثل هذه العلاقة التي تصل إلى حدّ التضحية، والتي تنسجم مع وهْب النفس الذي يفترضه حبّ الله.
مشكلة كلمة «العشق» هو أنها تتضمّن العنصرين معا، الجنس المُطلق العنان، حسب تعبير حرّاس الأخلاق، كما يتضمّن الجنون. لكن ماذا عن الإبعاد الذي طاله؟


1 سورة الواقعة، الآيتان: 54، 55


- الاتحاد الاشتراكي يوم 06 - 08 - 2010



.

صورة مفقودة





.
 
أعلى