ذ. محمد الناجي - المرأة حرْث.. ت: مصطفى النحال

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...
(سورة البقرة، الآية 223).

إن الاستدلال الأساسي ضدّ إتيان النساء من الدّبر، عند المفسرين، يبقى هو المرجع الأساسي بالنسبة للولادة، ولمسألة أن الرحم هو وحده الذي يمكنه أن يؤدي إلى الولادة، بعد أن يتلقى السائل المنوي، أيْ البذرة، من الذكر الذي يزرعها. ومن ثم فإن المرأة يُطلق عليها «الحرْث» التي تنتظر البذرة والزرع، يغدو رحمها، كنا يشير إلى ذلك النص القرآني صراحة، بمثابة السبيل الوحيد المخصص للعملية الجنسية. من هنا أهمية محتوى ودلالة هذا اللفظ، لفظ «الحرْث» بحكم الوزن والثقل الاستدلالي الذي يلعبه في هذا الشأن.
ومع ذلك، فهناك أسباب أخرى ممكنة لنزول هذه الآية، على الرغم من أنها لا تبرز إلا بكيفية ضمنية من التفاسير القرآنية. السبب الأول مرتبط بحرية الممارسات الجنسية بين الزوجيْن. ذلك أن بعض أولئك الذين اعتنقوا الإسلام في بداياته أظهروا عن صرامة في تعاملهم وكانوا ميّالين إلى التشدّد والطهرانية في سلوكهم، إلى درجة وصولهم في بعض الأحيان إلى التزهد والتقشف، وهو السلوك الذي بدا، بعد انصرام المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، في نظر الرسول، نوعا من المبالغة غير ملائمة لاعتناق أعداد كبيرة من الناس للإسلام. فضمن هذا الأفق إذن ينبغي النظر إلى الموقف المتساهل والمتسامح للتشريع الإسلامي إزاء الملذات الجنسية. ومن هنا أيضا، على سبيل المثال، فإن العلاقات الجنسية التي كانت ممنوعة خلال فترة الصيام في رمضان، سوف تغدو شرعية فيما بعد خلال الليل مباشرة بعد الفطور إلى مطلع الفجر. ولا تفعل الآية 223 من سورة البقرة سوى أنها تندرج ضمن هذا الأفق، معترفة في الوقت ذاته، بحقّ المسلمين الاستمتاع بنسائهم بصفة كلّيّة. وقد عمل الاتصال بأهل الكتاب خصوصا، أي باليهود، بكل تأكيد بلعب دور كبير في نزول هذه الآية. لكن مع ذلك لا يمكن استبعاد فرضية أخرى والتي نجد بعضا من مؤشراتها في كتب التفسير القرآني. وهي تتجلى في نوع من المقاومة النسوية ضد التساهل في الممارسات الجنسية، وهو تساهل يعطي للرجال حرية كبيرة في التعبير عن استيهاماتهم الجنسية وممارساتها. ومن المعلوم أنّ ممارسة الجنس مع المرأة وهي منبطحة على بطنها هي العلاقة التي تعبّر تعبيرا أكبر عن هيمنة الرجل وسيطرته على المرأة، بحيث تكون هذه الأخيرة سلبية بصفة تامّة لأنّ ظهرها للرجل. وهذا ما توحي به الأسئلة التي تم توجيهها للرسول من طرف بعض النساء بطلب من نساء أخريات طلب منهنّ أزواجهنّ الاحتكام إلى الرسول لكي يعرفوا السلوك الذي ينبغي اتباعه وفقا للتعاليم الإسلامية (1).

المرأة، حقل خصب أو موضوع للمتعة

بعتبر ابن منظور، في لسان العرب، أنّ لفظتيْ «حَرْث» و»حراثَة» تعني تقليب الأرض من أجل زرعها وبذرها. وهو يقبل إمكانية أن تشير اللفظة كذلك إلى البذر أو الحرث. غير أن للكلمة معنى عامّا جدا هو الإنفاق من أجل العيش والبقاء على قيد الحياة، ومن أجل الامتلاك، وهو المعنى الذي أعطى كلمة «الحارث». ففي مجتمع رعوي بامتياز، حيث الحصول على وسائل العيش مرتبط أساسا بالرعي وبالتجارة، يكون هذا المعنى الجوهري هو الملائم لتحليل هذه الآية، والمنسجم مع سياق المرحلة آنذاك. كلمة «الحرث» لوحدها تعني الربح وتحقيق التراكم. فليس فقط منطق الإنجاب البيولوجي هو المقصود هنا، بل المقصود كذلك هو منطق التراكم والغنى. ومن ثم فإن المرأة في هذا المنظور هي بمثابة شيء يمتلكه الزوج كسائر الممتلكات، وبالتالي فإن أهمّيتها تتجلى ليس فقط في تحقيق وظيفة الإنجاب البيولوجي، بقدر ما تتجلى أيضا وخصوصا في تحقيق المتعة لزوجها أو لسيّدها. ويذهب الأزهري إلى القول بأن الفعل «حَرَثَ» يعني في الحديث عن الرجل الجمع بين أربع نساء، وهي علامة كبيرة ومؤشّر على بحبوحة العيْش. لذلك مرّة أخرى فإن المرأة لا تُسمّى حرثا فقط لكونها تنجب الأطفال، وإنما كذلك لكونها سلعة تجارية، حين يتعلق الأمر بالحديث عن الجارية وعن موضوع المتعة الجنسية. ومن ثم فإن الحرث الذي يشير إلى الحريم، هو إذن مرادف للممارسات الجنسية المتعددة والمطردة. ثمّ إن كلمة «المحراث» التي نستعملها اليوم كانت تعني آلة من الحديد أو من الخشب (2)، مثلما يعني «الحرث»، في السياق ذاته، إيقاد النار وتأجيجها. وهذا معناه، بتعبير آخر، أنّ هذا اللفظ كان يتصل، بصورة غير مباشرة، بكلّ ما له علاقة بتأجيج الرغبة العاطفية، وبتعلق الأمر هنا بالخصوص بالرغبة الجنسية. من ثمّ المعنى الذي تحمله في الحديث عن الحروب، بحيث تصير إلى «تأجيج أُوارها». فنحن إذن داخل معجم أغنى بكثير في ميدان التعبير عن الملكية والامتلاك وتحقيق التراكم والمتعة الناتجة عنه، وبصفة خاصة المتعة الجنسية، أكثر مما نحن داخل معجم يدلّ على «حرث الأرض»(3).
يبدو لي أنه داخل إشكالية الاستعمال والمبالغة فيه، بمعنى من المعاني، ينبغي قراءة هذه الآية القرآنية. وهكذا، فالجَذْر اللغوي «حرث» يحيل على قضيب الرجل «الحَوْثرَة»، وهو المعنى الذي يعضّد هذه النتيجة. وهو كذلك ما بعبّر عن مكانة المرأة ووضعها. لذلك، فإن كتب التفسير، التي لا تنشغل بالخصوص إلاَ بالمعطيات «التقنية»، المرتبطة بوضعيات الممارسات الجنسية، وبالبُعد الأخلاقي المتصل بالإتيان من الدُّبُر، تركّز كلّ انتباهها على الميزة المرتبطة بالخصوبة والإنجاب البيولوجي. ولم تكن وضعية المرآة تطرح مشكلا لها آنذاك، بحيث لم يكن بالإمكان، في هذا السياق، أنْ تكون وضعيتها ضمن جدول الأعمال يومها.
وعلى صعيد آخر، وحتى عندما يقترب اللفظ من العلاقة بالأرض، فإنّ مؤلفا مثل الزمخشري يعطي كمرادف لفعل «حرث»، أي هنا بَذَر وزرع، فعل ،»ذَلّلَ» الذي يستعملونه عادة للحديث عن الدواب بمعنى الإذلال والحطّ من القيمة. يتعلق الأمر، في حقيقة الأمر، بالتّحكم والهيمنة التي تجعل المرء يتصرّف على هواه وكما يحلو له. ثمّ إن الكلمة كانت جارية ومعمولا بها عند الحديث عن الدابة التي يطلقون عليها اسم «الذَّلول»، أي الدابة الخاضعة والمنقادة رغم أنفها. كما ينطوي اللفظ في الوقت ذاته على العنف من خلال الوطء الشديد للأرض إلى حدّ أن تصبح مشابهة للأرض المحروثة. وتشير أخيرا إلى الدابة المنهوكة والضّامرة من شدة امتطائها(4)! هذه الصورة التي تشير إلى الدابة التي أنهكها الفارس هي التي تعبر أحسن تعبير عن المرأة التي يطلبها زوجها إلى حدّ إنهاكها. وهذا الفعل هو الذي يشير، في الحديث عن العلاقة الجنسية، إلى الشخص الذي يتعاطاه بمبالغة وعُنف (5).
فلو كان المقصود من الآية الحديث عن المرأة من زاوية الإنجاب فحسب، لكان النّصّ القرآني استعمل كلمة أخرى هي «المُزْدَرع». غير أنّ كلمة «الحرْث»، التي تمّ اختيارها، فإنها تدلّ بالأحرى على أنّ المسألة تتعلق هنا بعلاقة السلطة بين الرجل والمرأة، من زاوية العلاقات الجنسية. أي تتعلق بحقّ الرجال في استعمال جسد النساء بصفتهمْ أسياد لهم حقّ امتلاك زوجاتهم. وفي هذا الاتجاه ذاته تذهب الأوصاف المستعملة في عقد الزواج الذي يحيل على الملكية. ولا يسع المرء إلاّ أن يقف عند احتمال أن الآية المشار إليها سابقا تستجيب لاحتجاج نسوي تكلّفت بحمل لوائه زوجات الرسول. غير أنّ كتب التفسير كانت عاجزة، وهي تركّز نظرها على الرجال باعتبارهم ذواتا رئيسية، عن وضع مثل هذا الاحتمال الذي لم يكن معيارهم قادرا على إدراجه.



1 ـ يتعلق الأمر بكل من أم سلمة وحفصة، الطبري، الجزء الثاني، ص. 409
2 ـ المحيط في اللغة، الجزء الثالث، ص. 73
3 ـ ابن منظور، لسان العرب، الجزء الثاني، ص. 135
4 ـ الزمخشري، أساس البلاغة، ص. 138
5 ـ تاج العروس، الجزء الثاني، ص. 194


في جذور الخطاب الديني..
المرأة حرْث
محمد الناجي
ترجمة: مصطفى النحال

الاتحاد الاشتراكي



.


صورة مفقودة




.
 
أعلى