محمود جمال - تعدد الزوجات في الإسلام.. المقدمات الجنسية

-1-
نعم؛ لقد جاء الإسلام في مجتمع منفتح جنسيًا أشد ما يكون الانفتاح، جاء وشريعة تعدد الزوجات راسخة في حياة العرب منذ قرون، على تعدد أديانهم، شأنها شأن الاسترقاق أو العبودية، ولما استحال على الإسلام أن يحرم العبودية، واكتفى بتقنينها وتحسين شروطها، مراعاة لظروف المجتمع، استحال عليه أيضًا أن يحرم تعدد الزوجات، واكتفى بتقنين العلاقات الجنسية.

هذا ما انتهينا إليه في المقال السابق. والآن؛ يجب أن نوضح شكل تلك العلاقات الجنسية في مجتمع النص، وسنبدأ بمؤسسة الزواج، التي هي المؤسسة الأولى لممارسة النكاح، لنرى كيف تعددت أشكالها وتنوّعت.

(1) نكاح البعولة:
كلمة بَعْل، تعني سيد أو مالك، وهي إشارة إلى الزوج. أما الزوجة فكانت تُسمى "بعلت" أو "بعلة"، وهي كلمة، كما تشير النصوص العربية القديمة، تعني "الحيازة"، أي أن الزوجة أصبحت ملكية يحوزها الزوج. ونكاح البعولة هو النكاح السائد اليوم، والذي اعتمده الإسلام كنكاح شرعي من بين كل أنكحة الجاهلية.

وهو النكاح الذي يتم بموجب اتفاق أو عقد بين الرجل وأهل المرأة، يصبح فيه الرجل بمقتضى هذا العقد سيدها ومالكها، وتصبح هي ملكية له، يستطيع ممارسة الجنس معها أنا شاء. وهو أمر من شأنه أن يقود تلقائيًا إلى وجوب دفع الرجل للمهر نظير المتعة التي سيحصل عليها. وهذا ما كان يفعله العرب في الجاهلية.

ولما كان الزوج قد دفع مالاً ليشتري به المتعة من الجسد المملوك، كان هذا الجسد يتم توريثه كما يورث المال والعقار، وهو الأمر الذي عبر عنه جواد على بالقول: ولذلك عوملت الزوجة بعد وفاة زوجها معاملة "التركة"، أي: ما يتركه الإنسان بعد وفاته؛ لأنها كانت في ملك زوجها وفي يمينه.

إلا أن هذا النكاح كان له طريق آخر غير عقود التراضي، أو اتفاقات التجار، وهو طريق الحروب، فإذا حدث وسبت قبيلة نساء قبيلة أخرى، فحاز رجل منهم امرأة، فمارس معها الجنس، وأنجب منها أولاد تدخل حينئذ في عداد زوجاته، وهو الأمر الذي انتقل إلى الإسلام أيضًا تحت بند ما يُطلق عليه الفقهاء "أم الولد".

وفي هذا النوع من النكاح كان للرجل حق التعدد اللامحدود، فهو يستطيع أن يجمع من الزوجات ما يشاء في وقت واحد. وقد جاء في سنن الترمذي أَنَّ غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية. وفي سنن ابن ماجة، وعن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة. هذا – طبعًا – بخلاف الجواري وملكات اليمين!

وكما كانت شريعة تعدد الزوجات سائدة، عرف بعض العرب أيضاً "تعدد الأزواج"، فكان هناك من الإخوة من يشتركون في الزوجة الواحدة، شأن مشاركتهم بعضهم البعض في المال والتجارة، وإذا ما أراد أحدهم أن ينكح الزوجة وضع عصاه على باب الخيمة، ليعرف بقية الإخوة أن الزوجة مشغولة! أما أثناء الليل، فالمرأة للأخ الأكبر وحده.

ولأن تحديد الأب في هذا النوع من النكاح من الصعوبة بمكان، فكان الابن ينسب غالبًا إلى الأم، وكان هذا الزواج بدوره لا يتم إلا في إطار العشيرة الواحدة، أما إذا تخطى أحدهم حدود العشيرة، عُد فعله "زنا".

فالزنا إذن؛ في فلسفته الأعمق، جرم اقتصادي، وليس أخلاقيا، لأنه اعتداء على ملكية الغير.. وهو الأمر الذي سيظهر معنا بوضوح بعد استعراض بقية أنوع النكاح في الجاهلية.

(2) نكاح الظعينة:
إذا سبى رجل امرأة من قبيلة أخرى، وأراد أن يتخذها زوجة له، بدون بذلٍ للمال، كما هو حاصل في نكاح البعولة، فله ذلك. وليس للمرأة بالطبع أن ترفض أو تبدي أي اعتراض، فيكون النكاح وقتئذ بدون خطبة ولا مهر، ذلك لأنها قد وقعت في حيازته بالفعل، قبل الرغبة في النكاح، فما الدافع لتقديم الأموال؟!

(3) نكاح المتعة:
كان نكاح المتعة، الذي أقره الإسلام واختلف الفقهاء والإخباريون حول الذي أبطله ومتى، معروف أيضًا في الجاهلية، ويختلف عن نكاح البعولة أنه نكاح مؤقت، معلوم مدته مسبقًا، وهو نكاح كان تستدعيه ظروف الترحال الدائم، فكان الرجل إذا أراد أن يحصل على المتعة الجنسية اتفق مع امرأة على أن يجامعها مدة معلومة مقابل أجر محدد من المال يتم الاتفاق عليه مسبقاً، وقد أشار القرآن إلى ضرورة الوفاء بهذا الأجر واعتبره فريضة، حين قال: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.

وهي الآية التي كانت في مصحف أبيّ - بحسب ما يقول الطبري - مكتوبة بهذا الشكل: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. وقد أقسم حبر الأمة عبدالله بن عباس، ثلاث مرات، أن الله أنزلها كذلك: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. وبدوره؛ أكد سعيد بن جبير – رضي الله عنه – صحة قسم ابن عباس، فكان يقرأها: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن.

ويختلف نكاح المتعة عن نكاح البعولة في أنه حال حدوث حمل أو إنجاب، يكون النسب فيه – غالبًا – للمرأة. فيحصل الطفل على نسب عشيرة الأم. ولا يترتب على الانفصال بعد انقضاء المدة أي التزامات مادية، ذلك لأن المرأة في هذه الحالة لم تدخل ضمن حيازة الرجل أو ملكيته كما في نكاح البعولة، ولم تكن له وحده.

(4) نكاح الاستبضاع:
تحسين النسل هو الغرض من هذا النكاح. فكان الرجل أحيانًا يطلب من زوجته بعد أن تنقضي مدة طمثها، أن تذهب لتمارس الجنس مع فارس شجاع أو سيد شريف في القبيلة، يختاره هو، كي تحمل منه، رغبة في أن يأتي الولد حاملاً معه جينات هذا الفارس أو السيد الوراثية.

أما إذا ما سألنا كيف لرجل أن يفعل ذلك مع زوجته، فالجواب، كما أشرنا سابقًا، ونكرر، لأن الزوجة "ملكية" في حيازة الزوج، يستطيع أن يفعل بها ما يشاء.

وبالإضافة لغرض تحسين النسل وإنجاب الأطفال كان هناك غرض اقتصادي لهذا النوع من النكاح، فمالك الجارية كان يطلب منها ما يطلبه من زوجته، أن تستبضع من رجل شريف، حتى يُحسِّن من نسل عبيده وإمائه، ومن ثمَّ يبيعهم بأثمن الأجور ويحقق أعلى العوائد.

(5) نكاح البدل:
أو تبادل الزوجات، وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي. وبينما يعتبره الدكتور جواد علي زواجا بطريق المبادلة لكن بغير مهر، يرى الدكتور جمال جمعة أنه مجرد تبادل مؤقت للزوجات بغرض الاستمتاع عن طريق التغيير، دون الحاجة إلى إعلان طلاق أو إنشاء عقد.

فهل اكتفي العرب بهذه الأنواع المتعددة من الزواج؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.

للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك
المصادر:
تفسير الطبري. المجلد الثامن. صـ 177.
سنن الترمذي. المجلد الثالث. صـ 427. تحقيق: أحمد محمد شاكر. ومحمد فؤاد عبد الباقي.
سنن ابن ماجة. المجلد الأول. صـ 628. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. جواد علي. المجلد العاشر. صـ 205 وما بعدها. طـ: الساقي.
نزهة الألباب فيما لا يوجد في الكتاب. صـ 18.





صورة مفقودة

وسماء الآغا - العراق.
 
تعدد الزوجات في الإسلام.. المقدمات الجنسية (2)
محمود جمال

(6) نكاح الشِغار
كلمة الشغار من حيث هي اصطلاح لغوي تعني: رفع رجلي المرأة للجماع. وهي كلمة مشتقة من الشغر، أي الرفع. وكانت "العرب" تقول شغر الكلب، إذا رفع أحد رجليه ليبول. ثم ضاقت الدنيا، وعقرت معاجم اللغة ونضبت، فلم يجد الفقهاء سوى هذه الكلمة ليستخدموها فيما بعد ككناية عن رفع المهر من عقد النكاح.

وكان الرجل في الجاهلية يقول للرجل: شاغرني؛ أي زوجني ابنتك، وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي، فيتم الزواج وقتئذ بدون مهر. وقد حرم الإسلام هذا النوع من النكاح. إذ نُسب إلى النبي محمد ﷺ قوله: لَا جَلَبَ، وَلَا جَنَبَ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ.

ووجود هذا النوع من النكاح ربما يؤكد أن مسألة تبادل الزواجات، التي ذكرناها في المقال السابق، كانت مجرد تبادل مؤقت للنساء بغرض الاستمتاع عن طريق التغيير، كما ذهب الدكتور جمال جمعة، ولم تكن زواجا بالمعنى المفهوم كما ذهب صاحب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.

(7) نكاح السر
لأسباب كانت في الغالب طبقية، كان الرجال يواعدون النساء سرًا، وتستمر العلاقة الجنسية بينهم على هذا النحو إلى أن يحدث حمل، فتتحول حينئذ إلى زواج معلن. وذلك وفاءً من الرجل تجاه عشيقته. وقد حرم الإسلام هذا النوع من العلاقات حين قال بنص القرآن "لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً".

إلا أن هذا النوع من العلاقات ظل سائدًا بعد الإسلام، رغم التحريم، فـ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِي بِنِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ إلا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ: هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلا أُجِيزُهُ، وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ. إلا أن هذا الموقف العمري المتشدد تجاه نكاح السر، قد تغيّر مع مرور الزمن إذ قال أبو حنيفة، رضي الله عنه: نكاح السر جائز إذا شهد عليه العدول وإن استكتموا ذلك. وواضح هنا أن شيخ المذهب الحنفي يتحدث عن نكاح بمعنى الزواج، لا بمعنى ممارسة الجنس فقط.

(8) نكاح المساهمة

ولأن المرأة كانت في نظر العربي ملكية، أو تركة بحسب وصف الدكتور جواد علي، فقد عرف العرب نكاح المساهمة. وهو الذي يحدث إذا ما أسرت إحدى القبائل رجلاً ما، فلم يستطع أن يفتدي نفسه بمال، فيعرض على آسره أن يفديه مقابل أن يُنكحه إحدى نسائه؛ أخته أو ابنته مثلاً، أو أن يطلب الآسر إحدى نساء الأسير ثمنًا لعتقه، فيمنحه إياها.

(9) نكاح الرهط
وهو نوع من أنواع تعدد الأزواج. وفيه يجتمع رهط من الرجال، أي عدد من ثلاثة إلى عشرة، فينكحون المرأة. يدخلون عليها في خيمتها بالتناوب فيمارسون معها الجنس، وذلك برضاها بالطبع.

وهو نكاح - على ما يبدو - في مجتمع لا يملك أي نوع من أنواع الترفيه أو الفنون، كما هو الحال في الحضارات المجاورة لصحاري العرب، كان غرضه التمتع والترفيه، فالمرأة في هذا المجتمع كانت مصدر المتعة الوحيد، ولا ينافسها في ذلك سوى الخمر.

إلا أنه، وفي الوقت عينه، كان نكاحا مقننا له قواعد صارمة، فكانت المرأة إذا حملت على إثر مضاجعتها هؤلاء الرجال، ووضعت حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي من أمركم، وقد ولدت، ثم تسمي أحدهم وتقول له: هو ابنك يا فلان، فيلحق به الولد، ولا يستطيع الرجل حينها أن يبدي أي اعتراض.

(10) نكاح صَواحِبات الرايات

رغم تعدد مصادر المتعة الجنسية ومصارفها لدى العرب قبل الإسلام، ورغم امتلاك الرجال حقق التعدد، للدرجة التي جمع فيها بعضهم عشرة نساء في وقت واحد، كما ذكرنا في المقال السابق، ورغم مئات الإماء وعشرات ملك اليمين، إلا أن هذا كله لم يكن يعني غياب ظاهرة البغاء.

فكانت البغايا في هذا المجتمع يُلقبن بـ "صواحبات الرايات"، ذلك لأن الواحدة منهن كانت تتخذ لنفسها خيمة معروفة تضع فوقها راية حمراء، وكان يتوافد عليها الرجال فلا تمنع منهم أحدا. بيد أنها كانت تُنظم عملية الدخول عليها عن طريق "القحب" أي السُعال المفتعل، فمن هنا سميت البغي بـ "القحبة" أي التي تسعل إيذانًا منها باستعدادها لتُنكح.

وقد كانت هذه الظاهرة منتشرة بشكل كبير في بلاد العرب، إذ عدّد الكلبي في كتابه "مثالب العرب" أسماء "القحاب" وذكر الكثير منهن في مكة على صغر حجمها. واللافت للنظر في ظاهرة صواحبات الرايات أن قريش لم تكن تنظر إليهن نظرة ازدراء، بل كانت ترعاهن، وقننت عملهن، فكانت المرأة منهن إذا حملت ووضعت حملها نُسب الابن إلى شبيهه من الرجال الذين ضاجعوها، وكان الرجال بدورهم يتنافسون أحيانا على رعاية الولد ونسبته.

ففي كتابه "ربيع الأبرار ونصوص الأخيار"، ذكر الزمخشري، مفسر القرآن الشهير، أن أحد بغايا مكة، وكانت تدعى "النابغة" نكحها أبو لهب، وأمية بن خلف، وهشام بن المغيرة، وأبو سفيان، والعاص بن وائل، في طهر واحد، وذلك قبل الإسلام بالطبع، فلما حملت ووضعت حملها، ادعى كل منهم أن المولود ولده وتنافسوا على أخذه، إذ ذاك؛ حكمت النابغة أنه للعاص بن وائل، وذاك الولد هو الصحابي عمرو بن العاص، رضي الله عنه وأرضاه.

ولما سئلت النابغة لماذا ادعت أنه للعاص بن وائل رغم أنه يشبه أبو سفيان وهو أشرف من العاص وأعلى منه مكانة؟ قالت إن العاص ينفق عليها، ويرعى بناتها، فلو نسبت الولد لغيره فلربما يتوقف عن رعايتها.

وقد زعم هشام الكلبي أن جدة عبد الرحمن بن عوف، وجدة مروان بن الحكم – رضوان الله عليهم - كن من البغايا أيضًا، فالأولى تدعى "ممتعة" والثانية تلقب بـ "الزرقاء"، كما ذهب إلى أن أم صفوان بن أمية، أحد أشراف مكة وممن ناصبوا العداء للنبي محمد سنين طوال حتى أسلم بعد الفتح، كانت صاحبة راية تدعي "صفية"، وغيره كُثر كانت أماهتهم من "صواحبات الرايات". وهو الأمر الذي يؤكد أن الظاهرة كانت منتشرة بشكل كبير قبيل الإسلام، وكانت سببا مضافا في موافقته للعرب على التعدد.

وللحديث - إن شاء الله - يوم الخميس بقية.

.
 
تعدد الزوجات في الإسلام.. المقدمات الجنسية (3)
محمود جمال

(11) المخادنة

كما كان للرجال في الجاهلية دائرة جنسية واسعة يمارسون فيها رغباتهم، وينهلون منها لإشباع غرائزهم، كان الحال كذلك بالنسبة للنساء أيضًا.

فقد جرت العادة على أن يسمح الرجل لزوجته وجاريته، على حد سواء، أن تصادق من تشاء من الرجال. بكلمات أخرى يسمح لها أن تتخذ «خدن» أي صديق. وقد أطلق العرب على اللائي ينغمسن في تلك العلاقات «ذوات الأخدان». تمييزًا لهن عن صواحبات الرايات وممارسات نكاح الرهط، ذلك لأن المرأة في هذه الحالة لا تهب جسدها لجماعة، بل لصديق أو عشيق واحد فقط تدخل معه في علاقة حميمية، دافعها التهاب العواطف في الغالب. وقد كان بعضهم يشترط على امرأته ألا تمنح عشيقها جسدها بالكلية، بل الجزء العلوي منه فقط، على أن يبقى نصفها الأسفل ملكية حصرية له، وفي ذلك قال أحد الشعراء متألمًا:
وللحِبّ شطر مطلق من عقاله ** وللزوج شطر ما يزال منيع

وينقل ابن القيم عن آخر قوله:
وللحِبّ ما ضمت عليه نقابها ** وللبعل ما ضمت عليه المآزرُ

إلا أن هذا الشرط لم يكن على إطلاقه، فالدكتور جمال جمعة يؤكد أن المخادنة كانت أحد حقوق المرأة المكتسبة، ولا يملك الزوج حق المنع أو الاعتراض. وسماح الرجال لنسائهم بالمخادنة دليل مضاف على أن الزنا في شريعة العرب لم يكن جريمة أخلاقية، بل اقتصادية؛ فهو اعتداء على الملكية، وعلى غير رغبة الزوج وبدون علمه. وقد كنا ذكرنا في مقال سابق أن من الأزواج من كان يرسل زوجته لتستبضع من رجل آخر بمحض إرادته.

وكما لم ينظر العربي إلى «صواحبات الرايات» نظرة ازدرائية، لم ينظر أيضًا إلى المنغمسات في المخادنة نظرته للزانية، وهو الأمر الذي صرح به الطبري في تفسيره لآية "وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ..."، حين يقول ما معناه إن العرب لم تكن تستنكر تلك العلاقات الجنسية. ويتحدث الدكتور جواد علي عن المخادنة فيقول: المتخذات الأخدان اللواتي قد حبسن أنفسهن على الخليل والصديق للفجور بها سرًّا دون إعلان بذلك. ويضيف: فذات الخدن، المرأة ذات الخليل الواحد المستترة به. وقد يقيم معها وتقيم معه. وعُد صداقة ومودة.

لذلك اختلفت وجهة نظر أهل الجاهلية فيه عن وجهة نظرهم في الزنا، فلم يعدوه شائنا. بل إن الزوج أحياناً كان يرعى هذه العلاقة! وهذا ما حدث في قصة عروة بن حزم مع ابنة عمه عفراء. فحين أبى العم إلا أن يزوج ابنته من رجل ثري، قرر ابن اخيه السفر سعياً لجمع مهر حبيبته. ولما قفل من رحلته علم أن عفراء قد تزّوجت من تاجر ثري وانتقلت إلى الشام، إذ ذاك؛ قرر اللحاق بالأرض التي تأويها، ونزل بيتها ضيفًا على زوجها، ولما علم الزوج ما بينهما من حب قديم، أصر على أن يقيم حبيبها معها، معتبراً أن في ذلك قربة إلى الله، إذ قال لعروة: اتق الله في نفسك.. والله لا أمنعك من الاجتماع معها أبدا. ولما كان حدوث تلك القصة بعد الإسلام، فلا بد وأنها من رواسب ما قبله.

أما عن «قيس» الذي كانت تتخذه «ليلي» خدنا لها مع زوجها، فكان لا يستحي أن يسأل الزوج عن أحوالها، ولا يخجل أن يستفسر إذا ما كان قد قبلها، فقد سأله ذات مرة:

بربك هل ضممت إليك ليلي قبـيل الصبح أو قبّلت فـاهـا
وهل رفّت عليك قرون ليلي رفيف الأقحوانة في شذاها؟

وحين حرم القرآن هذا النوع من العلاقات الجنسية جاءت آياته لتؤكد تلك النظرة العربية المنفتحة جنسياً إلى أبعد حد، فقوله: غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ. فيه تمييز واضح بين نظرة العربي للزنا أي المسافحة، بحسب قول بن عباس، والمخادنة التي هي اتخاذ الصديق الواحد، بحسب تأكيده أيضًا.

إلا أن هذا التحريم لم يعنِ أبداً أنه قد ترتب عليه القضاء على الظاهرة، فالظواهر الاجتماعية المتأصلة في نفوس البشر تحتاج إلى عقود حتى يتم القضاء عليها، أما إذا كان لها ارتباط وثيق بالجنس، فلربما تحتاج إلى قرون، حتى في ظل وجود النص الديني الواضح والصريح. وهو الأمر الذي يؤكده الباحث الاجتماعي حسين الجبوري، حين ينقل من العصر العباسي عن أبي تمام قوله:

جزى الله عنا ذات بعل تصدقت على عزب حتى يكون له أهلُ
فإنا سـنـجزيها بما فـعلـت بنا إذا مـا تـزوجـنـا ولـيس لها بعلُ

وهي الأبيات التي يصفها بأنها دعوة صريحة لممارسة المخادنة بلا حياء. والطريف فيها أن الشاعر يذيل دعوته بمسوغ ديني، حين يقول بصيغة النصح والوعظ:

أفيضوا على عزابكم من نسائكم فما في كتاب الله أن يمنع الفضل

(12) المضامدة

إذا كانت المخادنة نوع من أنواع النكاح له علاقة بالعاطفة والفوران الجنسي، وتعني اتخاذ المرأة خليلاً واحداً لها على زوجها، فالمضامدة علاقة جنسية أيضًا، إلا أن دافعها اقتصادي في المقام الأول.

فكلمة الضمد تعني الخِل، أي الصديق. والمضامدة أن تتخذ المرأة زوجًا أو رجلاً إضافياً أو رجلين، زيادة علي زوجها. لماذا؟ لتأكل عند هذا وهذا لتشبع. فهي علي هذا النحو نوع من أنواع تعدد الأزواج، كانت تفرضه طبيعة الحياة الاقتصادية التي لم يكن للمرأة فيها مشاركة قوية. من هنا نستطيع أن نفهم حرص القرآن، في أكثر من موضوع، على ضرورة الإنفاق على الزوجة، وتأكيده على حقوقها المالية؛ لقد كان هذا الحرص سدا للذرائع.

وسط هذا البحر الجنسي الهائج إذن ظهر الإسلام؛ في مجتمع كان النكاح فيه مسيطر على مخيلة أفراده وسلوكهم، بدرجة يرى شاكر النابلسي أنها تفوق أي شعب آخر، حتى أن بعض القبائل، كقبيلة فزارة، لم تكن تكتفي بكل هذه الأنكحة علي تباينها واختلاف طرائقها، فكان رجالها ينكحون إبلهم(!) فقال فيهم الشاعر: لا تأمنن فزارياً علي قلوصك وأكتبها بأسيار. والقلوص هي الناقة الطويلة ممشوقة القوام!

وضربت الأمثال في آخر من بني قيس، إذ لما دخل ذات مرة على ناقته، فوجدها باركة، في مشهد بدا له مغرى.. نكحها. فقالوا فيه: أشبق من جُمّالة!



.
 
أعلى