محمود جمال - الجنس والدين.. العالم القديم

لا يلعب الطفل قبل أن يشبع. لا يمكنه أن يرسم قبل أن يشعر بالأمان. وكذلك كان الأمر في مسيرة الحضارة البشرية. احتاجت البشرية، أول ما احتاجت، أن تحصل على الغذاء، ثم تشعر في الأرض بالأمان. حينها فقط بدأ الإنسان يعلو بناظريه إلى السماء. بدأ في تأمل ظواهر الطبيعة، فتشكّلت العقائد الدينية الأولى، ثم نسجت الأساطير.
إشباع تلك الحاجات الأساسية حدث بداية في منطقة الشرق الأوسط، بفعل السبق، وكدت أقول الثورة، التي أحدثتها اكتشاف الزراعة، وتدجين الحيوانات. ففي الوقت الذي كان فيه الإنسان في مناطق أخرى من العالم لا زال يلهث خلف طرائده، كان الشرق أوسطي قد دجن الطرائد نفسها، ووجد فسحة من الوقت والأمن للتفكير والتأمل، وصنع الحضارة.. ثم انطلقت المسيرة وتشعبت. ألا يفسر ذلك احتكار منطقتنا لكل الأنبياء؟!
وحين بدأت تلك المرحلة التي تشكل فيها الدين لأول مرة، كان الجنس أيضًا هناك. فإنسان تلك الحقبة، وبحسب ما يذهب "فراس السواح"، ما وجد في الطبيعة سوى صورة أكبر للمرأة. فكما تحبل الأرض بالبذور فتطرح الزرع، تحبل المرأة. وكما تمنح المرأة وليدها الغذاء، تفعل الأرض الخصبة مع أبنائها الزراع. لقد كانت المرأة، التي ترتبط دورتها الشهرية بالقمر رمزًا للخصوبة والعطاء، مصدرًا للحب والرهب، وكذلك هي - كما الطبيعة - حبلى بالتقلبات، الفسيولوجية منها والمزاجية. فهي الحانية العطوفة على أولادها، وهي التي تتحول إلى لبؤة شرسة إذا ما اقترب منها أحد.
لهذا السبب كان حتمًا على الإنسان أن يتخيل الإله الأول في صورة امرأة. نعم! لقد كانت الألوهة- في بدايتها- مؤنثة. وحين أراد الإنسان إن يُعزي قوة الطبيعة لأحد ظواهر السماء، كان لزامًا عليه أن يختار القمر، لارتباطه الوثيق بالمرأة، والجنس أيضًا.
في البداية كان كل رجل لكل امرأة، وكل امرأة لكل رجل، وكان الابن عصرئذ ينتسب، من بعد انتسابه الأول لقبيلته، لأمه، لا لأبيه، فالإنسان أول ما عرف الشيوعية عرفها في الجنس. ولم يُقنن الجنس، حتى بين الأبناء والأخوة والأخوات، إلا في مرحلة لاحقة، حين بدأ الرجل صراعه من أجل إنزال المرأة من السماء، واغتصاب مكانتها كسيدة للأسرة وربة وحيدة للكون. وحين شرع الإنسان في تخيل صورة الإله وبدأ في رسم تفاصيله، كان من الطبيعي أن تخرج الصورة مطابقة لسلوكيات الإنسان نفسه على الأرض، فإنسان تلك المرحلة هو الذي صنع الإله على صورته هو. وليس العكس!
في بلاد سومر، وبحسب ما يذهب صاحب كتاب الجنس في العالم القديم، كانت الإلهة "إنانا"- المثال الأعلى للنساء- قد منحت جسدها الشهواني المتعطش دومًا، كل الرجال. كانت رمزًا سماويًا للعملية الجنسية التي تهب الإنسان اللذة والمتعة على الأرض.
وبدورهم، كانت شعوب هذه المنطقة يتوجهون لـ "إنانا" بالدعاء، بوصفها الإلهة التي تفتح أرحام النساء. وكان على النساء الاقتداء بأوامر السماء. كان عليهن إبراز فروجهن، وعرضها على الرجال لإيقاظ غريزتهم وحثهم على التمتع بأجسادهن الموهبة لهم. وكان على الرجال أيضًا أن يحذوا حذو "تموز" أخو "إنانا" وإله التكاثر، الذي خضع لإغوائها وسحرها، وقدم لها سائله المنوي، في كل مرة شعرت فيها بالرغبة. لاحظ التطابق بين سلوك الآلهة، وسلوك البشر!
لاحقاً، وحين بدأ السومريون في الاحتفال بأعياد الربيع، كان الدين أيضًا هناك، وكذلك كان الجنس. فقد كان الناس يجتمعون للاحتفال بالإله "تموز" المسؤول عن النماء والتكاثر، يجتمعون للاحتفال بقيامته أو بعودته، وكانت النساء لا يمارسن الجنس مع أزواجهن فقط، بل كان الأزواج يسمحون لزوجاتهم ممارسة الجنس مع من أحببن، شريطة أن لا يُفرغ العشيق منيه داخل رحم الزوجة. وهي ثقافة ظلت سائدة حتى ظهر الإسلام، وعرفها العرب باسم الأخدان، ونطق بها القرآن في قوله:{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان}. في الواقع إن عودة الحياة للأزهار في الربيع، أي القيامة، ما كان في مخيلة السومريين سوى حصاد للعملية الجنسية بين إنانا وتموز.
وما دمنا نتحدث عن عصر الزراعة، فلنقرأ معا جزءا من الملحمة الجنسية لـ الإلهة "إنانا" وحبيبها الإله "تموز"، نقلاً عن كتاب ديوان الأساطير. إذ تطلق سيدة العشق السماوية نداءها فتقول: فرجي أنا الصبية من سيحرثه لي؟ فرجي أنا، تلك الأرض الرطبة، من الذي سيضع ثيرانه فيه ليحرثه؟! وعلى الفور، يلبي عشيقها الإلهي نداءها بالقول: إنه الملك "دموزي" سيحرثك! فتجيبه الحبيبة المتلهفة للقائه: احرث إذن فرجي، احرثه يا رجل قلبي!
هل لاحظت استخدام مفردة "احرث"، ومصدرها "حرث" كرمز لعملية الجماع؟ هو ذات اللفظ الذي ورد في قوله تعالي "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ". لقد كان هذا اللفظ الكاشف تعبيرا عن التماهي التام بين نتائج العملية الجنسية، أي الإنجاب. وبين الحصاد، الذي هو نتيجة الزرع ورمي البذور في الأرض، في مخيلة إنسان عصر الزراعة. لهذا السبب كان المطر، الذي يروي الأرض فتطرح الزرع، يشار إليه في ذات الملحمة بـ "منى السماء". لأن السماء تقذف به على الأرض، موضع الحرث، فيحدث ذات التفاعل الذي ينتجه "حرث" الرجل لزوجته، أعني الإنجاب أو الحصاد.
وحين تعلّم الإنسان تشكيل الفخار لصنع أوانيه، لم يكن أمامه شيء يحاكيه سوى جسد المرأة، فقد صنع الأواني، لإعداد طعامه أو حفظه، بشكل يحاكي جسدها الذي تخرج من رحمه الحياة وتحفظ بداخله أسبابها. ثم لاحقًا تم تقديس الأواني الفخارية ذاتها، والتي كانت تُصنع على شكل الرحم، ويعلوها ثديان وتتوسطها سُرة، يتم تزيينها بصليب، كما تزين المرأة سُرتها.
ويشرح صاحب كتاب "لغز عشتار" مغزى وجود تلك "السُرّة" فيقول: السرة ذات قيمة رمزية كبيرة، فـ سُرّة الإلهة عشتار البابلية هي مركز الكون. ومعبدها هو سُرّة الأرض، أي مركزها. وحتى بعد انتهاء حقبة الديانات المؤنثة، ظلت أهمية السُرّة على حالها، فصار كل شعب ينظر إلى مكان عبادته علي أنه مركز الكون، فمعبد أبولو كان- كما هو الحال في معبد عشتار- مركز الكون بالنسبة لليونان، وكذلك كان الهيكل في أورشليم بالنسبة لليهود، والعرب أيضًا كانوا ينظرون للكعبة على أنها مركز الأرض الذي يقع تحت عرش السماء.


.


صورة مفقودة


ليلى شوا - فلسطين
 
أعلى