شهادة الكاتب عبده وازن حول منع كتابه (حديقة الحواس)

قبل نحو إحدى عشرة سنة 1993 عمد الأمن العام اللبناني، وهو جهاز أمني عسكري، إلى مصادرة كتابي (حديقة الحواس) بعد ستة أشهر على صدوره، وحجته أن الكتاب يصف (العملية الجنسية في شكل فاضح وإباحي). لم يوضح بيان المنع العملية الجنسية ولا مفهوم الإباحية بل اكتفى بذكرهما فقط. وعندما استدعاني أحد مدراء الأمن العام وراح يناقشني في أمر الكتاب، قال لي أن الأمن العام كان في إمكانه أن يوقفني إثر ما صرحت به في الصحف عن ظلامية هذا المنع وعن أمية الرقابة في لبنان. وخلال مناقشته إياي بدا إنه لا يجيد التمييز بين الإباحية الرخيصة أو البورنوغرافيا التي تثير غرائزه، والأروسية أو الجنسانية في معناها الفلسفي والنفسي والثقافي. وعندما شرحت له أن الأروسية مشتقة من كلمة (أروس) إله الحب والرغبة لدى الإغريق صاح للفور: إنها كلمة مستوردة من الخارج وليست من تراثنا وراح يمتدح التراث العربي معتبراً أنه الأفضل والأهم بين حضارات العالم.

طبعاً لم أقل لهذا الضابط إنني اعتمدت (لسان العرب) بل المعجم الجنسي في (لسان العرب)، من ضمن الكتب التي اتخذتها مراجع لي في كتابة هذا (النص) الممنوع الذي ليس هو بالرواية ولا بالقصيدة مقدار ما هو نص تأملي يدمج بين اللحظة السردية واللحظة النثرية - الشعرية. وقد لا أبالغ إن قلت أن اللغة العربية هي من أغنى اللغات في معجمها الجنسي وهذا ما يؤكده (لسان العرب) نفسه إذ يتضمن تفاصيل في حقل الجنس قد لا ترد في خاطر القارئ، فالمعجم الجنسي يدون انفعال الجسد لحظة تلو لحظة ويغدق بمترادفاته الجنسية بغزارة حتى ليعجز القارئ عن استيعابها. وهذا يدل على إن اللغة العربية عرفت أحوال الجنس وخبرت مقامات الجسد من خلال نصوص بعضها ما زال قائماً وبعضها اندثر.

المشكلة التي أثارها الأمن العام لم تكمن في منع كتاب (حديقة الحواس) فحسب، بل في تبريره المنع وهو تبرير واه جداً ومتخلف وساذج، وهذا ما يؤكد بدوره أمية الجهاز الرقابي الذي هو جهاز عسكري لا علاقة له بما يراقب من كتب ومسرحيات وأفلام.. فهل يمكن وصف فعل الحب أو لنقل فعل الجنس بـ(العملية الجنسية)؟ ثم ما هو الشكل الفاضح والإباحي في وصف الفعل الجنسي؟

لم يكن الأمن العام يحتاج إلى أن يبرر قراره وما تلاه من رد فعل سلبي صدر عنه إزاء حملة الإدانة الكبيرة التي أقيمت ضده غداة المنع، فهو تلقى إشارة بالمنع من أحد المراجع الدينية - وربما من مرجعين أو ثلاثة من مختلف الطوائف - وما كان عليه إلا أن يلبي بسرعة ومن غير تلكؤ. فالمدير العام للأمن العام في لبنان - كما درجت العادة - هو صاحب مشروع سياسي ما، وطموحه أن يكون نائباً أو وزيراً وربما رئيساً وهو يريد أن يرضي المراجع من أجل أن تساعده في تحقيق حلمه السياسي. هذا ما تبين بوضوح بعد ما بدا أن جهاز الرقابة لم يقرأ الكتاب إلا لاحقاً، أي بعد قرار المنع. وقد يكون قرأ ربعه أو نصفه لأن الكتاب ليس إباحياً ولا فاضحاً وغير مسل بالتالي ولا يرفه عن هموم رجال الأمن العام. فالنص صعب ونخبوي وليس شعبياً وقد اعتمدت في كتابته لغة متماسكة ومشغولة، شبه معجمية في أحيان. وجعلت المشاهد التي يسردها الراوي في غاية الغموض. وعندما صدر قرار المنع، تهافت القراء على شراء ما هرب من نسخ ولكنهم سرعان ما أصيبوا بخيبة. فالصفحات الأروسية (الفاضحة) قليلة جداً وليس في الكتاب سوى مناخ أروسي ينطلق من جسد المرأة ويصب في العلاقة بينها وبين الراوي. وقد تكون تلك الصفحات القليلة هي التي (أخافت) البعض وروعتهم، لا لما تتضمن من وصف جنسي، بل لهتكها خطيئة الجسد والآثام التي انزلتها الأديان به. فالعاشقان في هذه الصفحات كانا يبدوان كأنهما يغتسلان بما يرشح به الجسدان في لحظات الجماع من عطر اللذة وماء الرغبة. أصبح الجسد هنا نقياً وما يقطر منه كان نقياً أيضاً. والحب هو أعمق ما يمكن أن تصله علاقة جسدين بعضهما ببعض. لم يعد من نجاسة هنا ولا شر. الحب باب إلى الفردوس والمفقود والجسد ضوء في ليل العام. الجسدان يغيبان في جسد واحد، يحترقان معاً ويموتان ثم ينهضان. تغسل المرأة وجهها بماء الرجل الذي هو ماء الحياة، ويغسل الرجل وجهه بزبد المرأة الذي هو زبد الموت.

هذا ما لم يستطع أن يحتملوه: كيف يصبح الجسد فردوسياً عبر فعل الحب؟ بل كيف يستعيد الجسد ذكراه الأولى - على الطريقة الأفلاطونية - قبل أن يقع في الإثم الأول - إن كان من إثم؟ هذا ما رفضه هؤلاء فأوعزوا إلى الأمن العام بإصدار قرار المنع. علماً أن الكتاب ليس موجهاً إلى العامة بل إلى النخبة القادرة وحدها على قراءته كما يجب أن يقرأ.

في المرحلة الأولى شعرت بإحباط كبير، ليس لأن الكتاب منع - وهذا سبيل إلى الشهرة لا أريدها - بل لأن الكتاب وضع في سياق لا علاقة له به. فالكتاب أردته فعل مواجهة للمأساة التي حفرتها فينا الحرب اللبنانية السوداء. كنا نشاهد المقاتلين يسحلون الجسد خلال الحرب ويطعنونه ويمزقونه.. بلا رحمة ولا خوف. كانوا يحولون الجسد لعنة معرين إياه من معناه الإنساني وبعده الديني، جاعلين منه مادة للتعذيب ولإبراز غرائزهم الراقدة فيهم. ولما انتهت الحرب وعادت سلطة الدولة المركبة تركيباً طائفياً فاضحاً والتي ضمت أكثر من (أمراء) الحرب، راحت تمعن في تعذيب أجساد الشبان والشابات المطالبين بالحرية والكرامة الوطنية والمواطنية الحقة. وكم كانت مشاهد قمع قاسية وأليمة: بنادق تنهال على أجسادهم ضرباً وطعناً، أجساد ممددة أو شبه مصلوبة تتلقى الطعنات بألم وصمت. وهذه مشاهد (مستوردة) إذ لم يعرفها لبنان في مثل هذه القسوة وهذا العنف.

كان إذاً من المسموح به سحل الجسد وتشويهه خلال الحرب وبات مسموحاً به جلده وطعنه بعد الحرب، أما الكتابة عنه بجمالية وبهاء فليس مسموحاً بها. لعل الكتابة أقوى من السحل والقتل، بل لعل الكلمة أعنف من السكين وأشد فضحاً من القتل.

مضت نحو إحدى عشرة سنة على منع الكتاب. قال بعضهم لي إحذف من كتابك الصفحات المحظورة فيسمح به. رفضت، أما أن يبقى الكتاب كما هو وإما أن يظل ممنوعاً. وهو سيظل ممنوعاً على ما يبدو. ولم أسع شخصياً إلى طبعه خارج لبنان. تصوروا أنه ترجم في جامعة مونبلييه الفرنسية وكتبت عنه دراسة عميقة في سياق أطروحة جامعية. أما في لبنان فهو يريب بعض العاجزين عن فهمه.

ولا أخفيكم إنني شعرت أن هذا الكتاب أمسى من ماضيي وإنه لم يعد لي برغم الألم الذي سببه في الالتباس الذي شمله. أردته كتاباً عن الجنس في معناه السامي فاعتبروه كتاباً بورنوغرافياً. أردته كتاباً عن مواجهة الحب جسداً وروحاً فاعتبروه كتاباً فاضحاً، أردته كتاباً عن الأروسية في ما تعني من (استحقاق للحياة داخل الموت)، كما يقول المفكر الفرنسي جورج باتاي.. أردته أيضاً كتاباً تواجه فيه اللغة الفعل الجنسي والجسد والرغبة فلا تكتفي اللغة بدور الشاهد بل تصبح فعلاً عشقياً بدورها.. أردته كذلك كتاباً عن الجسد البعيد من أي شبهة، عن الجسد الفردوسي الذي لا يتخلى لحظة عن نار رغبته!
إنها الرقابة في لبنان التي ما زالت وقفاً على جهاز عسكري هو الأمن العام. هل يستطيع العسكر أن يستوعب الأدب والفن؟ طالبنا مرات كثيرة في لبنان بنقل الرقابة على الأدب والسينما والمسرح إلى وزارة الثقافة! لكن صوتنا لم يصل. حتى وزارة الثقافة نفسها لم تسع إلى جعل الرقابة من مهمتها وهي أصلاً وزارة ذات وجود شكلي حتى ليكاد يقال أن هناك وزيراً للثقافة وليس هناك وزارة. ولعل هذا من حسن حظ الثقافة اللبنانية التي كانت وما زالت من صنيع القطاع الخاص وبعض المؤسسات المغامرة وبعض الأفراد المغامرين.

وفي السنوات الأخيرة، لا أخفيكم أن الرقابة اشتدت على الصحافة والإعلام وباتت الصحف والشاشات الصغيرة غير قادرة على إبداء رأيها الحقيقي كما كانت تفعل من قبل، بل إن هناك محاذير كثيرة تفرض عليها من خلال أسلوب بوليسي ذكي جداً، ولا غرابة في أن تقفل محطة تلفزيونية لأسباب سياسية وأن تحاكم صحف ومجلات وأن يمارس نوع من الترهيب على بعض الصحافيين.
ترى هل ما زال لبنان يتمتع بحرية التعبير كما كان في السابق؟ لا أعتقد! ولكن ما أعتقده أن الرقابة والقمع والترهيب أمور لن تدوم طويلاً. فالوطن اللبناني لا يستطيع أن يحكمه العسكر ولا المخابرات ولا أي مرجع وما نأمله هو ألا يكون انتظاراً طويلاً.
 
أعلى