مصطفى القلعي - ثقافة الإسلام لا تقف عند العبادات بل تطال الحبّ والجسد

رفيقي السلفيّ: الرسالة (23)

رفيقي
أعرف أنّ مشاغلك كثيرة. وأعرف أنّك تقبل على ثقافة الاستماع أكثر من ثقافة القراءة. ولذلك ارتأيت أن أقرأ لك أربع موادّ حديثة من مقالات وحوارات وبيانات لإفادتك بما فيها، أوّلا، ولمناقشتها معك، ثانيا، ولتحفيزك للإقبال على القراءة، ثالثا. وأسرّ إليك بأنّ الجامع بين ما قرأته لك هو أنت، يا رفيقي.
تعرف منصف الوهايبي؟ هو رفيق أكاديميّ تونسيّ يدرّس الأدب العربيّ ونقده في الجامعة التونسيّة وشاعر معروف ذو تجربة واثقة. والمادّة الأولى له. وهي عبارة عن مقال عنوانه يثير مسألة فلسفيّة خلافيّة هي حدود الحريّة. والوهايبي يبدو جازما بالنّفي: "لا سقف للحريّة". وهو منشور في صحيفة القدس العربيّ يوم الجمعة 16 نوفمبر/ تشرين الثاني.
يقول منصف الوهايبي: "إنّ ثقافة الإسلام أرحب ممّا يتصوّر سلفيّونا، وهي لا تنحصر في العبادات والطقوس والشعائر الدينيّة على جلالها. إنّما هي تتعدّاها إلى ضروب من الحبّ يتداخل فيها النفسي والجسدي، في منحى يخفّف من المغالاة في روحنة الحبّ؛ مثلما يتجلّى ذلك في ما يرد من قصص الحبّ الحضري أو ما يسمّى الحبّ الحسّي، وهي تسمية غير دقيقة؛ وفي التّعفّف عن شهوانيّة الجسد على نحو يتجلّى في قصص الحبّ البدويّ أو الحب العذري وهي مثل سابقتها تسمية غير دقيقة؛ حيث التغنّي بالجسد، وتكثيف الاستعارة بشأن بعض أعضائه مناسبة لكشف شوق يغلب على النّفس أكثر ممّا يغلب على ميول الجسد."
أرأيت، يا رفيقي؛ ثقافة الإسلام لا تقف عند العبادات بل تطال الحبّ والجسد. أعرف أنّك تقصر إسلامك في مستوى اليقينيّات والعبادات والأوامر والنواهي في مستوى خطابك. ولكنّي، في مستوى السلوك، كثيرا ما أراك تمارس حقّك في الحبّ. فمتى تطابق خطابك مع سلوكك؟ وليتك تقرأ أشعار المجنون وجميل وديك الجنّ وعمر بن أبي ربيعة لتتيقّن من أنّ كلام رفيقنا الوهايبي وجيه.
رفيقي
لجلال قدرك عندي، لن أحرمك متعة ما حدّث به رفيقنا الوهايبي عن الإمام جلال الدين السيّوطي المفسّر والفقيه وعالم الدّين الجليل وهو يعطي الجسد حقّه من العناية والاهتمام في فكره وكتابته. فإليك نصّ ما قاله الوهايبي:
الإمام جلال الدين السيوطي في بعض مؤلّفاته الجنسيّة تتحوّل صورة الجسد في أدب الحبّ عند العرب وفي الكتب التي تدور في فلكه أو في أدب الجنس إلى نوع من اللّعب الكنائي أو الرّمزي، بالمعنى الدّقيق للكلمة. ولعلّ خير مثال لذلك كتاب الإمام جلال الدّيـن السّيوطي الموسوم بـ:رشف الزّلال من السّحر الحلال. وهو يضمّ عشرين مقامـة تتفاوت طولا وقصرا، أسـندها الكاتب إلى علماء من اختصاصات ومشارب مختلفة، وموضوعها أن يتحدّث كلّ منهم عمّا اتّفق لـه ليلة زفافه مع امرأته، مكنّيا أو موريا بمصطلحات علمه. وللسيوطي ولا ننسى أنه صاحب الإتقان في علوم القرآن و الدر المنثور في التفسير بالمأثور وغيرهما وهو كثير من مصنفات في الحديث والقرآن، مؤلفات جنسيّة غير قليلة مثل الوشاح ... ونواظر الأيك في ... و الإفصاح ... ومباسم الملاح ومناسم الصباح ... و الزنجبيل القاطع في وطء ذات البراقع (قصيدة في مئة وخمسين بيتا) و نزهة المتأمّل ومرشد المتأهّل و المستطرفة في دخول اﻠ ... ونزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسمر و اليواقيت الثمينة في صفات السمينة . وقد تعمّدت أن لا أسوق عناوين بعض هذه الكتب كاملة، حياء منّي ومراعاة للذوق العام، فالأمر يتعلّق بجريدة محترمة، وليس بمجال البحث العلمي حيث لا حياء في العلم.
اتّبع السيوطي في رشف الزلال أسلوب المقامة، وأسند الكلام إلى شخصيّة متخيّلة: أبو الذرّ النفيس بن أبي إدريس وهو يدعو الرجال ـ أسوة بالإمام ـ إلى الزواج. قال: حكى أبو الدرّ النفيس بن أبي إدريس، قال:خرجنا يوم عيد إلى مسجد بعيد ونحن شببَة متقاربون وعصبة في السنّ متجاذبون... فلمّا كان صبيحة البناء ، اجتمع بعضنا للهناء، فقال قائلنا : ليصف كلّ منّا خبر ليلته وما اتفق له مع حليلته. ويأخد كلّ منهم في سرد قصته. ومثال ذلك ما جاء في المقامة الأولى: فقال المقرئ: لمّا انقضى الاجتلا وحصل الاختلا ثمّ استوينا على العرش، وجلسنا على الفرش...
ومثاله أيضا قول النّحويّ موريا عن الجنس بمصطلحات النّحويّين: ثمّ تعانقنا تعانق الإضافة، وارتشفت ما هو ألذّ من السّلافة... ووقع الخفض على الجوار... فالإضافة اصطلاح نحويّ وكذلك الخفض على الجوار: جرّ ما حقّه أن يكون مرفوعا أو منصوبا ومثاله أيضا قول صاحب البيان، موريا بالقرآن، مجاريا أسلوبه في سورة الرّحمن : لمّا تجلّى العيان، وحصل غاية التّبيان، بدا... مرج البـحرين فيهما يلتقيان ... وبطن ذات سرّة وأعكان، وردف كأنّه جبل الرّيّان... فبعض هذا مأخوذ من سورة الرحمن آية 19 ولكن بتصرّف بسيط. فالمقرئ يصف ليلته مع زوجته بمصطلحات المأثور في الدّراسات القرآنيّة، فيما يصفها النّحوي بمصطلحات النّحو، والبلاغي بأدوات البيان، وصور القرآن. وهذا ضرب من التّوظيف الأدبيّ، وطريقة خاصّة في تحوير نصّ سابق وإحلاله في نصّ لاحق. فإذا المصطلح (القرآني ـ النّحوي ـ البلاغي ـ العروضي ـ الهندسي) لا يكافئ مـنـزلة المفهوم الذي وضع لـه، وإنّما يتعدّاه إلى الجسد والجنس، وما هو أوفر حياة وأوفى دلالة، حيث تغدو اللّغة حمّالة مفاهيم وصور جنسيّة ليس إلاّ، أو هي من الأدب المكشوف أوالخلاعي بعبارة المعاصرين."
أرأيت ظرف الأجداد وسماحتهم ؛ لا تشدّد ولا ممنوعات ولا محرّمات في العلم. بل إبداع وفتنة وخيال جامح وتوظيف لطيف. فاتّعظ ، يا رفيقي، وَعِ، أصلحك الله.
رفيقي
لقد ختم رفيقنا الوهايبي مقاله برسالة وجّهها إليك وعليّ أن أبلّغك إيّاها، وما على الرّسول إلاّ البلاغ. إليك: "نقول هذا مرّة أخرى عسى أن يدرك المتشدّدون من الإسلاميّين والسلفيّين أنّ ثقافة الإسلام من ثقافة الحريّة وهي أرحب ممّا يتصوّرون."
رفيقي
هل تعرف نوري بوزيد؟ هو رفيق سينمائيّ كان من جماعة اليسار الآفاقيّين (Les Perspectives) في السبعينيّات. المادّة الثانية له. وهي حوار معه منشور في جريدة الحياة اللندنيّة، بتاريخ 16 نوفمبر/ تشرين الثاني. نوري بوزيد، في حواره، أرسل إليك الرسالة التالية، يا رفيقي: "أردت أن أقول، من خلال فيلمي الجديد "ما نموتش"، لحزب النهضة والسلفيّين على لسان جميع التوانسة وعلى رأسهم النّساء: إن أردتم أن تقتلونا فلن تنجحوا." أرأيت، يا رفيقي، نوري بوزيد حاسم قاطع. هكذا يبدو الآن. ويتكلّم بلسان التونسيّين جميعا وله الحقّ في ذلك، فهو فنّان والفنّان صوت شعبه. يبلغك فنّان التونسيّين عن تمسّك شعبه بالحياة ويرى فيما تبشّره به والنّهضةَ دعوة للموت. أرأيت أنّ علاقتك بنا قد بلغت ذروة التوتّر.
ولكنّ نوري بوزيد عاد بعد يوم، يوم 17 نوفمبر ليؤكّد: "لقد اغتالوني اليوم"، حين تعطّل عرض فيلمه في افتتاح مهرجان قرطاج السينمائيّ بدعوى عطب تقنيّ. فهل نجحت وحليفك الحاكم في اغتيال نوري رمزيّا، يا رفيقي؟
رفيقي
المقال الثالث هو للأستاذ فتحي المسكيني، منشور في مجلّة الأوان الإلكترونيّة يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني. والمقال فلسفيّ يثير إشكاليّات عميقة متشعّبة الرّابط بينها هو أنت، يا رفيقي، من خلال رؤيتك لذاتك داخل المجتمع ومن خلال علاقتك بالدولة وبمفهوم المواطنة. فإليك الإشكاليّات لتتدبّرها: "وفجأة نتذكّر أنّ الثورات لا تغيّر من طبيعة منطق الدولة شيئا (...) إنّ الدولة غير مسؤولة عن حياة من يثور أكثر من اللازم أو يتجاوز الخطّ الثوريّ للحكومة (...) كيف يحقّ للقانون أن يقبض على شخص لا يؤمن به؟ بأيّ حقّ يسوغ للدّولة أن تطبّق القانون الوضعيّ على إنسان لا يرى نفسه مواطنا بقدرما ينظر إلى نفسه بوصفها نفسا مخلوقة تحت أوامر خالقها؟"
رفيقي
لن أطيل عليك، آخر شيء قرأته لك هو بيان حزب العمّال التونسيّ المساند للحراك الشعبيّ في الأردن. نشر البيان في موقع البديل بتاريخ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني ومؤرّخ بتاريخ 16. يقول البيان: "إنّ حزب العمّال، إذ يعبّر عن مساندته لانتفاضة الشعب الأردنيّ المناضل وجماهيره الكادحة وعن انحيازه لمطالبه بالديمقراطيّة والحريّة والعيش الكريم، فإنّه يدين القمع السّافر الذي يعتمده نظام العمالة والفساد والاستبداد ضدّ المحتجّين."
والحقيقة، يا رفيقي، إنّي أجد في هذا البيان إشكاليّة وحيرة. أمّا الإشكاليّة فهي تتمثّل في الممارسة السياسيّة لليسار التونسيّ. فوالله أنا حائر؛ فحزب العمّال مكوّن رئيسيّ من مكوّني الجبهة الشعبيّة الوليدة قيصريّا ولكنّه مازال يصدر البيانات باسمه فقط. فلم الجبهة، إذن؟ وهل ستظلّ الأحزاب أجسادا منفصلة مغلقة على ذواتها داخل الجبهة؟ وأمّا الحيرة فهي متّصلة بك، يا رفيقي. فأنا لم أعد قادرا على فرز الموقف الأسلم حول حراك الشعوب العربيّة؛ فلا أستطيع مبدئيّا ألاّ أدعمها، ولكنّي أراها حاراكات تأتي بك إلينا مظفّرا ولا تأتينا بالديمقراطيّة والتنمية والازدهار. فما السبيل للتوقّي منك، يا رفيقي؟ ما السبيل؟
أرجو أنّي كنت خفيفا عليك.

.
 
أعلى