ملاك إبراهيم الجهني - المثقف التراثي والمرأة.. ترميم الثغرات المعرفية بالطينة العباسية

خرجت من المسجد الحرام في إحدى رحلاتي إلى مكة مع انتشار الشمس ذروة الإشراق، ومررت في طريقي بإحدى المكتبات الصغيرة أسفل فندق سوفوتيل حيث كنت أقيم. كان ذلك قبل أن يُهدم الفندق لصالح مشروعات التوسعة في الحرم.

وفي المكتبة لفت نظري كتاب بعنوان (دولة النساء: معجم ثقافي، اجتماعي، لغوي عن المرأة) لعبد الرحمن البرقوقي، فاقتنيت الكتاب مباشرة ودفعت بثمنه للبائع وأجَّلت تصفح الفهرس لحين ذهابي إلى الفندق لاكتظاظ المكتبة الصغيرة بالزوار وقتذاك، ولشدَّ ما كانت خيبتي حين طالعت الكتاب وفوجئت باختزاله النساء في امرأة واحدة، وحياة تلك المرأة في جانب واحد، فإذا بدولة الكاتب أشبه بقرية، وحياة المرأة فيه أشبه بموسم من مواسم السنة، وتساءلت حينها ما الذي حمل الكاتب على أن يطلق في عنوان كتابه ما قيده في ثناياه!.

وبعد سنوات من ذلك التاريخ طالعت بحثًا بعنوان (صورة المرأة في الحديث النبوي) للباحثة رزان الحكيم، قدم له الدكتور نور الدين عتر الأستاذ في كلية الشريعة بدمشق، وكان مما عرض له كتاب الباحثة إسهام كتب الأدب في التشويه والاضطراب اللاحق بصورة المرأة في الحديث النبوي، وقد اقتصرت الباحثة في كتابها على أنموذجين من كتب الأدب قديمًا وحديثًا، وكان كتاب دولة النساء أنموذجًا للمؤلفات المعاصرة المنقودة في هذا الجانب.

وإذا بي أتشارك والباحثة العجب السابق، وحُقَّ للقارئ أن يعجب لمؤلف يكتب كتابًا كاملاً يسميه بدولة النساء ويصفه بالمعجم الثقافي الاجتماعي اللغوي ولا ترى فيه سوى المرأة بوصفها "زوجًا" إذ فصَّل مؤلف دولة النساء -كما ذكرت الباحثة- في المواصفات الشكلية والمعنوية المطلوبة في الزوجة، وكيفية سياستها، والوصيِّة بها، ومهرها وطلاقها، وضرورة بقائها في بيتها وطاعة زوجها، دون أن يورد شيئًا مما ورد في الصحيحين مما له صلة بتعليمها، أو حرية تصرفها في مالها، أو أدوارها وتضحياتها الجسيمة في نصرة الدعوة في فجر الإسلام. الأمر الذي حمل الباحثة على التساؤل:"أين إيمانُ خديجة، وعلم عائشة، ومشورة أم سلمة، وفدائية أم سليم وأسماء، ونفقة زينب وورعها، وطموح أم حرام، وشهادة سمية وهجرة أم كلثوم؟!

ولم تكتف الباحثة بالتساؤل حول موقع المرأة في الكتاب، بل انتقدت الطريقة التي قُدِّمت فيها مختارات المؤلف من الأحاديث النبوية حيث سار المؤلف على طريقة بعض كتَّاب الأدب القدامى فلم ينسب الأحاديث لرواتها،كما جاور بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة من غير بيان رتبتها، إضافة إلى إيراده عبارات من كتب شروح الحديث دون ذكر مصادرها، وإيراده زيادات مسيئة إلى تلك الشروح ومسيئة للنص نفسه، كتعليقه بعد حديث المرأة عورة، الذي قال فيه"العورة أصلها المذمة".

وفي خضم بحثي آنذاك كنت أتساءل كلما قرأت لبعض مثقفي التراث لماذا يُلبس بعضهم النص الشرعي ثوبًا من نسج ثقافة مجتمعية فيها مافيها وعليها ما عليها، ولماذا لا يَبْلى هذا الثوب على قِدم عهده؟

وما فتئَت مثل هذه التساؤلات تفرض حضورها كلما صادفت موقفًا شبيهًا، وبقيت كذلك حتى اكتسَحَنا الإعلام الجديد، وبدأنا نشهد حوارات حيَّة جادة وساخرة بين من يوصفون بالمثقفين حول المرأة، وبدأت تصلني صور بعض تغريداتهم في (تويتر)، وكانت لغة تلك التغريدات وروحها والصور الذهنية التي تحملها بل كل بضاعتها من كتب التراث الأدبي، ولم يك هذا بالأمر الجديد ولا المدهش، فكل ما هنالك أنه بعدما كانت مثل هذه المحاورات والمسامرات تستتر بين جنبات مجالس أولئك المثقفين، صارت تتبرج أمام عامة القراء بما فيهن القارئات اللاتي ساء بعضهن ما يذكر مما يستملحه قائلوه ومشاركوهم الذين قد تجد أحدهم يجادل شخصًا آخر في مجلس آخر مدافعًا عن تكريم الإسلام للمرأة!

ولم تمِت كثرة المساس بالمشكلة الإحساس بها، بل بات السؤال أكثر إلحاحًا : أيهما أقوى سلطانًا على فكر ذلك المثقف، الديني أم المجتمعي؟

ولا نحيد عن الحق إن قلنا أنهما كفرسي رهان .. والغلبة مرة لهذا ومرة لذاك ..

فما يملكه المثقف التراثي من معرفة بالمرأة لا ينحصر في النص الشرعي ولا السيرة النبوية ولا في واقعه الممثل باختلاطه بالدائرة الضيقة من النساء في محيطه الاجتماعي، بل يتمثل رصيده المعرفي الأكبر فيما حصَّله من تركة كتب الأدب. فمنها يستمد وبها يرمم ثغراته المعرفية عن المرأة، وبواسطتها يستخلص أحكامه ويعممها على نساء الدنيا دون قيد زمني أو مكاني. ويزداد الأمر سوءا حين يجري خلط الديني بالمجتمعي في كتب الأدب على النحو الذي لا يجعلنا نندهش من توسعة النصوص النبوية المتعلقة بطبيعة المرأة وطردها خارج حدود النص كحديث النقصان الذي استحال سُبَّة وإهانة كما لم يعد خافيا ..

وحديثنا هنا يخص من سلك هذا المسلك في تناوله لموضوع المرأة تأليفًا وكتابة وتعليقًا ومناقشة وتقريرًا وإن لم يفرده بالتناول، وليس حديثنا هنا عن المثقف التراثي بإطلاق، إنما هو مقصتر على من سبق تخصيصهم، ويشمل هذا نوعين من مثقفي التراث: المثقف المنتج، والمثقف المتلقي أو الذي يغلب عليه التلقي، وكلاهما عالة على المثقف التراثي القديم، كما أشرنا وكما سيأتي.

المتأدبة على مائدة الأصفهاني


حظي كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني باهتمام العامة والخاصة على ما تضمنه ذلك الكتاب من قصص المجون والخلاعة. ورغم أن أبا الفرج مكث في تأليف كتابه خمسين عامًا وساق أخباره بالأسانيد، فقد أنكر ما فيه جمع من العلماء والنقاد، منهم الخطيب البغدادي، وابن الجوزي، والذهبي.

فنقل ابن النوبختي عن الخطيب قوله" الأصفهاني أكذب الناس، كان يدخل سوق الوراقين وهي عامرة والدكاكين مملوءة بالكتب فيشتري شيئًا كثيرًا من الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون كل روايته منها".

وقال ابن الجوزي:" ومثله لا يوثق بروايته يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويُهوِّن شرب الخمر وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر".

وقال الذهبي :"رأيت شيخنا ابن تيمية يُضعِّفه ويتهمه في نقله ويستهول ما يأتي به".

ولا شك أن الصورة الذهنية المرتسمة لدى قارئ الأغاني عن المرأة ليست بالصورة الواقعية ولا الحسنة، بل صورة غلب عليها القبح والتزييف والكذب.

فلا عَجَبَ ينتابك حين تقرأ لمن استقي هذه الصورة في زمن من الأزمان فتراه يصف المرأة بتفجر الرغبة أو الشهوانية المفرطة مبررًا بهذا التضييقَ عليها وحرمانها من التعلم وإقصاءها من الحياة الاجتماعية.

ولا عجب ينتابك حين تقرأ لمثقف معاصر لا يرى في المرأة سوى تكوينها الجسدي ولايتوانى عن غمزها وتعييرها به كلما سنحت سانحة. وكيف لا وهي لا تعدو كونها حاجة وضرورة غرائزية ووجودية ولا مكان لها في الحياة الفاضلة التي تُؤطَر عليها أطرًا ولا تستجيب لها بمحض فطرتها وطبيعتها.

والواقع أن أغاني الأصفهاني ليس ببعيد عن كتاب تراثي آخر لا يقل شهرة عنه إن لم يكن أشهر منه، وهو كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي قال عنه مؤلف كتاب (الاستبداد السلطوي والفساد الجنسي في ألف ليلة وليلة) بأن حكاياته تكاد تخلو من المرأة العادلة الوَرِعة أُمًّا، وأختًا، وزوجةً وفيةً مستقيمةً في أخلاقها وسلوكها. وقد ذكر المؤلف هذه الملحوظة في مقدمة بحثه معتذرًا عن عدم تطرقه إلى دراسة هذه النماذج!

وإذا ما أردنا أن نتبين شيئًا من أثر أغاني الأصفهاني في تلك الشريحة من مثقفينا فلنقف على أثر (ألف ليلية وليلة) في مثقفي الغرب مع اعتبار ما بين الكتابين والفريقين من الفوارق.

الإسقاط بين المستشرق الغربي والمثقف التراثي


كثيرًا ما تضيقُ شريحةٌ واسعةٌ من المثقفين المسلمين بالطرح الغربي الاستشراقي حول المرأة المسلمة ويصفونه بالمزيف والإسقاطي. وليسوا بمخطئين ولا خاطئين؛ فالكتابات الاستشراقية عن المرأة تدفع قارئها للتساؤل: إذا كان عالم المرأة المسلمة موصدًا أمام العين الغربية الراصدة والمتتبعة لخباياه ومكنوناته في ذلك الزمن، فمن أين استقى الغربيون تصوراتهم عن المرأة المسلمة وفضائها الخاص بصفة أخص؟

ارتسمت التصورات الغربية عن فضاء المرأة الخاص الموصوف بـ(الحريم) بمزيج من الخيالات الغربية والصور المستقاة من حكايات (ألف ليلة وليلة)، تلك الحكايات التي تمتزج فيها الشخصيات التاريخية الحقيقية بالأحداث الخرافية والغرائبية. حكايات تضجُّ بالعلاقات الجنسية المتهتكة، والفساد السياسي، والطبقية الاجتماعية.

وقد تعرف الغربيون إلى (ألف ليلة وليلة) بعد ترجمتها من قبل باحث فرنسي يُدعى أنتونيو غالان تحت عنوان (ليالي العرب) عام (1704م)، وأصبحت حكايات (ألف ليلة وليلة) بسحرها المشرقي مصدرًا للغربيين فيما يخص الحياة الاجتماعية للمسلمين، وموردًا يستمد من الكتاب والفنانون حكاياتهم وخيالاتهم الخاصة التي تستثيرها تلك الحكايا.

وتجسدت التصورات الغربية في صنفين من الأعمال، هما الأعمال الأدبية والأعمال الفنية، فوصف ب.ر. ردمان (الحريم) في (تسليات ليالي العرب) بقوله:" إنه عالم تتمتع فيه الحواس كلها بالوفرة الوافرة من المناظر والأصوات والطيوب، من الثمار والأزهار والجواهر، تتمتع بالخمور والحلويات، باللحم البشري المطواع لنساء ورجال جمالهم منقطع النظير. إنه عالم اللقاءات الليلية البطولية...عالم قصص الحب التي تترصد مندسةً خلف كل نافذة أغلقت مصاريعها، وكل طرفة عين من محجبة تتسبب في علاقة غرامية جامحة، وفي يد كل خادمة تعشش ملحوظة معطرة تعلن الموافقة على لقاء غرامي سريع...إنه عالم ليس فيه من مطمح يصل إلى حد الجنون بحيث لا يمكن تحقيقه، ولا يوم يُقدم دليلاً على ما سيحدث في اليوم الذي يليه. عالم تنافس فيه القردة الرجال، ويتزوج فيه اللحام من ابنة الملك، عالم قصوره مبنية بالألماس، وعروشه منحوتة من ياقوتة واحدة. عالم قواعد حياته اليومية التي يتعذر تفاديها قد عطلت على نحو رائع وغابت منها المسؤولية الفردية بشكل بهيج. إنه عالم دمشق الأسطورة وقاهرة الأسطورة وقسطنطينية الخرافة...إنه وباختصار عالم حكاية الجنيات الأزلية ولا مقاومة لسحره".

كما وجد الفنانون المسرحيون في (ألف ليلة وليلة) موردًا جديدًا لمسرحياتهم في عصر وصِف أهله بالولع بالتمثيل المسرحي.

وبما أن صورة الحياة الإسلامية المعاصرة لهم في ذلك الحين هي الصورة العثمانية لا العباسية فقد أسقط الفنانون الغربيون الحريم العباسي -كما صوَّره كتاب ألف ليلة وليلة- على الحريم العثماني في زمانهم.

واستلهم الموسيقيون الغربيون أعمالهم الموسيقية عن (الحرملك) مما اكتنزوه من رؤى حول الحريم الإسلامي، فقدم موزارت في أواخر القرن الثامن عشر عمله المعروف بـــ(خطف من السراي) الذي تمثل في صورة حماسية لإنقاذ جارية جميلة من السراي. وفي القرن التاسع عشر قدم الموسيقيون الغربيون أعمالاً موسيقية استلهمت موضوعاتها من المصدر نفسه مثل (خليفة بغداد) و(فالس مملوكي) لبولدو، و(مارش تركي) لبيتهوفن.

ولم يتوقف الاستمداد الغربي من ألف ليلة وليلة عند حدود السرد القصصي الجديد، والفنون البصرية، والمسرحية، والموسيقية، فقد برزت ظاهرة (التركويرز) أو كل ما هو (تركي) في باريس وأثرت تأثيرًا كبيرًا في كل شيء فعمَّ أثرها الأدب والرسم والمسرح والأوبرا والأزياء وتصميم الملابس الداخلية، وانغمس الناس في محاكاة حكايات ألف ليلة وليلة.

وبلغ الشغف الغربي بسحر الحياة الشرقية مداه فتطلع السواح الغربيون لزيارة الشرق مشبعين بهذه الخيالات، وصاغ الفنانون المستشرقون في القرن التاسع عشر خيالاتهم حول الحريم أو الحرملك في صورة مشاهد لنساء عاريات حالمات، وأصبحت الجارية رمزًا للمتعة الشهوانية في الفنون البصرية.

ومن أشهر تلك الأعمال لوحة (الجارية الرائعة) لإنغريس (1814م)، والتي مثلت إسقاطًا فاشلاً ووجه لها النقد بوصفها كلاسيكية باردة ولا تشي على الإطلاق بكونها شرقية رغم تحليتها بعمامة ومروحة ونارجيلة، حيث صورت اللوحة امرأة عارية مستلقية مثل جرة من الألباستر في غموض حسي بدت معه كالشبح.

وأدى انتشار هذا النوع من الفنون البصرية للنساء العاريات في الحريم إلى تأسيس صالون الرسامين الاستشراقيين الفرنسيين في عام (1893م).

ولأن الحريم مكانٌ مسوَّرٌ ومغلق ولا يُدرى ما يجري فيه، فقد اضطر المستشرقون للاستعانة بالرحَّالات الأوروبيات (المستشرقات) ليروين لهم ما يجري داخله، حتى اعترف أحدهم أنه لا ينبغي أن يذهب للشرق عداهن، فقال:" النساء فقط ينبغي أن يذهبن إلى تركيا. ما الذي يمكن أن يراه الرجال في هذا البلد الغيور؟ المنارات البيضاء، نافورات الضفيرة، البيوت الحمراء، أشجار السرو الداكنة، الكلاب الكثيرة، الحمالين والإبل المحملة...أو الصور الفوتوغرافية والمناظر البصرية. لا شيء أكثر. في المقابل ينفتح بيت الجواري للمرأة، فلا يعود الحريم فيه غامضات، تلك الوجوه الفاتنة بلا ريب، التي يبحث عنها السائح الأجنبي بلا جدوى لا تستطيع سوى المرأة أن تتأملها وهي مجردة من حجابها، بكل بهاء جمالها، إن العباءة قناع نصفي من الكرنفال الدائم للإسلام، لم يكن بمقدورها أن تستر الأجساد الأكثر فتنة والأزياء الرائعة".

وأصبح من مهام المرأة المستشرقة إيصال ما يعجز عنه زملاؤها ويرغبون برؤيته، ورغم أن بعض المستشرقات كُنَّ أفضل نسبيًا في توصيفهن للشرق ونسائه من المستشرقين الرجال، لكنهن ظللن متمثلات للرؤية الاستشراقية عن الشرق، فكتبت مونتياغو مرة إلى الشاعر إلكسندر بوب "العالم هنا رومانسي، نساؤه يختلفن عن نسائنا، وحياته طبيعية، صادقة وبطيئة".

لكنها احتفظت كذلك بنظرة ذكورية للحريم حتى وصِفت بأنها "العين الكاملة التي لم تفتها ملاحظة الشهوانية الحسية في مشاهد الحريم". والتي انعكست بدورها على المتلقي الذكر، فكان مما كتبه الكسندر بوب لماري مونتياغو في عام (1718م) :"كرهت مغزى عبارة المرأة الشريفة والزوجة المحبة منذ أن سمعت بالاسم الجميل جارية"!.

ووصل الأمر بهذا الشاعر للترتيب معها للحصول على جارية شركسية، فكتب في إحدى مراسلاته لمونتياغو" هذا فعلاً ما أتمناه من كل قلبي، ولو أدى إلى تدمير أي مشروع وضعته في حياتي، أتمنى أن أحصل عن طريقك على عبدتي الشركسية الفاتنة"!.

وهكذا كان الحريم في التصور الغربي رديفاً للغموض، والمتعة الجنسية بخاصة، والاسترقاق أو الاستعباد.

وانعكس الحريم الذي تحول إلى أيقونة وصورة ذهنية كوَّنها المتخيَّل على مختلف الأعمال الأدبية والفنية والفكرية الاستشراقية، وهذا ما لم يغفل عنه ادوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) إذ نقد التناول الاستشراقي للشرق وما فيه من استيهامات وإسقاطات غير بريئة، ومما ذكره في هذا قوله:" وما إن نبدأ النظر إلى الاستشراق بوصفه (صورة) يُسقطها الغرب على الشرق، وتعبيرًا عن إرادة التحكم فيه، فلن تصادفنا أية مفاجآت".

وقد تمكنت هذه الرؤية الاستشراقية الإسقاطية من إزاحة الحريم الحقيقي والحلول محله، حتى لا يكاد يصدق بعض المسلمين المعاصرين أن الصورة الحقيقية للحريم لا تطابق الحريم في التصور والأدبيات والأعمال الاستشراقية.

وإذا كانت هذه هي النتيجة المترتبة على الإسقاط الاستشراقي فماذا عن الإسقاط الذي يمارسه المثقف التراثي، الذي يستقي تصوراته عن المرأة من كتب الأدب التراثي أيضا؟

فالسؤال ذاته مطروح على المثقف التراثي: إذا كان اتصال المثقف التراثي بالمرأة المسلمة محدودًا زمانًا ومكانًا فمن أين استقى تصوراته عنها وكيف ساغ له تأبيد تلك التصورات وتعميمها؟

يمارس المثقف التراثي الإسقاط بصورة شبيهة وتكاد تكون أشد خطرًا ، وهي ليست بالصورة الجاذبة بقدر ما هي بالمنفِّرة، وإذا قلنا بأن المثقف التراثي المعاصر يمثل امتدادًا تاريخيًا معرفيًا وعمليًا للمثقف القديم، فلنعرض أولاً للطريقة التي تناول بها المثقف القديم موضوع المرأة، مع ملاحظة أن الإنتاج الأدبي لذلك المثقف يصور الحياة الاجتماعية والثقافية في ذلك الزمان وما قبله مما شمله المؤلفون بحديثهم. إذ تضمنت أخبار كتب الأدب المُلح ومجالس المسامرة والمناظرة مع ما شملته تلك الكتب من كلام عن العلم والأخلاق والممالك والإخوانيات والأديان والعادات وطرائق الناس في الطعام والشراب والزواج واللباس ونحوه .. فكانت تلك الكتب متعة المجالس ومروِحًا عن طلاب العلم وغيرهم، ويمكن القول أنها أشبه بدوائر المعارف أو كتب الثقافة العامة.

أما الطرائق التي تناول بها الأدباء القدماء موضوع المرأة والتي انعكست عليها سلبًا، فقد أشارت إليها الباحثة رزان الحكيم في بحثها المذكور، حيث ذكرت الباحثة تنبيهها السابق حول وجود الأحاديث الموضوعة في كتب الأدب القديمة والحديثة مما أدى إلى تشويه صورة المرأة في أذهان الناس ظنًا منهم أن هذا هو رأي الإسلام ورسوله، كما جعل المرأة تتساءل لاحقًا ما الذي غيره التصور الإسلامي للمرأة في النظرة الاجتماعية إليها؟ وهاهي آراء منتسبيه تساق معتضدة بالأدلة الشرعية!

وضربت الباحثة مثلاً لطرائق مؤلفي كتب الأدب بالحد الخامس عشر في كتاب (محاضرات الأدباء) للراغب الأصبهاني، الذي عنون له الراغب بقوله "في التزويج والأزواج والعفة والتديُّث" واستغرق ثلاثًا وأربعين صفحة كان يورد فيها المؤلف الأحاديث النبوية مع الآيات القرآنية مع نماذج من شعر ونثر قالتها العرب في موضوع الزواج، فيورد المؤلف أقوالاً لمشاهير الناس ومغموريهم ويورد بعضها بلا نسبة لقائل، سوى قوله "قال آخر". ومن المآخذ النقدية التي ذكرتها الباحثة على هذا الكتاب إيرادُ الغث والسمين من الأقوال مع النصوص الشرعية، إضافة إلى مآخذ أخرى تبين مرجعية المسلك الذي سلكه البرقوقي المعاصر في كتابه دولة النساء من رواية الحديث بالمعنى من غير ذكر اسم الراوي، وتجاور الحديث الصحيح والموضوع من غير بيان رتبة لأحدهما، ونسبة أقوالٍ لغير قائليها، كنسبة الحديث الموضوع لعلي أو عمر رضي الله عنهما وهما بالأصل أحاديث نسبت للنبي صلى الله عليه وسلم والعكس.

وإذا ما وجدنا من الأسباب الدافعة بمؤلفي ذلك الزمان لسلوك هذه الطرائق في التأليف ما يكفي لإعذارهم، فليس الأمر كذلك في حق أدباء هذا الزمان ومثقفيهم ممن سلك مسلك السابقين.

وليس ثمة ما يُسوِّغ إسقاط المثقف التراثي المعاصر لتلك الصور التي تضمنتها الأخبار االمذكورة في كتب الأدب وآراء المذكورين فيها عن المرأة وخصالها وطبائعها، على امرأة هذا الزمان.

أما أسوأ ممارسة إسقاطية يمكن أن تنتج عما ذكرنا فهي إعادة إنتاج التصور القديم للمرأة بوصفها كائنًا متهتكًا وجسدًا مرغوبًا ومسترذلاً في آن معًا كما في قبحيات الأصفهاني، وليس هذا من فعل المستشرقين ببعيد.

غير أن الأسوأ من الإسقاط نفسه هو استغلال طرائق الأدباء القدامى في الاستشهاد بالنصوص النبوية على النحو السابق. حيث قامت بعض النسويات بعرض الأحاديث الصحيحة والمكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم بنفس التخليط الأدبي السابق وأسقطت الصحيح منها بالمكذوب بدعوى تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن قولها، لتنتهي بصنيعها هذا إلى نبذ السنة جملة واحدة والاكتفاء بالقرآن وحده.

النسبية التاريخية بين النص الشرعي والنص التراثي


جمعًا لما عرضناه مفرقًا تحت العناوين الفرعية السابقة نُصنِّف ما وجهنا إليه النقد مما ذكر عن المرأة في كتب التراث الأدبي إلى ضربين، الأول: ما جاء في أخبار المجون والخلاعة مما لا يوثق بصحته. والثاني: ما جاء مختلطًا بالنصوص الشرعية الثابتة من نصوص ضعيفة أو مردودة ومن كلام الناس وآرائهم وتجاربهم . مما يحمل على التساؤل: هل تلك التركة الأدبية صالحة مطلقًا للاستمداد المعرفي وإصدار التعميمات؟ وهل هي مفارقة لزمنها أم أنها لا تتجاوز حدوده وتخومه؟

والحق أنه إذا كان القول بتاريخية النص الشرعي كتابًا وسنة من الأقوال المردودة شرعًا، فالقول بنسبية النصوص التراثية من كلام الناس ليس كذلك، فأهل ذلك الزمان محدودون بظرفهم الزمني والمكاني كما أشرنا، ولا يسوغ أو يصح سحب أحكامهم الذاتية وتجاربهم الشخصية مطلقًا على زماننا.

وإذا جاز لمثقفي التراث المعاصرين أن يحدثونا عن المرأة والعلاقة بين الجنسين بأعين أهل ذلك الزمان، مما يدخل تحت ما يوصف بالنسبي والمتغير، فليس لكائنٍ من كان تأبيد تلك التصورات والأحكام أو تخليدها بالأصح.

فلا يكاد يجادل مجادل في أن التركيبة الاجتماعية لذلك العصر تختلف اختلافًا كبيرًا عن عصرنا ولا تطابق ما سبقه أيضًا. فامرأة العصر العباسي الأبرز والأكثر حضورًا اجتماعيًا كانت المرأة الجارية ولم تكن المرأة الحُرَّة التي تراجعت مكانتها في ذلك العصر، حتى كان معظم أمهات خلفاء بني العباس من الجواري لا من الحرائر.

فما الذي حازته الجارية لتتفوق به على الحرة؟ وما الذي همَّش الحرة؟ وكيف انعكس تفضيل الجوار على الحرائر في ذلك الزمان على مكانة المرأة بصورة عامة؟

مع ملاحظة أن ظاهرة تفضيل الجواري على الحرائر بدأت بالبزوغ مع اختلاط العرب بشعوب البلاد المفتوحة والتسري بنسائها، أي في فترة سابقة على العصر العباسي ومما يذكره صاحب العقد الفريد أن ابن أبي عتيق دخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فوجده جالسًا بين جاريتين، وفي يد كل جارية مروحة تروح عليه بها فقال ابن أبي عتيق"إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم".

غير أن العصر العباسي شهد كثرة أعداد الجواري وانتعاش المتاجرة بهن فيما عرف بأسواق النخاسة مما انعكس، سلبًا على صورة المرأة ومكانتها حرّة كانت أم أمَة.

وينبغي أن ننبه إلى أمر مهم هنا وهو عدم الطعن في شرعية التسري وملك اليمين، وإن كان الشرع يتشوف للعتق كما هو معروف.

وإن كان من نقدٍ فيتوجه إلى "السَّرف" في اتخاذ الجواري، والسرف مذمومٌ ومنهيٌ عنه شرعًا فيما هو من قوام الحياة كالطعام والشراب فكيف بغيره.

كما يتوجه النقد لظاهرة النخاسة والانحرافات المصاحبة للمتاجرة بالجواري في العصر العباسي وما ترتب عليها.

أما عن العوامل المؤثرة في تفوق الجواري على الحرائر في ذلك العصر، ففيما يتعلق بالعلم فقد حازت الجواري قصب السبق، وكانت الجواري غير المتخَذات للخدمة يحفظن القرآن والشعر ويحضرن مجالس العلماء ويتلقين عنهم ويشاركن في المناظرات وبرع بعضهن فيها وذكرت أخبارهن في كتب الأدب على ما فيها من مبالغات، غير أن التعليم والتثقيف لم يكن لأجل الجواري ذاتهن ولا لغاية عُليا، بل ليرفع من ثمن السلعة ويسهم في ترويجها لدى علية القوم بخاصة، وحيث لم تكن الحرة بحاجة لهذا قيل بحقها:"لا يضرُّ حرّة جهلها".

وهذا التحول اللافت في قيمة العلم، جعل من الجهل أشبه بالفضيلة بمقابل العلم المتوسَّل به، وأصبح الجهل غير قادح في شخصية المرأة الحرة على أحسن الأحوال.

كما أن التهوين من شأن الجهل وعدم الاكتراث به في حق الحرة، كان سببًا ضمن أسباب دفعت بالرجال للميل نحو الجواري، ويذكرنا هذا بما ذكره ول ديورانت في قصة الحضارة عن اليونانيين في عصر (بركليز) حينما عزلوا النساء في الحريم ومنعوهن العلم والثقافة وقصروهن على أعمال المنزل لاعتقادهم"أن ذكاء المرأة يعوقها عن أداء واجباتها"، فباتت الزوجات"أقل ظرفًا ونضوجًا. عاجزات عن أن يكن رفيقات لأزواجهن، لأن عقول هؤلاء الأزواج قد امتلأت وانصقلت بتجارب الحياة المختلفة"، ولا غرابة والحال هذه أن ينصرف الرجل للبحث عن رفقة مؤنسة خارج أسوار بيته.

أما العامل الآخر لتدني مكانة المرأة فهو الانحراف المصاحب لظاهرة الجواري إذ أثَّر شيوع القيان (الجواري المغنيات) وبيوت اللهو في ذلك الزمان على صورة المرأة الشريفة كما ذكرت الباحثة ليلى حرمية في بحثها (القيان والأدب في العصر العباسي)، حيث لم يعد الشعراء يحتاجون برأيها إلى خوض معركة للفوز بنبيلة شريفة، فمع القيان "المطلوب معروض، والنيل ممكن!".

وأدى ابتذال المرأة وسهولة التمتع بها بهذه الصورة المثبتة في كتب الأدب التي تصور التاريخ الاجتماعي -بمقابل الكتب المصورة للتاريخ السياسي- أدى إلى إضعاف واضح لعاطفة الحب والهبوط بها إلى مستوى الشهوة الجنسية كما ترى الباحثة.

وهو ما تجسده أخبار ذلك العصر في دواوين الأدب أوضح تجسيد ورغم أن المصادر التي أفادت منها حرمية هي كتب الأدب نفسها، والتحليل الأخير يتعلق بمادتها، غير أنه يفيدنا هنا لا من جهة المصادقة على أخبار كتب الأدب بل من جهة بيان النسبية التاريخية لتلك النصوص المحدودة بعصرها، كما يفيدنا من جهة بيان أثرها على مكانة المرأة والقيم الأخلاقية. فحتى إن لم يك ما ذكر من تلك الأخبار واقعًا وكان فيه من الاختلاق والتزييف والمبالغات غير المقبولة ما فيه، فيكفي ما يستخلص بصفة إجمالية من قراءة تلك الأخبار في الجانب الأخلاقي من قبل القراء على اختلاف طبقاتهم.

فصورة المرأة لم تتشكل وفقًا للواقع الموثق فقط، بل أعيد تشكيلها في طور الكتابة زيادة ونقصًا، بترًا أو وصلاً... ونحوه، كما تشكلت تلك الصورة طورًا آخر بقراءة المكتوب وتمثله وتأوِّله وانعكاسه على صورة المرأة في العصور اللاحقة.

وإلا ففي العصور التي حكي أنها عصور انحطاط المسلمين وثَّقت الدراسات تناميًا في التراجم الخاصة بالنساء في تلك الفترة، كما سجلت الدوائر العدلية وثائق تبدي ضخامة أوقاف المرأة في مرافق النفع العام مما يطرح تساؤلات مهمة حول دقة الصورة التاريخية لمكانة المرأة المسلمة وحظها من التعلم والتعليم والمشاركة الاجتماعية على امتداد عصور الإسلام.

ولذا فتصحيح ما لحق بصورة المرأة في تلك العصور ينبغي ألا يتعثر بتقديرنا للتراث ولا بتقليلنا من أثره، وبعبارة أخرى ينبغي ألا يظل التصحيح رهين التردد بين التسليم بعدم عصمة الموروث والتعصب له، وإلا فكم في الكتب العلمية -التي تعلو الكتب الأدبية طبقةً- من تفسيرات تاريخية تبينت ظرفيتها وعدم دقتها كالتفسيرات المذكورة في الخلاف حول مسألة تفوق شهوة المرأة على الرجل، من فراغ المرأة وبطالتها وعدم معاناتها لما يشغلها عن أمر شهوتها وقضاء وطرها، أو تعليل ما يذكر حول ذلك التفوق بآراء الطب القديم من حرارة ونحوها مما لا يصادق عليه الطب الحديث.

والحق أن بث الوعي بخطورة تصدير صورة المرأة في كتب التراث على ما فيها من تشوه واضطراب من قبل مثقفي التراث، والسعي في مراجعة تصحيحية شاملة لصورة المرأة في تلك الكتب من واجبات الوقت، ومن حق الإسلام، والمرأة المسلمة على أهل الإسلام من ذوي الاختصاص كل في مجاله رجالاً كانوا أم نساء.



.


صورة مفقودة
 
أعلى