قصة ايروتيكية رولا الحسين - بعد ظهر يوم أحد

في وسط الغرفة، وعلى كنبة بيضاء، تتمدّد.

إنه ليس وقت الاسترخاء، ولا وقت غفوة بعد الظهر، إنه فعلاً بعد الظهر لكنها استيقظت لتوّها من نومها وانتقلت من سرير غرفتها بعد ساعة ونصف الساعة من استيقاظها ومشت إلى غرفة الجلوس ورمت بنفسها على الكنبة. لم تدخل الحمّام. لم تغسل وجهها. لم تُفرشِ أسنانها. فقط مشت الأمتار العشرة التي تفصل بين سريرها في غرفتها وبين كنبتها في غرفة الجلوس. وألقت بجسدها الثقيل عليها.

حافية القدمَين، تحمل بيدها الموبايل لتتأكّد من الوقت الذي تشعرانه يؤنّبها كلما نظرت لتطمئن إلى أنه لا زال باكراً، ولتتأكّد من الرسائل والاتصالات التي باتت تعلم أنها لن تصلها، وإن وصلت فإما عن طريق الخطأ وإما كانت أتفه وأبرد من أن تستطيع قراءتها أو الردّ عليها.

كانت قد تركت منذ مساء الليلة السابقة باب الشرفة مفتوحاً لتغير من جوّ الغرفة ولتزيل رائحة النوم منها. والآن أحّست بانزعاج لأنها لم تُعِد غلق الباب قبل أن تحتلّ الكنبة. صوت الخارج يُزعجها. العصافير، الهواء، حفيف أوراق الشجرة التي تحتلّ أسفل الشرفة، كلّها أصوات تجعلها تظن أنها في مكان آخر، وهي لا تريد ذلك. فتزعجها. وستمرّ دقائق طويلة قبل أن تنتشل نفسها مجدّداً لتصفع الباب في وجه تلك الأصوات الحقيرة.

على كنبة الشيز لونغ التي تقسم الغرفة المستطيلة إلى زاوية جلوس عند يمينها وزاوية تناول طعام عند يسارها، بدَّلت جلستها وأخذت وضعية الجنين ووجهها باتجاه يسار الغرفة حيت طاولة تناول الطعام المغطّاة بشرشف أحمر.هوى شعرها على وجهها. شمّت رائحته وشعرت بالرضى والأسى معاً. كانت راحته حلوة، فقد غسلته الليلة الفائتة قبل أن تنام ولا تزال الرائحة اللطيفة تُعِّشق فيه. من عاداتها أن تتفقّد جسدها لتسجّل في رأسها لائحة بكل ما تحتاج إلى أن تُعدِّل فيه كي تشعر بتحسّن. هي تكره الشعر الزائد، ولطالما حلمت بطريقة سحرية تُلغي كل الشعر غير المرغوب فيه بلمح البصر وإلى الأبد عن جسدها. من شأن الشّعر حين يكون زائداً أن يعكّر صفو لحظاتها كلّها وان يكون عائقاً أمام أي حركة قد ترغب في أي لحظة بأن تقوم بها ، كأنه يقيّد من إحساسها بجلدها ويغيّر مزاجها وشعورها بامتلاك الكلمة الناهية على جسدها. وستبقى سوسة ما تنخر في رأسها وتعكّر صفو لحظاتها إلى أن تقفز حاسمة أمرها بلحظة بعد طول تحضير نفسيّ وتفكير وتصوّر لإزالة هذا الشعر العنيد لتشعر براحة وحرارة تمتدّان أياماً طويلة.

لكنها اليوم لم تجد أي شعر زائد. كانت ناعمة تماماً كما ترغب دائماً، وكادت أن تعلو شفتَيها بسمةُ استحسان ومتعة، لولا أنها تأنّت بشأنها واستبدلتها بحسرة علت وجهها رغم هذا الرضى كلّه حتى على أضافرها المقلّمة والمطلية باللون الأحمر الداكن. كانت جاهزة تماماً وكما تشتهي أن تكون، والبيت كان نظيفاً وخالياً، لكن ذلك لم يكن كافياً لتبتسم.

استطاعت بعد هذا الكشف الدقيق أن تقذف جسدها لتغلق باب الشرفة على يسارها، وقد أراحها أن تتذكّر أن الشرفة نظيفة مثلها تماماً. انتقلت بنظافتها إلى المطبخ. تحب ان تلمس قدماها الحافيتان هذا البلاط البارد. برودته تجعلها تتأكد من نظافته، كما أن ذلك يزيد من إحساسها بالخفّة والصفاء معاً. أرادت أن تشرب الحليب الساخن مع الكورن فليكس. الوقت

ليس وقت فطور، لكنها استيقظت منذ قليل، ولن يكون في مقدار مزاجها أو معدتها هضم طعام الغداء. وهي منذ اكتشفت ظروف الحليب هذه، وهي تعتمدها كوجبة أولى لأكثر من سبب. بالطبع طعم الحليب الذي أحبّته هو أهم الأسباب، لكنها أيضاً حرصت على أن تتناول شيئاً صحياً بشكل يومي، فذلك يُشعرها بتحسّن لأنها بدأت تقلق بشأن مرض ترقّق العظام الذي يُصيب النساء في فترة متقدّمة من العمر. وبالرغم من أنها على وشك أن تصبح في الثلاثين من عمرها فقط إلا أن من شأن كوب حليب يومي أن يحميها من هذا الترقق الذي قد يحوم شبحه حولها يوماً ما. على الأقل هذا ما تقوله أختُها لوالدتها. غير هذا، أرادت أن يكون في يومها عادة منتظمة تثبّت من خلالها، ولو قليلاً، مفهوم الوقت لديها، وتُشعرها بقدرتها على الولاء لشي ما أياً كان هذا الشيء. وعادة شرب الحليب عادة سهلة لا تتطلّب الجهد الذي لا تستطيع تقديمه. لذلك اعتمدته كنظام غذائي وتقليد ثابت كان من شأنه فعلاً أن يشعرها ببعض الرضى.

ضغطت على زرّ تسخين المياه. أحضرت باليد الثانية كوباً أبيضا. تناولت مظروف الحليب الخالي من الد سم، أفرغت محتواه في الكوب. وضعت قليلاً من الماء البارد في الكوب لتذوّب بودرة الحليب بشكل كامل. سخن الماء، سكبته في الكوب فوق الحليب وأضافت السكّر، وحرَّكت بسرعة. كانت تقف على رؤوس أصابعها، وتستخدم كلتا يدَيها وتتحرّك بسرعة وكأنها تسابق أحداً. انتبهت إلى سرعتها فجمدت. عبست وقالت بصوت مسموع تؤنّب نفسها بلهجة ساخرة:

“لشو العجلة؟ شو رح تعملي يعني بعد ما تحضري الحليب؟ مين ناطرك برّا؟”

كان صوتها يزداد حدّة مع كل سؤال. ثم وبصوت منخفض:

“عندك كل الوقت. وما عندك شي تعمليه فيه “.

ثم صرخت”: فخلص… بَس !”

نظرت حولها للحظة، ومدّت يدها إلى شعرها بحركة خاطفة، ثم وبهدوء أكملت ما كانت تفعله. أخذت كاسة ووضعت فيها بعض رقاقات الكورن فليكس، وتقصدت أثناء ذلك أن تتحرّك ببطء، وأن تدندن لحناً لا تعرفه، فقط لتوحي بأنها غير مستعجلة. وكأن المرأة التي صرخت في وجهها منذ لحظات لا تزال تراقبها.

اتجهت الى غرفة الجلوس. تموضعت من جديد على الكنبة نفسها. كنبتها. ممدّدة الساقَين باتجاه التلفزيون. أتت بوسادة مربّعة وضعتها على ساقَيها، ثم وضعت الصينية على الوسادة. بيدها اليمنى أمسكت الريموت كونترول لتُشغِّل التلفزيون. لم تكن ترغب بالمشاهدة، لكنها عادة عقيمة اكتسبتها كعادات أخرى كثيرة. لم تكن ترغب ببذل أي جهد، فاختارت قناة تعرض كليبات أغانٍ بشكل مستمرّ.

بدأت تتناول وجبتها بالطريقة اليومية نفسها. تشرب نصف كوب الحليب، ثم تضع رقاقات الكورن فليكس في الحليب المتبقّي وتتناولها بالملعقة. أي أنها تشرب نصف الحليب، وتأكل النصف الآخر. وهذه المتعة تستغرق عشر دقائق فقط. كانت تحاول المماطلة قدر المستطاع، لكنها لا تحبّ شرب الحليب أو أكله بارداً. لذلك، ربع ساعة هو أكثر ما قد تستغرقه هذه المتعة. وكانت تحاول تكرارها مرّة أخرى في المساء. انتهت العشر دقائق بسرعة أكبر من الطول الحقيقي للعشر دقائق. وضعت الصينيّة على الأرض لأنها لم ترغب بمغادرة مكانها، ولا بغسل يدَيها. تكره المياه وتتمنّى وجود سائل ما أو وسيلة أخرى كحبّة مثلاً، تفعل فعل المياه، فالمياه تغير مزاجها. ومزاجها الآن جاف وناشف، ولا ترغب بترطيبه أو إنعاشه. لا حاجة أصلاً إلى مثل هذا الانتعاش الآن. شأنه شأن صوت العصافير في الخارج. ما الحاجة إليه في هذا المكان تحديداً. لكنها مسألة لا تنتهي. فحتّى إذا ما قرّرت عدم الاغتسال أو الاستحمام، فصوت ما في رأسها سيزنُّ طوال الوقت كعصفور غبيّ مزعج، ليؤنّبها، لأن فتاة مثلها عليها أن تستحمّ كل يوم. يجب على الفتيات أن يكنّ نظيفات. هي تحبّ النظافة، لكنها لا تشعر بأن المياه هي الوسيلة الوحيدة، ولا تظن أنها متسخة أصلاً. أخرجت لسانها من فمها، ولحست شفتَيها مرَّتَين. لا داعي لأن تغسل فمها الآن. انتهت المسألة.

بد أت تفكّر كيف سيمرّ هذا اليوم، مُطلقةً العنان لشتم العُطَل ولصبّ جام غضبها عليها.

عطلة أسبوع لئيمة ستزرعها على كنبة تتّسع لأكثر من جسد وللكثير من الخيبات و ستجعلها تبكي على طبخة فشلت قد امضت نصف نهار في تحضيرها، وعلى طبخة أخرى قد تنجح وستتناولها بمفردها، ثم ستجعلها تبكي على هاتف لم يرنّ، وباب لم يُطرق، وشبّاك لا يطلّ على شبّاك مقابل، وستائر لم تُعلَّق لأنه لا يوجد من يعلِّقها. وعلى ثقب في الجوارب وعصفور طار عن الشرفة. عطلة أسبوع ماكرة تفنّنت على مدار أيام الأسبوع الخمسة السابقة في ابتكار تفاصيل لتُفهمها أنها شخصية افتراضية تعيش حياة افتراضية تختار لها أفلاماً خاصة لتعمِّق إحساسها الثقيل بيدها المتيبّسة على صدع في الرأس.عطلة سيُعزِّيها فيها افتراض وجود أشخاص مثلها في منازلهم وعلى أ سرّتهم وأمام تلفازهم وأفكارهم، وكأن لغة سرّية تجمع بينها وبينهم هم المتضرّرون وتتبلور في سبيل تشكيل نادٍ لتوقيف تلك العطل عند حدّها.


تذكّرت أنها مدعوّة، كبقية زملائها في العمل، إلى عشاء سنوي تقيمه المؤسسة التي تعمل بها كفرصة للقاء خارج النطاق الرسمي. وإذا كانت تريد الذهاب حقاً، فعليها أن تنهض في الحال لأن العشاء في الساعة السابعة، وسيلزمها وقت للاستحمام) إن قرَّرت أن تستحمّ (ووقت لتختار ما سترتديه، ولتتزيّن، ثم القيادة حوالي الأربعين دقيقة للوصول إلى مكان العشاء.

لم تكن تعلم مَن مِن زملائها المقرَّبين سيلبّي الدعوة، ولم تكن تريد أن تتصل بأحد كي لا يشكّل ذلك عاملَ ضغط عليها كونها لم تقرّر بعدُ ذهابها من عدمه.


بدأت تحسب. يلزمها عشرين دقيقة لتستحمّ، وثلاثين دقيقة لتجهز، ثم أربعين دقيقة لتصل، أي ساعة ونصف الساعة. إنها اللحظة المناسبة لتقفز وتستعدّ. قرّرت إلغاء مسألة الاستحمام وارتداء ملابسها فوراً. ذهبت إلى غرفتها بحماسة نسبية. ليست في مزاج ارتداء فستان. سترتدي جينزاً، وجزمةً سوداء عالية، وبلوزة رقيقة ليلكية اللون بلا اكمام ، ومعطفاً أسود، ستخلعه عندما تصل. غيرت ملابسها الداخلية، واختارت لوناً كلون البلوزة، ثم ارتدت جينزها والجزمة السوداء وبقيت عارية الصدر أمام المرآة. لم يُرضها ما رأته: وجهها قديم وخشن. ألقت نظرة امتعاض: “مش رح روح.”

خلعت ما لبست ونظرت مجددا في المرآة. حكّت كتفها بأظافرها فقشرت طبقة من الدهن الأسود علق بين أصابعها وأظافرها. حدّقت بوجهها، رأت شعرة بيضاء شعّت في الجهة اليسرى من رأسها. امسكتها، تأمّلتها جيّداً، كيف لم تلاحظها من قبل؟ متى ظهرت؟

هل تنبت بيضاء ثم تنمو؟ أم تنمو ثم تبيضّ؟ وتذكرت احدى ليالي رأس السنة البعيدة حين كانت في السابعة من عمرها وصحبتها والدتها معها إلى مصفِّف الشعر ، وسعدت جداً تلك الليلة لمشاركتهما ذلك الحدث النسائي السحري. و أحبّت تصفيفة شعرها الطويل الناعم والغرّة القصيرة المائلة إلى الجهة اليمنى من رأسها. كانت تنظر بامتنان إلى والدتها، ثم تنظر في المرآة لتتأكّد من أنها باتت تشبهها الآن بعدما صفَّفت شعرها مثلها. سارتا في الشارع عائدتين الى المنزل كسيّدتَين أنيقتَين تتشاركان الكثير. في المنزل قبل الإنطلاق الى مكان السهرة دخلت الأم لترتدي ملابسها بعدما طبعت قبلة على خدّ ابنتها الواقفة على كرسي تراقب شعرها أمام المرآة. أزعجتها شعرة عنيدة تميل في الاتجاه الآخر. حاولت أن تضغط عليها بيدها فلم تنجح. بلّلت يدَيها بالماء ووضعتهما على الغرّة لتلين تلك الشعرة، لكن الماء أفسد كل شيء. شعرت بوخز موجع في معدتها، وكانت تلك المرّة الأولى التي تعاني فيها من هذا الانكماش الذي سيستمرّ معها مدى الحياة. حزنت ليس على الغرّة، بل على والدتها من الخيبة التي ستسبّبها لها. أطلّت الأم برأسها ورأت حزن ابنتها وغرّتها، فألقت بنظرة عتب طفيفة. بكت الطفلة بصمت دون أن يتوقف الوخز في معدتها. هدّ أتها الأم بلمسة على خدّها، ثم مدّت يدها على شعرها وبلحظة واحدة وبلمسة سحرية عاد كل شيء كما كان.

كان يكفي أن تضع يدها على شعر ابنتها لتصبح الحياة جميلة مجدّدا.

علت وجه الطفلة ابتسامة عريضة، وعلا وجهها هي دموع غزيرة فيما لا تزال تنظر في المرآة. ماذا ستفعل والدتها الآن بشأن هذه الشعرة البيضاء العاهرة؟ كيف ستجعلها تختفي؟ أي لمسة من والدتها ستعيدها أجمل بنت في العالم؟ غطست تحت المياه وسالت كل الأفكار والأسئلة مع المياه وأخذت طريقها الى مصرف المغطس.



.


صورة مفقودة

مغتسلة تسرح شعرها Auguste Renoir
 
أعلى