الناصر التومي - شبهة المحظور في إبداعنا

إذ مر بك حديث في إفصاح يذكر عورة أو فرج أو وصف أو فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدك، وتعرض بوجهك، لأن أسماء الأعضاء لا تؤثم، والتأثم في شتم الأعراض، وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب.
(الحافظ الدينوري)

بداية من مسيرتي الأدبية، تعرضت إلى معضلة أو إلى شبهة المحرم، أثناء تعاملي مع الأجناس الأدبية، كالنص المسرحي، بداية، فالقصة القصيرة فالرواية لاحقا.ولعل العشر سنوات الأولى لم يكن الوازع الديني يمنعني من التطرق إلى التيمات المنكورة أو المحظورة، لذلك وجدتني أثناء وضع بعض النصوص المسرحيةـ كالملائكة والشيطان ـ المفقودة وـ الخسوف ـ وقرطاجيات ـ وعليسا وأنياس ـ، التي أصدرتها لاحقا تباعا، أن أخوض في ما يخالجني من آراء ككائن طليق من كل روابط دينية، وإن كنت تابعا لمجتمع إسلامي محافظ في إشكالية الألوهية، وحرية المعتقد، فإذا بي أصطدم سواء من قبل لجان القراءة بوزارة الثقافة، أو حتى المشرفين على الفرق المسرحية، بأنني أدعو إلى الكفر، أو تجاوزت الخطوط الحمر، مع أن المسرح الإغريقي والروماني وحتى المسارح الأوروبية أثناء عصر النهضة، التي أبهرت ألباب مثقفينا، لا يستنكرون ما يورد بها سواء عقيدة وثنية أو نصرانية أو حتى الكفر بكل الأديان، خاصة في القرنين الأخيرين، لما تخلصت أوروبا من هيمنة الكنيسة.وحتى إثر تديني منذ أكثر من ثلاثين سنة وجدتني أضع قصة بعنوان ـ بربتوة وفرجة الموت ـ المدرجة حاليا بمجموعتي القصصية ـ حكايات من زمن الأسطورة ـ وأرسلتها إلى إحدى الصحف ليعلمني المشرف على الصفحة الثقافية بأنه يأسف لعدم نشر هذا النص الذي يدعو إلى النصرانية، فكانت إجابتي بأنه نص أدبي يحكي بداية انتشار النصرانية على أرض البروقنصلية القرطاجية منذ ثلاثة آلاف سنة، ولا علاقة له بالدعوة إلى النصرانية، وذكرته بأن النصوص الإغريقية والرومانية التي يضعها العالم في قمة الإبداع تسرد العصر الوثني، لكنه أصر على رأيه ولم ينشر هذا النص، واحتضنته مجلة المسار لاحقا.هذا من ناحية التعامل مع النصوص ذات المبحث الوجودي العقائدي، أما النصوص التي تتضمن مشاهد جنسية فحدث ولا حرج، ولعلي تجاوزت حدود الثقافة الإسلامية الكلاسيكية، فحذرني أستاذ زيتوني، من أنني قد أزج بنفسي في أتون السؤال المهلك يوم الحساب، جراء تصويري لمشاهد جنسية تروج لعموم القراء، مع أنني أتفنن في استغلال الإيحاء والتورية على الصريح والمباشر. ففي الحديث النبوي بما معناه: قد تخرج كلمة من أحدهم ترميه في جهنم، هذه الكلمة قد تكون قيلت شفاهيا في حق أحدهم، فما بالك بكلمة أو فقرات أو صفحات أو كتاب بأكمله، تتطلع عليه أجيال متلاحقة، فكل من اقتنع بها له وزر، وصاحب الكلمة الأصلي يجني أوزارهم كلها لا ينقص منها شيء.وهنا يبرز سؤال جوهري، هل فعلا كتابة المشاهد الجنسية دون ذكر العورات هو من المحرمات، قرأنا القرآن عديد المرات، فما عثرنا على ما يفيد ذلك، وما وجدنا في أسفار الأولين من العلماء والفقهاء ما يمنع ذلك، باستثناء لاءات فقهاء جدد، يعترضون على التطرق إلى علاقات الرجل والمرأة في الأدب خارج الأطر الشرعية وحتى الأحاديث النبوية ضنينة بذلك.لكن لو رجعنا إلى بعض المصنفات الجنسية العربية القديمة لوجدنا أن أصحابها من العلماء الأفذاذ في علوم القرآن والحديث والفقه والأدب، وكانوا من الجرأة ما لا يقدر عليه كاتب الآن جراء المعارضة لمثل هذه المصنفات مثل:
ـ طوق الحامة في الألفة والألاف ـ لابن حزم الأندلسي، الذي يعد من الفقهاء التسعة على امتداد التاريخ الإسلامي.
ـ الروض العاطر في نزهة الخاطرـ للشيخ أبي عبد الله محمد النفزاوي، وقد استفتح المحقق تقديمه للكتاب باستهلال، للإمام الحافظ قتيبة الدينوريـ إذ مر بك حديث في إفصاح يذكر عورة أو فرج أو وصف أو فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدك، وتعرّض بوجهك، لأن أسماء الأعضاء لا تؤثم، والتأثم في شتم الأعراض، وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب.
ـ الكتاب الثالث هو نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، تأليف أحمد التيفاشي تحقيق الدكتور جلول عزونة، وصاحبه تعلم بالزيتونة، فالأزهر الشريف، فدمشق، ولما عاد إلى بلده تولى قضاء مدينة قفصة. وللتيفاشي كتب أخرى في هذا المجال مثل ـ قادمة الجناح في آداب النكاح ـ وله مؤلف آخر ـ رجوع الشيخ إلى صباه في القوة والباه.
ـ أما الكتاب الرابع فهو ـ الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين ـ لحافظ مغلطاي، وهو مصري من أصل تركي عاش في القرن الثاني عشر مسيحيا، درّس الحديث في القاهرة ودمشق.
الكتاب الخامس ـ تحفة العروس ونزهة النفوس للشيخ عبد الله التيجاني ـ الذي ترأس دواوين أبو يحيى زكرياء اللحياني الموحدي.
ونجد للشيخ العابد عبد الرحمان السيوطي، عديد الكتب، نذكر بعضها ـ الإفصاح في أسماء النكاح ـ الزنجبيل القاطع في وطء ذات البراقع، والمستطرف في أخبار الجواري ـ الوشاح في فوائد النكاح ـ ، وغيرها من عناوين لا يسمح المقام بذكرها.
وقد نضيف إلى هذه الكتب
ـ المستطرف في كل فن مستظرف ـ، لشهاب الدين محمد الأبشيهي الذي أورد بالجزء الثاني فصولا في وصف كل ما يتعلق بمفاتن المرأة.
فكل هؤلاء الأدباء الفقهاء شيوخ علم، تطرقوا إلى مواضيع الجنس دون مواراة، بنقل أخبار من وقعوا فيه، وإعطاء النصح من الناحية الدينية أو الطبية، فهل هم مخطئون آثمون، ويتجرأ الحافظ الدينوري فينبئ بأن ذكر العورات عموما شفاهيا أو كتابة ليس بآثم، وبعد ذلك نجد من يحصي علينا مشاهد جنسية في كتاباتنا، ويهددنا بالويل والثبور، رغم أننا استعملنا الإيحاء والتورية، نابذين الإفصاح والوضوح. لعل بعضهم لا يرى ما نعا في أن نصنف مثل تلك الكتب الجنسية للخاصة وأنا منهم، ونبتعد بها عن العامة، لكن هذا كلام مردود في الواقع، فما يكتب يصبح ملكا للعامة جميعا، ذكورا وإناثا كبارا وصغارأ. أذكر وأنني خلال تعاملي مع مجلة المغرب سنة 1989 اطلعت على عدد من النصوص الشعرية والمقالات التي استعملت المباشرة، في التعامل مع الجنس، ونالت من الرموز الدينية القديمة والمعاصرة، وانتقصت من الدين، وتهكمت على بعض تشريعاته. فحررت مقالا بعنوان ـ قراءات في الاستفزاز بالنص المرفوض في لفظه وصوره، وشملت كتابات كل من حسونة المصباحي، ورضا الملولي والمنصف بن حسين، وسليم دولة، حيث بدت لي أولا في ذلك الظرف تسمية الأشياء بأسمائها من الوقاحة، وثانيا الخروج عن السائد، تحت شعار ـ خالف تعرف ـ، ورأيت في بعضها تحاملا على الدين ورموزه والأخلاق الحميدة، وقد علق أولاد أحمد بالبنط العريض أسفل المقال بفقرات أهمها أنني أتظاهر بالتقوى. ولعل هذا المنحى الأخير لا يزال قائما في جل كتابات هؤلاء، وإن تحفظت بالنسبة للتطرق للكتابات الجنسية، بعد اطلاعي إثر ذلك التاريخ على هذه النوعية من الكتابات من قبل فقهاء وأدباء كبار عبر تاريخنا العربي الإسلامي. لكنني لا زلت أصر على أن الأفضل أن تدرج الكتابات الجنسية في مدونات خاصة، يقتنيها من يريدها، ولا تدرج في الصحف والمجلات الدورية، كما إني أفضل الإتيان على المشاهد الجنسية بالإيحاء والتلميح، وبفن، فالمباشرتية ضد الإبداع. ولقد تزامن المقال بمجلة المغرب مع مسلسل مقالات للكاتب زياد كريشان بعنوان من تاريخ الجنس في الإسلام، وكذلك مقال سليم دولة ـ الإفصاح في تسميات النكاح ـ ومن أجل ذلك تمت دعوة كل من مدير المجلة ـ عمر صحابو ـ والكاتبين المذكورين إلى النيابة العمومية للتحقيق معهم بتهمة التعدي على الأخلاق الحميدة. ورأت الصحيفة أن تورد بغلاف المجلة إشارة لمقالي عنوانا للإثارة ـ مثقف إسلامي يعقّب على ملف الجنس ـ مع أنني لا أعد غير كاتب رأى في الكتابات الجنسية بالصحف والمجلات سواء من خلال النصوص الإبداعية أو المقالات هو نوع من الاستفزاز للعامة وانتهاك للذوق السليم، وإن وسائل الإعلام من المفروض أن تكون خالية من هذه المواضيع التي مكانها مصنفات خاصة يقتنيها من يرغب فيها. هذا وفي نفس عدد المجلة كان رد فعل أولاد أحمد ـ كبيرا بعنوان ـ محكمةـ ندد فيه بالتهم الموجهة لمدير المجلة وكريشان ودولة، أما في العدد الموالي فقد أتحفنا رضا الملولي بمقال بعنوان ـ محاكمة الرأي والحرية المغدورة ـ ندد فيه بالقضية المطروحة ضد المجلة وكاتبيها وفي حاشية المقال صلاني بأوصاف ـ كالواعظ الديني ـ وتوعدني بنقد كتابي الوحيدين يومها ـ كل شيء يشهق ـ وليالي القمر والرماد، ـ ولم يفعل، واتهمني بأنني لا أفهم النصوص إلا إذا توفرت لدي والشروح والحواشي. أما رضا الخليفي فاتهمني ضمن مقاله بهذا العدد بقوله ـ يا سيدي من اختارك وصيا على أخلاق شعب لم يرتق إلى ما بلغته أنت من مراحل النضج والاكتمال، فهل سيكتمل وعيه إذا اعتبرته قاصرا، واعتمدت له الرؤيا، مؤبدا بذلك واقعه الأخلاقي والثقافي البائس المرتكز على الحرمان والعدوانية والنفاق. واختتم: ماذا عسانا نفعل بكتابات بشار وأبو نواس والمعري وابن حزم، وبودلير والطيب صالح وغيرهم، هل نحبسها مؤقتا على الصفوة المختارة، وحتى إذا ما خلا لنا الجو نبعثها للنار، وأضاف بأنني أنتمي إلى الأصوليين.. ولعلني في رواية النزيف قد تجرأت وصورت بالتشبيه والإيحاء مشهد اغتصاب إحداهن لرجل مخمور، وبعض المشاهد الأخرى التي رأيت أنها موظفة، ولما عرضت المخطوط على الصديق الأديب أبو بكر العيادي، قال بأن تلك المشاهد هي التي أنقذت الرواية من السقوط، ولما طبعت الرواية واطلع عليها الصديق المرحوم رضوان الكوني أسف لوجود هذه المشاهد التي كان يمكن الاستغناء عنها حسب قوله، دون أن تفقد الرواية إشراقها، نكتشف هنا اختلاف القناعات حتى بين كبار الكتاب والمثقفين. أثناء مطالعاتي لأحد الدراسات المترجمة عن الأدب الغربي عثرت على كتاب مترجم عن الفرنسية بعنون ـ الحب والغرب ـ للكاتب دونيس دي روجمون ـ واستهل الكاتب تحليل القصة الشهيرة في الأدب الغربي ـ تريستان وإزوت ـ والتي تعد من الأساطير الغربية مما دفع بالموسيقار ـ فاقنرـ لإعدادها أوبيرا ت لا تزال تعرض إلى يومنا هذا. وما شدّ انتباهي إلا شيء واحد هو حكم الناقد على العلاقة الغير شرعية في هذه القصة الأسطورة بأنه عمل زنى ويضيف الكاتب: ـ يبدو لمن يحكم علينا من خلال آدابنا أن الزنى عمل من أبرز الأعمال التي يقوم بها أهل الغرب. ويضيف لاحقا: ـ لولا الزنى ما كانت تكون آدابنا بأجمعها، إنها تعيش أزمة الزواج ومن المحتمل أيضا أنها تغذيها، إما بالتغني نثرا او شعرا بما يعتبره الدين جريمة والقانون مخالفة. ويضيف بأن أحد الشراح لهذه القصة الأسطورة يعرفها بملحمة الزنى ويعلق مؤلف الكتاب ـ لا شك بأن التسمية صحيحة ـ ويضيف حقا إن هذا المجتمع انحل منذ زمن طويل وقد شهد شاهد من أهل الغرب الذي نقتدي به فكريا وأدبيا وفنيا في أغلب الاوقات








صورة مفقودة

Léon Gérôme -Bath
 
أعلى