زينب المشاط - الرواية العراقية والايروتيك الجلوس في حضن شهريار

طلبت من سائق التاكسي أن يتوقف. اعتذرت وانقدته أجرته كاملة رغم أن وجهتي كانت أبعد بكثير من نصب شهريار. كان الوقت ظهيرة دافئة وهذا المكان من شارع ابو نواس يخلو من المارة ما يتيح لي النظر بتفحص هذا الرجل الشهير الذي لا يشبع من النساء.
هذه الرغبة التي تملكتني سببها أنني رأيت قبل أيام صوراً لصديقاتي مع شهريار الأسود هذا، فواحدة كانت تجلس بحضنه، وأخرى تتعلق برقبته، وثالثة تحاول أن تقبله.
لو إعتبرنا نصب شهريار لمحمد غني حكمت التعبير الايروتيكي الوحيد في بغداد، فإن الرواية العراقية في الحقيقة ابتعدت تماما عن مفهوم الأدب الإيروتيكي بل أنها أعطت الكثير من النماذج الساذجة عن الجسد ولغاته والجنس وفنونه وتكاد أغلب الروايات تطرح نموذج المرأة العاهرة وايضا المرأة المثيرة التي أما أن تكون أرملة أو زوجة ماجنة كما أن الفعل الجنسي لا يخرج كثيرا عن الحرمان والتعطش والامراض الشرقية المزمنة.
في كتب مثل دلتا فينوس لأناييس نن، ومدار السرطان لهنري مللر، وامتداح الخالة لماريو بارغاس يوسا نقرأ أدبا إيروتيكيا غاية في الجمال والإيحاء وهذه الكتب هي عينة نتداولها من بين الكثير من الإرث الأدبي الإيروتيكي العالمي منذ الإغريق والى عصرنا الحديث وهي لا تقصد الإباحية المجردة وإنما الفن بأعلى تصوراته وتشكلاته ذلك لأن الجسد وكماله وروعته من الموضوعات الاثيرة التي درج الانسان منذ أن سكن الكهف إلى التعبير عنها كمعرفة تتصل بوجوده الإنساني على الارض وهي مرحلة سبقت المعرفية الدينية في اصولها السماوية ومهدت للكثير من العلوم التي أهمها الفلسفة.
قضية الكتابة الايروتيكية في الحقيقة لا تتصل بالمتاح وغير المتاح ولا بالتابوات وامكانات كسرها كما يظن كتّابنا بل في وعي الكاتب العراقي وقدرته الابداعية فكل مالدينا من مشاهد جنسية متحققة في الرواية العراقية هي ليست أكثر من أغراض حياتية موجبة، تمليها المحاكاة، أو تركيبة الشخصية والنص، وهذه في غالبيتها تكشف عن نوازع شبقية غير مؤطرة بالتأويل وسحر النشوة وحين لا يعجنها الفن فسوف تسقط في هوّة التقزز أو على أقل تقدير تكون شاذة مثل القبلة في السينما العربية وتشبه أيضا التعليقات الانتقامية العنيفة وغير المبررة على فساتين الفنانات والنيو لوك الذي يظهرون به بين الحين والآخر.
الروائي شاكر الانباري يفرق بين مفهوم الأدب الإيروتيكي وقضية تناول الجنس في الرواية، فهو لا يعتقد بوجود رواية إيروتيكية (يقصد عراقيا)،"لكن في أحيان كثيرة يتم تناول الجنس في الرواية كخلفية كاشفة للشخصية أو العلاقة بين الشخصيات بحيث يمكن الاستفاضة في قراءة العلاقة الجنسية أو توصيف الجسد وعلاقته بدوافع الأشخاص خلال الحدث، ويمكن ايراد كتابات هنري ميللر كمثال إذ تناول هذا الجانب بوضوح في رواياته".
ويضيف الانباري"من خلال تجربتي الشخصية في كتابة الرواية كنت اعتبر الجنس او لغة الجسد جزءا من الحدث لذلك لا أتحرج من تناوله خدمة للتصعيد الروائي أو لمزيد من كشف البواعث وراء ما يظهر على السطح".
ويعتبر الانباري المبالغة في تجسيد الفعل الجنسي نقطة ضعف في العمل كونه يتحول إلى استعراض سطحي للكائن البشري، خاصة وأن الجنس كجنس محض موجود ومبتذل في المواقع الإلكترونية.
في ألف ليلة وليلة لا يوجد أي نوع من الابتذال بل على العكس كل المشاهد الجنسية مصاغة بعذوبة وجمالية شعرية مع اضفاء نكهة بلاغية غاية في الجمال والدقة، الأمر الذي يبعد المهانة عن الجنس ويرفعه من الجانب المحرم الى الجانب الشرعي باعتباره فنا إنسانيا رفيع القيمة ومكمل لمشاعر الحب فلماذا لا نكتب أدبا من هذا النوع ولماذا نرى الابتذال في العلاقة الجنسية في حين انها اساس الوجود والحياة ولا نعطي الجانب الديمومي والجمالي حقه؟.
لا يوجد في تجربة وارد بدر السالم الكتابية السردية أي توجه ايروتيكي بمفهومه الفني ولكن هناك لمحات عابرة يتطلبها النسق السردي في بؤرة ما لخلق هدف معين منها، وهو كما يقول السالم"هدف فني في مجمله وليس إغوائياً أو إغرائياً مجانياً".
ويقول وارد بدر السالم عن هذا"ليس الإيروتيك بمعناه الحصري الذي نتداوله، نسقاً عابراً في الثقافة العربية عموماً ؛ ولا هو ابتكار لغوي وصوري محدث أو غريب على الأدبيات العربية القديمة المعروفة بجرأتها في هذه الموضوعة والتي استبقت عصورها الأدبية والمعرفية بكثير من الأشواط، لكن مثل هذا الموضوع يتجدد عادة، ليبدو دائماً وكأنه من المحرمات التي ينالها الحظر أو التوبيخ أو تُرفع عليها العصا الدينية كنسق مفروض له أحقية الاعتراض فتخرج مفاهيمية التعليمية والسماوية والوضعية واجتهادات فقهائه، ومثل هذا التصور أيضاً يكاد يضمحل بشيوع أنواع الانفوميديا والميديا والاتصالات العملاقة".
ويتابع مدافعا"تبقى الكتابة عن الايروتيك أمراً متجدداً لكن بوسائل فنية تخضع لقدرة السارد او الشاعر على تبني هذا النوع من الكتابة وإخضاعه لشروطه الفنية والمهنية التي تتطلب الكثير من المهارات الفردية على وجه اليقين، الإيروتيك ثقافة إنسانية قديمة تفصح عن مجتمعيتها وأنساقها الأخلاقية والثقافية والتراثية المحلية وعاداتها ونظرتها الى الجنس والشبق والمرأة والمجون والتهتك، ومن المؤكد إن عصور ما قبل الإسلام شاعت فيها مثل هذه المعطيات شعراً على وجه الخصوص، بل شاعت حتى أكثر من ذلك التاريخ في العصور اليونانية بشكل خاص عبر الفنون النحتية والشعرية والملاحم المعروفة. الايروتيك ليس أمراً خطيراً كما يريد أن يشيعه فقهاء الدين ولا هو انتهاك للجسد الإنساني ولا يمكن أن يكون بموقع الرذيلة كما يصورونه، إلا إذا استثنينا بعض الكتابات التي تتقصد مثل هذا لكسر التابوهات الأخلاقية الخارجة من النظام الديني المتزمت. وبعض الأفلام السينمائية البورنوية التي تتقصد الإثارة وإيراد المتعة المجانية الساذجة".
هذا الدفاع عن الايروتيك الذي يورده السالم هو موقف صائب فالجنس هو من اهم المعارف الانسانية وتتصل به الكثير من الوجوديات العميقة كما ان الحياة برمتها قائمة على الترغيب بالجنس لأنه الجوهر الاساس للحفاظ على الخلق ولكننا لا نفهم لماذا يتقيد الروائي العراقي بالنسق السردي ولا يخوض التجربة الايروتيكية كاملة باعتبارها فنا عظيما؟.
الروائي برهان الشاوي توغل في عالم الايروتيك والجنس باعتباره تابو وتحريما اجتماعيا تتكثف فيه كل أشكال القمع النفسي والأسري والمجتمعي.
ويعتبر الشاوي الجنس"طاقة غامضة تجذبنا إلى مدارها ولا نستطيع الافلات منها لذا فأن الجنس والبحث فيه كرغبة وكفكرة للخطيئة، كاغتصاب أو زنا محارم أو كبت يشكل أحد البؤر الأساسية في السردي الروائي عندي".
هذه الاشياء التي يذكرها الشاوي هنا هي بالتأكيد افعال يستطيع شهريار الأسود هذا فعلها بدم بارد والحقيقة أن محمد غني حكمت جسد بصدق هذا التباين بين الحقيقة المخفية وبين الاتكاء الجميل على الفكرة العربية الدارجة عن الجنس فنحن حتى مع انفسنا نخاف الجنس باعتباره فعل تعرية ونخافه لشبهة في الحرام وبالتالي فالرواية العراقية تخافه ايضا لأنها تحسب حساب السلطات الدينية والمجتمعية وحتى السياسية.
وأنا امام شهريار تفهمت لماذا صديقتي الشيطانة جلست في حضنه فانا ايضا نظرت يمينا وشمالا قبل أن ادرك أن شيئا خفيا في اعماقي السحيقة يدعوني إلى الرقص.


.

صورة مفقودة
 
أعلى