خولة الفرشيشي - دعوات إلى ممارسة الحب في التراث الغنائي التونسي

لا تستغرب حينما تسمع أغنية تتحدث عن مشاعر عاشق يعيش الوجد ويصف مفاتن حبيبته بدءاً من شعرها فعينيها فثغرها وصولاً إلى نهديها وخصرها، متمنياً تقبيلها أو يدعوها إلى تقبيله وممارسة الحبّ معه. فقد تكون هذه أغنية من التراث التونسي لا تزال تجد صدى في عصرنا الحالي.

استطاعت أغاني التراث التونسي أن تخترق وجدان التونسيين إلى اليوم. ويعود ذلك إلى ثلاثة عناصر أساسية: اللحن الذي يقوم على الإيقاع الفلكلوري الراقص، اللهجة العامية غير المتكلفة أو المتصنعة، والدلالات الاجتماعية التي تتضمنها كلمات الأغاني والتي تعبّر عن الواقع اليومي المعيوش بكلّ تناقضاته.

مشاهد غنائية إيروتيكية

ويعتبر الجنس أحد مواضيع الأغنية التراثية ولكن الأغاني تتحدث عنه بطريقة غير مباشرة وبعيدة عن الفجاجة.

في بعض الأغاني إيحاءات جنسية ومشاهد إيروتيكية لا تخلو من الجرأة، فقد تحايل الأسلاف في اختيار الكلمات ليصل المعنى بشكل لا يخدش الحياء العام. فيصبح الحبيب على سبيل المثال خالاً من الأخوال أو أخاً من الإخوة أو غزالاً...

وهناك الكثير من الأغنيات التي سُمّيت “خالي بدلني”، “على ولد الخالة”، “لسمر خويا”، “فراق غزالي”. ومن جانب آخر، تصبح تفاصيل الجسد سلّة غلال متنوعة، النهود فيها رمان وخوخ والخدود تفاح والفم حبّة كرز.

ومن هذه الأغاني أغنية تراثية أعاد غناءها الفنان التونسي شكري عمر الحناشي ومطلعها "داني داني دندانة، خوخ ورمان في السواني الرويانة، جات الزينة هبت كالنسمة علينا ريحة بنينة تردّ الروح الولهانة".

في هذه الأغنية، يتغزل عاشق بمفاتن حبيبته وبنهديها في واحة جسدها المكتمل أنوثة وإغراء والذي بمجرّد رؤيته تعود الروح إلى العاشق الولهان.

وتمثل أغنية "لسمر خويا" المعروفة بجهة الشمال الغربي والتي أعادتها مجموعة برقو 08 مثلاً في جرأة الأسلاف في التعبير عن شهوتهم وحبّهم بذكاء شديد، وقد رسمت الأغنية مشاعر عاشق في وصال حبيبته.

ومجموعة برقو 08 هي فرقة يشرف عليها الموسيقي سفيان بن يوسف، وهو منتج شاب يقيم في بلجيكا، والفنان نضال يحياوي. وقد أعادت إحياء أغنيات تراثية منسية من الشمال والجنوب التونسيين.

وتقول بعض مقاطع أغنية "لسمر خويا": "يا لالي البارح جاني يلقاني راقدة وممدودة يا باسني خويا من العين السودة يا حليلي نحب نزهه معاك يا لالي البارح جاني يلقاني راقدة ع المخدة يا مخر الليل تعدّى يا لسمر خويا نحبّ نزهه معاك، يا لالي يا لالي، وارقد وأرقد وتوسد زندي يا لسمر وتمتع يا لسمر ما دامك عندي ونحبّ نزهه معاك".

وهذه الأغنية هي بمثابة مشهد إيروتيكي يصوّر شهوة عاشقة يصلها حبيبها الأسمر ليلاً خفيةً عن أنظار الفضوليين فهو يقبّل عينيها وهي تدعوه إلى أن يتوسد ذراعيها.

وتعترف العاشقة لحبيبها بأنها تريد ممارسة الحبّ معه بطريقة مهذبة لا تخدش الحياء. وهذا ما جعل هذه الأغنية منتشرة في الشمال الغربي ويغنّيها الرجال والنساء بدون إحراج وبدون خدش مشاعر المحافظين.

جرأة التراث الكافي

جرأة أخرى تمثلها أغنية "مرض الهوى قتالة" وهي من التراث الكافي (نسبة إلى محافظة الكاف). وتخبر قصة عاشقة تعقد العزم على اللحاق بحبيبها من خلال صور إباحية ملطفة تنتهي بالبوح برغبتها في وصال معشوقها.

وتقول كلمات الأغنية: "نلحق عليه ونبات، من فوق حرام وزربية، مرض الهوى قتالة مرض الهوى زاد عليّا، وجيبولي فارسي والمخلا نلحق على ورفي في الدخلة، نلحق عليه ونرّده محبوبي بالكمشة نشدّه".

في هذه الأغنية تتهاوى صورة المرأة المستضعفة والمستكينة لسلطة الأعراف والقبيلة وتصير فارسة شجاعة تشدّ الرحال إلى حبيبها فوق حصانها نحو الجبال لتعيده وتمارس معه الحبّ في خيمة.

وفي السياق نفسه، تأتي أغنية نبيهة كراولي، وهي أشهر الفنانات التونسيات، بعنوان "قالولي جاي" وكلماتها:

قالولي جاي قمت نكحل ونفوح/ حضرت التاي ولفي من الأبعاد مروح/ طال المشوار يا عذابي/ والعقل احتار يا صحابي/ قلولي راح قلت جعالته لا روح/ صدقت الغير قمت نعلي في السدة/ وفراش حرير عليه ملاحف ومخدة/ شناشن في ايدي حرام وسورية/ ونقول شوية عن ولفي غايب من مدة/ قالولي راح قلت جعالته لا روح...

وترسم الأغنية مظاهر استعداد امرأة عاشقة لاستقبال حبييها في طقوس من التزيّن وإعداد السرير بما يليق بلقاء العاشقين. وتكمن الطرافة في أنّ العاشقة مستعدة لفعل أيّ شيء من أجل إسعاد حبيبها إن أتى وإن لم يأت فهي لن تبالي كثيراً لأنها تعشق بكرم وتنتصر أيضاً لكرامتها.

المرأة جريئة وقوية

واللافت في أغاني التراث التونسي الجنسية أننا نجد المرأة قوية وجريئة بعكس الأغاني العاطفية السائدة الآن. ففي الأغنية التراثية، تتعذب المرأة من فراق حبيبها ولكن بكبرياء بدون أن تتوسل له، ونراها عاشقة تركب الخطر من أجل معشوقها ولا تبالي بمحاذير مجتمعها فهي تصل مَن تعشق بإصرار شديد خفية عن سلطة الرقيب.

وفي إطار إحياء أجزاء من التراث الغنائي التونسي، قام المخرج الأسعد بن عبد الله بتجميع التراث الغنائي بجهة الكاف في عرض المنسيات سنة 2007. وقد تضمن هذا العرض فنوناً متنوعة في الغناء والرقص والفرجة، ويقصد بالمنسيات الأغاني التي كانت مهددة بالانقراض، منها أغانٍ في حلل إيروتيكية، وأغانٍ تقدّم المشاعر العاطفية المختلطة بالشهوة كأغنية "جبال الكاف" التي ترسم رغبة حبيب في أن يكفن ويدفن في احتفاء جميل بتفاصيل جسد حبيبته.

ويقول أحد مقاطع الأغنية: "إنموت عليك يا يدّو خبري لاماليك، يقطروني بدمعة عينيك، يا يغسلوني بريقة سنيك، يكفنوني بطرقة حوليك، يا يدفونني في وسط جواجيك، يا يلحدوني بصباع يديك".

وهذه الكلمات تعني: إنّي أعشقك إلى حدّ الممات وإن متّ فسيصلك خبري وفي حالة احتضاري سيعوّض دمع عينيك الماء الذي يقطر في فم الميت قبل أن يفارق الحياة، وإن غسلت فسيكون بلعاب فمك وسيكفونني بلباسك وإن دفنت فسيكون ضريحي قلبك وبأصابع يديك ستحددين قبري.

تعكس الأغاني التراثية التونسية شخصية المجتمع التونسي وكيفية تعاطيه مع الحبّ والجنس. نجد مجتمعاً محافظاً في الظاهر ولكنّه عاطفي في السرّ.

ويمكننا اعتبار الأغنية التراثية أغنية دنيوية تحتفي بتفاصيل الحياة بكلّ أوجهها بدون تزهد أو تقشف في المشاعر والرغبات، أغنية تكمن بين كلماتها وألحانها معاني الشبق والشغف والإيقاع.

إنّها أغنية الجسد بامتياز تحتفي به ولا تفصل بينه وبين الروح. فالحبّ لا يفصل بين العاشقين بل يجمعهما بتناغم وانسجام، والحبّ شهوة في الوصل والجنس حبّ، لا فرق بينهما ولا يمكن أن يكتمل أحدهما بدون الآخر.


- خولة الفرشيشي
كاتبة تونسية وباحثة جامعية في علوم التراث. تشتغل على الجسد الأنثوي ورمزياته وتمثلاته


صورة مفقودة

دارين احمد
 
أعلى