ابن عبد ربه الأندلسي - العقد الفريد.. باب من المفاكهات

حديث عباس بن الأحنف
حدث أبو العباس النحوي المعروف بالمبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي، وكان من سادات بكر بن وائل، وأدركته شيخاً كبيراً مملقاً، وكان إذا أفاد على إملاقه شيئاً جاد به، وقد كان قديماً ولي شرطة البصرة، فحدثني هذا الحديث الذي نذكره. ووقع إلي من غير ناحيته، ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان، إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك:
ذكر أن فتياناً كانوا مجتمعين في نظام واحد، كلهم ابن نعمة، وكلهم قد شرد عن أهله، وقنع بأصحابه، فذكر ذاكر منهم قال: كنا قد اكترينا داراً شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس، فكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً، على مقدار ما يمكن الواحد من أهله، وكنا لا نستكثر أن تقع مؤونتنا على واحد منا إذا أمكنه، ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول. وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، ودعونا الملهين والملهيات. وكان جلوسنا في أسفل الدار، فإذا عدمنا الطرب فمجلسنا غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس، وكنا لا نخل بالنبيذ في عسر ولا يسر. فإنا لكذلك يوماً إذا بفتى يستأذن علينا، فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف حلو الوجه، سري الهيئة، ينبئ رواؤه على أنه من أبناء النعم، فأقبل علينا فقال: إني سمعت مجتمعكم، وحسن منادمتكم، وصحة ألفتكم، حتى كأنكم أدرجتم جميعاً في قالب واحد، فأحببت أن أكون واحداً منكم، فلا تحتشموا. قال: وصادف ذلك منا إقتاراً من القوت، وكثرة من النبيذ. وقد كان قال لغلام له أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم: هات ما عندك، فغاب الغلام عنا غير كثير، ثم إذا هو قد أتانا بسلة خيزران، فيها طعام المطبخ: من جدي، ودجاج، وفراغ، ورقاق، وأشنان، ومحلب، وأخلة، فأصبنا من ذلك ثم أفضنا في شرابنا؛ وانبسط الرجل؛ فإذا أحلى خلق الله إذا حدث؛ وأحسنهم استماعاً إذا حدث، وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف. ثم أفضينا منه إلى أكرم محالفة، وأجمل مساعدة. وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه، فيظهر لنا أنه لا يحب غيره، ويرى ذلك في إشراق وجهه، فكنا نغنى به عن حسن الغناء، ونتدارس أخباره وآدابه، فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه، فلم يكن منا إلا تعرف الكنية، فإنا سألناه عنها فقال: " أبو الفضل " .
فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم كيف عرفتكم؟ قلنا: نعم إنا لنحب ذلك. قال: أحببت جارية في جواركم، وكانت سيدتها ذات حبائب، فكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها فأراها، حتى أخلقني الجلوس على الطريق، ورأيت غرفتكم هذه، فسألت عن خبرها، فخبرت عن ائتلافكم ومساعدة بعضكم بعضاً، فكان الدخول فيما أنتم فيه آثر عندي من الجارية. فسألناه عنها فخبرنا، فقلنا له: فإنا نختدعها حتى نظفرك بها. فقال: يا إخواني إني والله، على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها، ما قدرت فيها حراماً قط، ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها. فأقام معنا شهرين ونحن على غاية الاغتباط بقربه، والسرور بصحبته، إلى أن اختلس منا، فنالنا بفراقه ثكل ممض، ولوعة مؤلمة، ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه. فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به، وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غماً إذا ذكرنا؛ لاتصال السرور بصحبته وحضوره، والغم بمفارقته، فكنا فيه كما قال القائل:
يذكرنيهم كل خير رأيته ... وشر، فما أنفك منهم على ذكر
فغاب عنا زهاء عشرين يوماً، ثم بينا نحن مجتازون يوماً من الرصافة إذا به قد طلع في مركب نبيل، وزي جليل، فحيث بصر بنا انحط عن دابته، وانحط غلمانه، ثم قال: يا إخواني، والله ما هنأني عيش بعدكم، ولست أماطلكم بخبري حتى آتي المنزل، ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه، فقال:
أعرفكم أولاً بنفسي، أنا العباس بن الأحنف، وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم، فإذا المسودة محيطة بي، فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين، فصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: ويحك يا عباس، إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك، وحسن تأتيك، وإن الذي ندبتك له من شأنك، وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن " ماردة " هي الغالبة على أمير المؤمنين، وأنه جرى بينهما عتب، فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك، وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستعزه الصبابة، فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل. فقضى كلامه، ثم دعاه أمير المؤمنين فصار إليه، وأعطيت قرطاساً ودواة، فاعتراني الزمع، وأذهب عني ما أريد الاستحثاث، فتعذرت علي كل عروض، ونفرت عني كل قافية، ثم انفتح لي شيء والرسل تعنتني، فجاءتني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى، سهلة الألفاظ، ملائمة لما طلب مني، فقلت لأحد الرسل: ابلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات، فإن كان فيها مقنع وجهت بها. فرجع إلي الرسول بأن هاتها، ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول وردوعه قلت بيتين نم غير ذلك الروي، فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة، وعقبت بالبيتين، فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذي هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلو فعز منه المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى من خالد، فدفعه إلى الرشيد، فقال: والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا، والله لكأني قصدت به. فقال له يحيى: فأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به، هذا يقوله العباس بن الأحنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله:
راجع من يهوى على رغم
استغرب ضحكاً حتى سمعت ضحكه، ثم قال: إي والله، أراجع على رغم، يا غلام هات نعلي. فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء، فدعاني يحيى، وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة، وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما قوع مني بغاية الموافقة. ثم جاء غلام فساره فنهض وثبت مكاني، ثم نهضه بنهوضه، فقال لي: يا عباس، أمسيت أملأ الناس، أتدري ما سارني به هذا الرسول؟ قلت: لا. وقال: ذكر لي أن " ماردة " تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه ثم قالت له: يا أمير المؤمنين، كيف كان هذا؟ فأعطاها الشعر وقال: هذا الذي أتى بي إليك. قالت: فمن يقوله: عباس بن الأحنف. قالت: فبم كوفئ؟ قال: ما فعلت شيئاً بعد. قالت: إذاً والله لا أجلس حتى يكافأ. قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها، وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين، وهما يتناظران في صلتك، فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة. ثم قال: هذا أحسن من شعرك. قال: فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير، وأمرت لي ماردة بمال دونه. وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به، وحملت على ما ترون من الظهر. ثم قال الوزير: من تمام اليد عندي ألا تخرج من الدار حتى نؤثل لك بهذا المال ضياعاً. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم، ودفع إلي بقية المال. فهذا الخبر الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضياع، وأفرق فيكم المال. قلنا له: هنأك الله ما لك، فكل من يرجع إلى نعمة من أبيه وأهله. فأقسم وأقسمنا، قال: فأنتم فيه أسوتي. فقلنا: أما هذا فنعم، قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبتها وكانت جارية جميلة حلوة، لا تحسن شيئاً، أكثر ما فيها ظرف اللسان، وتأدية الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار. فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة، فأجبناه بالعجب فحط مائة، ثم حط مائة. فقال العباس يا فتيان، إني والله احتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي بها يتم سروري، فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل. قال: هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر، وأريد إيثار نفسي بها، فأكره أن تنظر إلي بعين من قد ماكس في ثمنها، دعوني أعطه بها خمسمائة دينار، كما سأل. قلنا له: وإنه قد حط مائتين، قال: وإن فعل. قال: فصادفت من مولاها رجلاً حراً، فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين. فما زال إلينا محسناً حتى فرق الموت بيننا.

حدث المجرد
قال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً ما سمعه مني أحد قط، وهو بأمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حياً. قلت: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا " . قال: يا أبا محمد، إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه. قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت. قال:
بينا أنا بسوق الكيل بمكة بعد أيام الموسم، إذا أنا بامرأة من نساء مكة، معها صبي يبكي، وهي تسكته فيأبى أن يسكت، فسفرت وأخرت من فيها كسرة درهم، فدفعتها إلى الصبي، فسكت؛ فإذا وجه رقيق كأنه كوكب دري، وإذا شكل رطب، ولسان فصيح، فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني. فقالت: إن شريطتي الحلال. قالت: ارجع في حرامك، ومن يريدك على حرام؟ فخجلت وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها فدخلت زقاق العطارين، فصعدت درجة وقالت: اصعد. فصعدت، فقال: أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم، وأنا امرأة من زهرة، ولكن عندي حر ضيق عليه وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة. أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصفر سليم! قلت: وما أصفر سليم؟ قالت: بدينار واحد يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجاً صحيحاً. قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت. قال: فصفقت بيدها إلى جاريتها فاستجابت لها. قالت: قولي لفلانة: البسي ثيابك وعجلي، وبحياتي لا تمسي غمراً، ولا طيباً، فحسبنا بدلالك، وعطرك. قال: فإذا جارية أقبلت ما أحسب الشمس وقعت عليها، كأنها دمية، فسلمت وقعدت كالخجلة. فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له، وهو في هذه الهيئة التي ترين. قالت: حياه الله، وقرب داره. قال: لا، والله يا بنية، لقد أنسيتها. ثم نظرت إلي فغمزتني، وقالت: أتدري ما شريطتها؟ قلت: لا. قالت: أقول لك بحضرتها ما إخالها تكرهه، هي والله أفتك من عمرو بن معد يكرب، وأشجع من ربيعة من مكدم، ولست بواصل إليها حتى تسكر وتغلب على عقلها، فإذا بلغت تلك الحال ففيها مطمع. فقلت: ما أهون هذا وأسهله. قالت الجارية: وتركت شيئاً أيضاً. قالت: نعم والله، اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها فتراك مجرداً، مقبلاً ومدبراً. قلت: وهذا أيضاً أفعله. قالت: هلم دينارك. فأخرجت ديناراً فنبذته إليها، فصفقت صفقة أخرى فأجابتها امرأة، قالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة. فقلت في نفسي: أبو الحسن وأبو الحسين هو علي بن أبي طالب. قال: فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا فصعدا، فقصت المرأة عليهما القصة، فخطب أحدهما وأجاب الآخر. وأقررت بالتزويج وأقرت المرأة، فدعوا بالبركة، ثم نهضا فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المؤونة، فأخرجت ديناراً آخر فدفعته إليها. وقلت: اجعلي هذا لطيبك. قالت: يا أخي، ليست ممن يمس طيباً لرجل، إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت. قلت: فاجعلي هذا لغدائنا اليوم. قالت: أما هذا فنعم. فنهضت الجارية، وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت وتغدينا، وجاءت بدواة وقضيب، وقعدت تجاهي، ودعت بنبيذ، فأعدته واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط، فإني ألفت بيوت القنان نحواً من ثلاثين سنة، فما سمعت مثل ترنمها قط، فكدت أجن سروراً وطرباً، فجعلت أريغ أن تدنو مني فتأبى، إلى أن غنت بشعر لم أعرفه، وهو:
راحوا يصيدون الظباء، وإنني ... لأرى تصيدها علي حراما
أعزز علي بأن أروع شبيهها ... أو أن تذوق على يدي حماما
فقلت: جعلت فداك، من تغنى بهذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج وابن عائشة. فلما نعي إلينا النهار وجاءت المغرب، تغنت بصوت لم أفهمه، للشقاء الذي كتب علي، فقالت:
كأني بالمجرد قد علته ... نعال القوم أو خشب السواري
قلت: جعلت فداك، ما أفهم هذا البيت، ولا أحسبه مما يتغنى به. قال: أنا أول من تغنى به. قلت: فإنما هو بيت عائر لا صاحب له. قالت: معه آخر ليس هذا وقته، وهو آخر ما أتغنى به. قال: فجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها. فلما أمسينا وصلينا المغرب، وجاءت العشاء الآخرة، وضعت القضيب، فقمت وصليت العشاء وما أدري كم صليت عجلة وشوقاً، فلما سلمت قلت: تأذنين جعلت فداك أشق ثيابي عجلة للخروج عنها، فتجردت وقمت بين يديها مكفراً لها. قالت: امض إلى زاوية البيت، وأقبل وأدبر حتى أراك مقبلاً مدبراً. قال: وإذا حصير في الغرفة عليه طريق إلى زاوية البيت، فأخطر عليه، وإذا تحته خرق إلى السوق، فإذا أنا في السوق قائماً متجرداً منعظاً، وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا لي نعالها، وكمنا لي في ناحية، فلما هبطت عليهما بادراً إلي فقطعا نعالها على قفاي، واستعانا بأهل السوق، فضربت والله يا أبا محمد حتى نسيت اسمي، فينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد شديدة، فإذا صوت من فوق البيت يغني به، وهو:
ولو علم المجرد ما أردنا ... لخاض لنا المجرد بالصحاري
فقلت في نفسي: هذا والله وقت هذا البيت، فنجوت إلى رحلي، وما في عظم صحيح، فلما انقضى حجنا وانصرفنا جعلت طريقي على ذلك الموضع فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب. فقلت: لعنها الله ولعن الذي هي منه.

حديث صاحبة الزب
قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة، فإني لمنصرف من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة، وإذا هي في ناحية وحدها، قد قام عنها من كان يجلس إليها، وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي، فالتفت فرأيتها، فقالت: هل من حاجة؟ قلت: تزيدين في السماع. قالت: وأنت قائم؟ لو قعدت! فقعدت كالخجل فقالت: كيف علمك بالغناء؟ قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بلا نار؟ وما منعك من معرفته، فوالله إنه لسحوري وفطوري. قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي؟ قالت: يا عير، وله موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة؟ قلت: وكل هؤلاء النسوة التي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك؟ قالت: فيهن وفيهن، ولي من بينهن قصة. قلت: وما هي؟ قالت: كنت أيام شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي من القبح والدمامة والأدمة، وكنت أشتهي النيك شهوة شديدة، وكان زوجي شاباً وضياً، وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره، فأصر ذلك بي، وكان علقته امرأة قصار تجاورني، فزاد ذلك في غمي، فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك؟ قلت: وا بأبي أنت، إذاً تكوني أعظم الخلق منة علي. قالت: اختلفي إلي " مجمع " مولى آل الزبير فإنه حسن الغناء، فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة، ثم غني بها زوجك فإنه ينيكك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة، فكنت إذا أقبل زوجي من مهنته اضطجعت فرفعت عقيرتي، فإذا غنيت صوتاًبت على زب، وإن غنيت صوتين بت على زبين، وإن ثلاثة فثلاثة.
فكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني وقلت: يا هذه، ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة الشوري عليك. قالت: حسبي بها منة، وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك اللوعة شيء؟ قالت لذع في الفؤاد، فأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة، فقد ذهب تسعة أعشارها. قال؛ فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك؟ قالت: أنا في قائت من العيش. فلما نهضت لأقوم قالت: على رسلك، لا تنصرف خائباً. ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أبى الناس أن يرضوا بها يشترونها ... ومن يشتري ذاعرة بصحيح
ثم قالت: انطلق لطيتك، صحبتك السلامة.

خبر الهاشمي مع المضحك
وحدث أبو عبد الله بن عبد البر المزني بمصر، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن الهيثم بن عدي، قال:
كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكان له قينتان يقال لإحداهما جؤذر، وللأخرى رشأ، وكان يعجبه السماع، وكان بالمدينة مضحك يغب مجالس المتطرفين، ومواضع الملهين، فأرسل إليه الهاشمي ذات يوم ليضحك منه، فلما جاءه قال له المضحك: إنك أصلحك الله في لذتك، ولا لذة لي. قال له: وما لذتك؟ قال تحضرني نبيذاً فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكر العشر، فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه، فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسموت الكنف المراحيض. قال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يقول: غنياني:
رحضت فؤادي فعنيتني ... أهيم من الحب في كل واد
فاندفعتا فغنتاه فقال في نفسه: لم تفهما والله عني، أنظهما شاميتين، وأهل الشام يسمونها المذاهب. قال: يا حبيبتي، أين المذاهب؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب
فغنتاه الصوت فقال في نفسه: لم يفهما عني، ما أظنهما إلا مدنيتين، وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء. قال: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
خلى علي جوى الأحزان إذ ظعنا ... من بطن مكة والتسهيد والحزنا
قال: فغنتاه فقال في نفسه: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أحسبهما الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش. قال: يا حبيبتي أين بيت الحش؟ قالت إحداهما للأخرى: ويلك ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:
أوحش الحشان فالربع منها ... فمناها فالمنزل المعمور
فرفعا عقيرتيهما تغنيانه فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف. فقال: يا حبيبتي، أين يكون الكنيف، قالت إحداهما للأخرى: يعيش سيدنا، هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل أفهميني ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:
تكنفني الهوى طفلاً ... فشيبني وما اكتهلا
قال: فغلبه بطنه، وعلم أنهما تولعان به، والهاشمي يتقطع ضحكاً، فقال: كذبتما يا زانيتان، ولكني أعلمكما ما هو؟ فرفع ثيابه فسلح عليهما، فانتبه الهاشمي فقال: سبحان الله، أتحدث على وطائي؟ فقال: الذي خرج من جوفي أعز علي من وطائك، إن هاتين القبيحتين حسبتا أنما أسأل عن الحش للضراط، فأردت أن أعلمهما ما هو؟

يوم دارة جلجل
قال الفرزدق: وأصابنا بالبصرة ليلاً مطر جود، فلما أصبحت ركبت بغلة لي وسرت إلى المربد، فإذا أنا بآثار دواب قد خرجت إلى ناحية البرية، فظننت أنهم قوم خرجوا للنزهة، وهم خلقاء أن تكون معهم سفرة، فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغال عليها رحائل، موقوفة على غدير، فأسرعت إلى الغدير، فإذا فيه نوسة مستنقعات في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط، ولا يوم دارة جلجل. وانصرفت مستحياً، فنادينني: يا صاحب البغلة، ارجع نسألك عن شيء. فرجعت إليهن فقعدن في الماء إلى حلوقهن، ثم قلن: بالله إلا ما أخبرتنا ما كان من حديث دارة جلجل. قلت:
حدثني جدي، وأنا يومئذ غلام حافظ، أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عمه، ويقال لها: عنيزة، وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل. وذلك أن الحي تحملوا، فتقدم الرجال، وتخلف النساء والخدم والثقل. فلما رأى امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة، فكن في غيابه من الأرض، حتى مر به النساء وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا في هذا الغدير، فيذهب عنا بعض الكلال! فنزلن في الغدير، ونحين العبيد ثم تجردن فوقعن فيه، فأتاهن امرؤ القيس فأخذ ثيابهن، فجمعها وقد عليها، وقال: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها، ولو قعدت في الغدير يومها، حتى تخرج متجردة فتأخذ ثوبها. فأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار، وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه فخرجن جميعاً، غير عنيزة: فناشدته الله أن يطرح ثوبها فأبى، فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، وأقبلن عليه، فقلن له: إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا. قال: فإن نحرت لكن ناقتي أتأكلن منها؟ قلن: نعم. فجرد سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها، وجمع الخدم حطباً كثيراً، فأججن ناراً عظيمة فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر، ويأكلن ويأكل معهن، ويشرب من فضلة كانت معه ويسقيهن، وينبذ إلى العبيد من الكباب. فلما أرادوا الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته. وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله وأنساعه، فتقسمن متاعه وزاده. وبقيت عنيزة لم تحمل له شيئاً. فقال لها: يا ابنة الكرام، لا بد أن تحمليني معك، فإني لا أطيق المشي. فحملته على غارب بعيراه، فكان يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، فإذا امتنعت مال حدجها، فتقول: قعرت بعيري فانزل! ففي ذلك يقول:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخي زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلل
وكان الفرزدق أروى الناس لأخبار امرئ القيس وأشعاره. وذلك أن امرأ القيس رأى من أبيه جفوة، فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث، وكان مسترضعاً في بني دارم، فأقام فيهم، وهم رهط الفرزدق.

خبر دعبل وصريع الغواني
حدثنا أبو سويد بن أبي عتاهية، عن دعبل بن علي الشاعر، قال: بينا أنا ذات يوم بباب الكرخ وأنا سائر، وقد احتوى الفكر على قلبي في أبيات شعر، قد نطق بها اللسان، على غير اعتقاد جنان، فقلت:
دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني به انقباض
فإذا أنا بجارية رائعة الجمال فائق الكمال، حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف؛ لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر:
كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة ... في كل جارحة منها لها قمر
وهي تسمع قولي، فاعترضت فقالت:
هذا قليل لمن دهته ... بلحطها الأعين المراض
فأجبتها فقلت:
فهل لمولاي عطف قلب ... أو للذي في الحشا انقراض
فأجابتني، فقالت:
إن كنت تبغي الوداد منا ... فالود في ديننا قراض
قال دعبل: فلا أعلمني خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها؛ مع ملاحة خد، ورشاقة قد، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق. فحار البصر. وذهب اللب، وجل الخطب، وتلجلج اللسان، وتعلقت الرجلان، وما ظنك بالحلفاء إذ دنت من النار. ثم ثاب إلي عقلي، وراجعني حلمي، فذكرت قول بشار:
لا يمنعنك من مخدرة ... قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا
هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه، فكيف بمن وعد قبل المسألة، وبذل قبل الطلبة. فقلت مسمعاً لها:
أترى الزمان يسرنا بتلاق ... ويضم مشتاقاً إلى مشتاق
فقالت مجيبة لي في أسرع من نفس:
ما للزمان يقال فيه وإنما ... أنت الزمان فسرنا بتلاق
قال دعبل: فلحظتها فتبعتني وذلك في أيام إملاقي، فقلت: ما لي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فسرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج، فقلت له: أجمل لك الخبر: معي وجه صبيح يعدل الدنيا بما فيها، وقد حصل علي ضيقة وعسر. فقال: لقد شكوت ما كدت أبادرك بشكواه، ايت بها. فلما دخلت قال: لا والله ما أملك غير هذا المنديل. فقلت: هو البغية فناولنيه. فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. فأخذته، فبعته بدينار عين وكسر، فاشتريت لحماً وخبزاً ونبيذاً، وصرت غليه، فإذا هما يتساقطان حديثاً كأنه قطع الروض الممطور. قال: ما صنعت؟ فأخبرته. قال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟ اذهب فألطف لتمام ما جئت به. قال: فخرجت فاضطربت في ذلك حتى أتيت به، فألفيت باب الدار مفتوحاً، فدخلت فإذا لا أرى لهما ولا لشيء مما أتيت به أثراً، فسقط في يدي وقلت: أرى صاحب الربع أخذهما. فبقيت متلهفاً حائراً أرجم الظنون، وأجيل الفكر سائر يومي. فلما أمسيت، قلت يا نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقفني على أثر؟ ففعلت، فوقفت على باب سرداب له، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه، فأكلا وشربا وتنعما. فلما أحسستهما دليت رأسي، ثم ناديت: مسلم، ويلك! فلم يجبني حتى ناديت ثلاثاً. فكان من إجابته لي أن غرد بصوت يقول فيه:
بت في درعها وبات رفيقي ... جنب القلب طاهر الأطراف
ثم قال دعبل: ويلك! من يقول هذا؟ قلت:
من له في حرامه ألف قرن ... قد أنافت على علو مناف
قال: فضحكا ثم سكتا، واستجلبت كلامهما فلم يجيباني، وأخذا في لذتهما، وبت بليلة يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولاً وغماً وهماً، حتى إذا أصبحت ولم أكد خرج إلي مسلم، فجعلت أؤنبه، فقال لي: يا صفيق الوجه، منزلي ومنديلي وطعامي وشرابي، فما شأنك في الوسط؟ قلت له: حق القيادة والفضول والله لا غير! فولى وجهه إليها، وقال: بحياتي إلا أعطيته حق قيادته وفضوله. فقالت: أما حق قيادته فعرك أذنه، وأما حق فضوله فصفع قفاه. فاستقبلني مسلم فعرك أذني وصفعني. فقلت: ما هذا؟ فقال: جرى الحكم عليك بما جرى لك من العذل والاستحقاق.
حدثنا عيسى بن أحمد الكاتب قال: قال لي الحسين بن الضحاك: دخلت على جعفر المتوكل، وشفيع الخادم ينضد ورداً بين يديه، ولم نعرف في ذلك الزمان خادماً كان أحسن منه ولا أجمل، وعليه ثياب موردة، فأمره أن يسقيني ويغمز كفي. ثم قال لي: يا حسين، قل في شفيع. وكان قد حيا المتوكل بوردة، فجعل المتوكل يشرب ويشم الوردة، فقلت:
فيا وردة جاءت إلينا بحمرة ... من الورد تمشي في قراطق كالورد
ويغمز كفي عند كل تحية ... بكفيه يستدعي الشجي إلى الورد
سقاني بكفيه وعينيه شربة ... فأذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد
فأمر المتوكل شفيعاً أن يسقيني وخاصة، وبعث معه إلي بتحايا في عبير وشمامات.
وذكروا أن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل كان يعشق خادماً للمتوكل يقال له شفيع، وكان الحسن بن وهب كاتبه كلفاً بذلك الخادم، فلقيه الحسن بن وهب يوماً، فسأله عن خبره، فأخبره أنه يريد أن يحتجم، فلم تبق بالعراق غريبة إلا بعث بها إليه، ولا طريفاً من الأشربة إلا أدخله عليه، وكتب إليه بهذه الأبيات:
ليت شعري يا أملح الناس عندي ... هل تعالجت بالحجامة بعدي
دفع الله عنك لي كل سوء ... باكر رائح وإن خنت عهدي
قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي ... ففشا منه بعض ما كنت أبدي
وخلعت العذار فليعلم النا ... س بأني إياك أصفي بودي
من عذيري من مقلتيك ومن إش ... راق وجه من حول حمرة خد
فصادف رسوله رسول محمد بن الزيات الوزير، فرأى رقعة الحسن، فاحتال حتى أخذها، وأوصلها إلى الوزير محمد بن عبد الملك. فلما قرأها كتب إلى كاتبه الحسن بن وهب:
ليت شعري عن ليت شعرك هذا ... أبهزل تقوله أم بجد
فلئن كان تقول بجد ... يا ابن وهب لقد تفتيت بعدي
وتشبهت بي وكنت أرى أن ... ي أنا الهائم المتيم وحدي
أترك القصد في الأمور ولولا ... غمرات الصبا لأبصرت قصدي
سيدي سيدي ومولاي ومن أل ... بسني ذلك وأضرع خدي
لا أحب الذي يلوم وإن كا ... ن حريصاً على صلاحي ورشدي
وأحب الأخ المشارك في الحب ... وإن لم يكن به مثل وجدي
كصديقي أبى علي وحاشى ... لصديقي من مثل شقوة جدي
إن مولاي عبد غيري ولولا ... شؤم جدي لكان مولاي عبدي
فلما التقى ابن الزيات الوزير وكاتبه الحسن بن وهب في بيت الديوان تداعبا في ذلك، وسأله ابن الزيات أن يتجافى له عنه، فقال له الحسن: طاعتك واجبة في المحبوب والمكروه، لكن الرئيس أدام الله عزه كان أولى بالتفضيل. فقال له ابن الزيات: هيهات، هذه علة نفسانية تؤدي إلى التلف، فتنح عن نصيبك مني. فقال الحسن: إن كان هذا هكذا سمعنا وأطعنا. وأنشد:
شهيدي على ما في فؤادي من هوى ... دموع تباري المستهل من القطر
وأسلمني من كان بالأمس مسعدي ... وصار الهوى عوناً علي مع الدهر
قال علي بن الجهم: دخلت يوماً على المتوكل، فقال لي، يا علي. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: دخلت الساعة على قبيحة، وقد كتبت بالمسك في خدها اسمي، فوالله ما رأيت سواداً في بياض أحسن منه في ذلك الخد، فقل فيه شعراً.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أمظلومة معي؟ قال: نعم، ومظلومة خلف ستارة، فدعت بدواة وبدرت بالقول، فقالت:
وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا ... بنفسي خط المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطراً من المسك خدها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
فيا من لمملوك تملك مالكاً ... مطيعاً له فيما أسر وأظهرا
ويا من مناها في السرائر جعفر ... سقى الله من صوب الغمامة جعفرا
قال: فأفحمت فلم أنطق، وتغلبت علي خواطري فما قدرت على حرف أقوله، وضحك أمير المؤمنين.
الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد، وبين يديه جارية حسناء، عليها لمة جعدة، وذؤابة تضرب الحقو منها، وهلال بين عينيها مكتوب عليه بالذهب: " هذا ما عمل في طراز الله " . فقال: يا أصمعي، صفها. فأنشأت أقول:
كنانية الأطراف سعيدة الحشا ... هلالية العينين طائية الفم
لها حكم لقمان وصورة يوسف ... ونغمة داود وعفة مريم
فقال: أحسنت والله يا أصمعي. فعل عرفت اسمها؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال: اسمها دنيا. قال: فأطرق ساعة ثم قلت:
إن دنيا هي التي ... تسحر العين سافره
ظلموها شطر اسمها ... فهي دنيا وآخره
قال الأصمعي: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: دخلت على الرشيد، وعنده جارية قد أهديت إليه، ماجنة شاعرة أديبة، وبين يديه طبق فيه ورد، فقال: يا إسحاق، أما ترى، ما أحسن هذا الورد ونضرة لونه! قلت: بك والله حسن ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: قل فيه بيتاً يشبهه. فأطرق ساعة، ثم قلت:
كأنه خد موموق يقبله ... فم الحبيب وقد أبدى به خجلا
فاعترضتني الجارية فقالت:
كأنه لون خدي حين تدفعني ... كف الرشيد لأمر يوجب الغسلا
فقال الرشيد: قم يا إسحاق، فقد حركتني هذه الفاسقة.
وحدثنا أيضاً قول: كان هارون الرشيد جالساً بين جاريتين من جواريه، فقال لهما: من يبيت عندي هذه الليلة منكما؟ فقالت إحداهما: أنا. فقالت الأخرى: لا، بل أنا. فقال للأولى: ما حجتك فيما ادعيت؟ فقالت: قول الله يا أمير المؤمنين: " والسابقون السابقون. أولئك المقربون " . ثم قال للثانية: وما حجتك أنت؟ قالت: قول الله: " وللآخرة خير لك من الأولى " . فقال: لتقل كل واحدة منكما شعراً في الغزل، فمن كانت أرق شعراً باتت عندي. فقالت الأولى:
أنا التي أمشي كما يمشي الوجي ... يكاد أن يصرعني تغنجي
من جنة الفردوس كان مخرجي
وقالت الأخرى:
أنا التي لم ير مثلي بشر ... كلامي اللؤلؤ حين ينثر
أسحر من شئت ولست أسحر ... لو سمع الناس كلامي كفروا
فقال لهما: قد أحسنتما وأجدتما، وما لواحدة منكما فضيلة على صاحبتها، ولكني أبيت بينكما.
أخبرنا أبو الطيب الكاتب أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان ليلة بين جاريتين. مدنية وكوفية، فجعلت الكوفية تغمز يديه، والمدنية تغمز رجليه، فجعلت المدنية ترتفع إلى فخذيه حتى ضربت بيدها إلى متاعه، وحركته حتى أنعظ، فقالت لها الكوفية: ويحك نحن شركاؤك في البضاعة، وأراك قد انفردت دوننا برأس المال وجدك، فأديليني منه. قال: فقالت المدنية: حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال " من أحيا مواتاً فهو له ولعقبه " . قال: فاستغلتها الكوفية ودفعتها، ثم أخذته بيديها جميعاً، وقالت: حدثنا الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " الصيد لمن صاده لا لمن أثاره " .
أخبرنا الأنطاكي أن المتوكل على الله طلب من محمود الوراق جارية مغنية، وأعطاه بها عشرة آلاف دينار فأبى، فلما مات محمود اشتراها في ميراثه بخمس آلاف، وقال لها: كنا قد أعطينا مولاك بك عشرة آلاف، وقد اشتريناك من ميراثه بخمسة آلاف. قالت: يا أمير المؤمنين، إذا كانت الخلفاء تتربص بلذاتها المواريث فسنشتري بأرخص مما اشتريت.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لاعب هارون الرشيد جارية من جواريه على إمرة مطاعة، فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره، ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فنقطع فرداً. فقام فقضى فيها طره، ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمنى. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره، ثم لاعبها فقمرته فقال: تمني. فقالت: المعادوة. فغشيها، ثم لاعبته فقمرته، فقالت: قم لميعادك. فقال: لا أقدر على ذلك. قالت: فاكتب لي به عليك كتاباً آخذك به مت شئت. قال: ذلك لك. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت: " هذا كتاب فلانة على مولاها أمير المؤمنين: إن لي عليك فرضاً آخذه متى شئت وأنى شئت من ليل أو نهار " . وكان رأسها وصيفة لها، فقالت: تزيدي يا سيدتي في الكتاب، فإنك لا تأمنين الحدثان، ومن قام له بهذا الذكر حق فهو ولي ما فيه. فضحك الرشيد حتى استلقى على فراشه، واستطرفها، وأمر أن تنزل مقصورة، وأن يجرى لها رزق سني، وشغف بها. ويقال: إنها " مراجل " أم المأمون.
تنفس محمد بن هارون الأمين يوماً في مجلسه أيام الحصار، فالتفت إلى جليس له، وهو محمد بن سلام صاحب المظالم، فقال له: ويحك يا محمد، أتدري؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول الشاعر:
ذكر الهوى فتنفس المشتاق ... وبدا عليه الذل والإطراق
يا من يصبرني لأصبر بعده ... الصبر ليس يطيقه العشاق
فقال: لا والله ما نكأتها. ثم التفت إلى جليس له آخر، فقال له: ويحك أتدري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ذكرت قول ابن الأحنف:
تذكرت بالريحان منك شمائلاً ... وبالراح عذباً من مقبلك العذب
فقال: لا والله ما نكأتها، ثم التفت إلى كوثر الخادم، فقال له: ويحك! أتدري؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول ابن نفيلة الغساني:
إن كان دهر بني ساسان فرقهم ... فإنما الدهر أطوار دهارير
وربما أصبحوا يوماً بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
قال: صدقت.
وكتبت جارية إلى علي بن الجهم رقعة، فأجاب فيها:
ما رقعة جاءتك مكتوبة ... كأنها خد على خد
تبدو سواداً في بياض كما ... ذو فتيت المسك في الورد
ساهمة الأسطر مصروفة ... عن جهة الهزل إلى الجد
يا كاتباً أسلمني عتبه ... إليه حسبي منك ما عندي
وكتبت أيضاً:
قلب يمل على لسان ناطق ... ويد تخط رسالة من عاشق
مزج المداد بعبرة شهدت له ... من كل جارحة بحب صادق
فيمينه تحت الوساد وخده ... ويساره فوق الفؤاد الخافق
أهدت جارية من جواري المهدي تفاحة إلى المهدي وطيبتها. وكتبت فيها:
هدية مني إلى المهدي ... تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طيبت ... كأنها من جنة الخلد
فأجاب المهدي:
تفاحة من عند تفاحة ... جاءت فماذا صنعت بالفؤاد
والله ما أدري أأبصرتها ... يقظان أم أبصرتها في الرقاد

وكتب بعض الكتاب إلى مدام، جارية المازني، وبعث إليها بقنين من مدام:
قل لمن يملك الملو ... ك وإن كان قد ملك
قد شربناك مرة ... وبعثنا إليك بك
وقال علي بن الجهم: دخلت على أبي عثمان المازني، وعنده جارية له كأنها شقة قمر، وبيدها تفاحة معضوضة، فقالت: عرفت ما أراد الشاعر بقوله:
خبريني من الرسول إليك ... واجعليه من لا ينم عليك
قلت: ما أعرفه. قالت: هو هذه، ورمت إلي بالتفاحة، فوالله ما وجدت لها جواباً من نظير كلامها.
وقال شيخ من أهل البصرة: لقيت الحسن بن وهب، فأردت أن أمتحن سلامة طبعه، ومعي تفاحة، فأريته إياها وسألته أن يصفها، فقال لي: نحن على الطريق، ولكن مل إلى المسجد. فملنا إليه، فأخذها وقلبها بيده شيئاً، وقال:
يا رب تفاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي
قد بت في ليلتي أقلبها ... أشكو إليها طاول الكمد
لو أن تفاحة بكت لبكت ... من رحمة هذه التي بيدي
وعد المأمون جارية أن يبيت عندها، وأخلفها الوعد، فكتبت إليه:
أرقت عيني ونامت ... عين من هنت عليه
إن نفسي فاعذرنها ... أصبحت في راحتيه
رحم الله رحيماً ... دل عيني عليه
فلما قرأ رقعتها ضحك، ولم يبت ليلته إلا عندها.
عتب المأمون على جارية من جواريه، وكان كلفاً بها فأعرض عنها، وأعرضت عنه، ثم أسلمه العزاء، وأقلقه الشوق، حتى أرسل يطلب مراجعتها وأبطأ عليه الرسول فلما رجع إليه أنشأ يقول:
بعثتك مرتاداً ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
وناجيت من أهوى وكنت مقرباً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
ونزهت طرفاً في محاسن وجهها ... ومتعت باستظراف نغمتها أذنا
أرى أثراً منها بعينيك لم يكن ... لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا
ثم إن المأمون أقبل مسترضياً لها فسلم عليها، فلم ترد عليه، وكلمها فلم تجبه، فأنشأ يقول:
تكلم ليس يوجعك الكلام ... ولا يؤذي محاسنك السلام
أنا المأمون والملك الهمام ... ولكني بحبك مستهام
يحق عليك ألا تقتلني ... فيبقى الناس ليس لهم إمام
كتبت امرأة عمر بن عبد العزيز إلى عمر، لما اشتغل عنها بالعبادة:
ألا أيها الملك الذي قد ... سبى عقلي وهام به فؤادي
أراك وسعت كل الناس عدلاً ... وجرت علي من بين العباد
وأعطيت الرعية كل فضل ... وما أعطيتني غير السهاد
فصرف وجهه إليها.
وقعد الرشيد يوماً عند زبيدة، وعندها جواريها، فنظر إلى جارية واقفة عند رأسها فأشار إليها أن تقبله، فاعتلت بشفتيها، فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه:
قبلته من بعيد ... فاعتل من شفتيه
ثم ناولها القرطاس فوقعت فيه:
فما برحت مكاني ... حتى وثبت عليه
فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة، فوهبتها له. فمضى بها وأقام معها أسبوعاً لا يدري مكانهما، فكتبت إليه زبيدة:
وعاشق صب بمعشوقه ... كأنما قلباهما قلب
روحاهما روح ونفساهما ... نفس، كذا فليكن الحب
حدث أبو جعفر قال: بينا محمد بن زبيدة الأمين يطوف في قصر له، إذ مر بجارية له سكرى، وعليها كساء خز تسحب أذياله، فراودها عن نفسها، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا على حال ما ترى، ولكن إذا كان من غد إن شاء الله. فلما كان من الغد مضى إليها، فقال لها: الوعد. فقالت له: يا أمير المؤمنين: أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار؟ فضحك، وخرج إلى مجلسه، فقال: من بالباب من شعراء الكوفة؟ فقيل له: مصعب والرقاشي وأبو نواس. فأمر بهم فأدخلوا عليه، فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره:
كلام الليل يمحوه النهار
فأنشأ الرقاشي يقول:
متى تصحو وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك صباً مستهاماً ... فتاة لا تزور ولا تزار
إذا استنجزت منها الوعد قالت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب:
أتعذلني وقلبك مستطار ... كئيب لا يقر له قرار
بحب مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ يخالطها احورار
ولما أن مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار
فقلت لها عديني منك وعداً ... فقالت في غد منك المزار
فلما جئت مقتضياً أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس:
وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز المشي أردافاً ثقالاً ... وغصنا فيه رمان صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التجميش وانحل الإزار
فقلت: الوعد سيدتي. فقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
فقال له: أخزاك الله، أكنت معنا ومطلعاً علينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين عرفت ما في نفسك فأعربت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف درهم، ولصاحبيه بمثلها.
وقال بعض العراقيين:
غضبت من قبلة بالكره جدت بها ... فها أنا جئت فاقتصيه أضعافا
لم يأمر الله إلا بالقصاص فلا ... تستجوري ما رآه الله إنصافا
عتبت ماردة على هارون الرشيد، فكانت تظهر الكراهة وتضمر له المحبة، فقال فيها:
تبدي صدوداً وتخفي تحته صلة ... فالنفس راضية والطرف غضبان
يا من وضعت له خدي فذلله ... وليس فوقي سوى الرحمن سلطان

خبر الحسن بن هانئ مع الأسود
أبو بكر الوراق قال: قال لي الحسن بن هانئ: حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة، وذلك إبان الربيع، نزلنا منزلاً بإزاء ماء لبني تميم، ذا روض أريض، ونبت غريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة، والنمارق المصفوفة، فقرت بنضرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت ببهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء، فأسف غمامها وتدانى من الأرض ركامها، حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر حيث يقول:
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
همت برذاذ، ثم بطش، ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت وقد غدرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألف، رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة، فسرحت طرفي راتعاً منها في أحسن منظر، وانتشقت من رياها أطيب من المسك الأذفر. قال: فلما انتهينا إلى أوائلها. إذا نحن بخباء على بابه جارية متبرقعة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، قد أشعرت حماليقه فتوراً وملئت سحراً، فقلت لزميلي: استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: استسقها ماء. فاستسقاها فقالت: نعم ونعمى عين، وإن نزلتم ففي الرحب والسعة. ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان، أو قضيب خيزران، فراعني ما رأيت منها، ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي، ثم قلت: وصاحبي أيضاً عطشان. فأخذت الإناء فذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول:
إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدمى غرة ... ويكشف عن منظر أشنع
قال: وسمعت كلامي، فأتت وقد نزعت البرقع، ولبست خماراً أسود، وهي تقول:
ألا حي ركبي معشر قد أراهما ... أطالا ولما يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستقيا باللحظ ممن سقاهما
فشبهت كلامها بعقد در وهي سلكه فانتثر، بنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها الصم الصلاب لانبجست، مع وجه يظلم لنوره ضياء العقول، وتتلف في روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير.
فدقت وجلت واسبطرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت
فلم أتمالك أن سجدت وخررت ساجداً فأطلت من غير تسبيح، فقالت: ارفع رأسك غير مأجور، ولا تذم من بعدها برقعاً، فلربما انكشف عما يصرف الكرى ويحل القوى، ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة، ولا درك طلبة، ولا قضاء وطر، ليس إلا للحين المجلوب، والقدر المكتوب، والأمل الكذوب، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لصواب، فالتفت إلي صاحبي، فقال لما رأى هلعي، كالمسلي لي عن بعض ما أذهلني: ما هذه الخفة لوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته؟ أما سمعت قول ذي الرمة:
على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا
فقالت: أما ما ذهبت إليه لا أبالك، فلا والله، لأنا بقول الشاعر:
منعمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتج الروادف أهضم
لها بشر صاف وعين مريضة ... وأحسن إيماء بأحسن معصم
خزاعية الأطراف سعدية الحشا ... فزارية العينين طائية الفم
أشبه من قولك الآخر. ثم رفعت ثيابها حتى بلغت نحرها، وجاوزت منكبيها فإذا قضيب فضة قد شيب بماء الذهب، يهتز على مثل كثيب النقا، وصدر كالوذيلة، عليه كالرمانتين، وخصر لو رمت عقدة لانعقد، مطوي الاندماج، على كفل رجراج، وسرة مستديرة، يقصر فهمي عن بلوغ نعتها، من تحتها أرنب جاثم، أو جبهة أسد خادر، وفخذان لفاوان، وساقا خدلجان يخرسان الخلاخيل، وقدمان كأنهما لسانا. ثم قالت: أعاراً ترى لا أبالك؟ قلت: لا والله، ولكن سبب القدر المتاح، ومقربي من الموت الذباح، يطبق علي الضريح، ويتركني جسداً بغير روح. فخرجت عجوز من الخباء، فقالت له: امض لشأنك، فإن قتيلها مطلول لا يودي، وأسيرها مكبول لا يفدى. فقلت لها: دعيه فإن له مثل قول غيلان:
فإلا يكن إلا تعلل ساعة ... قليلاً فإني نافع لي قليلها
فولت العجوز وهي تقول:
وما لك منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها وأيرك جانب
فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل، وكرب خابل، وأنا أقول:
يا حسرتي مما يجن فؤادي ... أزف الرحيل بغربتي وبعادي
فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين، ممرنا بذلك المنزل، وقد تضاعف حسنه وتمت بهجته، فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا. فلما أشرفنا على الخيام، فصعدنا ربوة ونزلنا وهدة، إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادماً لأدناهن، وهن يجنين من نور ذلك الزهر، فلما رأيننا وقفن فقلنا: السلام عليكن. فقالت من بينهن: وعليك السلام، ألست صاحبي؟ قلت: بلى. قلن: وتعرفينه؟ قالت: نعم، وقصت عليهن القصة ما خرمت حرفاً. قلن لها: ويحك، فما زودته شيئاً يتعلل به؟ قالت: بلى، زودته لحداً ضامراً، وموتاً حاضراً. فانبرت لها أنضرهن خداً، وأرشقهن قداً، وأسحرهن طرفاً، وأبرعهن شكلاً، فقالت: والله ما أحسنت بدءاً، ولا أجملت عوداً، ولقد أسأت في الرد، ولم تكافئيه في الود، فما عليك لو اسعفته بطلبته، وأنصفته في مودته، وإن المكان لخال، وإن معك من لا ينم عليك. فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئاً أو تشركيني في حلوه ومره. قالت لها: تلك إذاً قسمة ضيزى، أتعشقين أنت وأناك أنا؟ قالت أخرى منهن: قد أطلتن الخطاب في غير أرب، فسلن الرجل عن نيته، وقصده وبغيته، فلعله لغير ما أنتن فيه قصد.
فقلن: حياك الله، وأنهم بك علينا، من تكون، وممن أنت، وما تعاني، وإلام قصدت؟ فقلت: أما الاسم فالحسن بن هانئ، رجل من اليمن، ثم من سعد العشيرة، وأحد شعراء السلطان الأعظم، ومن يدني مجلسه، ويتقى لسانه، ويرهب جانبه. وأما قصدي فتبريد غلة، وإطفاء لوعة، قد أحرقت الكبد وأذابتها. قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر، وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك، وتنال بغيتك. ثم أقبلت عليهن، فقالت: ما بواحدة منكن عن مثله مرغب، فتعالين نشترك فيه، ونقترع عليه، فمن واقعتها القرعة منا تكون هي البادية. فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري، فعلقن إزاراً على باب مغار يجاورهن وأدخلت فيه، وأبطأن عني وجعلت أتشوف لدخول إحداهن علي، إذ دخل علي أسود كأنه سارية، وبيده شيء كالهراوة، قد أنعظ بمثل رأس الخفيدد، قلت: ما تريد؟ قال: أنيكك. فهمني والله نفسي ثم صحت بصاحبي، وكان أيداً، فبالحري والله ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار، وإذا هن يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات؛ فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنماً إلى جانب الغار فدعونه، فوسوسن إليه شيئاً فدخل عليك. فقلت أبا علي: أتراه كان يفعل في شيئاً؟ فقال: أتراك خلصت منه. فانصرفت وأنا أخزى الناس.
قال إسماعيل: فقلت: ناكك والله الأسود. فقال: ما لك أبعدك الله، فوالله لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل حتى ضاق به ذرعي، ورأيتك موضعاً له، فبحقي عليك إن أذعته. قال إسماعيل: فما فهت به حتى مات.

خبر ذي الرمة
قال أبو صالح الفزاري: ذكرنا ذا الرمة، فقال عصمة بن عبد الملك شيخ منا، قد بلغ عشرين ومائة سنة: لإياي فاسألوا عنه، كان من أظرف الناس، آدم خفيف العارضين، حسن المضحك، حلو المنطق، وإذا أنشد بربر وجش صوته، وإذا راجعك لم تسأم من حديثه وكلامه، وكان له إخوة يقولون الشعر، منهم مسعود، وهشام، وأوفى، كانوا يقولون القصيدة فيزيد عليها الأبيات، فيغلب عليها فتذهب له، فجمعني وإياه مربع فأتاني يوماً، فقال لي يا عصمة: إن مية منقرية وبنو منقر أخبث حي، وأقوفه لأثر، وأعطفه بشر، فهل عندك ناقة نزدار عليها مية؟ قلت: والله إن عندي للجؤذر قال: علي بها. فركبنا جميعاً وخرجنا حتى أشرفنا على بيوت الحي فإذا هم خلوف، وإذا بيت مية ناحية، فعرفن ذا الرمة فتقوض النساء إلى مي، وجئنا حتى أنخنا، ثم دنونا فسلمنا وقعدنا نتحدث، فإذا هي جارية أملود واردة الشعر بيضاء تغمرها صفرة، وعليها ثوب أصفر، وطاق أخضر، فقلن: أنشدنا يا ذا الرمة. فقال: أنشدهن يا عصمة. فأنشدتهن:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأعربت العينان والصدر كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكا وامق جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومغايبه
فقالت ظريفة منهن: لكن الآن فلتجل قال: فنظرت إليها مية متكرهة، ثم مضيت في القصيدة، حتى انتهيت إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح ... على القلب لبته جميعاً عوازبه
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله. قالت مية: ما أصحه وهنيئاً له. فتنفس ذو الرمة تنفساً ظننت معه أن فؤاده قد انصدع، ومضيت فيها حتى انتهيت إلى قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
إذاً فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدو أحاربه
فالتفتت إليه فقالت: خف عواقب الله. ومضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:
إذا راجعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الثوب سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
فقالت الظريفة: ها هي ذه قد راجعتك، وقد بدا لك الوجه منها، فمن لك بأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت مية إليها فقالت: قاتلك اله، ما أنكر ما تجيبين به. فتحدثن ساعة، ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهذين لشأناً، فقمن بنا وقمت معهن، فجلست في بيت أراهما منه، فما رأيته برح من مقعده، ولا فقدته، فسمعتها قالت له: كذبت والله. ولا أدري ما قال لها، فلبثت قليلاً، ثم جاءني معه قارورة فيها دهن ومعه قلائد للجؤذر، فقال: هذا دهن طيب أتحفنا به، وهذه قلائد للجؤذر، ولا والله ما أقلدهن بعيراً أبداً! وشد بهن ذوائب سيفه وانصرفنا. فكنا نختلف إليها حتى انقضى الربيع، ودعا الناس المصيف، فأتاني فقال: هيا عصمة، قد رحلت مي ولم يبق إلا الآثار، ورسوم الديار. وأنشدني:
ألا يا اسملي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
خرج المأمون في يوم عيد وقد ركب الجند أمامه، ومعه يحيى بن أكثم يضاحكه ويحادثه، إذ نظر إلى غلام من الجند في غاية الفراهة، عليه ثوب حرير أخضر، وثوب موشى مزرر بالذهب، فالتفت إلى يحيى بن أكثم فقال له: يا يحيى، ما تقول في هذه البضاعة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا لقبيح من إمام مثلك مع فقيه مثلي. قال: فمن الذي يقول:
قاض يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
فقال: دعبل، الذي يقول:
ولا أرى الجور ينقضي وعلى ال ... أمة والٍ لآل عباس
قال: ينفى إلى السند، وإنما داعبناك. ثم أنشأ المأمون يقول:
أيها الراكب ثوبا ... ه حرير وحديد
جئت للعيد وفي وج ... هك للأعين عيد
أنت جندي ولكن ... فيك للحسن جنود
الفضل بن الربيع قال: قعد المخلوح للناس يوماً وعليه طيلسان أزرق، وتحت لبد أبيض، فوقع في ثمانمائة قصة، فوالله لقد أصاب فما أخطأ، وأسرع فما أبطأ، ثم قال لي: يا فضل، أتراني لا أحسن التدبير والسياسة، ولكني وجدت شم الآس، وشرب الكاس، والاستلقاء من غير نعاس، أشهى إلي من ذلك.
قال ابن قتيبة: خرج أبو عيسى جبريل بن أبي عيسى إلى متنزه بالقفص، ومعه الحسن بن هانئ، في آخر شعبان، فلما كان اليوم الذي أوفى به الشهر ثلاثين يوماً قيل له: إن هذا يوم شك، وبعض أهل العلم يصومه، فقال: لا عليك، ليس الشك حجة على اليقين. حدثنا أبو جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " . ثم قال أبو عيسى:
لو شئت لم نبرح من القفص ... نشربها حمراء كالحص
نسرق هذا اليوم من شهرنا ... والله قد يعفو عن اللص
وذكروا أن أبا عيسى خرج إلى القفص متنزهاً ومعه الحسن بن هانئ، فحمله وخلع عليه، فأقام فيها أسبوعاً، ثم قال: بحياتي صف مجلسنا والأيام كلها. فقال في ذلك:
يا طيبنا بقصور االقفص مشرقة ... بها الدساكر والأنهار تطرد
لما أخذنا بها الصهباء صافية ... كأنها النار وسط الكأس تتقد
جاءتك من دن خمار بطينتها ... صفراء مثل شعاع الشمس ترتعد
وقام كالبدر مشدوداً قراطقه ... ظبي يكاد من التهييف ينعقد
فسلها من فم الإبريق فانبعثت ... مثل اللسان جرى واستمسك الجسد
فلم نزل في صباح السبت نأخذها ... والليل يأخذنا حتى بدا الأحد
واستشرقت غرة الاثنين واضحة ... والجدي معترض والطالع الأسد
يوفي الثلاثاء أعملنا المطي بها ... صهباء ما قرعتها بالمزاج يد
والأربعاء صفا فيه النعيم لنا ... والكأس يضحك في حافاتها الزبد
ثم الخميس وصلناه بليلته ... قصفاً وتم لنا بالجمعة العدد
يا حسننا وبحار القفص تغمرنا ... في لجة الليل والأوتار تجتلد
في مجلس حوله الأشجار محدقة ... وفي جوانبه الأطيار تغترد
لا نستخف بساقينا لعزته ... ولا يرد عليه حكمه أحد
عند الهام أبي عيسى الذي كملت ... أخلاقه فهي كالأوراق تنتقد
أبو جعفر البغدادي قال: حدثنا أبو محمد الدمشقي قال: مررت ذات ليلة، أيام فتنة المستعين، والقمر يزهر بباب الشام، فإذا أنا بشيخ غليظ، أصلع نشوان، قد توشح في إزار أحمر، ومال على شقه الأيمن، وفي يده خوصة يشمها ويقول:
عشرون ألف فتى ما منهم أحد ... إلا كألف فتى مقدامة بطل
أضحت مزاودهم مملوءة نشباً ... ففرغوها وأوكوها إلى الأمل
فقلت له: أحسنت، لله أنت. فقال: أتحب رقيقة؟ فقلت: ما أحوجني إليها.
فقال:
إنما هيج البلا ... حين عض السفرجلا
وعلا الورد وجنتي ... ه فأبدى التخجلا
يفضح البدر في الكما ... ل إذا البدر أكملا
ولقد قام لحظ عي ... ني على القلب بالقلا
قلت له: أبو من أعزك الله؟ قال: ابو عيشونة الخياط، شهدت حروب ابن زبيدة كلها، وجاريت الفتيان في غاية كل ميدان، واعترف لي كل فاتك، وأذعن لي كل شاطر، ونزلت تلك الدار عشرين سنة. وأومأ إلى سجن بغداد، ثم تنفس الصعداء. وقال: أنا الذي أقول:
لي فؤاد مستهام ... وجفون ما تنام
ودموع آخر الده ... ر بعيني سجام
وحبيب كلما خا ... طبته قال سلام
فإذا ما قلت: صلني ... قال لي ذاك حرام
ثم بكى تخالجاً، فلما افاق قلت: ما يبكيك؟ قال: وكيف لا أبكي، ولي حبيب بالبصرة علقته وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم غبت عنه ثلاثاً وثلاثين سنة، فلما عيل صبري خرجت إلى البصرة فطفت في شوارعها حتى رأيته، فما رأيت وجهاً أحسن منظراً ولا أزهى منه. ثم أنشأ يقول:
مردد في كمده ... معذب في سهده
خلا به السقم فما ... أسرعه في جسده
يرحمه لما به ... من ضره ذو حسده
ثم ودعني ومضيت.
وحدثني أبو الفضل قال: إني لفي الطواف أمام الحجر، إذ سمعت حنيناً يخرج من بين الأستار، وإذا قائل يقول:
عفا الله عمن يحفظ الود جهده ... ولا كان عفو الله للناقض العهد
وضعت على الأستار خدي ليلة ... ليجمعني مع من وضعت له خدي
قال: فرفعت الأستار فإذا جارية منفردة، كأنها شمس تجلت عنها غمامة.
فقلت: يا هذه لو سألت الله الجنة مع هذا التضرع والبكاء ما حرمك إياها. قال: فسترت وجهها، وقالت: سبحان من خلق فسوى، ولم يهتك العلانية والنجوى. أما والله إني لفقيرة إلى رحمة ربي، وقد سألته أكبر الأمرين عندي، رجاء فضله، واتكالاً على عفوه. ثم ولت عني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم.
حدث مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب قال: خرجت أنا وزبان السواق إلى العقيق، فلقينا نسوة نازلات من العقيق، لهن جمال وشارة، وفيهن جارية حسانة العينين، فلما رآها زبان قال لي: يا بن الكرام دم أبيك والله في ثيابها، فلا تطلب أثراً بعد عين. وأنشد قول أبي مسلم بن جندب:
ألا يا عباد الله هذا أخوكم ... قتيلاً فهل منكم له اليوم ثائر
خذوا بدمي إن مت كل مليحة ... مريضة جفن العين والطرف ساحر
قال: فقالت لي الجارية: أنت ابن جندب؟ قلت: نعم. قالت: فاغتنم نفسك واحتسب أباك، فإن قتيلنا لا يودى، وأسيرنا لا يفدى.
الزبير بن بكار، عن عبد الله بن مسلم بن جندب قال: قلت:
تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عين لا تنام طويل
قال: فطرقني عيسى بن طلحة قال: إني سمعت قولك فجئت أعينك. فقلت: يرحمك الله، أغفلت الإجابة حتى أتى الله بالفرج.
أبو المهلهل الخزاعي قال: ارتحلت إلى الدهناء، فسألت عن مي صاحبة ذي الرمة، فدفعت إلى خيمة فيها عجوز هيفاء، فسلمت عليها، وقلت: أين منزل مي؟ فقالت: ها أنا مي. فقلت: عجباً من ذي الرمة وكثرة قوله فيك. قالت: لا تعجب، فإني سأقوم بعذره. ثم قالت: فلانة! فخرجت من الخيمة جارية ناهدي عليها برقع، فقالت لها: أسفري. فلما تحيرت لما رأيت من حسنها وجمالها، فقالت: علقني ذو الرمة وأن في سن هذه، وكل جديد إلى بلى. قلت: عذرته والله. واستنشدتها من شعره فأنشدت



.

صورة مفقودة
 
أعلى