أبو بكر العيادي - هل انتهاك المقدس مرادف للإبداع

عند الحديث عن المقدس في مجتمعاتنا العربية، تتبادر إلى أذهاننا الأديان السماوية وكتبها ورُسلها دون سواهم، والحال أن عناصر أخرى كثيرة قد تكون موضع تقديس، كالأشياء والأشجار والصخور والأنهار والغابات والحيوان والإنسان الذي يحتل موقع الصدارة في هذا الكون. فهي منفردة، لا قيمة لها إلا بذاتها، ولكنها تتخذ صبغة المقدس إذا أجمعت فئة ما على ذلك.

وإذا كان كميل تارو يرى أن المقدس منشؤه الدين، فإن علماء آخرين من إيميل دوركايم وميرسيا إلياد ومارسيل موس إلى كلود ليفي سترواس ورونيه جيرار ومارسيل غوشيه يعتقدون بأن المقدس نشأ من عادات إثنية، قد تكون دينية وقد تكون أيضا ميثولوجية أو إيديولوجية، وهو دالّ عموما على كل ما لا يمكن إدراكه أو الوصول إليه لوقوعه خارج العالم العادي، فيكون مثارا للعبادة أو الخشية.

وقد ظلت عناصر المقدّس على مرّ القرون محصّنة لا تلمس، والتصرف فيها، حتى بمجرد التفكير، ينبغي أن يخضع لطقوس محددة. ذلك أن عدم احترام تلك القواعد، أو محاولة خرقها، كان يُعدّ خطيئة أو جريمة، وهو ما يطلق عليه انتهاك المحرمات، وأخطر ما في الانتهاك التدنيس الذي يعرّف بكونه إقحام عناصر دنسة في حظيرة مقدسة (حقيقية كانت أم رمزية).

والمقدس في جوهره جماعي، يكون مشتركا على مستوى اجتماعي عام، أي أنه يتوجه إلى الجميع بلا استثناء. تماما كالإبداع. ونعني به الإبداع الذي لا يسير على خطى السابقين، بل يثور على السائد في بناه وأفكاره ومعتقداته.

يقول روجيه كايوا : “ليس للمرء سوى موقفين لمواجهة المقدس: احترام المحظور أو انتهاكه. إذا اختار التجربة الأولى، فلأنه يروم الهروب من وضع سوف يقوده إلى نهاية محتومة. في هذه الحالة تكون أمامه ثلاثة حلول: الطوطمية أو الإحيائية أو الدين”. والرأي عنده هو عدم التقيد بالمقدس في شتى أوجهه.

كذلك كان الشأن في الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، فآداب القرن العشرين، سواء من حيث انتهاك المقدسات أو البحث الروحاني، كانت صدى لفكرة “موت الرب” التي صدع بها نيتشه، فمن كلوديل إلى برنانوس مرورا بجان جيونو، كان المقدس حاضرا في الخطاب الأدبي، حيث تعمقت الأعمال الفنية في تناوله عبر التأكيد على الوضع التراجيدي للإنسان. وفي موازاة ذلك، كانت أعمال جيمس جويس وجورج باطاي وجان جينيه على سبيل الذكر لا الحصر تجهد في قلب المقدس رأسا على عقب، حتى صار الانتهاك مرادفا للإبداع، وفتح الباب عندئذ أمام حرية جديدة لا ترى القداسة إلا في الفن. ورغم ذلك، لم تفلح إزالة صفة القداسة تلك في إلغاء مفهوم المقدس، إذ شهد المفهوم تحولا عميقا، ذلك أن الأعمال التي هاجمته بعنف، خلقت لها مقدسا آخر، يتعلق بمتعة اللغة. فما عاد المقدس عندهم يتحدد في مسألة الرب وموته، بل في كونه مكان التقاء بين ما يوصف وما لا يوصف، بين الطبيعي وما فوق الطبيعي، في أعمال تطرح علاقة الإنسان بالخير والشر، والجمال والقبح، وتفسح المجال لصيرورة اللغة. ألم يصرّح هولدرلين منذ قرنين: “ليكن قولي هو المقدس″ وهو ما أكده الفيلسوف مارسيل غوشيه في قوله: “إن اللغة الفنية ما ثبتت أمام لغة الاتصال، إلا وفي نسغها شيء صامد، هذا الشيء له علاقة بالمقدس″.

كذلك الشأن في بلاد الغرب، أما في مجتمعاتنا العربية، فالإبداع في عمومه لا يزال خاضعا للفهم الديني للمقدس، حيث يكون كل منتهك للمحرمات عرضة للمقاضاة، وحتى العنف اللفظي (كما حدث لحيدر حيدر) أو المادي (محاولة اغتيال نجيب محفوظ)، لأن مجتمعاتنا لا تزال تضع الديني (وفي بعض الأقطار تضيف إليه السياسي) في مقام لا يمكن مساءلته بمنأى عن ردة فعل عنيفة، خصوصا في ظل صعود أصولية سلفية تكفيرية لغّمت أفكارها بالفكرالمتزمت.

أبو بكر العيادي
 
أعلى