الصباح الجديد - ثقافة التابو الجنسي في الأدب العربي

يبدو لأول وهلة أن التابو الجنسي في الأدب بدأ يتخلخل، وهكذا يفقد الثالوث المحرم أحد أركانه، يبقى بالطبع التابو الديني والتابو السياسي راسخين، وذلك يتضح من خلال النتاجات الأدبية نفسها، في الرواية بوجه خاص وفي الشعر بقدر ما يسمح الشعر. لم يعد الإلماح الجنسي كافيا ولا الكتابة عنه بالطبيعة ولا مقاربته بلغة موازية. دخل القاموس الجنسي بحرفه وبوشر الكلام عن المشهد الجنسي بتفاصيله وحركاته. أما أكثر ما يلفت في ذلك فهو ان الروائيات جارين في ذلك زملاءهن الرجال، مما بدا لدى الكثير، كعمل جريء، بل انه مفرط في الجرأة، وحجتهم في ذلك اجتماعية أكثر منها أدبية. لقد اعتبروا المرأة قائمة على سرية الجنس ومداراته ووجدوا أن في انكشافه في الخطاب النسائي نهاية السرية ونهاية التابو. بل يذهب البعض الى ان الخطاب الجنسي فيه فجاجة مراهقة وإثارة مجانية وأحيانا بذاءة ومنافاة للحشمة، أي بكلمة، ثمة قراء أقلقهم هذا الأدب وطلبوا ببساطة درجة من الضبط والمراقبة، بل ان كثيرين طلبوا الرجوع في التعبير الجنسي للسلف الصالح وللنص القرآني بالضبط وسورة يوسف مثال.
هناك من قالوا إن الإفراط في الكلام الجنسي لا يناسب مكانه في حياتنا أو في الحياة بعامة. مثل هذا الكلام يعني ببساطة أنه طفح الكيل، واننا جاوزنا الحد، وأن المطلوب الآن هو التراجع. اذا فهمنا ان عمر هذه الجرأة على الكلام الجنسي الذي وصلنا الى فيه حد الافراط والتفريط هو لايتجاوز مدى عشر سنوات، فيعني اننا في هذا العمر القصير استنفدنا الموضوع ووصلنا به الى حد الرخص والمتاجرة. لم يقم أحد بالطبع بجمع كل ما كتب، لكن قارئا متابعاً سيقول في نفسه اننا لم نزل في البداية وأن هذا الانتكاس الى ما قبل ليس مفهوماً اذا قسناه على عمر التجربة ومداها. سيفكر ان المسألة ليست في الكم ولكن في النوع وأن ما يقلق هو المبدأ نفسه، ما يقلق هو المباشرة بالتعبير الجنسي. الاعتراض قد لا يكون تمحيصاً ولا متابعة، قد لا يكون سوى الصدمة التي يتسبب بها الموضوع ذاته في أي نص وأي تناول، قراءة ما لا يظنونه مسموحاً. هل هو التحريم ذاته بلغة أخرى، لماذا لا يثورون هكذا على الموضوع السياسي وهو في الغالب، في أدبنا، خطابي فج ولا يخرج عن ارتجاز بدوي ورخص شعبوي. ام ان السياسة هكذا لا تزعزع بالطبع هواماتهم ولا تقلق الاشباح المكدسة في مكبوتهم. وبحديث بعضهم عن القيم الفنية، واللغة الموازية، أي قول الموضوع بلغة أخرى، بلغة تزعم التسامي والنظافة والطهارة والفن. ألا يعني ذلك بكلمة واحدة: الكبت، ألا يعني هذا أن الجنس ليس سوى تدنيس وأن الفن في المقابل تجميل وتزيين. ألا يعني ان الجنس جحيمي بشع هائج زفر وسخ مدنس. يوصي البعض بمجاراة القرآن في سورة يوسف، ها قد وُجد فن أصلي. يحق للدين هنا، بعد طول جدال، أن يعود حكماً على الفن أو حتى مثالاً فنياً. لكن الذين يقرأون هذا النصيب من سورة يوسف يقرأونه ايضا بنفوسهم المكبوتة ولا يريدون ان يروا ماذا يعني في المباشر تغليق الأبواب وقد القميص. وهذا، ربما، أكثر ما يمكن أن يقوله الشعر، وطالما سعى القرآن لأن يدفع عن نفسه الالتباس بالشعر. أما في النثر العربي فليس في نص الجاحظ سوى البذاءة، نعم البذاءة الفجة الشهوانية المرحة التي هي فرح بالجنس وفرح بالرغبة وتطابق معهما. في نص الجاحظ المباشرة وفي نصه يغدو الجنس مطلبا قائما بذاته وينتهي في ذاته، وليس موضوعاً يستعار لغيره ويتطهر بغيره. ليس في نص الجاحظ ذلك الاحتجاج البليغ للكبت بالفن ولا هذا الاعلاء ولا ذلك الإلماح. لم يفرق بين الجنس والفن ولم يعتبر الجنس دون الفن ويحتاج الى تحويل ليغدو فنا.
ثم هل استنفدنا حقا الموضوع الجنسي وبات علينا أن نعود فيه القهقرى، هل وصلنا حقا الى النهاية، وبهذا الوقت القصير. ان تأفف الكثيرين ليس نافلاً وليس مجرد جملة اعتراضية. انه تأفف فعال، لا نعرف اذا كان تخلخل التابو حقا ام أن في الأمــر فـــترة سمــاح بسيطــة، وإلا كـــيف يمكــن ان يهتز، حقا، ركــن في الثالوث، بينما يزداد الركنــان الآخــران مناعــة.
هل نقول، بدون تهكم فج وبدون جرأة اصلا، إن التنديد والخوف من الإثارة والنعي على الرخص، قد لا تكون، في هذا المجال، سوى التفاف على نية بادئه وعلى مجرد إنذار. لم ينع كثيرون على الشعر السياسي والمسمى (وطني) هذه الفجاجة ولا تلك الاثارة والرخص والسوقية. لم ينع كثيرون على ثقافتنا، أن جلها قائم على أشياء كهذه. الخوف من الجنس ليس كتقليد ولا تراث، وانما كخوف من المستقبل. الخوف من الحرية في كل مجال وفي أركان الثالوث كله وحين يدعى الكتّاب الى العودة، فنيا، الى الاصل القرآني، نفهم هذه المرة ان ما نحن بصدده أخطر مما نظن. انه دعوة الى تحكيم الدين في الفن، بعد أن جرى تحكيمه في كل شيء.


الصباح الجديد
.


صورة مفقودة
 
أعلى