نصر الدين البحرة - الشيخ محيي الدين بن عربي ومذهبه في الحب (محاورة).. شـاعر دينه الحبّ

بسم الله الرحمن الرحيم
عرفت اسمه منذ الطفولة، ذاك أن أحد خطوط الحافلات الكهربائية في دمشق، كان ينتهي على بعد أمتار من المسجد الذي يحمل اسمه. وسمعت بعض الكبار يتحدثون عنه ويلهجون بالثناء عليه. ثم كان أن قرأت لمعا من أخباره.. ولكن هذا كله لم يكن شيئاً إذا وضع في كفة ميزان، يعادل الرحلة الطويلة البعيدة التي أخذتنا فيها الدراسة الأكاديمية نحو شواطئه.

ذاكم هو محمد بن علي أبو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي. المعروف بمحيي الدين بن عربي والملقب بالشيخ الأكبر. وهو في الحقيقة ذلك الفيلسوف العربي العظيم الذي ولد في "مرسية". وليس في مورسيا كما ذكر خطأ- في الأندلس في أواسط القرن الميلادي الثاني عشر 1165، ثم انتقل إلى أشبيلية، حيث كان أجداد ابن خلدون- ولم يلبث أن قام برحلة طويلة انتهت به إلى دمشق فأحبها وأحبته وأقام فيها بقية أيام حياته. وكان حب الناس له فيها، وتعلقهم بذكره وذكراه حتى الآن، خير شاهد على أنها تظل عاصمة لعرب، في كل زمان.

لم تكن حياة محيي الدين بن عربي قصيرة ذاك أنه عاش خمساً وسبعين سنة حافلة. وفي مثل تلك الأيام التي تكلم وتصرف وكتب فيها، لم يكن هيّناً اتخاذ المواقف، كما نقول الآن.. كانت حادثة بسيطة يسيء فهمها عامة الناس، ويستغلها الأوباش المرتزقة، تكفي.. لا، لتعكير حياة رجل كبير مثل ابن عربي فحسب، بل.. لإراقة دمه وقتله، على هذا النحو أو ذاك، مثلما حدث مع الحلاج، ومثلما كان يمكن أن يحدث للشيخ الأكبر في القاهرة لولا أن سعى أحد الكرام فأنقذه من محنته فنجا، ثم غادر…

ابن عربي في الزمن الصعب :

المذهل أن الشيخ محيي الدين، في ذلك الزمن الصعب الذي كان، والصليبيون ما يزالون في أجزاء من بلادنا، وإن كانوا قد تلقوا تلك الضربة القاصمة على يدي الناصر صلاح الدين في حطين.. في تلك الأيام التي وصلت فيها الثقافة العربية إلى أسوأ أيامها، والجهل شيء مخيف مرعب في الشارع، كان عليه أن يقرأ وأن يتكلم وأن يكتب.. فماذا كتب..

يقول خير الدين الزركلي في الأعلام إنه كتب نحو أربعمئة كتاب ورسالة، فإذا استعرضنا ما يمكن الوقوف عنده منها، كان لنا أن نتساءل من جهة، هل كان هذا الرجل موسوعة؟ وكان لنظرنا أن يلتفت من جهة ثانية إلى هذه السمة الخاصة التي ميزت فكره وزانت حياته وتجلت في مؤلفاته. فكأنه كان مقيداً ذلك التقيّد –الحر الجميل الذي ينبع من داخل، بما يسميه المفكرون الآن مذهباً، إن كانت هذه ترجمة مقبولة للكلمة.

ماذا قالت قطرة المطر:

وحدة الوجود.. حسناً. إنها هذه النظرة الشاملة إلى الله ومخلوقاته، الإنسان والكون، كل ما فيه يسبّح باسمه ويشهد بجماله. وهل جمال الموجودات إلا صورة من جمال الموجد؟ لقد كان الشيخ أكثر من قانع مؤمن بهذه النظرة الشاملة، ذاك أنه كان يذهب في أحيان كثيرة إلى حدود الانفعال الصادق. ومن هذا القبيل ما يروى عنه. حين مر يوماً بميزاب تتقطر منه نقاط بعد مطر في إيقاع التقطه الشيخ، فرأى فيه القصة كاملة، ذاك أن القطرة الواحدة حين تصطدم بالماء المتجمع تحت الميزاب كانت تقول: الله.. الله..

هكذا سمع ابن عربي.

وانظر إلى هذه الأسماء التي تغلفها النزعة الشاعرية الصوفية معاً، وهل يمكن أن يكون تصوف دون شعر، وهل يمكن فصل الشعر عن روح التصوف، مهما يبعد به المزار عن شاطئ المتصوفة: الوعاء المختوم.. درر السرّ الخفي، الأنوار، شجرة الكون، اللمعة النورانية، فتح الذخائر والأغلاق، شرح ترجمان الأشواق، عنقاء مغرب. فصوص الحكم.. شقّ الجيب.. الخ...

أراد الشيخ الأكبر في ذلك العصر التعيس أن يوقظ الناس، على طريقته الحبيبة الرحبة الواسعة كصدره. أحب أن يقول لهم: دعكم من ظواهر الأمور وسطوحها وقشورها. انتبهوا إلى الجواهر، وهناك إذا شئتم تقدرون أن تتوغلوا أو تتغلغلوا.

مكمن الإيمان الحقيقي :

كان في وده أن ينبههم إلى أن الإيمان الحقيقي، يمكن أن يكون في ذلك الخافق الصغير، بعيداً عن الشكليات، ولعله كان يصلي صلاة ربما اختلفت عن صلاة المؤمنين في المسجد، حين راح يترنم ويتواجد وهو يسمع اسم الله ، في نقاط الماء المتقطرة.

وبالدرجة ذاتها كان ينكر على أولئك اللاهثين وراء العَرَض الزائل مساعيهم الخائبة، ومن هنا كان احتقاره المرير لتلك النزعات المادية لدى بعضهم بالمعنى المبتذل لهذه الكلمة: المادية. وفوق هذا وذاك أعلن الشيخ محيي الدين الحب، راية له وغاية. به يصل إلى فهم أسرار الكون ويقدر أن يمسك هذا الخيط الناعم الخفي الذي يشد المخلوقات والكائنات، إلى بعضها بعضاً، ويستطيع أن يتجاوز ما هو آني وظاهري، ويتعالى على السفاسف والصغائر والهنات. وها هو ذا يشرح مبادئه الجميلة أي شرح:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ=فدير لرهبان ومأوى لغزلانِ
وترتيل إنجيلٍ وترنيم كعـبةٍ=ومصحف توراة وآيات قرآنِ
أدين بدين الحب آنّى توجهت=ركائبهُ فالحب ديني وإيماني


لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ = فدير لرهبان ومأوى لغـزلانِ
وترتيل إنجيلٍ وترنيـم كعبـةٍ = ومصحف توراة وآيات قرآنِ
أدين بدين الحب آنّى توجهت = ركائبهُ فالحب ديني وإيمانـي


بلى، إن المستشرق الإسباني خوسيه لويس كاميرى، قد تلقى جيداً رسالة ابن عربي، ولولا ذلك فما الذي كان يمكن أن يحمله على إرسال تلك الحفنة من تراب "مرسية" مسقط رأسه إلى دمشق.. حيث كانت خفقة قلبه الأخيرة؟ أليس هذا هو المبدأ الأول في ديانة الحب؟

ابن عربي.. شاعراً :

لم يكن بدعاً أن تتفتح سليقة الشيخ محيي الدين بن عربي الشعرية، وهو يعيش بين أكناف تلك الطبيعة الأندلسية الساحرة "فقد أحاطت بها المياه من أعظم جوانبها، وتمتعت بتربة خصبة صالحة، لما نما فيها من أشجار باسقة وأزهار متفتحة وثمار يانعة. وتعددت فيها الأنهار التي من أهمها النهر الكبير، ونهر تاجة. وذلك إلى جانب ما يوجد فيها من جبال متدرجة، تثمر على سطوحها مختلف الزروع وشتى الثمار(1)."

فإذا أضفنا إلى ذلك صدق انتمائه العربي وصفاء نجاره فهو "الحاتمي الطائي" بإجماع كتّاب سيرته، سهل علينا معرفة تهيؤ الفرصة لظهور موهبته الشعرية. ولا يغيب عن البال أن ما زودته به فطرته النقية من إحساس مرهف وانفعال صادق، ونظرات ذكية فاحصة متأملة إلى كل ما يقع تحت بصره، وسمعه أيضاً، كان خير زاد لتغذية الموهبة عنده، مرفودة بمَنْ تتلمذ على أيديهم، من علماء وأدباء، ومَنْ عاشرهم من شعراء وقراء "فأستاذه في القراءات" أبو القاسم الشراط" كان بصيراً باللغة وآدابها، وله حظ من قرض الشعر. وأستاذه "أبو محمد عبد الحق الإشبيلي" كان أديباً وشاعراً. من شعره:

إن في الموت والمعاد لشغلا= لأولي الدين والنهى وبلاغا
فاغتنم خطتين قبل المنايا=صحة الجسم ياأخي والفراغا


إن في الموت والمعاد لشغلا = لأولي الدين والنهى وبلاغـا
فاغتنم خطتين قبل المنايـا = صحة الجسم ياأخي والفراغا

وشيوخه في التصوف كان أغلبهم أدباء فنانين، لهم الباع الطويل في فنون النظم والنثر، ومن بينهم "المارتلي" و"أبو مدين" وكلاهما له أدب جيد رفيع"(2) .

كتب قرأها ابن عربي:

وكان الشيخ الجليل قارئاً نهماً، ذكر في مقدمة كتابه "محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار.." كثيراً من الكتب التي قرأها، وبينها في فنون الأدب الكتب التالية: "الأماني".. لأبي المعالي البغدادي نزيل قرطبة. و"ريحانة العاشق" لأبي القاسم المسور و"روضة الأنس" لأبي زيد السهيلي، و"الكامل" للمبرد. و"زهر الآداب".. للحصري و "المحاسن والأضداد" للجاحظ و"معاناة العقل" للحلوي و"الحماسة" لأبي تمام.. وسوى ذلك.

وكان هذا بين ما رشحه لتولي منصب "كتابة الإنشاء" في ديوان إشبيلية في شبابه.

وكانت لابن عربي مشاركات طيِّبة في مجالس الأدب. من ذلك مثلاً ما يرويه عبد العزيز سيد الأهل(3)، فقد أنشد بعض المتصوفة ابن عربي بيتاً مفرداً هو:

كل الذي يرجو نوالك أمطروا=ما كان برقك خُلَّباً إلاّ معي

فكتب الشيخ محيي الدين أبياتاً ضمَّنها هذا البيت:

قِف بالطلول الدراسات بلعلعِ=واندب أحبّتنا بذاك البلقعِ
قِف بالديار وناجها متعجـباً=منها بحُســنِ تلطُّفٍ وتفجــعِ
عهدي بمثلك عند بانك قاطعاً= ثمرالخدود وورد روضٍ أيـنعِ
كل الذي يرجو نوالك أُمطروا= ما كان برقك خلباً إلا معـي
قالت: نعم، قد كان ذاك الملتقى=في ظل أفناني بذاك الموضعِ(4)

قِف بالطلول الدراسات بلعلـعِ = وانـدب أحبّتنـا بـذاك البلقـعِ
قِف بالديـار وناجهـا متعجبـاً = منها بحُسـنِ تلطُّـفٍ ii وتفجـعِ
عهدي بمثلك عند بانك قاطعـاً = ثمرالخدود وورد روضٍ ii أينـعِ
كل الذي يرجو نوالك أُمطـروا = ما كان برقك خلبـاً إلا iiمعـي
قالت: نعم، قد كان ذاك iالملتقى = في ظل أفناني بذاك الموضعِ(4)

ابن عربي.. وملكة الملاحظة :

وكان ابن عربي منطوياً على ناقد متمتع بملكة ملاحظة ممتازة. وفي كتابه "محاضرة الأبرار" لمع تشير إلى ذلك، من ذلك مثلاً نقده قول شاعر في الجود:

فتى عاهد الرحمن في بذل ماله= فلستَ تراه الدهر إلا على العهدِ
فتى قصَّرت آماله عن فعاله=وليس على الحُرِّ الكريم سوى الجهدِ

فتى عاهد الرحمن في بـذل iiمالـه = فلستَ تراه الدهر إلا علـى iiالعهـدِ
فتى قصَّـرت آمالـه عـن iiفعالـه = وليس على الحُرِّ الكريم سوى الجهدِ

يقول الشيخ محيي الدين معلقاً:

"هذا المديح أقرب للديانة من الكرم، فإنما عطاؤه من أجل الوفاء بعهده مع الله، حتى لا يكون من الذين ينقضون عهد الله. والكريم سجيته الكرم، فلا يحتاج إلى القسم عليه إلا لعلة نفسه. فما وفى هذا الشاعر مدح هذا في الكرم ما تصور له في خاطره، فهذا اللفظ دون ما في القصد."

ويجيء تعليقه تارة أخرى، شعراً. فهو يختار من "جيد" شعر غيره قول القائل:

لئن ساءني أن نلتني بإساءة ...لقد سرني أني خطرت ببالكا
فيقول: وأحسن منه لو قال ما قلنا:
لئن سرّني أن نلتني بمساءة ...فما كان إلا أن خطرت ببالكا
لأن الأول قد أقر بأنه أساء، ثم اعتذر.
ويذكر من "أحسن الشعر" قول آخر في الشكوى
فالليل إنْ وصلت كالليل إن هجرتْأ...شكو من الطول ما أشكو من القصر
معلقاً بقوله: أحسن منه ما قلنا:

شغلي بها بالليل أو هجرت ... فما أبالي أطال الليل أم قصرا

ثم يستطرد: "فإن الأول شغله بطول الليل وقصره من أجلها، فهو فاقد لها في زمن الاشتغال بغيرها.
والثاني شغله بها ومن سواها تبع"(5)


وحدة الوجود والحب الإلهي في مؤلفاته :

ترك ابن عربي مؤلفات كثيرة، فقد كان غزير الإنتاج في مختلف مجالات الإبداع، من منظوم ومنثور، وإن تكن تصب جميعاً في مذهبه الفلسفي الصوفي في "وحدة الوجود" و"الحب الإلهي" وفيها أعماله الشعرية، وبينها "الديوان الأكبر" وديوان الأشواق، وديوان المرتجلات، والقصيدة التائية وقصيدة في المناسك. وترجمان الأشواق وشرحه عليه المسمّى: ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق.

أغراضه الشعرية :

على الرغم من أن شعر ابن عربي يدور في معظمه حول المعاني الصوفية، كما يحب هو أن يؤكد عامة، ولا سيما في مقدمة شرحه "ترجمان الأشواق" إلا أن فيه قصائد يمكن أن توصف بأنها اجتماعية. من ذلك مثلاً هذان البيتان اللذان وردا في إجابة سؤال سأله بعض أصحابه إياه:

كيف حالك مع أهلك؟ فأجاب:

إذا رأى أهل بيتي الكيس ممتلئاً= تبسمت ودنت مني تمازحني
وإن رأته خلياً من دراهمه=تكرهت وانثنت عني تقابحني (6)


إذا رأى أهل بيتي الكيس iiممتلئـاً = تبسمت ودنـت منـي تمازحنـي
وإن رأته خليـاً مـن iiدراهمـه = تكرهت وانثنت عني تقابحني (6)

ولم يقتصر موقفه من مسألة "المال" على أهل بيته فحسب، بل كان أشمل من ذلك. وعلى الرغم من كرمه وزهده المعروفين، فإنه رأى أن المال هو عصب الحياة، وإن يكن ينصح "أن يكون الإنسان غنياً بالله لا بالمال":

بالمال ينقاد كل صعب ... من عالم الأرض والسـماءِ
يحســـبه عالم حجـاباً... لم يعرفوا لذة العـطاء
لولا الذي في النفوس ... منهلم يُجب الله في الدعاء
لا تحسب المال ما تراه... من عسجد مشـرق الضــياء
بل هو ما كنت يا بيّ ... يبه غنــياً عن الســـواء
فـكن برب العلا غنيـاً... وعامل الخلق بالـوفــاء (7)


ويتصل بهذا الموقف نظرته في الزهد:

لا تندمنَّ على خير تجود به... وإن أغاظك من تعطيه واقترفا
فالله يرزق من يعطيه نعمته ... سواء أنكرها كفراً أو اعترفا

ويدخل في هذا الباب "الاجتماعي" رأيه في الإخلاص في العمل والبعد عن الرياء:

إن كنتَ لي أكون لكْ ... ماأنت لي ماأنا لكْ
فاصغ إلى قولي تجد... صحة ما قد قلتُ لــك
ولتلتزم طريقــتي ... واجهد وخلص عمـــلك
تنـل بـما جئت به ... من كل خير أملــــك (8)

وكتب ابن عربي في وصف الطبيعة. وقد أورد في "محاضرة الأبرار" أبياتاً لأبي علي بن شبل في وصف الربيع عارضها بقوله:

أما ترى الروضة الغناء تضحك ...إذ جادت على الأرض بالأزهار أنواءُ
تبسم الأرض إذ تبكي السماء فهل... بين السماء وبين الأرض شحناءُ
والأرض تأبى الذي قالته والماءُ ... لا والذي بضروب الزهر أضحكها

وعلى الرغم من أنه شغل في كثير من شعره بالتصوف، إلا أن بين شعره أبياتاً نكاد نرى أنها انصرفت إلى المعاني الحسية. ولو أنها كانت بالفعل كذلك، لرأينا أنها "صورت كل ما يمكن تصويره من ألم البعد والفراق إلى جانب التحسر على جمال المحبوب الذي اصطبغت وجنته بحمرة الخجل"9-


9-

يقول الشيخ محيي الدين في "ترجمان الأشواق":

غادروني بالأثيل والنقا= أسكب الدمع وأشكوالحُرَقا
بأبي مَنْ ذبتُ فيه كمدا = بأبي مَنْ مـتُّ فيه فــرقا
حمرة الخجلة في وجنته = وَضَح الصبح يناغي الشفقا
قوّض الصبرُ فطنّب الأسـى = وأنا ما بين هذين لــقى
مَنْ لبَثّي مَنْ لوجدي؟ دلّني!= مَنْ لحزني مَنْ لصبٍ عشقا
كلما ضنت تباريح الهوى =فضح الدمع الهوى والأرقا

غادروني بالأثيـل iiوالنقـا أسكب الدمع iiوأشكوالحُرَقـا
بأبي مَنْ ذبتُ فيـه iiكمـدا بأبي مَنْ مـتُّ فيـه فرقـا
حمرة الخجلة في iiوجنتـه وَضَح الصبح يناغي iiالشفقا
قوّض الصبرُ فطنّب iiالأسى وأنا ما بيـن هذيـن iiلقـى
مَنْ لبَثّي مَنْ لوجدي؟ دلّني! مَنْ لحزني مَنْ لصبٍ iiعشقا
كلما ضنت تباريح iiالهـوى فضح الدمع الهوى iiوالأرقا


(10)

وعلى الرغم من إشاعته جواً من "وحدة الوجود" الصوفية وأطيافها في بعض شعره، فإن معاني "الحب الحقيقي" تنم عن نفسها فيه. وهذا ما يتجلى، على نحو خاص في ما كتبه في "محاضرة الأبرار" بل إنه يصرّح هنا أخيراً باسم حبيبته النظام:

إن الهوى ما أنا للحب حامله = والحلم للحب في الأشخاص ليس لنا
مثل الصفات لدى قوم أشاعـرة =فلا الهوى هو غيري لا ولا هو أنا
إن الهوى وأنا بالعـين متـحد = فإن أمت فيه وجداً، أوْ أعش، نحبنا
لولا الجمال الذي بالحب كلفنا = لم يُهلك الوجدُ قلب الصب والبدنا
إن النظام لتدري ما أفـوه به =وقد أشرت إليه مرة "بمنى"(11)

إن الهوى ما أنـا للحـب iiحاملـه والحلم للحب في الأشخاص ليس لنا
مثل الصفات لدى قـوم iiأشاعـرة فلا الهوى هو غيري لا ولا هو iiأنا
إن الهـوى وأنـا بالعيـن متحـد فإن أمت فيه وجداً، أوْ أعش، iiنحبنا
لولا الجمال الـذي بالحـب iiكلفنـا لم يُهلك الوجدُ قلب الصب iiوالبدنـا
إن النظام لتـدري مـا أفـوه iiبـه وقد أشرت إليه مرة ii"بمنـى"(11)

وفي شرح ابن عربي "ترجمان الأشواق" كتب مقدمة ضافية تحدث فيها عن نزوله "مكة" المكرمة سنة 598هـ، حيث عرف "الشيخ العالم الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام، نزيل مكة البلد الأمين مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم ابن أبي الرجا الأصفهاني، رحمه الله تعالى وأخته المسنة العالمة شيخة الحجاز فخر النساء بنت رستم" (12)

ثم يصف ابنة الشيخ (النظام) :

ويطنب في الحديث عن هذا العالم الفاضل وأخته فخر النساء التي اعتذرت عن لقائه، كما يذكر، وكان يريد "أن يسمع عليها وذلك لعلوّ رايتها"، لكنها "أذنت لأخيها أن يكتب لنا نيابة عنها، إجازة عنها في جميع روايتها فكتب.."(13)

وينتهي بعد ذلك إلى بيت القصيد، أي "النظام" ابنة الشيخ زاهر بن رستم فيصفها قائلاً:

"بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيّد النظر، وتزين المُحاضر والمَحاضر، وتحيرّ الناظر، تسمى بالنظام، وتلقب بعين الشمس والبها، من العالمات العابدات السايحات الزاهدات شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مَيْن، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبتْ أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت. إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه" (14).

ثم ينتهي إلى أنه راعى "في صحبتها كريم ذاتها مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد" "فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس ويثيره الأنس" ويوضح أنه أعرب "عن نفس تواقة" و"كل اسم أذكره في هذا الجزء، فعَنها أُكنّي، وكل دار أندبها فدارها أعني".. ثم لا يلبث بعد أن أخذه اتجاه الحب والغزل هذا المأخذ أن يعود فيستدرك قائلاً: "ولم أزل في ما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جرياً على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى". ومع أنه جمع في درج كلامه هذا بين "النسيب" وبين "التصوف" لكنه آثر أخيراً أن يؤكد أهمية انتباه قارئه إلى المعاني الصوفية لئلا "يسبق خاطرة إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية، المتعلقة بالأمور السماوية" 15-

ابن عربي يتحدث عن سبب شرحه الديوان :

لا بد من أن نضيف هذا التأكيد من الشيخ محيي الدين على المعاني الصوفية، ليتضح لنا ما دعاه إلى شرح "ترجمان الأشواق" ذاك أنه أثار فقهاء ذلك الزمن الذين رأوا فيه غزلاً صريحاً أخذوه عليه.

يقول ابن عربي في مقدمته:

"وكان سبب شرحي لهذه الأبيات أن الولد بدراً الحبشي والولد إسماعيل بن سودكير سألاني في ذلك: وهو أنهما سمعا بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكران هذا من الأسرار الإلهية، وأن الشيخ "يعني نفسه" يتستر لكونه منسوباً إلى الصلاح والدين، فشرعتُ في شرح ذلك، وقرأ علي بعضَه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقهاء، فلما سمعه ذلك المنكر الذي أنكره تاب إلى الله سبحانه وتعالى ورجع عن الإنكار على الفقراء، وما يأتون به في أقاويلهم من الغزل والتشبيب يقصدون في ذلك الأسرار الإلهية"(16).

ويقول إن ما نظمه بمكة المشَّرفة من "الأبيات الغزلية"، إنما يشير بها إلى معارف ربانية وأنوار إلهية وأسرار روحانية وعلوم عقلية وتنبيهات شرعية، ولم تكن العبارة التي جعلها "بلسان الغزل والتشبيب"، سوى ذريعة وواسطة "للإيصال" ـ بلغة هذا الزمن ـ لماذا؟

"لتعشُّق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها، وهو لسان كل أديب ظريف وروحاني لطيف"(17).

بين الباطن وبين الظاهر :

وعلى الرغم من أنه أعلن قبل سطور قليلة أن كل اسم يذكره فعَنْها يكنّي، وكل دار يندبها فدارها يعني، فهاهو ذا يتراجع عن ذلك مكرساً قصيدة يوضح فيها أن المعاني التي يرمي إليها في قصائد هذا الديوان، إنما هي الباطنة المتضَّمنة، وليس المعنى الظاهر. إنه ينفي في هذه القصيدة أن يكون قد عنى أي مظهر حسي في ذاته، من أطلال أو ربوع أو سماء أو سحب أو بروق أو رعود، أو سهول أو جبال، أو بشر: "هو ـ هي ـ هم ـ هن":


كلّما أذكره من طلل ...أو ربوع أو مغانٍ كلما
وكذا إنْ قلتُ"ها"أو قلتُ "يا"... وألا إنْ جاء فيه أو.. أَمَا
وكذا إنْ قلتُ"هي"أو قلت "هو"...أو "همو" أو "هنَّ" جمعاً أو "هما"
وكذا إنْ قلتْ قد أنجــــدلي ... قدر في شعرنا.. أو أتهـما
وكذا السحب إذا قلت : بكـت ... وكذا الزهر إذا ما ابتسما
أو أنادي بحداة يمّــمـــوا ... بانةَه الحاجر أو ورق الحمى
أو بدورٌ في خدور أفلـــــت ... أو شموس أو نبات أَنْجَمَا
أو بروق أو رعود أو صـــبا ... أو رياح أو جنوب أو سما
أو طريق أو عقيق أو نـــقا ..أو جبال أو تلال أو رمـــا
أو خليل أو رحيل أو ربـــى ... أو رياض أو غياض أو حمى
أو نساء كاعبات نُهَّـــــــدٌ ... طالعات كشموس أو دمـــى
كلما أذكره مما جـــــــرى ... ذكره أومثله أن تفهـــما
منه أسرار وأنوار جـــــلت ... أو علت جاء بها رب السما
لفؤادي أو فؤادِ مَنْ لـــــه ... مثل مالي من شروط العلما
صفة قدسية عــــــــــلوية ... أعلمتْ أن لصدقــــي قدما
فاصرف الخاطر عن ظاهـــرها .,.. واطلب الباطن حتى تعلما(18)


ودعماً لمذهبه في تغليب الباطن على الظاهر يروي حكاية جرت في الطواف. يقول الشيخ محيي الدين:

"كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي وهزني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرمل، فحضرتني أبيات فأنشدتها أُسمع بها نفسي ومَنْ يليني لو كان هناك أحد، وهي قوله:


ليت شعري هل دروا... أيَّ قلب ملكــــوا
وفؤادي لــــودرى...أيَّ شِعب سلكـــــوا
أتراهم سلمــــوا...أم تراهم هلكـــوا
حار أرباب الهوى ...في الهوى وارتبكوا


ويستطرد قائلاً: "فلم أشعر إلا بضربة بين كتفيَّ بكفٍ ألين من الخز، فإذا بجارية من بنات الروم لم أر أحسن منها وجهاً، ولا أعذب منطقاً، ولا أرق حاشية، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفة". ثم يروي مادار بينهما من حوار، حول أبياته الأربعة، ووصول معانيها الباطنة إليها.(19).


ابن عربي يقبل تحدي الحب :

مهما يكن من أمر، فإن الدكتور عبد الكريم اليافي يرى أن علاقة الشيخ الأكبر "بالنظام" كانت تحدياً قوياً جابهه، بثقة بالغة في النفس، دون أن يخشى أي ريبة يمكن أن تعلق به. يقول:

"إذا شاء القدر، فألقى فتاة في ريق الشباب ومقتبل الحسن، "ساحرة الطرف عراقية الظرف"، تسمى بالنظام في طريق إمام من أئمة العارفين مثل ابن عربي فماذا يحصل؟ لوكان الرجل من رعيل الصوفية القدامى لخشي الفتنة وحذر، أو لم يلقَ إليها بالاً.. ولكن شيخنا الأكبر، أمام هذه الفتاة الرائعة المثيرة، كان في مقام من المعرفة والحب الإلهيين يستطيع فيه كالشعاع أن يغازلها ويتغزل بها ثم يرتد عنها كما يرتد الشعاع صافياً نقياً دون أن تعلق به ريبة"(20).

بل إن الدكتور اليافي يرى ضرباً من العلاقة الجدلية بين الأمور الروحية وبين الأمور الحسية في شعر ابن عربي ذاك أن "الأمور الروحية ثاوية في الأشياء والأشكال والأمور الحسية، ثواءَ المعاني في الألفاظ والحروف".

وهذه الأمور الحسية والأشياء والأشكال على اختلافها عماد تلك وسندها وظروفها الخارجية، وهذه بالنسبة إلى تلك كاللغز بالنسبة إلى المعنى الملغز فيه. بل إن الجمع بين الحس والفكر في الإنسان أكمل وأعلن من انفراد الروح وحده. يقول على لسان نبينا إبراهيم: "يابني إذا سريت بفكرك في عالم المعاني انحجب حسك عن التلذذ بالمغاني.وإذا سرى حسك في عالم المغنى، لم ينحجب سرك عن مشاهدة المعنى، فالبقاء مع الحس أَوْلى في الآخرة والأُولى"(21).


من نظرية الشيخ إلى مذهبه الفلسفي :

على أن للدكتور أبو علا عفيفي رأياً آخر، فقد دعا هذا "الحب" كما يؤثر ابن عربي أن يسميه "الحب الإلهي"، ورأى أن نظرية الشيخ في الحب الإلهي متفرعة عن مذهبه الفلسفي الصوفي العام الذي هو مذهب وحدة الوجود. بل هي لازم من لوازم هذا المذهب ونتيجة من نتائجه. والقضية الكبرى التي يُخضع لها ابن عربي كل فلسفته والتي يؤيدها بشتى أساليب التأييد هي أن الوجود في حقيقته وجوهره شيء واحد، متعدد متكثر في النظر والاعتبار.. عندما يقع عليه الحس الذي لا يدرك إلا الجزئيات المتعينة المتشخصة، أو يتناوله العقل الإنساني القاصر عن إدراك وحدته الشاملة، فإن العقل خاضع في تفكيره لمقولاته، ومقولاته مستمدة من العالم الخارجي المتعدد المتكثر، الواقع في الزمان والمكان، أما الحقيقة الوجودية الكلية فخارجة عن كل هذا.(22).

ولاشك أن هذه الفكرة هي مارمى إليه الشيخ الأكبر في قصيدته التي أوردها في مقدمة شرحه: "ترجمان الأشواق"، ومطلعها:

أو ربوع أو مغان كلما*
كلما أذكره من طلل
من مجالي الجمال الإلهي

وعلى هذا النحو، وانطلاقاً من نظرية ابن عربي في الحب الإلهي يتابع الدكتور عفيفي تفسيره حب الشيخ تلك الحسناء "النظام"، فلاشك أنه "قد وجد في تلك الصورة الإنسانية الحسناء، مجلى من مجالي الجمال الإلهي المطلق الذي تعشَّقه وقدسه، وألفى لها مكاناً من قلبه، لا من حيث هي امرأة يعشق جمالها الحسي الفاني، ولا من حيث هي موضع لشهوة أو هوى، بل من حيث هي رمز لذلك الجمال الشامل المتجلي فيها في صورة كاملة.

فإذا بثها حبه وأشواقه، فإنما يتجه بحبه وأشواقه إلى الذات الإلهية التي هي صورة من صورها. وإذا وصفها بما يصف به الغزلون من الشعراء محبوباتهم، فإنما يصف ذلك الرمز مكِّنياً به عن الحقيقة الكلية التي هي وراءه. ولذا كانت لغة "ترجمان الأشواق" لغة رمزية اصطلاحية يجب تأويلها وصرفها عن مظاهرها.(23).

ويستطرد الدكتور عفيفي إلى القول: لم تكن تلك الحسناء إذاً سوى واحدة من صور الجمال اللانهائي التي وسعها قلب ابن عربي وأحبها، لا من حيث ذاتها، بل من حيث هي رموز ومجال للذات الإلهية الواحدة المحبوبة على الإطلاق والمعبودة على الإطلاق، لأن المحبوب عنده واحد مهما تعددت مجاليه، والجميل واحد مهما تعددت صوره. والمعبود واحد مهما تعددت أشكاله.(24)

من الجمال المحسوس إلى الجمال المعقول :

لقد قال ابن عربي ماقال في الحب الإلهي وعينه مستقرة على الصورة المحسوسة، ولكن قلبه مشغول بصاحب الصورة. تغنى بالجمال المحسوس وقلبه متعلق بالجمال المعقول. وماذا يضير الصوفي لو انتقل من عالم الأرض إلى عالم السماء، واتخذ من المحسوس سلماً يصعد به إلى المعقول؟!(25).

ويذهب الدكتور عفيفي بعيداً باتجاه منبع الحب الإلهي، فالحب عند ابن عربي هو أصل العبادة وسرها وجوهرها، إذ لا معبود إلا وهو محبوب، ولولا الحب ما عُبد شيء من إنسان أو شجر أو كوكب أو صنم، لأن الشيء لا يعبد إلا بعد أن يخلع عليه العابد لباس التقديس، وهو لا يقدسه إلا بعد أن يحبه ويتفانى في حبه، فالمعبود والمحبوب إذاً عين واحدة وإن اختلفت عليها الأوصاف(26).
بل إن الهوى، في نظر ابن عربي، هو اسم من أسماء الله. هو الحب عينه، بل هو أعظم أسماء الله على الإطلاق.(27).

عودة إلى شرح الترجمان :

في العودة إلى شرح ترجمان الأشواق نقول: لم تدرج العادة أن يشرح الشاعر شعره، لكن ابن عربي إذ فعل ذلك ـ للأسباب الآنف ذكرها ـ فإنه جعل لكلماته ومفرداته نكهة خاصة، وأضفى أبعاداً شعرية وإنسانية وصوفية تتصل كما تقدم بنظريته في وحدة الوجود. وفي الواقع فإن إرادته إضفاء البعد الصوفي الإلهي على معانيه وألفاظه، جعل أشعاره مسربلة بثوب ضيق من الغموض، وزادها صعوبة في الفهم، لأنه أحب أن ينتقل من "الظاهر" إلى "الباطن"، من العَرَضْ الدنيوي الزائل إلى الجوهر الأزلي.

ويشعر القارئ أن كل تفسير إنما هو إضفاء وإضافة ليست من روح النص، وليس ثمة ما يوصل إلى المعاني التي رمى إليها سوى تلك الرموز التي ركَّز عليها في الشرح. وهو يستفيد من هذه المسألة: "الرموز والظاهر والباطن". ليفسر النصوص على هواه. يذكِّرنا هذا بما فعله الدكتور عاطف جودت نصر إذ قسم قصائد "ترجمان الأشواق" إلى ثلاثة أنواع: قصائد تبدو أكثر انسياقاً مع المعنى الغزلي المباشر، وهي قصائد اقتضى تأويلها قدراً من الاعتساف الذي يخرج المعنى عن طبيعته. وقصائد أخرى أكثر انسياقاً مع التأويل الصوفي منها مع الغزل المباشر. وطائفة ثالثة يكاد يتوازن فيها الاتجاهان فهي متسقة مع الغزل المباشر اتسـاقها مع التأويـلات الصوفية على حد ســــواء (28).

مع "أسقفة من بلاد الروم":

في ضوء النوع الأول لننظر، في بعض أبيات قصيدة الشيخ الأكبر التي تحمل عنوان "أسقفة من بلاد الروم" لنرى كيف أوَّلها الشاعر، ومافي هذا التأويل من "الاعتساف الذي يخرج المعنى عن طبيعته". يقول ابن عربي:

ما رحَّلوا يوم بانوا، البزَّل العيسا...إلا وقد حملوا فيها الطواويسا


وهو يشرح البيت كلمة كلمة كما يلي:

فيها: بمعنى عليها. البزَّل: الإبل المسمنة. رحَّلوها: جعلوا رحالها عليها. الطواويس: كناية عن أحبته. شبَّههم بهن لحسنهن.

البزل: يريد الأعمال الباطنة والظاهرة، فإنها التي ترفع الكلم الطيب إلى المستوى الأعلى، كما قال تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه"، والطواويس: المحمولة فيه أرواحها، فإنه لا يكون العمل مقبولاً ولا صالحاً ولا حسناً، إلا حتى يكون له روح مزيِّنة عاملة أو همة.وشبهها بالطيور لأنها روحانية. وكنى عنها أيضاً بالطواويس لتنوع اختلافها في الحسن والجمال(29)(!)..


غزل خالص مباشر :

ما علاقة هذه المعاني التي فسرها الشيخ محيي الدين بذلك البيت من الشعر الذي لا يدع أي مجال، كي تلعب فيه الخرقة الصوفية، فهو كله غزل خالص مباشر. ومثله البيت التالي:


من كل فاتكة الألحاظ مالكة ... تخالها فوق عرش الدر بلقيسا


في الشرح يقول ابن عربي:

الفتك: القتل في صورة. مالكة: حاكمة. تخالها: تحسبها. العرش: السرير. بلقيس: المذكورة في القرآن في قصة سليمان عليه السلام.

المقصد يقول: من كل حكمة إلهية حصلت للعبد في خلوته فقتلته عن مشاهدة ذاته وحكمت عليه. فإذا رأيتها حسبتها فوق سرير الدر، يشير إلى ما تجلى لجبريل والنبي عليهما الصلاة والسلام، في رفرف الدر والياقوت عند سماء الدنيا فغشي على جبريل وحده لعلمه بمن تجلى له في ذلك الرفرف الدري(!) وسماها بلقيساً لتولدها بين العلم والعمل، فالعمل كثيف والعلم لطيف، كما كانت بلقيس متولدة بين الإنس والجن، فإن أمها من الإنس وأباها من الجن، ولو كان أبوها من الإنس وأمها من الجن لكانت ولادتها عندهم، وكانت تغلب عليها الروحانية، ولهذا ظهرت بلقيس عندنا(30)(!!).

ترى ما علاقة هذا التأويل كلّه أيضاً ببيت الشعر الغَزِل اللطيف!


بين بلقيس وبين سليمان :

إن بلقيس هذه التي ذكرها في آخر البيت، وبها يضرب المثل بالسلطان والجمال واللباقة وحسن التصرف، حين قررت الذهاب إلى "سليمان"، وأخبرته بذلك، شيّد لها صرحاً عظيماً، ومرد أرضه بالزجاج، فلما جاءت وأرادت دخول الصرح والوصول إلى العرش ظنت الزجاج ماء، فكشفت عن ساقيها لئلا تبتل ثيابها بالماء. وأُخْبرت أن ما ظنته ماء إنما هو زجاج(31).

وهذا ما ذكره الشيخ محيي الدين في البيت التالي، وأضاف إليه أطيافاً من بهاء بلقيس ـ وهو يعني النظام بالطبع ـ "شمساً على فلك"، وما عرف عن إدريس من علم وحكمة ـ وهما من صفات النظام أيضاً ـ حتى ذُكر أنه "أول من خط بالقلم"32- وذكر أيضاً أنه جمع العلم والعمل معاً:

إذا تمشت على صرح الزجاج ترى... شمساً على فلك في حِجْر إدريسا

إن ابن عربي يقول كلاماً كثيراً في تأويل هذا البيت. وإذ يشير إلى الأحوال الإلهية والصوفية بقوله: "فكأنه ـ وهو يعني نفسه ـ يقول: قوة سلطان هذه الحكمة إذا وردت على قلب متعشق. بما حصل فيه من المعارف أحرقتها وأذهبتها"، فإنه لا يتمكن من متابعة هذا الاتجاه في التأويل، إزاء تلك العبارة:

"إذا تمشت على صرح الزجاج"، فيقول: "وذكر المشي دون السعي".وغيره لنخوتها وعجبها وانتقالها في حالات هذا القلب من حال إلىحال بضرب من التمكن"(33)…

ولو أننا تابعنا قراءة الأبيات في هذه القصيدة ـ على سبيل المثال ـ لوقعنا على ما وقعنا عليه، من تأويل متعسف يخرج المعنى عن طبيعته. ولكان علينا أن نصغي إلى ماكتبه الأستاذ يوسف سامي اليوسف عندما أشار إلى مافعله ابن عربي إزاء المتزمتين الذين نعوا عليه أن له شعراً غزلياً حسياً، لا يليق البتة بشيخ يزعم أنه خاتم الأولياء "فماكان من ابن عربي إلا أن أحسن التخلص بأن أقدم على شرح ديوانه شرحاً تأويلياً"، و"مع أن الديوان لا يكتبه إلا عاشق ملتاع، وإلا رجل يعرف التمتع بجمال الجسد الأنثوي، فقد استطاع الشيخ أن يجيء بتأويل (مقنع أو غير مقنع)، من شأنه أن يحشر الديوان في المناخ الصوفي، وأن يجعل منه شكلاً من أشكال التعبير عن التصورات والمفاهيم الصوفية."(34).


الهوامش :

1 ـ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ـ تأليف: عبد الحفيظ فرغلي علي القرني ـ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ سبتمبر 1968 ـ ص 76.
2 ـ المصدر السابق ص 77.
3 ـ مجلة منبر الإسلام ـ عدد ربيع الأول 1386.
4 ـ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ـ القرني ـ ص 68.
5 ـ المصدر السابق ص 79-80.
6 ـ المصدر السابق ص 81.
7 ـ المصدر نفسه ص88.
8 ـ المصدر نفسه ص84.
9 ـ المصدر السابق ـ ص 84.
10 ـ ترجمان الأشواق ـ وعليه شرحه ـ دار صادر ـ بيروت 1966. ص57-58-59.
11 ـ محاضرات الأبرار ـ ج2 ـ ص 150.
12 ـ شرح ترجمان الأشواق ـ دار صادر ـ ص 7.
13 ـ المصدر السابق ص 8.
14 ـ المصدر نفسه ص8
15 ـ المصدر نفسه ص9
16 ـ المصدر السابق ـ ص 9-10.


.


صورة مفقودة
 
أعلى