قصة ايروتيكية وليد عارف الحجّار - هيلانة

الفصل الثاني
جلست "هيلانة" في غرفة نائب الأمين الجمركي، تنتظر وصوله وكانت مثّلت دورها المطلوب منها وأصّرت على أحد الحجّاب أن يخفّ إليه .. ينبئه .. أن هناك من ينتظره في مكتبه، في أمر هام.. "سيدة.. تريده في قضية غاية في الأهمية..!" راحت تلقي على الغرفة نظرات متفحّصة.. تتعجب لصرامة المكان.. تستغرب ما سمعته عن صاحبه من تشددّه المفرط في التفتيش و تطبيق القانون.. يجول في ذهنها: إنها المرة الأولى والأخيرة التي ستزاول فيها مثل هذه الخدعة!! حقيقة.. لقد انصاعت لإغراء المال، ولرغبة ملحّة في الوصول السريع إلى وجهتها في دمشق، يزكيها نفورها من الوقوف في برد الشتاء القارس تنتظر مركبة غير سيارة "ميشيل"، تقلها إلى مكان عملها!

وتوارد إلى ذهنها، وهي ساهمة، بعض ما تسمعه، وما ينمّ إليها من ذمّ وتجريح لسمعتها، سببهما مهنتها الجديدة..! تعجبت من نفاق الناس.. وتحاملهم عليها.. أليست فيما تقوم به من "عمل" في ملاهي دمشق، بالرغم من مشقة السفر الدائم ومتاعب التعامل مع جمهور مخمور، سليط اللسان.. أليست مهنتها تلك أشرف بكثير .. بل لنقل، أقرب بمراحل إلى "الاستقامة" والصواب من التهريب واللجوء إلى خداع المسؤولين!..زاد توجسّها مما كانت مقدمة عليه، أحسّت أن مجرد التفكير في تهريب المخدرات، وفي الذين يزاولون مثل تلك الأعمال يثير في نفسها التقزز.. وكأنها، فعلاً، في شكل من الأشكال ضالعة في تلك الجريمة مع أصاحبها..

لم يكن في الغرفة من أثاث سوى مكتب خشبي قديم، وسرير عسكري تنبّهت إلى نظافة ملاءته وغطاء وسادته.. ثم باب ضيّق يقود إلى فسحة تكاد تملؤها مائدة صغيرة تفرّقت عليها أدوات القهوة والشاي.. لكن أكثر ما أثار فضولها هو قبقاب خشبي نظيف، صُفَ إلى جانب "مشَاية" وكأنها لتلميذ شديد التزمت والترتيب، نظرت إلى الحائط، تحدّق في تفاصيل صورة علقت عليه، وحين سمعت وقع خطا ً تقترب من الغرفة، أسرعت تحكم وضع بعض خصلات شعرها على كتفها.. ثم التفتت إلى حقيبة يدها، تفتحها، في عدم اكتراث مفتعل، تخرج منها علبة "الدخان".. تنظر نحو الباب وهي تشعل طرف لفافة منها.

توقف أمام الباب رجل مديد القامة في الثلاثين من عمره، أوأكثر.. عريض المنكبين، نحيل الجسم.. كان قد تسمّر في مكانه .. يده لا تزال تشدّ على مقبض الباب، وباليد الأخرى، رفع بأصابعه خصلة شعرٍ ملساء، كاشفةً اللون، عن عينين زرقاوين سابرتين، راحتا تحدقان بالزائرة الغريبة.. تتفحصانها، كأنهما لا تصدقان حقيقة ما مثل أمامهما من غرائب الحياة..!

تمتمت "هيلانة"، وهي تمعن في وجهه، في ذهول..

- "عدنان"؟. عفواً السيد "عدنان"؟!. معؤول..؟!

تقدم الرجل خطوتين، أغلق إثرهما الباب خلف ظهره في هدوء.. ثم تراجع، مسنداً منكبيه إلى الجدار، وهمس بدوره..في صمتٍ خافتٍ.. مخنوق..

- "هيلانة"..

رفعت "هيلانة" يدها إلى خدّها، تقول في ذهول مكتوم..

- "يا عدرا.. يا دلّي.. شو الأيام بتخبّي!! معؤول؟!

سكتت هنيهة..قالت بعدها..

- "إنتْ.. "نائب المدير"؟.. هون؟.."

ولمّا هزّ الرجل رأسه بالموافقة.. تابعت كلامها مستغربة..

- "بعلمي كنت عم تدرس حؤوء.. شو جابك للجمرك؟.."

تلا ذلك صمت عادت بعده إلى السؤال:

- "بعدك فايئ عالأوضة إلّي كنت مستأجرا عند التيتا؟.. بالشام؟! بعدك فايئ علينا..؟ وعالبيت؟!.. من كام سني دخلك؟! كام سني صارلو هالحكي؟.."

كان "عدنان" يتفرس في تقاطيع المرأة التي بدت وكأنها تكبره بسنين، "هيلانة".. حفيدة "أم فؤاد" التي كانت تقطن داراً دمشقيّة قديمة، في "باب توما"، زاد عن حاجتها فيه عدد من الغرف، استأجر إحداها.. وأمضى فيها سنة أوما يزيد، قبل أن يتركها إلى غرفة حديثة البناء في المدينة الجامعية، متى كان ذلك؟ أمنذ عشرة أعوام؟.

كان عمره إذ ذاك ثمانية عشر عاماً. قدم من حماه، بعد جهد كبير، أقنع حينها والديه المسنين أن السكن في غرفة مستقلة خيرٌ للدراسة الجامعية من الإقامة في دار أحد أقاربهم.. وفاجأته في دار "أم فؤاد"، حفيدتها اللبنانية، "هيلانة".. كانت ترافق والدتها في رحلاتها من زحلة إلى دمشق، تأتي بين الفينة والأخرى، تمضي فيها أياماً تملأ الدار خلالها بنضارة صباها وفوح أنوثتها.. يراقبها من نافذة غرفته.. تتنقل في حديقة الدار.. تمازح جدّتها.. تداعب الهررة.. تدرك أنه يراقبها.. فلا تلتفت إليه لا تلتفت لأحد.. تتحدث مع الجميع بلهجتها الزّحلاوية الغريبة .. وتتحول لهجتها الغريبة تلك، إلى فتنة وسحر حين يصدح صوتها بغناء "الميجنا" و"أبوالزلف"، فتعلو بشرتها البيضاء، حمرةً خفيفةً.. وترتجف شفتاها الصغيرتان المكتنزتان.. في جدية وحزم وهي تقول "يا زريف الطول يابو الميجنا".. وما كان غناؤها وسيلة للطرب، بل نداءٌ للطبيعة، تطلقه الأنثى في الفضاء.. شذى، يملأ أجواءها حيث تحركت، يتصيد عبقه الذكور..

- "صار شعرك أشأر.."

قال "عدنان" ذلك كأنه يحدّث نفسه.. ثم تنبه إلى أن عينيها الخضراوين لاتزالان على سحرهما.. بالرغم مما تكاثف فوقهما من مساحيق الجمال، بألوانها الغريبة.. بل إن لون شعرها الجديد قد زاد من وضوح إغرائهما.. ولولا بعض البدانة على ذلك الجسد الملفوف.. لكانت "هيلانة" الماضي، ذاتها ، ماثلة أمامه الآن.. سيّان لديه أكانت شقراء الشعر، أم سوداءه.. هي حلم شبابه الأول.. ورجولته الأولى.. قبلة شهوته المتأججة.. يتعبد في وحدته أمام محرابها المنيع..كل ليلة.. لا يعرف إزاءها غير الصمت.. ولا يسعى إلى تجاوزه.. فبين عالميهما مسافات، وظلمات. حسبه أن يحدق في ملامحها.. يكفيه أن يلّف جسدها بنظراته وأحلامه.. يرويهما.. ينقل من ذكريات نهديها إلى سريره، كل مساء! يداعب جسده على خيالات من أنوثتها!

سألت"هيلانة" في تردد وهدوء.. وكان وراء سؤالها معاني عدّة..

- "بعدك بتصلّي؟".

ثم استدركت نفسها فجاة.. فلجأت إلى الصمت وقد علا الدم وجنتيها.. لم تفهم هدفاً لسؤالها. كأنه أفلت منها.. وحين هزّ الرجل رأسه بالإيجاب، رداً على سؤالها.. تشاغلت عنه بإشعال لفافة جديدة من عقب اللفافة القديمة.. ومثلت في ذهنها، بالرغم منها، صورة عدنان الشاب وهو يعود إلى غرفته مارّاً بالحديقة.. يمشي على رؤوس أصابعه... عاري القدمين.. وقد أتمّ وضوءه أمام بحرة الحديقة..

كانت تتعمد ترك الحديقة في تلك الأثناء تراقب حركاته من نافذة جانبية في الدور الأول.. ترى نظراته تبحث عنها في كل مكان .. تعجب لمراسم دينه التي يقوم بها! طقوس غريبة عن أجوائها.. لعلها كانت تنفر منها لاختلاف دينيهما.. لكنها لا تعرف كيف تردّ نظراتها عن أطرافه النظيفة.. عن ساعديه المفتولتين، وقدميه المتناسقتين العاريتين الكبيرتين.! لماذا كانت تنفر من مراسيم النظافة تلك؟.. أليس لأنها ارتبطت في ذهنها بعقيدة لا تفهمها؟..

نظرت إلى حذاء الرجل، وكان يزال يقف أمامها متكئاً على الحائط.. لحظت قبقابه ومشّايته.. وتبسمت، يدور في ذهنها أن قدميه الآن لابد مغسولتان.. نظيفتان.. لاأثر لأية رائحة تعرّق في جوربيه.. أين ذلك من أقدام جميع من عرفتهم خلال عشر سنين، من شباب ورجال بلدتها!!

تدرجت ابتسامتها على شفتيها.. وهي تسأل..

- "بدّك تَضَل وائف؟! ..حدّ الباب؟!"

تنبه "عدنان" إلى موضعه.. فتقدم من مكتبه في هدوء..يغالب شروده.. فسمعها تقول..

- "بتعرف إني يمكن عمري ما سمعت صوتك؟.."

نظر إليها مستغرباً، لا يعرف كيف يتخلص من حبائل الماضي التي كبلته في تلك اللحظة..انتفض في سره كمن يسعى للعودة إلى صحوة.. فتلفت في شرود يتأمل غرفته التي بدت له فجأة غريبة عن عالمه .. مبهمة الأوصاف.. وخصلات "هيلانة" الشقراء، وزينتها الزائدة، وشاح غريب.. يحاول سدّ تواصله مع ذلك الماضي الأثير! فتسمّرت شفتاه.. كما منذ سنين.. لا كلام.. لا رغبة لديه سوى متابعة النظر إليها.. والنهل من صورة تقاطيعها..

تساءلت "هيلانة" فجأة.. في غير ما إصرار..

- "دخلك.. ليش عمرك ما حاكيتني؟.. ليش عمرك ما فتحت تمّك؟.."

ولما لم تتلق منه أي جواب.. تابعت، تحدثّ نفسها..

- "سنة وأكتر.. وْلََك۫ ولا كلمة!! مش غريب إنتَ، يعني؟!! ولا كلمة!"

تبسم "عدنان" لا يفارق شروده.. وقال في بساطة.. في لهجة حموية دمشقية..

- "كنت زغير.. شبّ زغير.."

ردت "هيلاتة"على الفور، تعجبت مما سمعت..

- "زغير؟.. إنت.. كنت زغير؟ إسم الله على هلجسم يلي كان عندك.. طول.. كتاف.."

ثم ترددت، وهي تنتبه إلى ما تقول، وتحاول أن تحدّ من حماسها..

- "..وهلأ.. ليش شو تغير فيك..كنت شبّ.. وصرت رجّال.."

ونقرت على يد مقعدها الخشبي، تحّسباً من العين الحاسدة..

ضحك "عدنان".. وكأن بارقة زهوّ تسربت إلى صوته.. ردّ عاقداً حاجبيه..

- "كنتِ تنتبهي لجسمي بهديك الأيام..؟"

ارتبكت هنيهة.. ولما انطلقت على الفور تجيبه بأنه أمر طبيعي لأية فتاة أن تلاحظ ما حولها.. ومن حولها..خصوصاً إذا كانو من الشباب.. وأن "عدنان" كان شاباً غريباً عن عالمها، ومن محيط لا تعرف من تقاليده شيئاً .. ثم بان على ملامحها نزق يشير إلى أنها تتقمص قوالب مسلكية مألوفة لديها تعودت أن تحتمي بها .. مدّ "عدنان" يده بحركة غريزية إلى جرس صغير، يقرعه.. يوقفهما عن الكلام، يسألها في رفق عما تود تناوله من شراب.. فصمتت، هي الأخرى، وأدركت أنها تمثّل دوراً أخرق.. كأنها تكرر في جديّة دوراً قديماً .. أغنية طفولية تعلمتها في حداثتها.. فتبسمت، وقالت بعد أن طلبت فنجاناً من القهوة..

- "شفت، يمكن كان الحأ معك.. والسكوت بينّا، كان أفضل.."

* * *

قرع الباب في تلك اللحظة ولما أذن "عدنان" للطارق بالدخول، بان رأس السائق، "ميشيل"، ثم جزعه المنحني، وهو يتقدم خطوتين من "هيلانة"، يتصنعّ احتراماً شديداً.. ويقول ... وهو يخفي فرحه وامتنانه.. لطول غيابها..

- "يا ستْنا.. نحنا ناطرينك.. هلأ بنتأخر عالشام.. مش حضرتك يلّي.. عندك شغل هونيك؟.."

تنبهت "هيلانة" فجأة إلى ساعتها متسائلة.. ولما أدركت أنها قضت ما يقارب ثلث الساعة في ذلك المكتب، انقضت وكأنها ثوان أو دقائق معدودات.. استوت في مقعدها.. وهي تقول:

- "كنت بدي أحكيلك على أضيّة.. هلأني تأخرت.. وأخرتك.. خليها لبعدين.. "

- " اشربي الأهوة، على الأءل.."

فأشارت إلى "ميشيل" بانتظارها، دقائق أخرى..لما انصرف هذا سألت عدنان..

- "إنت هون على طول؟"

- "انتألت من كام يوم.. وإنتي؟.. جاية زيارة عالشام؟.."

شدّت قبضتها على المقعد، وهي تقول في تحدّ مصطنع..

- "لأ.. أنا عم بشتغل بالشام.. صرت غنّي.. ليش ما عندك خبر؟!. يحّو إسمي على الإعلانات.. معبي مدخل الشام.. على الطرفين!"

- "إسمك؟!"

ولما أطلعته على إسمها الفني.. ملأت الدهشة وجهه.. وسأل..

- "وين ساكني بالشام؟.."

- "بروح.. وبيجي..ولمّا بنام بالشام.. بنام عند التيتا.. بلبيت زاتو يلي بتعرفو.."

وضحكت، وهي تضيف في عجلة وإغراء..

- "شفت شوما أغرب الأيام.. عم نام بالأوضة زاتها..تفضل إنت واستأجر أوضتك الأديمة.. لنرحع متل ما كنّا.. من أول وجديد!"

ونهضت من مقعدها.. تطفئ لفافتها في دلال.. تحكم انسياب شعرها وثوبها.. تتجنب النظر إلى عينيه.. ولما مدت يدها له بالوداع.. نظرت إليه.. وإذا به يحدق في وجهها. ينقّل ناظريه عليها في نزق.. كأنه يرسم صورة لنهديها، ثم لكتفيها.. في خياله..

هدأت نظراته.. وهو يمد يده إليها.. لتلاقي يدها.. ياللعجب! تلامست بشرتهما معاً لأول مرة؟!! وقال:

- "بتمرّي عليّ.. وإنتي راجعة؟.."

ضحكت في دلالٍ وخفّة.. وأجابت، وهي تسير برفقته نحو الباب..

- "مين بيعرف؟.. شو مخبّيلنا الزمان.."

* * *

ما إن أغلقت الباب خلفها حتى عاد "عدنان" إلى مقعده، فجلس فيه شارداً يتنفّس ما تبقّى من عبق عطر"هيلانة" .. ينظر أمامه إلى المقعد الذي احتوى جسدها، منذ لحظات.. آثار ردفيها ما زالت بادية على المكان الذي ركنت إليه.. نهض على الفور مقترباً من المقعد.. وجال براحته في رفق فوق المكان المتجوف، يعود به بالتدريج إلى وضعه الأملس.. فسرت في جسده رعشة خفيفة وهو يحس بحرارة جسدها عبر كفّه العطشى.. كان منحنياً فوق المقعد.. فاستوى فجأة باسطاً ذراعيه في فضاء الغرفة يشدّ عضلات ظهره وكتفيه.. يتمطّى، مطبق الجفنين، وقد طار خياله إلى احتمالات بعيدة التحقيق.. هل ستعود يوماً لزيارته؟.. كيف لم تغب ذكراها من مخيلته هو لم يحظ منها في الماضي حتى بالنظرات؟.. كيف لم تنطفئ جذوة شهوته لها!! وهل اشتهى فتاةً غيرها طوال هاتيك السنين؟!

تذكر سؤالها فجأة عن الماضي.. عن صمته إزاءها.. حار في قصدها من وراء سؤالها ذاك.. ماذا لو كان قد بادرها فعلاً التحية، أو الكلام في ذلك الزمان الغابر.. وما الذي كان يرجوه من وراء كلمات جوفاء لا معنى لها.. هل كان في وسع الكلام أن يقوده إلى ما يتمناه؟.. إلى ما لايتمنى سواه؟.. لابد أن ذلك كان أمراً مستحيلاً.. لا من طرفها فحسب..بل من طرفه هو..! فمضاجعة "هيلانة" أمر جلل، لم يسعَ يوماً إلى رسم خطوطها الأولى في خياله!! أمل مبهم في طوايا أحلامه.. ما غاص يوماً في تفاصيل محاولة تحقيقه!! كانت صورة جسدها البض ماثلة أبداً في ذهنه، جزء منه، تنام وتصحو معه.. يجول بناظريه، بل براحتيه على أجزائها.. يتمثلها في خياله وهي في ثيابها، أو في العراء.. أبداً يفعل ذلك كما لو أنها تمثال حيّ.. لا وسيلة للتواصل معها إلا عن طريق اليدين..

لم يسعَ لاقتلاع شهوته تلك أو حتى للحدّ منها.. أو لجمها.. ولو كان في وسعه القيام بذلك، لما تردّد، ولانصرف بعدئذ إلى صلاته ودراسته.. ولا طاوع نفسه في اشتهاء جسدها دون غيرها.!

كان له من زملاء الدراسة شبان عديدون، يمارسون الجنس.. يحيطونه علماً بمغامراتهم.. يطلعون بعضهم بعضاً على تفاصيل فاضحة منها.. يرسمون له الممنوع رسماً، أملاً بإثارته وحضّه على الخروج من "حرمانه".. كما حلا لأحدهم أن يصف لعدنان مغامرته العاطفية، فعجب من حالته، وكان دمشقياً دمثاً لا يخفي أمر ممارسته لجميع انواع التجارب الجنسية.. تحلو له مناقشة "عدنان"، يسائله عن حياته الخاصة ويرجع سبب تحفظه.. حيناً إلى بيئته الحموية المحافظة.. وحيناً آخر إلى تعاليم دينه..، أو يتهمه أحياناً بالبرود الجنسي.. إلى أن يؤكد "عدنان" له، نقيض كل ذلك وأنه لا يشكو من علّة جسدية ما تمنعه من ممارسة جميع ما يشتهيه الشباب..، حتى يثور الصديق، متهماً إياه بالرياء.. أو بأنه مصاب بعقدة ما.. يراجع قراءته النفسية الغريبة المستفيضة.. واصفاً إياه بأنه لابدّ يشكو من حالة راكدة من حالات الشذوذ! سببها شهوة(سفاحية) لايجرؤ على الاعتراف بها.. فتثور ثائرة عدنان.. يعقب ذلك ضحك وصراخ!!

* * *

لكم طالت بهما مثل تلك الحوارات.. يعجب "عدنان" في سره لمدى مغالاة ما تذهب إليه البحوث العالمية النفسية.. النظرية منها.. أليس في وسع الإنسان أن يعجب بوردة عن بعد دون السعي إلى اقتطافها أو حتى إلى محاولة تنشّق عبقها؟! ولئن كان فقيراً، جائعاً، أفليس في وسعه المرور أمام طعام ما.. ليس ملكه، يمر أمامه مرور الكرام دون مناقشة شهوته له.. أومدى شدة رغبته في الانقضاض عليه.. والتهامه..! بصرف النظرعما إذا كانت فعلته تلك حراماً، أو حلالاً؟.. حرماناً.. أو كبتاً..؟! لايقوم بذلك بدافع إرادي أخلاقي ما.. بل بخيارٍ نفسي داخلي يحضّه على المضي في طريقه الفردي غير آبه بما حوله.. لكم اتهمه صديقه ذاك، باللجوء إلى تبسيط الأمور، فلم لا يحق له هو، تبسيطها؟!.

تبسّم من الماضي البعيد ومن ذكريات الرجولة الأولى.. وتذكر ما كان من شدة ندمه على ما قام به بعد تجربة جنسية جرت له مع امرأة عابرة في غرفة أحد أصدقائه!! لقد نجحت تلك التجربة في إرواء عطش جنسي شديد عابر.. لكن لا.. لم يكن ذلك إرواء.. بل تصريفاً أعمى.. طار إثره فوق حاجاته الداخلية العميقة، دون ملامسة حتى السطوح الخارجية منها.. لقد كره إذّاك ضمّ جسد لا يعرفه.. كره تقبيل شفاه ينكر زينتها، لا علم له بماذا هي قادرة على التفوه به، خلال أو إثر تلك المضاجعة العابرة!! ما حاجته إلى مثل تلك التجارب الباهظة في الثمن النفسي، إذا لم يكن لها سوى ذلك الأثر الشافي المؤقت؟..

* * *

كان بعضهم يعجب من مزاولة الصلاة.. وها هي "هيلانة" الآن، تسأله عما إذا كان لا يزال على عادته!.. ما شأنها بذلك.. ما شأن غيره بعلاقته بالخالق.. وهل يسألهم، هو، عن علاقتهم به؟.. ليس في حاجته الجنسية ما يناقض الصلاة.. لا في مزاولته للصلاة أي هروب من حرارة جسده..! لكن "هيلانة" كانت تفهم عكس ذلك.. تبتعد عنه، حين تراه يقترب من البحرة في دار جدتها.. يهم على الوضوء.. كما كانت جدتها، ذاتها، تراقبه من بعيد، في عجب يستشف منه بعض النفور المكتوم.. نزق يبّدل من تصرفاتها الطبيعية أثناء مشاهدتها له وهو يقوم بأداء حركات الصلاة.. فيعلو صوتها، إذ تحدث هذا أو ذاك ممن حولها.. أو تعود إلى مراقبته من بعيد، من خلال نافذة غرفتها، وتخلد إلى صمت غريب..

هل كان تدينه ناجماً لتربيته ونشأته في حماه؟ ما سبب ذلك الفارق بينه وبين العديد من زملائه الجامعيين؟ لكم كره مغالاة بعضهم في تطبيق فروض بحذافيرها نسبت إلى الإيمان.. يؤمرون بمزاولة طقوس تافهة.. يُنهون عن أخرى أشد تفاهة كأنهم آلات متحركة تنصاع لأوامر يُظن أنها ربانية!..لقد نشأ على ممارسة فروض الأخلاق الحميدة، والنظافة، ليس على أنها واجبات دينية، بل على أنها من صفات الإنسان الخلوق، الحسن التربية.. فكان يتمتع بتكرار عملية الوضوء.. لا يجد غرابة في عدم السعي وراء مضاجعة حفيدة صاحبة الدار.. بالرغم مما يشاهده من فتنتها خلال زيارتها لجدتها.. تلك الفتنة أخذت عليه لبه، كما ألهب سحر نضارة جسدها جسده، خلال سنين طويلة!

* * *

سمع نقراً خفيفاً على الباب، دلف بعده الحاجب يطلب الفناجين الفارغة.. فعاد عدنان في ذهنه إلى واقع غرفته ثانية..

ولولا آثار أحمر الشفاه على طرف الفنجان الذي احتست منه "هيلانة" القهوة على عجل، لخال أن جميع ما دار في ذهنه من ذكريات حوله ما كانت إلا أحلام يقظة.!

أعاد ترتيب عدد من الطلبات والمعاملات الرسمية على طاولته.. يتفحص بعضها.. يضع كلاً منها في مصنف خاص.. معظمها يتعلق بسيارات أجنبية انقضت مدتها المسموح ببقائها في البلاد..

جال في ذهنه، للمرة الألف، ما يعترضه من أمور الرشوة.. وما يرفضه منها.. وما بلغت علاقته مع بقية الموظفين من تأزم وتعقيد.. درجوا على تعاطي الرشاوى، والإتاوات.. يتلقفونها من كل حدب وصوب، وتعودوا جمعها ثم اقتسامها.. ينال كل منهم حصة تتناسب مع مكانته في السلّم الوظيفي.! فما إن تسلّم منصبه الجديد ومارس سلطته في التشدد على تفتيش حمولة جميع السيارات، ومنع جميع أنواع المخالفات، رافضاً قبول "حصته" من أية إتاوة كانت.. حتى تأزمت علاقته بمن حوله. يتفنن مرؤوسه في ابتكار المسوغات اللبقة في العرض والإغراء.. علّ ذلك يحيده عن موقفه.. أو يثنيه من مراقبة حمولات السيارات بنفسه.. دون جدوى.!

لم يكن مع أولئك الذين يحملون الشرف والنزاهة سوط يلسعون به ظهور غيرهم.. حسبه نفسه.. ولا يجول في خاطره أن يجعل مسلكه الشخصي القويم، قدوة لغيره، يحضهم، ولو في شكل غير مباشر، على الاستقامة.. كل ما في الأمر أن طبيعته كانت تأبى قبول الرشوة.. بالرغم من حاجته للمال، في زمن يتبخر راتبه فيه منذ انقضاء الأسبوع الثاني من الشهر.! ولماذا ينفذ راتبه، بتلك السرعة.. أليس لأنه يتجاوز ميزانيته في الصرف؟ ولم يكره الصرامة في العيش.. فوالداه من قبله قد ألفا التقشف.. اعتمدا في الحياة على مورد بسيط يأتي من أرض زراعية صغيرة.. لا يتجاوزان الحدّ الأساسي المعقول في جميع مظاهر حياتهما.. قانعين بذلك، هانئين به.. ورث عنهما تلك الحاجة الداخلية الملحة بالاكتفاء الذاتي.. مارسه في بساطة منذ أيام دراسته الجامعية.. حتى بات في وسعه العيش في أي ظرف، وفي أي مكان..لا يلتفت إلا إلى ما يحتاجه من لباس،وطعام.

* * *

دخل مرؤوسه، يسأله للمرة الثالثة عمّا قرر اتخاذه من إجراء حيال سائق ينتظر قراره منذ ساعات، وكان قد شك في أمره وهو يقوم بالتفتيش بنفسه.. فأوعز إلى الخفير بالإشراف على تفتيش هيكل السيارة تفتيشاً دقيقاً.. وما إن اقتيدت إلى المركز المختص حتى استمهل سائقها الموظفين بمبلغ من المال، وهرع إلى من يعرفهم من الخفراء يحضّهم على التدخل لديه هو، وأخذ يزيد من قيمة المبلغ الذي يعرضه، لقاء غضّ النظر عن تفكيك أبواب سيارته..

كان الجميع على معرفة أكيدة بأن حمولة ممنوعة قد أحكم إخفاؤها في تلك الأبواب. فإما أن يسوّى الأمر على طريقة السائق.. يوزع المبلغ على الجميع، أسوة بالأساليب المتبعة حتى ذلك الحين، أو تفكك أجزاء الباب، ويكتب محضر رسمي بالبضاعة المهربة، وقد تكون ذهباً، أو أدوية باهظة الثمن، أو مالاً مهرباً أو غير ذلك.. فلا يصيب أحدهم من وراء ذلك شيء من الربح، إذ تحوّل القضية برمتها إلى الإدارة العامة في دمشق.!

لم تكن مشكلته تلكؤاً طارئاً، في نيته متابعة القضية حتى نهايتها.. بل الطريقة المثلى لبلوغ ذلك الهدف دون الدوس على الكرامة الزائفة لغيره من الموظفين.. وكان عدد منهم قد توسطوا لديه لأول مرة يتمنون عليه العدول عن رأيه.. وهذا مرؤوسه، أمامه يسأله في إصرار وهدوء منوّهاً في أسلوب ملتوٍ، زائف الكلمات، بأن السائق على صلة برئيس المركز ذاته!. وأن الموافقة الضمنية للمدير قد تكون مكفولة سلفاً لا ينقصها إلا موافقته هو!

ترى هل رئيس المركز، فعلاً، على صلة وعلم بجميع ما يجري حوله وبما يتقاضاه الخفراء من رشاوى؟!. هل مرؤوسه يخدعه في طرح مثل ذلك الاحتمال.. يتخفى وراء مشاركة أو حماية تأتيه من فوق؟! هل كان ذلك يجري في معظم الدوائر الرسمية، جميع من يتقاضون العمولات والرشاوى، يدّعون حمايات ومساندات من "جهات عليا"؟.. أم كان رئيسه فعلاً جاهلاً بما يجري في مركز عمله.. ولا في وسع "عدنان" أو في نيته، طرق بابه ليعرف منه حقيقة الأمر..مشككاً بذلك في نزاهته..! أوكاشفاً جهله المطبق، بالتوقيع على مذكرة اتهام غاية في الخطورة، تدين جميع من حوله من موظفين..! لم يجد في نهاية الأمر من حل سوى ما تعوده طوال حياته.. عليه من نفسه، وهو أصلح الحلول! ليس في وسعه إرضاء الجميع.. ولا من سبيل مأمون مفتوح أمامه، يقوده إلى معرفة نوايا رؤسائه.. قال في حزم :

- "فكّوا السيارة.. وأنا جاية لشوف.."
- "سيدي..إلتّلك.."
- "إلتّلك فكّوها.. وعلى مسؤوليتي..أنا.."

ــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الثالث

أسرعت "هيلانة" إلى غرفتها، في بيت جدتها في دمشق، ترتدي ثوبها الأحمر المبرقش البرّاق، ثم هرعت نحو سيارة أجرة تنتظرها.. بعد أن سترت ألوان ثوبها الفاقعة بمعطف فضفاض، قاتم اللون لا يكشف من جسدها سوى عنقها المسكوب، ورزمة شعرٍ أشقر مستعار، تهدّلت خصلاته الكثيفة الملفوفة فوق ظهرها وكتفيها، وجبينها.. غطت خديها.. حتى كادت لا تترك من معالم وجهها سوى عينيها الكحيلتين، وأنفها.. ثم شفتيها المكتنزتين اللتين سارعت إلى صبغهما بمزيد من أحمر الشفاه بما يناسب ذوق روّاد الملهى الليلي الذي قادتها السيارة إليه..

لم يكن أمام مدخل الملهى، في تلك الساعة المتأخرة من الليل سوى بعض روّاد الطرقات، من باعة فتية، أوشباب من محترفي سلاطة اللسان والباحثين عن مغامرة عابرة.. أو مكسب سريع.. نظروا إليها في إعجاب شبقٍ ساذج وهي تترجل من السيارة.. يعقب ظهور حذائها المذهب، كاحلها الدقيق، ثم ما بان من ساقها الناصعة البياض، يجللها طرف ثوبها الأحمر البراق، يستره معطفها القاتم..

تقدمت من باب الملهى في عجلة وحزم.. تلجه وهي تحرّك رأسها في التفاتات متشوفة ليس حولها من سبب يحرّضها إلا نظرات نهمة بلهاء.. فصاح أحد الفتية إعجاباً بخصلات شعرها الملفوفة، "يا عيني عالدهب" وصفق، يرافقه قوله ثناء تفوه به بقية من حوله.. فاستوى زبّال.. توقف عن جمع النفايات..، وقف متكئاً على ذراع مكنسته الصلبة، حديثة الصنع. هزرأسه في حيرة.. ثم بصق في كفه، وعاد إلى كنس الشارع، يهز رأسه من جديد في عجب، واستخفاف..

دلفت "هيلانة" إلى غرفة صغيرة جانبية، خلعت فيها معطفها.. وجلست على مقعد صغير تصلح من زينتها.. تنتظر دورها في غناء يتلو رقصة شرقية أوشكت على الانتهاء، تقوم بأدائها فتاة مصرية سمراء..كانت حتى شهور مضت، تعمل شغالة في أحد البيوت.. تعاطفت "هيلانة" معها لسبب تجهله.. وكانت قد التقتها مصادفةً في الملهى، أثناء النهار، فارتأت عليها طرح زيّها جانباً واستبداله بآخر، درجت شهيرات الراقصات على ارتدائه.. مؤكدة لها أن مثل ذلك الثوب الحدييث، يبرز حركة الردفين.. خصوصاً خلال الانثناءات التي ترافق النغم العذب الحزين.. ورفعت "هيلانة" ذراعيها تشرح ما عنته.. تحرّك ردفيها في دلالٍ، وهي تدمدم أنغام "العتابا"..

كانتا آنذاك تقفان على خشبة المسرح تحت نور باهت، يخيم عليهما ظلام القاعة.. فتذكرت كيف علا صوت صاحب الملهى بالثناء عليها، وكان قد دلف إلى القاعة في سكون .. وكيف منّاها بمضاعفة أجرها إذا ما وافقت على أداء الرقص، أثناء غنائها.."بعض الرقص".. شارحاً لها أن تلك هي العادة لدى معظم المطربات في الغرب، وأنه ليس هنالك ما يشين المغنية العربية، إذا ما هي قامت برقصة خفيفة، تليّن من جمود وقفتها.. وما كل من غنى من مطربات.. هي أم كلثوم.. تلك التي كانت تقف على المسرح، صامتة، وهي في السبعينات من عمرها، يكفي حضورها لبث مشاعر الطرب في عشرات الألوف من المشاهدين!.

تنبهت "هيلانة" إلى اقتراب وقت ظهورها على المسرح.. ثم سمعت المقدمة الموسيقية لأغنيتها.. فنهضت لفورها.. وخرجت إلى الخشبة .. تقترب من مكبّر الصوت في خطوات ثابتة.. لا تهاب صياح بعض السكارى، وهي التي تطمح للغناء يوماً في "الوادي".. في زحلة بالذات.. بين صحبها، ومعارف طفولتها، وبين حسّادها! تثبت لهم أنها ليست تلك المرأة الخفيفة اللعوب.. وأنها، إذا احترفت مهنة الغناء فليس مرد ذلك كونها تسعى نحو النهاية المحترمة لكل فاقدة عفة. بل لأنها تسعى فعلاً، للثبات على قدميها، على درب الحياة.. تكسب عيشها من كدّها ومن يدري.. لعلّ في صوتها من المزايا ما قد تكشف عنها الأيام. فيقودها ذلك إلى مجدٍ، عرفت مثله غيرها من المطربات..

كانت "هيلانة" تدرك أن جميع من ينظرإليها من المشاهدين، وهي على خشبة المسرح، إذا ما التفتت نحوه، يظن أنها تبادله النظرات..لا ينتبه إلى العتمة التي تخيم فوق الحاضرين، وتحجبهم عنها، لا يدري أن وهج الأنوار الكاشفة يغشى ناظري من يقف أمام مكبر الصوت يكاد يعميها عن حميع من في القاعة، فالمطرب لا يميز من أفراد الجمهور إلا من جلسوا إلى موائد الصفوف الأولى، لا يرى من عمق الصالة إلا أشباحاً داكنة تتحرك في الظلام.. لذلك، ما إن كفّت عن توزيع الابتسامات في الفضاء، وجهتها إلى أولئك المجهولين.. وفتحت شفتيها تردد الكلمات الأولى من الموال "صرلك سنين وراهم .. بتتعب، وما بيعتبو الحلوين" حتى تحولت ابتسامتها إلى زمّة صارمة، تعودتها منذ طفولتها.. وهاج الحنين في قلبها، كعادتها.. وهي تنهي ذلك المقطع من الأغنية.. لترد على وقع تصفيق الحاضرين.. "يا ظريف الطول يابو الميجنا.. شو بحبك أنا.." غمرها شعور عارم مجهول الطبيعة.. أحزانها.. غربة تنشر الصقيع في أطرافها كلما زاد تحديقها في الأنوار الساطعة.. تدرك أن كل العيون ثحدّق بها.. لاترى أحداً بعينه، فلا تكترث إلا لخفقات أوتار داخلية في نفسها تهمس لها بأمور تتجاهلها، أثناء حياتها اليومية، تساؤلات نبض بها مجمل كيانها..أين ولّى زمن الصبا الأول.. زمن اللهفة المسكرة؟.. أين تلاشى زمن النظرات الواجفة، التي كانت إذا ما أطلقتها نحو أحدهم أو إذا التقت عيناها عينين سوداوين أو لامست نظراتها جسداً ممشوقاً فتياً، مكشوف الصدر.. وأحست أن في وسع ذلك المجهول الذي يبادلها النظر، لو أراد ذلك، أن يمسك بيدها في تصميم و صمت، فيقودها إلى حيث شاء.. يطرح جسدها حيث يريد.. ويرتشف من رحيق شهوته منها، ما طاب له ذلك!! ما أعظم جهل الرجال بطبائع المرأة..! ما أغرب أسلوب تقرّبهم من النساء..! لو كانت هي رجلاً لما افلتت براثنها منها امرأة.. لو كانت رجلاً.. لعرفت الطريق لمضاجعة جميع النساء..!

كانت "هيلانة" في الطور الأول من صنعة الغناء، لم يغلب على وعيها بعد، برود مهنيّ ما.. ما زالت تطرب للنغمات التي تطلقها حنجرتها.. تتقمص معاني الكلمات التي تتلفظها أو تقبلها في ذهنها على الأقل..لا تعي أنها تغنّي لجمهور لا وجود له بالحقيقة! احترف السوقيّة.. جاء يشاهد جسدها وحركاتها، ووجهها، لقاء ثمن كأس الشراب المسكر الذي يحتسيه.. لا يصغي إلى غنائها بقدر ما كان يراقبها.. يكاد لا يميز من أدائها إلا نغماً، إذا ما تعرّفه، شاركها في ضرب الإيقاع، والتصفيق له.. يقوم بذلك في هرجٍ بدائيٍّ يتناسب طرداً مع ما تناوله من مسكرات! يبتكر تصرفات و تعليقات مبتذلة، مقيتة، ليس هدفها الثناء على ما تقوم به.. بل إشباع حاجته هو في الحصول على مسرّة توازي ما ينفقه من مال!

* * *

كان من بين المعجبين بها، رجل في بداية سن الكهولة.. أسمر الوجه قاتم التقاطيع، كثيف الشاربين، ممتلئ البطن، يجلس وفي رفقته دائماً، شاب أو شابان، لا يبادلهما الحديث.. يقومان بحراسته وبتنفيذ ما يطلبه منهما، تعوّد أن يطلب "هيلانة" للجلوس إلى مائدته، إذا ما أنهت وصلتها الغنائية.. يحضّر لذلك بفتح الباهظ من زجاجات المسكرات.. ينهض مرافقاه و يبتعدان عن مائدته، إذا ما دنت "هيلانة" منهما، فينتحيان مائدة منعزلة، حريصين دوماً، قبل الجلوس، على أن يظهر لمن حولهما ما تمنطقا به من السلاح..

لم يكن في اتفاق "هيلانة" مع صاحب الملهى ما يفرض عليها الجلوس إلى أيٍّ من زبائن الملهى ممن هو قادر على دفع ثمن ذلك، عن طريق استهلاك المزيد من كؤوس أو زجاجات الشراب.. كان ذلك شأن بقية "الفنّانات" من راقصات و محترفات السهر.. أما هي، فقد اقتصر عقدها على الجلوس إلى موائد النخبة من رواد الملهى.. جميعهم، على صلات وثيقة مع جهات متنفذة في المدينة، مراكز قوى لا يمكن تجاهلها.. وبعضهم، ذوو مناصب حسّاسة.. في وسع أي منهم، إذا ما أراد ذلك، زج صاحب الملهى في أماكن لا يعرف قعرها، أو سرّها.. إلا الله!

* * *

سرعان ما أنهت "هيلانة" وصلتها الغنائية.. فعادت إلى غرفة الزينة، تحكم تصفيف شعرها.. تنتظر وصول النادل، يطلبها للجلوس إلى مائدة ذلك الرجل.. تتبسّم، وهي تتسائل عمّا يمكنها الحصول عليه منه، وقد بدأ في تقديم الهدايا لها، دون مقابل .. تسخر في سرّها من أسلوبه في الغزل.. تذكر ما حدّثها عنه من أنه لا يسعى إلى أكثر من جلسة هادئة معها، من حين إلى حين.. تذكّره لكنتها اللبنانية بزحلة التي عرفها وأحبها في شبابه.. فهو يستمرئ غناءها.. يعجبه أكثر ما يعجبه، تفردّ شخصيتها، رغم أنوثتها الظاهرة.. وجرأتها في مواجهة جميع من حوله! سمة، لمسها عن قرب لدى معظم سكان بلدتها العنيدة!.

ضحكت وهي تذكر ردّها على قوله يوماً، منذ أسابيع.. وكان القصف على أشدّه على بلدتها..

- "من هيك يا "بو رعد" من محبتكم فينا.. نازلين فينا دكّ!!"

ضحك بدوره آنذاك من قولها..

- "عم نضرب الخاينين منهم.. يلّي بدهم إسرائيل.."

لم تشأ الردّ عليه بقولها إن معظم البلدة من هؤلاء.. لا يرون في حربهم تلك، خيانة لأحد، بل نصرة لقضيتهم، يحاربون صفّاً واحداً مع مرتزقة أتوا لمساعدتهم، من جميع أنحاء الأرض!. أتوا من فرنسا وبلجيكا، بل إن بعضهم أتى من جنوب افريقيا؟

اكتفت بالسؤال في حنق.

- "طيّب.. ونحنا؟.. وأنا.. دخلك..؟ شو ذنبنا نحنا؟.."

هزّ رأسه في صمت.. ولم يقل لها إنه يشك في تعاطفها مع الخونة.. وإن الأمر، بالرغم من الظواهر، بات معركة فصل لدى الطرفين..زمّ شفتيه وهو يهزّ رأسه ببطء.. واكتفى بأن تبسّم، قائلاً:

- "صحيح.. شو ذنب الحلوين.."

* * *

تقدمت نحو مائدة "أبورعد" تتلفت في تشّوف كعاتها تدفع عنها نظرات المعجبين.. وحين عاد مضيفها إلى الجلوس، بعد السلام عليها، جمعت "هيلانة" ثوبها العريض بين المائدة والمقعد، تجّر نفسها عبر المكان الضيق للجلوس إلى جانبه.. تلتفت، في الوقت ذاته، نحو مرافقيه البعيدين.. وتربط، لأول مرة، بين احتمال طبيعة عمله الحساس، وما يدور في بلدتها، وحول جبالها، من معارك طاحنة!.

بعد عبارات الترحيب والمجاملة.. أخذ يعبرعن إعجابه بجمالها بين حين وآخرثم قال لها:

- "بدنا نشوفك شي يوم.. على ضو النهار.. على شي غدا.. أو عشا.. ومنتمشور بعدو.. بشي محلّ.. على رواء.."

- "على رواء؟.. بالشام؟.."

- "بالشام.. بشتورة.. أو بعنجر.. وين ما يعجبك.!".

تنبهت، إذ سمعت منه سهولة إمكانية تنقله، عبر الحدود، وهي تجهل طبيعة عمله.. فقالت في تملّق..

- "شو..شوهيدا! عندي كل هالشي.. وما ني عارفة.. آعدة مع مين.."

سرّ "أبورعد" لمديحها بالرغم من هدوئه الظاهر وحركاته المتكلفة المدروسة.. جهد في إعطائها صبغة الرجل القوي، ذي العلاقات والمعلومات الواسعة.. فأضاف، رافعاً كأسه، كأنه يشرب نخبها..

- "إلتلك سوئي مع السوء.. يا "هيلانة".! ولسّا بتنبسطي كتير.."

ولما تبسّمت.. وتململت، كأنها لا تفهم ما يرمي إليه من وراء تحريضه.. وهي التي لم يبد منها، بعد، أنها تنوي التمنع، أو الصدود..هزّ رأسه.. ينتظر منها، بعد هنيهة صمت، أن تكون قد وعت في ذهنها الهدف الذي يريد من إشارته إليه. أمور لايجدر بإنسانٍ أريبٍ أن يناقشها في أماكن عامة.

- ".. حطي إيدك بإيدي.. وما بتكوني غير مبسوطة منّا..!"

تسارعت تساؤلات "هيلانة" في ذهنها.."إيدي"؟.."منّا"..؟". من تكون الجهة التي رمى إليها وهو يتحدث في صيغة الجمع؟! رمقت مرافقيه الشابين، وهي تشعل لفافة تبغ.. وجال في ذهنها، أنه لو صحّ ما تتوقعه من قصد مضيفها.. في ربطه إشاراته مع طبيعة نفوذه، وعمله فليس هنالك ما تخشاه من إرضائه، ولو ظاهرياً.. ما دامت تعمل في دمشق!. ولها فيها، مصالح، يحسن التنبّه إلى حمايتها. ودعمها.

رفعت كأسها نحوه في هدوء، ترد على نخبه..وقالت..

- "ليش لأ.. الناس لبعضها البعض.. والدنيا أخد.. وعطا.."

صفق "أبورعد" يستدعي النادل.. يطلب زجاجة "ويسكي" أخرى.. ثم مال نحوها، يهمس في أذنها..يقول..

- "هيلانة".. إنتي من زحلة.. طمني بالك.. ما بدي منك شي بيخصّ زحلة..بس .. في ناس من عندكم عمّا يهربو سلاح لعنّا.. لهون.. عمّا يدخلو سلاح لهون.. للشام.. وعم يوزعوه على جماعتهم، هون.. بدنا نعرف مين عم يشتغل على الخط.. وعلى مين عم يتوزع هالسلاح.."

فتحت "هيلانة" عينيها دهشة، وقالت مستنكرة..

- "وشو إلي علاءة أنا، بالسلاح؟!أو هلّي عم بيتسلموه؟! ليكون مفتكر.."

قطع الرجل حديثها.. يربت على يدها.. ويقول مبتسماً، مهدّئاً..

- "لأ.. طمني بالك.. لو كان لك علاءة معهم.. ما كنا خليناكي هون.."

ردت في دلال ساخر..

- "يكتر الله خيرك!!"

أجابها في حزم وهدوء..

- "وخيرك كمان.. بس من اليوم ورايح، بدنا منّك تفتحي عيونك، وأدانك.. لأنو السلاح عم يجي من شتورة.. عن طريء زحلة والجبيل..".

- " طيب.. رح أفتح عيوني..هيك.. منيح هيك؟!.

وحملقت في وجه محدثها بما أضحكه.. لكنه تابع حديثه مثل حزمه وهدوئه السابقين..

- "من اليوم، ورايح.. يا "هلّو".. بدنا منك تدوري على هالجماعة.. وتتعاوني معهم! والباقي علينا.. في شي.. هالكلام؟.."

صمتت "هيلانة" هنيهة، يبدو عليها أنها تمعن التفكير في طلبه.. تستنكر في سرها ما سمعته من تصغير اسمها.. ثم أجابت .. كأنها تتنازل عن حقها في المعارضة..

- "لأ.. ما في شي.. يأطع السلاح.. ولّي بيستعملو.."

ربّت الرجل ثانية على ظهر يدها الممدودة على الطاولة.. وأنهى الحديث بقوله.

- "تمام.. هادا اللي بدي ياه منك.. وبكرا.. على الغدا.. بفهمك كمالة الموضوع.. وبالتفصيل..".

* * *

مشت "هيلانة" في تثاقل، عبر حديقة دار جدتها المعتمة.. ثم دخلت غرفتها تنظر إلى سريرها، تسعى إليه.. تلقي ما تخلعه عنها من ثياب، كيفما اتفق، تمسح زينة وجهها..، إلى أن تقوقعت في فراشها.. تحت غطائه البارد، تدسّ يديها بين فخذيها، تحفظ حرارة جسدها.. تغالب ما عصف في خاطرها من تساؤلات شغلتها.. تستعرض حوادث يومها في صور متقطعة.. متشابكة.. تعجب، هي التي تعودت نسمات زحلة الوادعة، ما هبّ عليها فجأة من لفحات دمشق!!.

ماذا يضيرها لو تظاهرت بالقبول إذا طلب منها "أبورعد" التعاون معه فيما يريد، وهي التي لا علم لها بشيء عما طلبه.. وليس هنالك ما يجبرها على اختلاق الأكاذيب لإرضائه؟، لكنها عجبت لغبائه.. فهل يعقل لمثلها.. فيما لو وصل إلى سمعها شيء.. أن تشي، بأي كان من أبناء بلدتها.. وعقيدتها ودينها مهما كرهت أعماله، وأنكرت انتماءاته؟.. ثم كيف يصل أمثال "أبورعد"هذا إلى مراكزهم ..وهم لا يدركون مثل هذه الأمور الأولية البدائية؟.. أولعلها هي ، الساذجة!. وأن "أبورعد" أكثر دهاءً مما تظن..لا يثق بها.. ولا ينتظر من ورائها معلومات أو وشاية ذات بال!! ماذا يريد منها، إذن؟.. وهي التي تكاد لا تنتقل بين زحلة ودمشق إلا مع "ميشيل".. لا يحشو صندوق سيارته بغير معلّبات الطعام.. تعرفه حق المعرفة، وتعرف رفضه مراراً التعامل مع المخدرات!.

تنهدت.. تميل على جنبها الآخر..ترتاح للنعاس.. ما أبعد عالم "ميشيل" ورفاقه عن عوالم وأجواء "أبورعد" ومرافقيه، سواء كان ذلك في أسلوب كسب العيش، أو في أهدافه.. وما أقربها هي إلى طبائع أهل بلدتها.. في السعي وراء الممنوع.. وفي التربص ومخادعة الغير.. هل جميع الناس على هذه المذاهب.. يخطون درب الحياة على هذه الطرائق نفسها؟!

برزت صورة عدنان فجأة، في خيالها.. وادعة.. شفافة.. آمنة..أي عالم هذا الذي ينتمي إليه عدنان؟. ولكنها لا تعرف نموذجاً مثل عدنان إلا هو.

تبسّمت، في ظلام غرفتها.. يغلبها النعاس.. يغالبها النوم.. وطارت في خيالها إلى جسده.. ما ألطف بشرة عدنان البيضاء .. وأطرافه القوية، والمتناسقة، وما أنظفها. ترى، أين هو الآن؟ ماذا يفعل؟. ترى.. هل له زوجة يضمّها الآن بساعديه القويتين.. يلفها في تلك اللحظة.. في الفراش.. هل له زوجة تقبّل عنقه القوي.. لافّة ذراعيها حول خصره أو ساقيه..؟

* * *

صحت من نومها، في اليوم التالي، على صوت جدتها، تناديها.. تحثها، في رفق، على النهوض من الفراش..

- "أومي يا بنتي، أومي.. صارت الساعة واحدة.. شو مانك رايحة على زحلة اليوم.. أومي يا حبيبتي، أومي اشربي أهوتك.. هلأ بتبرد.."

فتحت "هيلانة" جفنيها المثقلين بالسهر. تستوي بعض الشيء في فراشها، مستندة على وسادتها.. تتقبّل الفنجان، من جدتها وإلى جانبه ركوة عارمة بالقهوة.. ثم همست، سائلة..

- "حدا اتصل فيّي؟.."

- "حكا واحد.. ما آل إسمو.. آل ناطرك عالغدا.."

ولمّا همت الجدة على مغادرة الغرفة.. نادتها "هيلانة"، تقول..

- "تيتا.. وين رايحة؟.. ما بدّك تأعدي عندي شوي؟.."

تلفتت جدتها، تخفي امتعاضها لما تناثر في أرجاء الغرفة من ثياب الرقص البراقة.. وتمتمت..

- "رايحة جيب فنجان، لحالي.."

عادت بعد هنيهة، تجلس قبالة حفيدتها، ترشف القهوة وهي تراقب قطرات خفيفة من المطر، حوّلت حجارة أرض الحديقة المغبرة إلى مربعات صقيلة، ملونة، لامعة.. باتت أشكالها الهندسية الدمشقية القديمة، وكأنها أصداء لماضٍ مترف.. يستنكر ما صار إليه تخلف المكان..

قالت بعد لحظات..

- "مين هادا "أبورعد".. دخلك؟"

هزّت "هيلانة" رأسها، ثم تنهدت، وهي تجيب في حيرة وزهد..

- "شو بعرّفني.. واحد من هون.. شغلتو مهمة..آل.."

ثم أضافت.. بعد صمت..

- "يا تيتا.. شايفتلّك الدنيا حتخرب.. ياأما.. خربت وخلصت.."

- "وشو هو هلّي خربان فيها..دخلك؟.."

- "بعد بدك أكتر من هيك؟.. ولوّ.!"

رشفت الجدة قهوتها.. وبادرت في تصبّر.. وأناة.. في لهجتها الشامية..

- "شوفي يا بنتي.. إنتي لسّاتك زغيرة.. وعيتي عالدنية مبارح.. نحنا.. مرئت علينا أيام سودا..ندوّر فيها على رغيف الحنطا مانلائي.. بأا شو عم تحكي؟! شو شفتي إنتي لحتا عم تحكي هالحكي؟.."

- "ولوّ.. يا تيتا.! كل هل أتل والدبح.. ما معبّي عينيك؟.."

- "..لأ يا حبيبتي.. أنا ما إلت هيك.. بس إمي كانت تحكيلي أشيا.. لسّا أفزع من هي بكتير..!!"

- "أفزع من هيك؟!. هيدا لبنان، راح.. وصار عشرين شأفي.."

- " شو يلّي راح فيه يا بنتي؟.. لاراح ولا إجا.. رجع متل ما كان..!"

- "شو.. إيمتا كان هيك؟.."

- "طول عمرو كان هيك.. أبل ما إجت فرنسا.. كيف كان؟.. إمي.. الله يرحمها.. كانت من زغرتا.. وكانت تحكيلنا على بيت فرنجية وعالمردة من ميت سنة.. كأنها عم تحكي على يلّي عم يصير اليوم.. وليكُن بيت إدّة هربو لفرنسا.. وطول عمرو هالوالي بيجي مع هالوالي.. وهادا..ضد هداك.. والكل بيسمع كلمة الوالي بالشام.. بأا شو هوّي هلّي تغير دخلك؟.. أنا لهلأ بوعا لما كانت بيروت وطرابلس وصور وصيدا.. وكل الساحل إسمو سوريا.. وبلاد الشام.. من حلب واسكندرون، لعند بير سبع، وغزة..

نظرت "هيلانة" إلى جدتها في عجب وحيرة.. وقالت.. شبه هازئة..

- "هيك لكان.. ليكون صرتي قوميّة!"

لكن جدتها تابعت كأنها لن تنتهي من سرد صور الماضي وهي تحكي تلك الذكرى التي فاجأت حتى خيالها الخصب..

- ".. وبتعرفي يا بنتي إنهم، من زمان، أسّمو سوريا لخمس دول كمان؟.. ما بأا إلا يعملو من كل ضيعة، دولة.. من هيك إجا وأت صارت فيه كل حارة دولة.! وكل أبضاي، رئيسها!!"

- "يعني إنتي مبسوطة، بهلّي صاير؟.."

- "يا بنتي أنا شو دخلني.. بس خايفي عليكي، وعلى إمك.. هديك، المعترة، آعدة تحت الضرب، بزحلة.. وإنتي رايحة وجاية، وما بتيجي على البيت كل ليلة، إلا وش الضو.!"

ردت "هيلانة" في تحفّز، تدفع عنها نصائح وتخوفات جدتها..

- "تيتا.. لاتبلشي نصايحك عند الصبح.!"

هزّت رأسها وهي تنهض، تتشاغل عما أرادت قوله..

-"آل صباح.. آل.. لك صار بعد الضهر.."

ثم تابعت بعد هنيهة، وهي تجمع آنية القهوة، وتتجه نحو الباب..

-"أنا علّمت إمك الخياطة.. وعشنا العمر كلّو ما حدا حكى علينا.. يا بنتي مو عيب الواحدة تغنّي.. بس.. لازم تدير بالها كتير..كتير..الغنا شي.. والرجال شي تاني.."

ثم أقفلت الباب خلفها، مرتاحة إلى أنها قد تجرأت في النهاية، وأبدت رأيها في المنحى الجديد الشائك لحياة حفيدتها، ..نادمة في الوقت ذاته على ما بدر منها .. وهي تعلم حق العلم، أنها وابنتها "أم هيلانة"، تعيشان، منذ فترة لا بأس بها، على ما تكسبه حفيدتها، وأنهما، لولا مهنتها الجديدة تلك لأدركتهما الفاقة، ولما استطاعت التغلب على مصاريف الحياة المتزايدة.. ومقهى ابنتها في الوادي، قد خلا من كل شيء حتى من مقاعده وآنيته.. وهي أسيرة دارها في دمشق، لا يكفيها مورد غرفتيها، لسد حاجتها لشراء الدواء..

* * *

ركبت "هيلانة" سيارة الأجرة، متوجهة نحو موعدها، في إحدى ضواحي المدينة، تغالب غصة في حنجرتها، فتغلبها.. تذمّ وتبكي من قجرها الذي لا يكتغي بجور السنين على حملها، بل يثقل كاهلها بعبء إعالة عجوزين متبرمتين ..تهرب من تقريع الواحدة منهما، لتصطدم بنصائح الأخرى!.

ماذا تريدان منها؟.. أتريدان منها الكف عن ملاقاة الناس؟.. والموت جوعاً في منزل إحداهما؟.. لقد تجاوزت الثلاثين من عمرها .. أين هي اليوم مما كانت عليه منذ عشرة أعوام، أو تزيد؟! لا تكلم من الشباب إلا من تروق لها قبلاته..! ترفض الهدايا، في أنفة.. تودّ في سرّها لو كان في استطاعتها هي توزيع الهبات!!

كيف لا تقبل الهدايا اليوم؟ بل، منذ سنين، وريع مقهى والدها قد تبخّر، ولم يعد بدل إيجاره السنوي يكفي نصف ما تحتاجه والدتها لمصاريف الدار.. ألم تزاول العمل كموظفةٍ في الهاتف.. عدة سنين، وراتبها لا يكفيها ثمن اقمشة ثيابها.. التي تخيطها والدتها لها؟. لقد خبرت عقم الحياة الوظيفية خلال تلك الفترة، وعرفت قدرة ألسنة الناس على الإساءة للآخرين.. تنهش الأقاويل سمعة كبار رجال بلدتها، وزوجاتهم،! تلوك أعراضهم.. فما بال تلك الألسنة قد تناولتها، هي بالتجريح والتخريش!! ويزيد على ذلك ما تطوع بعضهم ممن بادلتهم ساعات الوصال بالإدلاء به من وصف مفصّل لمفاتنها!! لا يشفع لها أنها كانت ترفض الهدايا.. وأنها ما تمددت على فراش، في خلوة أحد، بل كانت هي التي تقود الذكر إلى ما تريد!!

لماذا لا تقبل الهدايا، بعد كل هذا؟.. ولماذا لا تتنازل اليوم عن بعض كبريائها، فترضى أن ينتقيها غيرها، وقد أشبعت في الماضي حاجاتها في اختيار الرجال؟..

هل تجاوزت في ذلك حدوداً أخلاقية معينة حتى بات بعضهم ينعتها بالانحراف؟.. أي حدود وهمية هذه، التي تفصل بين نوع هدية، وأخرى؟! بين القيمة النقدية لهذه، أو تلك!! وما الفارق الحقيقي بين تقبّل سوارٍ ذهبي.. وبين تسلّم قيمته، نقداً، لتبتاعه هي بنفسها!! ثم، ما الضير في أنها ادخرت ذلك المال.. أو أعادت تلك الهدايا إلى أصلها: مال.. تدخره أو تنفقه على حاجاتها اليومية؟.. لعلها لو تنبهت إلى "المظاهر"، منذ البدء، لجنبت سمعتها ما يتناولها الناس به من سوء..آه.. ليتها فطنت إلى ما تخبئه لها الأيام!! كان شبابها، حينذاك، يدعمها ويشد أزرها، ويُهيئ أنها لابدّ ستلتقي قريباً شاباً يحمي حبهما من جميع هفوات الماضي الصبيانية! ما السبيل لها إلى أن تعلم أن عنادها وقدرتها على التحدي سيفتران مع مرور السنين .. وأن التحدي ذاته، إنما هو سلوى ستخبو مع انحسار الشباب!.

* * *

جلست إلى مائدة "أبورعد" تنصت إلى حديثه الرتيب في صمت، يحدثها عن ماضيه.. عن طفولته القروية.. و يشرح لها تسارع الأحداث.. وتشابك حياة الجميع بما يسود الوطن من اضطراب ودسائس.. تنبهت إلى نظرات الرّواد تفرقوا حولهما معظمهم من العسكريين، يتناولون طعامهم في نهم وسوقية.. يتحينون فرص التفات مضيفها عنها، للتحديق بها في إعجاب سليط.. لا يعرفون من النظرات إلا الوقحة منها.. يتهامسون، أو يتحركون في مقاعدهم في توتّر مكتوم.. كأنما الأنثى طريدة، إذا ما دنت منهم، حركت حوافزهم للصيد والآنقضاض!

كان ذلك في الماضي يحضّها على الردّ.. تستعرض وجوه الجميع، في سخرية، بادية.. تتوقّف عند نظرات تروقها من صاحبها.. تبادله النظر أو التحديق، تتمنى لو أن في ناظريها شرراً تصيب عينيه به، حتى يكفّ عن تلك المقارعة، فيبتعد عنها، أو تستكين نظراته إليها، فيبادلها إعجاباً بإعجاب!

أليس غريباً ألا تلتفت اليوم إلى التصرفات السوقية.. تبررها.. ترجعها في حدسها إلى حرمان قديم قد عانى منه هؤلاء.. أو إلى أنها من أساليب الغزل.. تعلموها.. وهم ما زالوا صبية.. يلجؤون إلى الأزقة والشوارع هرباً من ضرب أهلهم. تتحول جميع تصرفاتهم إلى عدائية مكتومة، ينتقمون عبرها من بطش هؤلاء..!

لقد رأت تلك النظرات نفسها، تتحول في القضايا الوطنية او العقائدية، إلى طائفية مقيتة.. عمياء.. ترجمت عنفها المكتوم إلى ذبح وتقتيل. أليس عجيباً أن يكون فهم هذه الأمور قد فاتها وهي في ريعان الصبا، ونضارته.. تردّ على هؤلاء، بمثل لغتهم.. تبادلهم نبال العنف حتى في أساليب الغزل والكلمات..!

* * *

كان مضيفها قد تطرّق في التحليل السياسي، وتفسيرالأمور، إلى مواضيع لا تهمّها في شيء.. يستفيض في الشرح، مستشهداً بمبادئ اقتصادية.. شعارات ونظريات يحتمي وراءها كالمتاريس! يطلق الأسماء الأجنبية كزخّات الرصاص!! يعلم حق العلم أنها لا تكترث في الحقيقة إلى ما يقول.. يتابع حديثه تحت تأثير النبيذ، كأن دافعاً يحضّه على تأكيد ذلك الشرح لنفسه.. يستعين به، على جهله.. كقارب نجاة يمرّ عبر الأحداث العاتية..

ما الذي تبدل في حياتها، حتى باتت لا تكترث لما يقوله أو يفعله أمثال مضيفها. وهؤلاء الذين تبعثرت موائدهم، في جميع أنحاء المطعم.. يتكلمون ويتحاورون بمثل الطريقة التي يأكلون فيها.. تغوص أيديهم في طعامهم.. تنال منه كأنها، وأفواههم، في سباق إليه!! يشهرون المبادئ في وجوه بعضهم تائهون عنها.. ما سعوا إليها، أو إلى الوظائف والرتب، إلا سعياً وراء المال.. والنساء،والسيارات!

هزئت من نفسها.. هل ترى علّة في كلّ ذلك؟.. طبعاً لا.. وقد علّمتها الحياة حقائق قاسية غابت عنها في صباها!..حقائق،

ربما تعلمها هؤلاء.. لكنها تعجب لريائهم..لا تفهم سبباً لمحاربتهم دول المال، ومراكز المال.. وهم في نهاية الأمر.. لا تحركهم إلا حاجاتهم للمال.. وسعيهم إليه!! لماذا لا يكاد هؤلاء يحصلون على ما يريدون منه.. حتى يتحول عوزهم الأصلي إلى حاجاتهم للاستزادة منه!! ما الذي تبدّل في مسرى حياتها.. حتى شرعت تنظرإلى ما يدور حولها في ذلك الاكتفاء النفسي.. بالرغم من أنها لاتزال كغيرها في حاجة إلى جميع ما يطلبه الناس من الحياة؟!

* * *

عجبت لصورة عدنان تتراءى لها في ذهنها، ودهشت لهذا التناقض في سلوك من تعرّفت عليهم من الرجال داخل خفايا نفوسهم!! فهذا عدنان،"موظف".. لايقبل الرشوة!! رجل في مثل وسامته أو شبابه.. لا يزال يقوم بتلك الفروض الإيمانية من الصلاة؟.. ولا عجب، إن جمعتهما الظروف، ثانية.. أن يخلدا إلى الصمت من جديد..! ما أعجب عالمه.. وما أبعد عالمها عن عالمه الغريب عن الواقع الحالي!!

تطرق إلى سمعها صوت "أبورعد" يتكلم عن الوطن.. والعروبة.. وكانت على وشك العودة في ذهنها إلى أفكارها الخاصة، وما إن تخطر صورة عدنان في مخيلتها حتى تتنسم شذى عبقٍٍ صافٍ..

سمعت مضيفها يتفوه بكلمة زحلة، في صيغة السؤال.. لم تشأ "لأبي رعد" أن يفطن على شرودها، فأسرعت تلمّ شذرات ذاكرتها من حديثه الطويل، وسألت..

- "شو بها زحلة.. دخلك؟.."

تبسّم الرجل، وكان قد مال إلى الوراء مسترخياً، وقد امتلأ بطنه طعاماً، وشراباً حتى التخمة.. وقال..

-"سلامتها.. وسلامتك يا ست الكل.."

ثم كرر على مسامعها مجمل ما كان قد استفاض في شرحه، من أن الوطن وحدة متكاملة.. لا تستطيع الأقليات فيه المطالبة بانتماءات منفردة، تناقض مصلحة الوطن الكبير..

- "دخلك، إنت عم تحكي عن البيوت .. والسجر..ولّلا عن الزلم والناس؟"

وقفزت في خيالها مباشرة إلى القتل والذبح اللذين يدوران حول بلدتها.. إلى المجازر البشعة، والتشويه المريع الذي يقوم به الجميع، ضد بعضهم بعض.. تعرف حدود جميع الخلافات الروحية التي تفصل سكان بلدها.. لكنها لا تفهم كيف كان جميع السكان، إلى الماضي القريب يعيشون متجاورين ويجلسون إلى موائد بعضهم بعض.. يرقصون ويغنون تحت سقوف واحدة.. يصفقون ويطربون إلى الكلمات والأغاني ذاتها!!

* * *

نظرت في وجه محدثها وعيناها الساهمتان تعكسان ما يجول في ذهنها من تساؤلات تعودّت إزاحتها عن طريق حياتها اليومية.. ثم تمتمت..

- "هيك بدّن، هيك تعلمو من هنّي زغار.. بيئلولن إنتو غير شكل.. إنتو أحسن من غيركن.. إنتو مَنكن عرب.. كيف بدّك يفتكرو إنن متلك، اليوم؟.."

أطرقت هنيهة، تستعرض شواهد كثيرة على قولها.. لاتودّ.. ولاتجرؤ على ذكرها أمام مضيفها.. ثم هزّت رأسها في حيرة صادقة، وقالت..

- "منيح انا إسمي "هيلانة".. بس كيف بدّك "زميرالدا" الزحلاوية.. يا أما "أوجيني".. تحسّ أنها متل "بديعة".. أو "رحمة"؟ هيدي بتصلّب بالشمال، وهيديك بتصلّب عاليمين.. يئطع المدارس وساعتا، شو بتمرّئ إشيا وإشيا، وما بيفهمها الواحد.. ويفهم ضررها وشو مخبا وراها.. إلا بعدين..!"

وعادت تنظر إلى محدثها في صمت.. تجمع كل ما تعرفه عنه، وعن المتحمسين أو الموتورين من أبناء بلدتها، ممن يتابعون القتال.. ترى الهوة السحيقة التي تفصلهما، فتدرك أن زمن بناء الجسور، بين هذين الفريقين، قد ولّى.. وأن ما يحرّك بعضهم على ما يقوم به إنما هي خيوط، نسجت جذورها في هذه البلاد، منذ زمن بعيد، قد ترى أوّلها.. أما أصولها، فهي فسيحة العمق خفية..هيهات أن يدرك المرء كيف تتبادلها الأيدي.. القريبة منها والغريبة!!

أخرجت "هيلانة" مرآة حقيبة يدها، تصلح زينة عينيها، وشفاهها.. ثم نهضت في تثاقل.. تأسف لأنها تناولت النبيذ، وهي التي تؤثر عليه "العرق" الذي قد تعودته بنيتها منذ حداثة سنها.

لحظت سيارة الأجرة، وكان "ميشيل" في انتظارها.. خارج سور المطعم العسكري.. فتركت مضيفها في الداخل، بعد أن شرحت له أنها تود إخفاء صحبتها معه أمام أهل بلدتها.. مما سرّ "أبورعد".. ظناً منه أنها تحرص على إخفاء مهمتها الجديدة.. وما جال في ذهنه أنها ما قامت بذلك إلا خوفاً من استغلال السائق لتلك الصحبة، والتشهير بها، هنا وهناك، وهي التي وطدت العزم على أنها لن تشترك في المؤامرات والقتل مهما عظُم الإغراء.. ولن تساعد أحداً من الطرفين قط على الطرف الآخر، في تلك الحرب الضروس..

ما إن استقرت في مقعدها الخلفيّ وانطلقت السيارة نحو مركز الحدود، حتى تبسّم "ميشيل" وهو يشعل لفافة تبغ.. يقول في مبالغة وإجاب..

- "نيّالك يا عمي! كل ما لك لفوء.. شو على بالك؟.."

- "شو المعنى يعني؟.."

- "ولوّ.. يا ست "هيلانة"، ليش مين هلّي بيفوت على هنّادي بهل بلد.. غير يلّي هنّي فوء..فوء!!

ردّت "هيلانة"هازئةً.

- "والنعم.. من هلّي فوء ومن هلّي تحت.."

سرّ "ميشيل" لسماع سخريتها.. فردّ على الفور..

- "إي.. بس الواحد فيه يستفتد منهم.. فليش ليضوع فرصة.. إزا كان طالع بإيدو يستفيد؟.."

- "شو المعنى يعني؟.."

- " المعنى.. يل ستنا.. إنو إزا كنتي مستعدة تفيدي غيرك.. في مين بيفيدك! وبيفيد الواسطة يلّي بتعرفيها.. كمان!!"

عبّ من لفافة التبغ نفساً عميقاً.. ثم أردف، ينظر في المرآة التي أمامه.. يستجلي وقع كلماته عليها..

- " مش عم بئصد ألف، ولا ألفين!! هلمرّة.. الموضوع فيه أكتر من هيك.. بكتير!!"

أحسّت "هيلانة" أن في نبرته ما يدلّ على ثقة كريهة.. ثقة وتصميم إنسان يعرف أنه يقود غيره إلى أولى خطوات الضلال! ولم تكن هي ممن يعيرون كبير التفات إلى قيم الفضيلة أو الشرّ.. لكن إحساساً دفيناً تحرك في أعماقها.. ينذرها بعواقب الأمور.. يحرّضها على توخي الحرص على سلامتها الشخصية..

قالت في ثقة، وبرود..

- "شوف يا "ميشيل".. حكي من هانّوع مابدّي إسمع..! مبارح سايرتك، وعملتها، عالحدود.. حتى إخلص أوام..! لو كنت معتازة فلوس.. كان فيها ، وما فيها!. بس الله كافيني.. وعندي إمي وستّي على رئبتي.. أنا منّي متلك.. لا إدّامي ولا وراي!

إزا لحؤوا ومسكوني.. إمي وستي بيموتوا من الجوع! بأا من هون، وبس!! حديس من هانّوع ما بدّي إسمع.. يا أما.. هيدي أول وآخر مرة بركب معك.."!

سارع "ميشيل" إلى التراجع.. قائلاً..

-"هو..هو!! طولي بالك يا عمّي.."

لكنه سرعان ما أضاف في صوتٍ عميق ولهجة جادة جديدة على مسامعها...

- "..انشلّا فكرك أصدت إنو نهرّب مشروب.. أوأكل؟.. أو حتى حشيش كمان؟.."

لم تدرك "هيلانة" ما رمى إليه.. فتابعت النظر إلى عينيه، عبر المرآة الصغيرة.. تنتظر منه إنهاء كلامه، فقال في تمهّل..

- " الدنيا متل مَنّك شايفة.. آيمة، آعدة.. وفي إشيا كتير لازم تروح وتجي من على الحدود.. وزلم كمان! صحيح ما فيكي تحاربي، يا ست "هيلانة"! بس فيكي تساعدينا..بهلّي فيكي عليه.."

ردّت على الفور، لا ترغب في السؤال عن التفاصيل..

- "ليش دخلك.. مل بيكفي هلّي عم إدفعو؟.. ولازم حارب كمان؟.."

- "يا معنا.. يا علينا!! وكل واحد بيعمل يلّي بيئدر عليه!!"

وفجأة عيل صبرها من المنحى الدفاعي الذي وجدت نفسها بغتة فيه.. فقالت في نزق..

- "صرت حضرتك تصدّر أوامر؟.. من إيمتا دخلك يا "ميشيل"؟.."

قلب شفتيه في امتعاض مكتوم.. ثم قال..

- "لا بصدّر أوامر ولا شي.. نحنا آخر الناس.. يا ست.. بس بيسوا تمدّي إيدك لهلّي عما يموتوا كرمال بلدك.. ودينك!!"

أجابت في اقتضاب.. في لهجة من تود إقفال الحوار..

- " لما بيطلع بإيدي.. ما بأصّر.. وكل مين عليه من حالو، يا "ميشيل"!! في أعلى منك بكتير بالفِرأة.. ولمّن بدُّن مني شي.. بيعرفو يتصّلو فيّي.. ويطلبوه!!"

* * *

اقتربت السيارة من المركز الجمركي، فتوقف "ميشيل" في صف طويل، يتساءل عن سبب التأخير، وما جرت عادة الخفراء تفتيش المغادرين من سورية إلى لبنان.. قال وهو يجمع أوراق السيارة.. ويستعد للخروج منها..

- "الهيأة.. هيدا المدير الجديد.. وائف هونيك! عم يفتش الرايحين، والجايين.."

ثم سمعت "هيلانة" صوته، وقد توقف خارج السيارة برهة.. يستطلع، عن بعد سبب التأخير.. يقول..

- "يا أخو ال..!! هيدا هوّي.."

ثم اختفى، ليعود بعد دقائق وقد أنجز معاملات الخروج.. فاقترب بسيارته من مركز التفتيش حتى توقف تماماً ينتظر التفات أحد الخفراء إليه..

لم تفهم "هيلانة" سبباً لتسارع ضربات قلبها وهي تسمع صوت عدنان يسأل السائق عما يحمله في صندوق سيارته.. لا ينظر إلى من في داخلها.. ولا يميز وجوه من اشرأبّت أعناقهم، ينظرون إليه في ودّ مصطنع..! لم تفهم سبباً لتوثب فؤادها وهي تراه عبر الضباب.. يتقدم من النافذة في بطء، منحنياً، ليطل منها إلى الداخل، فينظر إليها في دهشة وصمت..

حيّته بهزّة خفيفة من رأسها، وهي تفتح زجاج النافذة وقد علا الدم وجنتيها، لا تكترث لما تدفق عبرها من هواء جليدي، غمرها، حتى أشعرها أنها لا تقوى على الكلام.. تبسّم لها عدنان في صمت..لايحيد عينيه عن ناظريها.. تكشف ابتسامته الهادئة أسناناً ناصعة البياض.. ثم أغلق جفنيه هنيهة، في إشارة حميمة ودود! لم تدر "هيلانة"، إلا وقلبها يخفق بشدة محيرّة لتلك الإشارة!!

وقع عدنان على ما بين يديه من أوراق، وأذن السائق بمغادرة المركز، ثم أعار "هيلانة" نظرة طويلة، متسائلة.. في هدوء صامت.. والتفت إلى ما تلا سيارة "ميشيل" من مركبات، تنتظر المرور..

لم تدر "هيلانة" ما إذا كان "ميشيل" قد تنبه إلى ما جرى، خلال تلك الدقائق الخاطفة، لكنه اجتاز سهل البقاع، في صمت، على غير ما تعودته منه.. يتوقف أمام حواجزالتفتيش، دون تعليق! يلقي السلام على العسكريين، في هدوء، يتحيّن فرص التفات "هيلانة" إلى ما وراء نافذتها من منظر السهل، والبيوت المهملة.. ليطلق نظرات عبر مرآته الصغيرة، إلى عينيها الساهمتين.. يتصرّف هو الآخر في شرود مفاجئ، كأنه مشغول بما وقع عليه مصادفة من سرّ مكتوم دفين!.

* * *

تنبه لوجود عدد من المركبات المتفجرة على طرفي الطريق في بلدة شتورة، لم تُبق النار منها إلا على هياكلها السوداء! كأنها جماجم، هائلة الحجم.. مخيفة!! اضطر للتوقف برهة في بلدة تعلبايا.. وعند سماعه تلك الطلقات النارية.. صدرت من مكان ما.. على شكل زخّات متقطّعة.. سارع بعدها للخروج من تلك البلدة.. يتمنى، للمرة الألف لو أن لبلدته طريقاً آخر غير تلك المحفوفة بالأخطار.. وقد شُقَت عبر عدد من القرى، معظمها لا يكنّ أصحابها لبلدته وأهلها، سوى الكراهية والحقد!!

تجنب عبور طريق إحدى الضواحي الخطرة، المحيطة بمدخل بلدته الرئيسي، فسلك درباً جبلية جانبية.. تتجه مباشرة نحو الكروم.. وهي السفوح المرتفعة المحيطة بوادي زحلة.. ما إن دنا من أول حاجز تفتيش، وهو تابع للميليشيات المسيطرة على نصف البلدة.. حتى مدّ يده خارج النافذة، ملوحاً لأفرادها في سرور.. ولأول مرة، منذ ترك الحدود، عاد بناظريه إلى مرآته الصغيرة ينظر عبرها مباشرة إلى عيني "هيلانة" التي تشاغلت عنه بالنظر إلى تمثال العذراء، الإسمنتي الكبير، المطل على البلدة.. تتمتم صلاة قصيرة..

قال وهو يشعل لفافة تبغ، مرتاحاً لسلامة الوصول..

- "آه من هالأيام!.. يا عدرا خلصينا بأا.."

تنبهت "هيلانة" هي الأخرى من شرودها الطويل..وتمتمت..

- "مين كان عارف.. إنو الحالة رح توصل لهون.."

- "ياألله.. شو بتضلّيك بتشكي!.."

- "ليش.. شو كنت عم تعمل إنت.. دخلك؟.. مش كنت عم تشكي للعدرا؟ كنت صلّيلا أبل ما توصل الحالة لهون!!"

- "ليش منّيك شايفة الشباب؟.. في حدا استرجى يدعس خطوة بالبلد؟.. حدا إدر يفوت عليها؟!"

- "إي.. وبعدين؟.."

- "بعدين.. شو؟.."

- "شو رح يطلع منها هالوأفة؟.. رح تعلنو جمهورية زحلة الحرّة؟!.. طريئ ما عرفتو تفتحوهلنا لفاريّا؟.. بدي إفهم شو آخرتا!!"

نظر "ميشيل" في عينيها نظرة طويلة.. ثم قال كمن يسعى لاستشفاف أمر كان خافياً عليه..

- "يعني.. بتريدي.. أو بتفضلي.. إنو نسلّم البلد؟.."

انتفضت "هيلانة" لقوله.. وأجابت على الفور..

- "هيدا يلّي بعد نائصني.. عما تخونّي يا "ميشيل"!. أنا إلت إني بفضل سلّمها؟.. زاتاً هيدي رح تكون آخرتها!! كل واحد حكى كلمة عأل.. بيطلعلو واحد متل حضرتك!! بيعملو خاين!! لسّا بتشوف.. يا"ميشيل".. رح نضلّ نصفّي ببعضنا.. حتى ما يضلّ فينا إلا المجانين.. وأتالين الأتلا!!



.



صورة مفقودة
 
أعلى