حمودة إسماعيلي - لما النساء تكره العاهرات؟

حمودة اسماعيلي - لما النساء تكره العاهرات؟



لماذا تكره النساء العاهرات؟ لربما لأن الرجال يحبونهن، و"لماذا يحب الرجال العاهرات؟"، هذا السؤال نجده كذلك عنوان لكتاب توجيهي أعدته الكاتبة الأمريكية شيري أرغوڤ. غير أنها لا تعني بلفظ العاهرة المرأة البغي، بل تشير إلى المرأة الجريئة والاستقلالية التي لاتخضع لسلطة الرجل أي Bad Woman أو هكذا يمكن أن تسمى حسب النظرة المجتمعية، يطلق عليها أيضا اسم ليليث في الأدب الميثيولوجي. تحاول الكاتبة من خلال نصائح وتوجيهات أن تُعلم المرأة كيفية استمالة حبيبها إن كان من نوع الإكسترا تيريست(سكان الفضاء). فتوجيهاتها التي تجاوزت بها ال200 صفحة، اختزلها إيليا أبوماضي في بيت شعري واحد بقوله: "لا تطلبنّ محبةً من جاهلٍ المرءُ ليس يُحَبُّ حتى يُفهما"(1).

من الملاحظ خلال المشاهدة العيانية، أن ما إن تتشاجر امرأتان أو تختلفان، حتى تنعت إحداهما الأخرى بالعاهرة بجميع مرادفات هذا اللقب، حتى لتجد الأنثى أن نعتها بالشيطان أخف وقعا عليها من نعتها بما أسلفنا. على العكس من ذلك عند الذكور، فلم يسبق أن نعت رجل رجلا آخر بالجيغولو(البغي الذكر)، وقد يعود الأمر للمجتمع الذكوري الذي يرى في ممارسة الرجل للجنس مع نساء كثيرات، استعراض مذهل للفحولة بل ومُشرف!!، أما بالنسبة للمجتمع المخنوق جنسيا فإنه يرى ذلك إنجازا مذهلا أو تحقيقا لحلم. فأفراد مثل هذه المجتمعات (الذكور منهم خصوصا) قد يرون الجيغولو ظاهريا كرجل له مهنة وضيعة، إلا أنهم باطنيا يحسدونه، فنظرا لكبتهم الجنسي فما يهم هو الممارسة الجنسية مهما كانت الوسيلة لتحقيقها. ويمكن أن نكتشف ذلك من خلال انفعالاتهم.

من المعلوم أنه لدى الانفعال يمكن لمخزون الكبت أن ينسكب وينكشف، فخلال الأنشطة العدوانية كالشجار أو الصراع الجسدي، نرى الأطراف يتوعّد بعضها بعضا بالتدمير والقتل إلخ. إلا أنه لدى أفراد هذه المجتمعات المعنية، نرى الأطراف يتوعّد بعضها بعضا بممارسة الجنس عليه (وليس معه لأنه يأخذ هنا شكل طابع عدواني موجه) واغتصابه أو اغتصاب عائلته، ما يعني أن الجنس كموضوع قد تضخم وطغى أو تلبس جميع الرغبات المكبوتة الأخرى، حتى صاروا يرون الجنس في كل شيء وفي كل ظرف.

يتم حسب التقنين الوضعي وبمساعدة التشريع الديني، حصر الممارسة الجنسية في إطار اجتماعي ضيق يُطلق عليه مؤسسة الزواج، بُغية حماية الأطفال وضمان النسب، زيادة على الإستفادة الاقتصادية المترتبة عنه ككيان استهلاكي. فتعمل السلطة بتضامن مع باقي مؤسساتها، بإنتاج خطابات تهدف لتهيئة الإنسان وتوجيه حاجاته الجنسية لخدمة الوظيفة التناسلية، وأي مُمارسة خارج هذا التحديد السلطوي تعتبر انحلالا يلزم ردعه. غير أن الأنظمة الذكورية المُؤدلَجة، بعملها على تضييق الممارسة الجنسية، فإنها تمنح الذكر امتيازا، وذلك بتوسيع وظيفته ضمن نفس الإطار، كما نرى في تعدد الزوجات مثلا. ما يعطيه حقا في المبادرة والاختيار عند تأسيس المؤسسة المذكورة. فلا يتعدى هنا دور الأنثى في انتظار الطلب بغرض الرفض أو القبول. فتظهر العاهرة كخرق وافشال لهذا التخطيط القانوني، فبأسلوبها الاحترافي في الاغواء، تسلب عقل الرجل، زيادة على أنها تُمكنه من ممارسات جنسية دون متطلبات أو مسؤوليات تثقل كاهله فتجعله مُستعبدا للنظام الرأسمالي المتوحش بشركاته الدراكولية الماصة للدماء. فتجد المرأة هنا أن أحلامها بإقامة مملكة صغيرة تُتوج فيها كملِكة، قد أُجهضت من طرف العاهرة، وحتى فرصة تغيير واقعها بانفلاتها من قهر السلطة العائلية، ورسم عالم خاص بها، فإن العاهرة تقوم بإتلاف ألوانه. ويمكننا رؤية ذلك في القصص الشعبي الذي يحكي عن الفتاة التي تعاني من الاضطهاد والمعاملة السيئة في بيئتها، فيأتي الأمير لإنقاذها من هذا الجحيم وأخدها لجنة قصره. فنظرا لتأثير الفولكلور في البنية الذهنية للإنسان، نجد أغلب النساء ينتظرن الرجل الذي سيغير قدرهن بدل تغييره بأنفسهن، هذا الرجل الذي ربما قد يلتقي بالعاهرة فتغويه وتأخده، فتضيع فرصة الدخول للفردوس الجميل. من هنا يكمن أن يتولد كره النساء للعاهرة المتمردة التي بسببها يُجبَرن على الاستمرار في العيش تحت سلطة القهر. وحتى على مستوى القصص المذكور نرى أخوات أو قريبات الأنثى المختارة من طرف الأمير، يُكنّ لها الكره والبعض لأنها سلبتهم القدر الجميل المنتَظر، فالقدر هنا كما تقول بلير والدروف (وهي شخصية من شخصيات المسلسل الدرامي Gossip Girl) : ليس إلا عذرا سخيفا يتشبت به الفاشلون في انتظار أن تتحقق أمانيهم بدل تحقيقها بأنفسهم.

يمكن للمرأة أن تؤسس أسرة إلا أن خوفا مُقلقا يلازمها، هو أن تخطف العاهرة زوجها. فالعاهرة صارت في نظر المجتمع والنساء خصوصا، هي سبب الآلام الأسرية. فرحيل الزوج عن الأسرة حتى لو كان بسبب مرض نفسي أو عقلي، تفسره المرأة بأن وراءه عاهرة، فهذه الأخيرة صارت رمزا خارجيا يلقى عليه باللوم لإخلاء المسؤولية عن النفس، كما يُحمِّل الإنسان مسؤولية جرائمه وأخطائه للشيطان.

إن الخوف من الحرمان يدفع الإنسان إلى التملك بغية الإحساس بالأمان وكنا قد ناقشنا ذلك في تحليلنا للخيانة. فعندما تجد المرأة نفسها مرتبطة بطرف له علاقات أخرى ، يمنحها ذلك إحساسا بأنها لا تختلف عن شريكاته الأخريات أي أنها كذلك عاهرة، فالمرأة ترى أن كل امرأة اخرى تجمعها علاقة بشريكها بعدها(حتى بعد الطلاق)، تراها على أنها عاهرة، لأنها سلبت منها شيئا هو ملك لها. وبتوضيح أكثر فهي ترى في عدم التفات شريكها لغيرها، دليل على تفوقها وهزيمتها للأخريات(العاهرات) أي أنها تمتلكه لوحدها، الأمر الذي يرضي نرجسيتها. أما أن تجد نفسها في منافسة مع نساء أخريات، فهذا دليل على أنها في مستواهن. وكحيلة دفاعية ترفع المرأة قيمتها بنعت كل منافسة بالعاهرة( التي تخطف الشريك)، فيغيب هنا دور الرجل سبب كل هذا الصراع. وكثيرا ما نرى الواحدة تنعت صديقتها المقربة بالعاهرة، إن تم انتقال الحبيب من احداهما إلى الأخرى. فتلقي باللوم على صديقتها بدل القاءه على الرجل المتلاعب، كي تبين لنفسها أن صديقتها هي من استغلها وليس الرجل، لأن ذلك يكشف على أنها كانت فريسة سهلة، تماما مثلها مثل العاهرة، وكل امرأة لاتقبل أن ترى نفسها سهلة للرجل.

إن من أهم أسباب تهافت الرجل على العاهرة والهوس بها، هي تخيلاته البورنوغرافية، فرؤية بعض الأوساط الاجتماعية للجنس كوضاعة، بل منها من لازالت تطلق على الحب "مِسْخْ". فإن الرجل يجد صعوبة في ممارسة الجنس المُتخيل(الوضيع) مع موضوع يحترمه، فالزوجة كأم للأولاد يجب أن تُعامل بالاحترام الذي تُعامل به الأم والجدة. أما العاهرة فتبدو بالنسبة له الموضوع الذي لايربطه به أي احترام أو مودة، بل فقط ظرف لتحقيق متطلبات جنسية بحتة، وبذلك يستطيع تطبيق أو تجريب الحركات والألعاب البهلوانية التي يشاهدها في الأفلام الإباحية، ظنا منه أن ذلك هو ما يحقق الإشباع، بدل ذلك الواجب الزوجي الممل والروتيني. غير أن ما يغيب عنه هو أن زوجته التي تحترمه كذلك، لديها أيضا تخيلات بورنوغرافية أسوأ مما في مخيلته. لكن النفاق الاجتماعي هو ما يجعل هذه العلاقات مشروخة، فلا يجد المتعة لا مع الزوجة ولا حتى مع العاهرة التي خيّبت ظنه كذلك، التي لم تراه كفنان إيروتيكي إنما كدولارات ناطقة.

إن جعل العاهرة هي سبب انهيار العلاقات العاطفية والأسرية حتى تبدو كأنها قوى خارقة هادمة ومتسلطة على هذه العلاقات، كما تُوصف ليليث المدمرة في الأساطير الدينية القديمة، يكشف لنا عن عدم نضج الأطراف أو بالإحرى إخفاء الأطراف لضعفهم وعدم استقلاليتهم، وهذا ما نراه في تدخل السلطة الأبوية والعائلية في الأمور العاطفية للأبناء، فحتى لو بلغ الإنسان 50 عاما لازال ينتظر تدخل العائلة وموافقتها، الأمر الذي يجعل الإنسان شبيها بصغير الكنغر الذي يعيش في جيب أمه.

وحتى بالنسبة لبعض النساء المتمردات عن السلطة بدفاعهن عن حقوق المرأة، برفض تعدد الزوجات والظلم في أمور الطلاق الخ، لا يتجاوزن في التشبيه ذلك السجين المظلوم الذي يدافع عن حقوقه بالسجن، فيفرح ويفتخر إن منحوه حقا، وينسى أن حقه الحقيقي لن يسترد إلا بحريته من نظام السجن.

فالخطأ ليس في العاهرة إنما في الإنسان المسؤول عن نفسه وسعادته الذي يعجز عن تحقيقها، فيلجأ لموضوع يلقي عليه سبب تعاسته. وبما أن كل مايخرج من مزرعة السلطة المجتمعية يعتبر شرا، فإن العاهرة تفي بالغرض، كسبب للتعاسة والشر في الأمور العاطفية. رغم أن العاهرة كانت لها في بعض الأديان القديمة، قيمة موازية لقيمة الإيكليروس حاليا. وبالقضاء على هذا الشر نرى بعض القوانين الوضعية المضحكة تساعد على ذلك، بتخفيف الحكم على جرائم القتل بدافع الخيانة ورد الاعتبار.

ف"اقتل عاهرة وانقذ زواجا"، عبارة نجدها عنوانا لعدة صفحات بالمواقع الاجتماعية. إنما من يستحق القتل هو التخلف والجهل الذي ساهم في بقاء القوانين الحمورابية المُبرِّرة للقتل باسم الأحكام الأخلاقية العفِنة. فمن الغريب أن يُنظر للمرأة المتعددة للعلاقات العاطفية أو الجنسية على أنها عاهرة، سواء من منظور أنثوي أو حتى ذكوري، أما بالنسبة للرجل المتعدد العلاقات، فالأمر يدخل في نطاق "حريم السلطان".

.

صورة مفقودة
 
أعلى