حمودة إسماعيلي - علاقة الجنس والاقتصاد

بدايةً لا نشير هنا لعلاقة الجنس بالاقتصاد، أي تأثير الجنس كمؤسسات استهلاكية (الزواج، البغاء، السياحة، العلب الليلية الخ) في الاقتصاد، فهذا معروف. بل لعلاقة الاقتصاد بالجنس، أي تأثير الاقتصاد (الدخل، الوظيفة، المكانة الاجتماعية) في الجنس كعملية وكممارسة.

تستوقفنا حكاية رجل عانى من صدمة نفسية تسببت له في اضطرابات أثرت على جانبه النفسي والجسدي، سيتضح لنا ذلك من خلال الحوار التالي:

ـ منذ متى وأنت تعاني من هذا الأمر؟
ـ منذ سنين، لقد تعالجت عند العديد من النفسانيين، ودخلت مصحة للأمراض العقلية..
ـ وهل تشعر الآن بأنك تحسنت.
ـ نعم، أفضل مما كنت. ـ كيف كنت؟
ـ لقد كنت أركض في الشوارع .. (تصرفات جنونية).
ـ ومنذ متى بدأت تنتابك هذه الحالة؟
ـ بعدما طردت من العمل. ـ وهل هذا كان سبب كافي لتُجن ؟!

لم يوضح سبب طرده من العمل، فسنين المرض تركث تأثيرها على عقله، لكن ما تبدى من كلامه هو أنه كان يشتغل بالجهاز العسكري .. فطُرد بسبب مشكلة ما (لم يوضِّح). وخلال الحوار الآتي سيلمس هو بالذات سبب مشكلته، باعتبار أن معارفه ذهبوا مع صدمة الفصل من العمل:

ـ مشكلتي هي البرود الجنسي ..
ـ كيف عرفت؟
ـ بعدما طردت من العمل .. ذهبت لدار دعارة (لسنا متأكدين هل كان مواظبا أم انه ذهب فقط).
ـ وماذا حصل؟
ـ عرفت ساعتها أنني صرت عاجزا جنسيا.. ومنذ تلك اللحظة بدأت قصتي مع الاضطراب.
ـ إذن فقد شعرت أنك فقدت أسلحتك.
ـ نعم هذا هو .. لقد فقدت اسلحتي..

فقدان الأسلحة هنا إشارة لفقدان "البندقية". فالضعف الاقتصادي الذي وقع فيه، أثر على جوانب أخرى من حياته (شخصيته) بمافيها الجنس كاستعراض للقوة عند الرجل، وبالتالي ففقدان القوة هنا يعني فقدان للرجولة. كان الحوار الذي أسردناه هو المقطع الوحيد في حديثه الذي بدا فيه أنه جاد، أما الباقي فكان يتخلله ضحك غريب وقفز على مواضيع مختلفة، ومحاولة لاستعراض نرجسيته المنكسرة (الإنفاق، الاحترام الاجتماعي .. في الماضي). فانقلاب الوضع هو ماساعد على خلخلت قواه العقلية وتوازنه النفسي. وهذا أيضا ما أكده لنا بعض من يعرفونه بالمقهى الذي يرتاده بصفة متقطعة.

كذلك نجد لدى بيير داكو في أمثلة مشابهة، توضيحا عن تأثير فقدان كل "مايساعد على فرض الذات والشخصية" في المجتمع، على الناحية الجنسية للشخص. نرى ذلك في تساؤله: "هل هم عاجزون من الناحية الجنسية ؟ كلا على الاطلاق. ولكنهم أصبحوا عاجزين عن فرض ذاتهم، وعن النفاذ من الناحية الجنسية وفي الحياة الجارية على حد سواء. انهم يصبحون عاجزين في جميع (العديد) من المجالات"(1). فما دفع بيير للتوضيح في التساؤل، هي حالة (السيد ص) الذي ترعرع بين أب وأم متسلطين، كما يقول الكاتب: "وكانا يكرهان الولد الصغير ص على أن يشعر بأنه مسحوق"، وبذلك نمت لديه فكرة أن كل "تعبير عن شخصيته ممنوع عليه"، ف"كبت كل نزعة عدوانية ازاء والديه وأصدقائه وأساتذته ورؤساءه وأعداءه.. وكبت على هذا النحو غرائزه الجنسية مادامت مرتكزة على العدوانية"، ويضيف بيير أن "الجنسية المذكرة قاعدتها العدوانية"، ف"رجولة الذكر (فاعلة) و (نافدة) لأن عليها أن تفرض ذاتها و (تثقب)/ بالمعنى الجنسي وبالمعنى الاجتماعي على حد سواء"(2). العجيب في الأمر أننا نجد في بعض اللهجات المحلية أن لفظ "مثقوبة" يشار به لمن فقدت عذريتها خارج اطار الزواج، ويطلق فعل "ثقب" على عملية فض البكارة، بعدوانية كالاغتصاب أو فقط بالنسبة للممارسة الغير قانونية.

وبالنظر للرجل في المجتمع الأبوي المؤسس على ملكية الذكور لوسائل الإنتاج وسيطرتهم على العملية الإنتاجية، فإن الهيمنة الاقتصادية هنا حققت الهيمنة السياسية، ليتم بذلك إعادة تشكيل إيديولوجيا ذكورية تضع تقسيما لعمل الجنسين، ضمانا لاستمرار سيادة الرجل في المجتمع وسيطرته على عملية إعادة الإنتاج. فأصبح الذكر هو المالك والمتحكم اقتصاديا ووظيفيا وجنسيا، وصارت المرأة هي المُمتلكة والمُتحكم فيها اقتصاديا ووظيفيا وجنسيا كذلك. فارتبطت الإيجابية والفاعلية بالوظائف الذكورية، والسلبية والانفعالية بالوظائف الأنثوية. دون أن نعني بهذا أن التقسيم الذكوري والأنثوي له علاقة بالبيولوجيا، بل بالاكتساب الثقافي في المجتمع، كخطاب منتج ومعاد الإنتاج من جهة السلطة. فلا تأثير للاختلاف البيولوجي على العمليات النفسية والجسدية للجنسين، إنما التأثير بسبب التلقين السوسيو ثقافي.

يَعتبر إنجلز أن "سيادة الرجل في الزواج هي مجرد نتيجة لسيادته الاقتصادية"(3)، فالزواج مثله مثل أي مشروع يؤسسه الفرد في المجتمع الحديث، يلزمه رأسمال . وبالعودة لمجتمعات القرون التي خلت نجد أنه كلما زادت قيمة الرأسمال توسعت كذلك الممارسة الجنسية (الحريم، الجواري، السرايا). وكذلك الأمر لحد الآن، كل ما امتلك الذكر رأسمال ضخم كلما ساعده ذلك على توسيع الممارسة الجنسية (تعدد الزوجات أو العشيقات)، بل نقول أنه من دون رأسمال لايستطيع الرجل أن يمارس جنس طبيعي ! ، فضعف الجانب الاقتصادي للرجل لايمكنه من توفير جو ملائم أو آمن للقيام بممارسة طبيعية، فالاقتصاد هنا يشوه الجنس ليصبح كممارسة ميكانيكية لاتتجاوز ثواني في مكان مختبيء (شبيهة بعملية تناسل الحيوانات) وتتجاوز القبلة 3 ساعات في الأمكنة العمومية ! . فالشخص هنا لا يسيطر على العملية الجنسية بل مُسيطر عليه من قبلها، لأنه لا يمتلك هيمنة اقتصادية تحقق سيطرة على نواحي أخرى من حياته بما فيها تحقيق الجنس كمطلب غريزي بطريقة متوازنة. وهذا مانجده في توضيح ساخر لماركس: " تعظم قوتي بقدر عظمة قوة المال.. فقد أكون قبيح الوجه ولكن يمكنني أن أشتري أجمل امرأة"(4)، بل يذهب ماركس بسخريته لحد قول أنه يمكن شراء مجموعة من الناس(نساء) بقوة المال (كقوة اقتصادية). فالجنس لا يُحرّمه الدين، بقدر ما يُحرّمه الاقتصاد ! .

ومن خلال تأثير الثقافة المجتمعية على عقول الأفراد، وباعتبار أن الثروة الاقتصادية هي المطلب، أصبح لدى كل شخص أجهزة استشعار تقرأ القيمة الاقتصادية وتحدد المكانة الاجتماعية للآخر. فأغلب طبقات وشرائح المجتمع تتقبّل وتنجذب دون وعي لكل "مالك" صاحب رأسمال ضخم، وكلما زاد رأسمالك قل رفضك بل تتزايد طلبات الاقتران بك، سواء من الذكور (كأصدقاء، أنساب) أو من الإناث (زواج، علاقة عاطفية)، فأنت الساحر الذي يمتلك العصى السحرية (المال) التي تحقق الأمنيات، وأنت الأمير (المالك) الذي يوفر الحياة السعيدة (الأمان). فالرغيف أقوى من الحب !! .

هذا التشوه الفكري، ما إن يفقد الرجل "قوته" الإقتصادية فهذا معناه أنه فقدها في الجوانب الأخرى من حياته، لدى يمكن أن تَضعُف شخصيته (السلبية) كما رأينا في حالة السيد ص عند بيير داكو الذي قال عنه: "وبدلا من أن يكون فاعلا، اصبح منفعلا، لقد أصبح مؤنثا"(5) أي قابل "للانثقاب" بتعبير الكاتب. ففقدان المعني لوسائل سلطته(المال بعده القضيب) يحوله (بحسب تفكيره) إلى أنثى (النواحي السلبية)، مُتلقّية (الاقتصاد) ومُستلقية (الجنس). وهذا سببه مفاهيم مغلوطة عن الجنس كعملية فاعل ومنفعل بدل أن تكون عملية تشارك وتعاون. وهكذا يسدد الرجل ثمن تسلطه وتحقيره للمرأة، فأيديولوجيته هنا هي فقط من ينتقم منه ! .

وبالعودة لهروب صديقنا (المجنون) في الشوارع، لم يكن إلا تعبير لاواعي عن هروبه من الواقع، من دور الأنثى!.

من المهم أن تمتلك الكثير لكن الأهم هو أن تحتاج للقليل، فالحياة السعيدة تحتاج لأقل القليل.. فهي بداخلك وتكمن في طريقة تفكيرك بتعبير لماركوس أوريليوس، فامتلاك الكثير دون الانتفاع به يعني انك لاتمتلكه ! ، وهو تعبير مشابه لرد أحد شخصيات علاء حامد في روايته الممنوعة: (إذا امتلكت الشيء دون أن تنتفع به فأنت لا تملكه).

لذلك حاول انجلز أن يشير لدور التفكير أو تغيير التفكير في تصحيح العلاقات الإنسانية (الجنسية)، والنتائج المرجوة من ذلك. نرى هذا في قوله: " عندما ينمو الجيل الجديد، أي جيل من رجال لن يتأتى لهم أبداً في الحياة أن يشتروا المرأة بالمال أو بوسائل اجتماعية أخرى من وسائل السلطة، و جيل من نساء لن يتأتى لهن أبداً في الحياة أن يستسلمن لرجل بدوافع غير دافع الحب الحقيقي، و أن يمتنعن عن معاشرة الرجل المحبوب، خوفاً من العواقب الاقتصادية. و حين يظهر هؤلاء الناس، فإنهم لن يأبهوا أبداً لما ينبغي عليهم أن يفعلوا حسب الاعتبارات الحالية، فإنهم سيعرفون بأنفسهم ما ينبغي عليهم أن يفعلوه، و سيرسمون وفقاً لذلك رأيهم العام في سلوك كل فرد بمفرده، و هذا كل ما في الأمر"(6). نعم هذا كل مافي الأمر ! غير أنه من الصعب أن تحرّر السذّج من الأغلال التي يبجّلونها ! كما يقول فولتير.






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1 - 2: بيير داكو - انتصارات التحليل النفسي، ترجمة وجيه سعد، مطبعة الرسالة ط2 ـ ص154و155
3: انجلز - العائلة البطريركية الحديثة ـ موقع الحوار المتمدن
4: ماركس - سلطة المال وزيف القيم ـ موقع الحوار المتمدن
5: بيير داكو - المصدر السابق
6: انجلز - المصدر السابق

.

صورة مفقودة
 
أعلى