قصة ايروتيكية اسماعيل غزالي - المستحمّات

لم تطنْ نحلةٌ بُعَيْدُ وتهتفُ لرتيلى أن تتسلّق عنبها الدّامي في البوّابة المعشوشبة ، حين ارتفع ذيلُ الكلب الأمهق وركض بلهاثٍ منقوع كأنّما يقتفي رائحة غريبة طارئة على هواء المكان ، وتساقطت رمّاناتٌ لمروقه الأمير من التّلة وتدحرجت تباعا صوب ضفّة النهر . عندها تسلّقتُ بدل الرّتيلى حجر الهضبة والدّجاجُ يتطاير في الحواشي مذعورا من ظلّ عُقابٍ لاح شبحهُ في الأعالي . وحدها القبّراتُ تعرف أن شبح الأعالي الذي يلوح في آخر المدى كشامة ليس عقابا و لذلك كانت تحلّق خفيضة على غير عادتها، تماما، فوق جزيرة النّهر البارزة كبظر امرأة ماجنة ، فالمياه في ذلك المنحدر يشطرها صخرٌ عملاقٌ من البازلت وتفترق في مجريين صاخبين يلتقيان عند أقصى الالتواء ، وبين المجريين الهاربين تشكلت يابسةٌ صغيرةٌ من حجر أبيض وأزرق مزدهر الثقوب ، مجلّل برمل وحصى وأعشاب متواشجة ...

تحت شجرة بلّوط في أعلى الهضبة دخّنت لفافةً وصدى فأس يتناهى إلى سمعي ارتطامها بجذع صنوبرة فيما وراء الجبل المطلّ على المشهد كحارس أزليّ لفردوس أنقاضه ...

لم يفارق ذهني عجينُ الفتاة الخمريّة تحت سقيفة المطبخ الخشبيّة كما لم يبارح خيالي أكثر انقشاع نهدها الأيسر المثخن بصهيل الضّوء ، كأنّه يتلصّص من إسطبلٍ على النّهار بنزقِ مهرةٍ تحنُّ إلى جموح وجنوح في البراري . وكانت ممعنةً في انضاج سديمِ عجينها لتُعدّ خبزا للعائدين من السّوق الكبير في المدينة الّتي يفصلها عن المكان أكثر من عشرين كم ، ويوم السوق بالذات يستشري في الوادي والأرياف المحيطة به صمت موحش ، إلاّ من نثر رعاةٍ تدلق حناجرهم بين الفينة والأخرى عواء الغياب ، و سعال بعض العجزة تحت شجر أوكالبتوس أو تين متاخم للمنازل المنشطرة كحبات نرد ، بينما الطريق التي تشق الجبل الرهيب ، تتجشم عناء الشاحنات المثقلة بالغجر والبدو والمواشي وأيضا قوافل من بهائم ينفطر عنها نهيق الحمير أو رائحة روث البغال التي يزدهر بها الهواء والغبار معا...

لم أنم في المدرسة ليلة البارحة حيث أشتغل كمعلّم بلشفيّ في هذه المنطقة التي يحترف فيها النّأْيُ أمومة النسيان ، بإلحاح من شيخ الدار الكبيرة ، مخافة سقوط مباغت لسقف حجرة الدرس ، إذ أن المدرسة عبارة عن حجرة واحدة بحيطان مهترئة كانت سابقا بناية استعمارية يعذّب فيها الأسرى قبل ترحيلهم الى سجون المدينة وتحولت بعدها إلى مسجد قبل أن تؤول إلى مدرسة وأكون أوّل مدشّني موسمها كمدرس للغة العربية والفرنسية معا .

لم يكن في الدار الكبيرة غيرها لرحيل العائلة بأسرها ، بل القبيلة ، إلى فضاء السّوق الصّاخب والرّحب في المدينة المجاورة . راعيان رافقا الشيخ فجرا لتدبير بيع البهائم و الثّالث الآن شارد في أحد الفلول ولن يكون إيّابه إلا مساء . كنت قد سألتها عن صديقتها ذات الرّدفين المتورمين ، هذه التي تؤانسها في كل يوم أحد ، موعد السوق المتعاقب كل أسبوع وشعّ من نظرتها برقٌ مخضوضرٌ لعلمها الشّقيّ باطلالة نهدها المخضّب من كوة فستانها الذي يلبسها كجلد ثان ، وأجابت بصوتٍ تعتوره ثقوب الرّغبة الفوّاحة أنّ طارئا ما هو الذي أجّل مجيئها الأكيد ، وما أن تنتهي من خزف عجينها ستبادرهي بالذّهاب إليها في الضفّة الأخرى للنّهر...

تركتُها إلى حين وتسلقتُ حجر الهضبة ومعي كأس شايها المعسّل ، حتما لأدخن أول لفافة من العشب الأزرق ، طبعا لأن بجع خيالي لايرقص إلا وقد تفسّخ في شرايني دبيب هذا اللّسع الخرافي ، ولا يبتهج حجلُ يدي إلا لتموّج دخان الحشيش داخل صباح دمي . لم أستغرق في تدخينها إلا ساعة حينما استرعاني رفيف القبّرات المحلقّات في دوائر اهليليجيّة ، خفيضة ، في جزيرة النّهر التي تنشطر فيها المياه إلى نصفين ..

ثمّتئذ لُمتُني كيف فاتني درس شيخ الدّار الكبيرة ، فلابد أن يكون تحليق القبّرات المكثّف وبتلك الصّورة الخفيضة الغريبة لأمر واحد هو وجود أفعى . وهكذا حملت كأس الشّاي المعسّل ونزلتُ الهضبة أقتفي طريقا ملتوية بين الحجر البركاني ، وبي رغبة محمومة لاكتشاف صدق فرضية الشيخ . تسلّلتُ بين الشّجر المتداغل وإبرُهُ ترسم خرائطها الحميمة على جلدي ولم أصدّق أوّل وهلة أنني أسمع فيما وراء هدير النّهر ضحكات مورقة ، حادة حينا ، ومهموسة حينا آخر. ضحكات أنوثة تلثغ بشفاه لغة غير لغة المكان . هل توهّمتها هسهسات من لغة موليير؟ هكذا خلتها وبي شكٌّ رجيمٌ من أنّ العشب الأزرق قد بدأ يمخر يقظتي ويعيث في رأسي اختلالا.

بوضعيّة المتلصّص الذي رسم بعينه رينوار مستحمّاته ، وجدتني ، أحدث الكوة المطلوبة في عساليج الشّجر الداغل ونظرتي تسقط مباشرة على خمس نساء ، بمختلف الأعمار ، ثلاث عاريات تماما ، وواحدة على أهبة أن تطرح فستانها بعيدا وأخرى لم تشرع في ذلك بعد وإن بدا عليها صهد الغواية ناضجا . ربما تؤجل لحظة ضوئها اللّحمي إلى هنيهة عاصفة ، لتسلخ عنها درن الخوف وتتطهر من وسخ التردد...

تلك التي تستند إلى الصخرة الجلمود تداعب ضفيرتيها المنسدلتين ، تترقرق فيهما بروق شيب من فضة ، شبيهتين بضفيرتي هيلغا *(1)، يناهز عمرها الستين ، يشع بياضها بازرقاق كدمات منثورة . ثدياها مترهّلان على بطنها المنتفخة ، المتغضنة ، وفي سرّتها الشبيهة بفوهة فنجان أكاد أسمع صفيرا . ما يزال ساقاها وفخذاها يحتفظان بتكوين صقيل ، تبسطهما على الرّمل كما عمودين من مرمر ، وبعضُ عشب أحمر بالكاد ينقشع مثلما لو كان نابتا في مفصل صخرة . على يسارها امرأة بسنّ بنتها ، في الثلاثين ، بصدر مارق الاستدارة ، فاسق الغواية ، معسّل الحلمتين وبطن مفرطة في الرقة تشبه مرآة صباح صغيرة وشعرها منسدل على الكتفين ، بوحشية منسابة تتألق في شقرته الخمرية أنفاس زهر مخملي . منحنية لتلتقط تفاحة حمراء كانت ، يصهل ردفها ويجمح وراءها كأنما يبدأ في الانفصال عنها ، يود لو ينطلق بعيدا ، وفيه يكتنز الحرير سراب اللهاث . في الظل الأنيق المزدهر على حوضها الموشوم بسطر عشب خجول لعانتها المخضبة بحناء الطفولة ، يزغرد في كل شعرة صدى بعيد لقطرة ندى . الندى المستعر في غيابات جذور كل نبتة رفيعة ، لم يسبق لأصابع لعينة أن فلت بإمعان حاشية فردوسها لتوقظ فجرا أزليا .. بينما تقرفص فتاة ثالثة ، في سنّ العشرين ، بنهدين متثائبين لم يفصحا على جلناري حلمتيهما بالكامل ، ووجهها يتخضّل بابتهاج أندلسي ، وأسفلها ، بين ساقيها الغضّين ، ينكشف جرح نبيذي ، طاعن في البراءة ، سائب يختمر فيه سديم ظهيرة لم يخدشها عواء ذئاب بعد ...

صديقة فتاة البيت الكبير التي تأتيها من الضفة الأخرى تركت غسيلها على حجر كرانيتي فكفّتْ رغوةُ الصابون عن مشافهة زبد المويجات في الخرير المنسكب ، ورفعتْ عنها فستانها المزدهر بألوان حادّة كيفما اتفق وبرز بنطالها الواسع عند الحوض والضيق عند ساقيها ، وفاض صدرها الفوّار بامتلاء مسرف كأن زجاجيا نفخ في أيقونتيهما من روح شيطان على حاشية ناره المقدسة وفيهما يعوي حليب ليس للرضّاعة . تزيل عنها الفولار الذي كان يجهز على شلال أسود اندلق بغزارة حتى تخوم عجيزتها المكتنزة تلتين رمليتين وحشيتين . ألقت بفردتي حذائها بعيدا وهي تتأهب لعرس من هياج وخيم ، كما فرس مطهم أزاحت عنها ما قلّدها فارسها وهي تتهيأ للعودة الأبدية إلى براريها الشاسعة . تصفق المرأة التي تودع سن الخمسين وتضع قدمها الأولى في أرض الستّين، محفزة إياها على عريٍ كامل البهاء ، والمرأة الثلاثينية تقف في ذهول ممسكة التفاحة الحمراء بكلتي يديها وهي تحجب بها مثلثها الناري ، وأما الفتاة العشرينية فمنصرفة إلى سلحفاة على الضفّة ، تشبه إلى حد بعيد ، السّلحفاة التي تلهو بها مستحِمّاتُ لوحة هنري ماتيس . تتلمس قوقعتها بأناملها الطويلة المعنّمة وكلما انطلق رأس السلحفاة أو كمرتها خارج القوقعة وانتصب بالأحرى فرجت هي أكثر بين ساقيها في وضعيتها المقرفصة دائما ، وتضاعف أرجوان ثلمتها الغضارية وصخَبَ أكثر من يعسوب على رغوة مويجة بضة ...

عندئذ ، خلعت فتاة الضفة الأخرى بنطالها الأبيض الشّفاف واتضّح أنها بدون تبّان يعكّر صفو غديرها وغابةٌ شعثاء يستشري ليلها في كل الحوض الواسع كخاطر كريم ورائق . تقف صديقتها فتاة الدار الكبيرة الخمريّة التي تركتها تعجن خبز النّهار وقد فاتني أن أتساءل كيف التحقتْ بهنّ بهكذا سرعة فائقة ، غير مصدقة ما تراه من طيش البنت وهي تكشف عن باكورة فاكهتها تحت شمس الظّهيرة الصاخذة ، ولا تكتفي بهذا الحدّ من الانكشاف الصّارخ ويتزلزل المكان بثقل اهتزاز ردفيها الممتلئين بغلوّ مبين . منخرطة في رقص أهوج كأنما ثوبها الخشن كان يحاصر زحف ربيع بربري وبدت لها صديقتها هذه امرأة أخرى ، مسكونة بقوة خارقة ، تهرق قطن جمالها الشرس الذي لم يسبق لها أن تأملته أوأتيح لها استكناهه . تنبري لها النّساء الثّلاث بتصفيق مبتهج ، ذاهلات باندلاع أنوثتها ، و تباغتهن بسقطة رشيقة في شطر النّهر وهي تسبح مثل حورية ضد التيار الهرهاري ، وقريبا من الضّفة يبزغ وجهها الممهور بصهبة الهنود الحمر و ترشقهن بالمياه وحيث يصيب رذاذ المياه أجسادهن يصرخن ويتصايحن برعشات لذيذة كأنما أيقظت فيهن أول نكهة مطر .

بعدئذ تحبو المرأة المطلة بزخم أنوثتها الآفلة على الستين ، وتزحف منبهرة لمرأى السلحفاة قريبا من الفتاة العشرينية وتشهر مؤخرتها الضخمة . متثاقلة تتمايل ذات اليمين وذات الشمال ، متخثّرٌ لحمها الوافر والشقُّ الفاجر الذي يفصل توأم عجيزتها السيامي ، يبدو مثل أخدود اجترحته سكة محراث من ذهب ، وأسفل الشقّ يكاد يتفتح برعم وردة كأنها دُهنتْ بصمغ حلزون . شيء واحد كان ينقص المشهد الصّاعق المحموم ليتحوّل إلى ربيع كامل الأوصاف ، كما ربيع لوحة الرسام الفلورنسي بوتيتشيللي ، هو انغماس فتاة الدار الكبيرة في سراب البهجة الداوية حولها .

لم يحتمل الكلب الأمهق الذي انتصب ذيله منذ أن فغمته رائحة المستحمات ، الوقوف بعيدا بحياد ، وقفز إلى شطر النّهر سابحا بصعوبة متناهية صوب رمل الجزيرة منطلقا باتجاه فتاة الدار الكبيرة ، ليتمسح بساقيها ويهزج بأنين فاجع كأنّ إبرة ما وخزت حنجرته ، وتماثلت له النّساء الثلاث بالترحيب المغتبط ، ليشاركهن ظهيرة الجنة . كان ضخما بفروة شعثاء قبل أن يقطع شطر النهر وحين وصل حلقة النساء المضيئات بدا هزيلا ، نحيفا ، تصطك عظام هيكله ، تماما كما لو كان كلب جياكوماتي ...

وراء الصخرة الجلمود اختفت فتاة الدار الكبيرة ، والنساء الأربع يترقبن ما ستكشف عنه ، وهو ما يذكي الشعور ببدء لعبة مشتهاة ما الآن بينهن جميعا . وحده الكلب الجهنمي يعلم بأمر تلصصي المشين ونكاية بي رفع رأسه المخروطي وشررٌ يكاد يتطايرمن جمرتي عينيه المتوقدتين فمن يراهما حتما يظن أنهما ستسقطان من محجريه الغائرين . مرسلا نظراته الماكرة إلي وفيها تلتمع خيوط انتصار وشماتة بي . لم يحتمل الانتظار أكثر كما احتملته النساء وتسلق الصخرة الجلمود ليسترق النظر على فتاته وطفق يعوي مثل ذئب في الوادي المترامي الأطراف . كلب جياكوماتي تحول إلى ذئب من هول ما رأى وهذا ما أضرم حطب الرغبة والفضول لدى النساء الأربع ، والتفتن بكامل انتباههن ليشاهدن ما يمكن أن تكون قد اقترفته فتاة الدار الكبيرة وراء الصخرة ، هذه التي أشرقت في دقائق مضطرمة وقد شعّ بريق الذهول جهات المكان والنّساء مسلوبات بدهشة إعجاب ماحقة ونظراتهن تتسلق جسد فتاة الدار الكبيرة الممشوق ، بلدونة مسبوكة ، وتضاريس محبوكة ، خجولة تشهر نهديها النافرين كما حجلين على أهبة الإقلاع ، وفي سرّتها المترفة بليل طفيف العتمة يتهادى قمر الأبدية وتحت بطنها الضامرة الشبيهة بحصاة بيضاء تبرق في سراب خلاء ، يجثم حوضٌ أميرٌ ، يتفتق على رخامه عشب غدافيّ اللون ، كما لو كان طائر سنونو يحرس كهفها الصغير ...

باذخة تقف إلى جانب الصخرة ولا أصدق ما خيّل إليّ لحظتئذ ، إذ انشطرت الصخرة وتبخّرت حيث ألمّ بها برقٌ لاأزيز له وصارت في غضون هنيهة فاختة ، تمثالا لبيجامليون وهو يقبل فتاة الدار الكبيرة التي تحولت بقدرة هائلة من السحر إلى منحوتته غالاتيا كما رسمهما بدقة الخيال العاتي وفذاذة جموحه الرهيبة ، جان ليون جيروم

لم أجد الأفعى كما خبّرني شيخ الدار الكبيرة ووجدت بدلها أكثر من حوّاء ألفيتني أفكّر على هامش غنيمة العري الثّريّ أمامي .

في سماء الظهيرة اللّحمية تلك ، سُمع صدى لأزيز وثير لم يكن لسرب عقاعق بالتأكيد . كان الشيء الأسود الذي تبدى في أول النهار نقطة كما شامة في الأفق البعيد ، وأفزع دجاج الريف واطمئنت له القبرات التي ظلت تحلق خفيضة حتى تخوم الهجير . لم يكن عقابا ولا طائرة فردية ، بل منطادا على شكل حبة يقطين ضخمة و لم يدم تحليقه في سماء النهر إلا بضع دقائق ، حين انطلقت قذيفة نارية مجهولة من الجبل المحاذي وخرقته فتساقط لتوه مثل خرقة .

لم أصدق المشهد شبه الحلمي أمامي ، وأيقظتني شرارة محتدمة لأصوات طفوليّة خلفي وكانت تنادي باسمي ، حين التفت وجدت تلاميذ الفصل المدرسي الذي أتقلّد فيه مهمة معلم . يرافقون ثلاث نساء ، أكبرهن يناهز عمرها الستين وأوسطهن ترفل في سن الثلاثين والثالثة فتاة لم تبلغ العشرين بعد . كنّ هن نفسهنّ المستحمّات الفرنسيّات ، من تلصصتُ عليهنّ في ثنيّات السّاعات الفارطة وهنّ الآن يرتدين زيّا عسكريا .

كاد دماغي ينفطر وأنا أُبصرُني واقفا خلف سدرة تترنّح فيها حبّةُ نبقٍ يتيمة ، وليس في الوادي الرّملي أيّ أثر لشجرٍ داغل أو مياه نهر . كانت واحة قاحلة تحيط بها كثبان هائلة وفي أحد فجاجها قافلة غجر ، طوارق ، يمتطون الجمال ويرفعون البنادق متناقلين إشارات غريبة حيث هُيّء لي آنفا أنّها شاحنات تنقل البدو والبهائم باتجاه سوق المدينة المجاورة وفي مكان الجزيرة التي كنت مخطوفا فيها إلى سراب نسائها المستحمات ، كلبٌ أعجف ، يحاصر بقدميه الأماميتين قنفذا ، لم تكن سلحفاة إذن ، وكلّما حاول لعقه ، اندلع منه صوتُ أنينٍ فاجعٍ ، كأنّ رصاصة طائشة خرقت عضلته ...

تبادرُ الأجنبيات الثلاث بالتحية وتتقدّم إلي أوسطهنّ ، الثلاثينيّة قائلة :

- نستميحك عذرا على إزعاج طقس تأملك أو قيلولتك ...

نود منك خذمة انسانية باعتبارك الوحيد في هذه الصحراء من يتكلم اللغة الفرنسية كما أخبرنا ..

هل يمكن أن تتعاون معنا كترجمان .. لننه المشهد الأخير من الحرب ...

ران صمت ثقيل ، خضّبته ابتسامة المرأة الستّينية التي فاهت بصوتٍ تعتوره بحّة :

- للأسف ، الترجمان الوحيد الذي كان معنا في الطاقم ، قضى نحبه البارحة بلدغة عقرب قاتلة ...

كانت حربا شعواء ، تدور رحاها بين طوارق صحراء مغاربية وبين جنود فرنسيين غزاة ، حول كنوز مقبرة تاريخية لحضارة ضاربة في القدم ... والأمر كله يتعلق بتصوير فيلم سينمائي .

لم تنبس شفتي ببنتها بُعيْدُ حين هتف تلاميذ الفصل المدرسي خلف النّساء الثّلاث :

- معلمي ، هل اليوم عطلة ؟
- اليوم وغدا ، حتى تسدل الحرب ستار النهاية ...

نطق لساني بتلقائية دون أن أفكر أو أعي تماما ما قلته وأنا أحاول استكشاف صفحة جريدة كانت مطوية في يدي وكانت تجثم فيها صورة بالأبيض والأسود لمستحمات بول سيزان .


* (1) : لوحة ضفائر هيلغا للرسام الأمريكي أندرو وايت .



صورة مفقودة
 
أعلى