ياسين رفاعية - الحب أن تهب كل نفسك لمن أحببت

أتابع بكثير من الشغف , ما كتبه الأولون في التراث العربي عن الحب, وخصوصاً المتصوفة, إلى حد صرت أعتبر نفسي متصوفاً في هذا الحب النقي,

والذي , من دونه , لا تقوم للحياة قائمة , ويتساوى البشر مع وحوش الغابة, والمتوحشون الذي لا يقيمون للود قضية , أو تحجرت قلوبهم , فامتنع عنهم الحب , ولم تعد تعرف وجوههم ابتسامة أمام وجه صبوح.‏

الاقدمون أخلص من الاحدثين, في تناول هذا الموضوع الجميل شاغل الدنيا ومالىء الناس , انه (الحب)‏

طوق الحمامة لابن حزم‏
روضة المحبين ل ابن قيم الجوزية.‏
الى ... الاغاني للأصفهاني , الى غيرهم وغيرهم من الذين عنوا بهذا الموضوع الجميل عناية فائقة .‏

واليوم, دعونا ندخل الى عالم المتصوف ابن تيمية الذي أفرد الكثير من أوراقه للحب والهوى والعشق في أعلى درجاته يقول ابن تيمية ( إن الحب يحرك إرادة القلب, فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات , فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات والحب لباب الحياة , وقيل هو مأخوذ من الحب (جمع حبة)وحبة القلب ما به قوامه. فسمي الحب حباً باسم محله. وقيل: الحب والحب كالعمر والعمر, وقيل مأخوذ من الحبة( بكسر الحاء) وهي بذور الصحراء, فسمي الحب حباً لأنه لباب الحياة كما أن الحب لباب النبات.‏

وقيل: الحب هي الخشيات الأربع التي توضع على الجرة فسميت المحبة حباً لأنه يتحمل عن محبوبه كل عز و ذل. وقيل: هو من الحب الذي فيه الماء لأنه يمسك ما فيه فلا يسع فيه غير ما امتلأ به. كذلك إذا امتلأ القلب بالحب. فلا مساغ فيه لغير محبوبه.‏

يقول الشبلي: ( المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك) . ويقول ابن عطاء وقد سأل عن المحبة :( أغصان تغرس في القلب فتثمر على قدر العقول) ويقول سمنون :( ذهب المحبون لله تعالى بشرف الدنيا والآخرة لأن النبي(ص) قال: المرء مع من أحب فهم مع الله) . وقال يحيى بن معاذ :( حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء) وقال يزيد: ( ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده ).قال الجنيد:( إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب ).وفي معناه ينشد ابو علي الدقاق:‏

إذا صفت المودة بين قوم = ودام ودادهم سمج الثناء‏

وقال الكتاني: ( المحبة, الإيثار للمحبوب)‏

وقال بندر بن الحسين:‏

(رؤي مجنون بني عامر في المنام, فقيل له ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: غفر لي وجعلني حجة على المحبين )‏

قال أبو يعقوب السوسي:‏

( حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله عز وجل وينسى حوائجه اليه).‏

قال الحسين بن منصور: ( حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك) .. وقيل للنصر أباذي: ( ليس لك من المحبة شيء) , فقال: ( صدقوا . ولكن لي حسراتهم , فهو ذا احترق فيه). . وقال: المحبة مجانبة السلو على كل حال , ثم أنشد:‏

ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة‏ = فإني من ليلى لها غير ذائق‏
وأكثر شيء نلته من وصالها‏ = أماني لم تصدق وكلمحة بارق‏

وقال محمد بن الفضل: المحبة سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب. ويقال الحب تشويش في القلوب يقع مع المحبوب. ويقال أيضاً: المحبة فتنة في الفؤاد من المراد ,وأنشد ابن عطاء:‏

غرست لأهل الحب غصناً من الهوى‏ = ولم يك يدري ما الهوى أحد قبلي‏
فأورق أغصاناً وأينع صبوة‏ = وأعقب لي مراً من الثمر المحلي‏
وكل جميع العاشقين هواهم‏ = إذا نسبوه كان من ذلك الاصلي‏

وقيل إن شاباً أشرف على الناس في يوم عيد وقال:‏

من مات عشقاً فليمت هكذا‏ = لاخير في عشق بلا موت‏

وألقى نفسه من سطح عال فوقع ميتاً , وحكي أن بعض أهل الهند عشق جارية فرحلت الجارية فخرج الرجل في وداعها فدمعت احدى عينيه دون الاخرى , فغمض التي لم تدمع أربعاً وثمانين سنة , ولم يفتحها عقاباً لها لأنها لم تبك على فراق حبيبته. وفي معناه أنشدوا:‏

بكت عيني غداة البين دمعاً‏ = واخرى بالبكا بخلت علينا‏
فعاقبت التي بخلت بدمع‏ = بأن غمضتها يوم التقينا‏
وجازيت التي جادت بدمع‏ = بأن أفردتها بالحب عينا‏

وقال الفضل بن عياض :( المحبة الإيثار كامرأة العزيز لما تناهت في أمرها قالت: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. وفي الابتداء قال ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن او عذاب أليم, فوقعت الذنب في الابتداء عليه وفي الانتهاء نادت على نفسها بالخيانة).‏

وقيل:
قالت رابعة في مناجاتها: ( إلهي أتحرق بالنار قلباً بحبك?‏

فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل هكذا فلا تظني بنا ظن السوء) وقيل : الحب حرفان حاء وباء فالإشارة فيه أن من أحب فليخرج عن روحه وبدنه).‏

وعبارات الناس عن الحب كثيرة, وتكلموا في أصلها في اللغة , فبعضهم قال: الحب اسم لصفاء المودة. لأن العرب تقول لصفاء بياض الاسنان ونضارتها( حبب الاسنان) وقيل : الحباب ما يعلو الماء عن المطر الشديد, فعلى هذه المحبة غليان القلب وثوراته عند العطش والاهتياج إلى لقاء المحبوب. وقيل انه اشتّق من حباب الماء بفتح الحاء, وهو معظمه فسمي بذلك لأن المحبة غاية معظم ما في القلب من المهمات. وقيل: اشتقاقه من اللزوم والثبات, وقيل: الحب مأخوذ من الحب وهو القرط, قال الشاعر:‏

(تبيت الحبة النصناص منه = مكان الحب يستمع السرارا).‏

وسمي القرط حباً إما للزومه للأذن, أو لقلقه وكلا المعنيين صحيح في الحب حباًَ باسم محله.‏

وقال ابو عبد الله القرشي: ( حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء)‏

وقال الشبلي: ( سميت محبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب).‏

وقال ابن عطاء: ( المحبة إقامة العتاب على الدوام) ويقول الدقاق :( المحبة لذة ومواقع الحقيقة دهش) ويقول: ( العشق مجاوزة الحد في المحبة).‏

هذه اللقطات في الحب والمحبة والعشق والتصوف , وجدتها في العديد من كتب التراث , ولم أجد مثلها في أدبنا الحديث. فلا متفلسف في الحب ولا دارس في العاطفة والرومانسية إلا في الشعر والرواية , ولكن ليس بما يشبه الحكم كما رأينا سابقاً, كان أجدادنا مشغولين فعلاً في موضوع الحب, كما تقدم. ربما كان ذلك في غنى الحياة اليومية وفي انفتاحها على أصدق عاطفة يحملها الانسان في قلبه ونفسه. أما اليوم فمشاغل الحياة اليومية, المريرة والقاسية , وتبدل الاحوال والمفاهيم, لم يعد الحب شغلها الشاغل .. مع أن الحب يطري الحياة, ويهذب النفس وترق له الحواشي والقلوب , ويصبح الجمال صفة للحب , سواء جمال النفس ورقيها , أو جمال الوجوه وملاحتها.‏


.

صورة مفقودة
 
أعلى