شاكر النابلسي - في المسألة الجنسانية العربية

-1-
حين نُقسِّم التاريخ العربي إلى ما قبل الإسلام ، وإلى ما بعد الإسلام، فإننا لا نعني بذلك تغييراً فاصلاً في البُنى الاجتماعية، كالذي يذهب إليه مؤرخون وعلماء اجتماع ، في فصلهم بين المجتمعات القديمة، البدائية والمجتمعات التاريخية.

إن المجتمعات الإنسانية كلها مجتمعات تاريخية، بمعنى أنها ذات التاريخ، وأنها تعي تاريخها، وهي تصنعه. والتاريخ الإنساني الاجتماعي، هو الذي يرشدنا إلى تفاوت البُنى، وتداخلها، وتماثلها، كما يضعنا وجهاً لوجه أمام أعمال حضارية مؤتلفة حيناً، ومختلفة حيناً آخر، كما يقول المفكر اللبناني خليل أحمد خليل في كتابه (المرأة العربية وقضايا التغيير، ص 16)

- 2-

إن معرفة الجنس، ضرورة تاريخية وأخلاقية. فنحن نجد أنفسنا في قلب معركة حيوية، من أجل مراجعة تاريخ طويل من القمع، الذي خنق الحاجة الجنسية المميزة للكائن البشري، عن التعبير عن رغباتها. كما يقول جوزيف فيل (أستاذ الفلسفة في جامعة بوكنيل)، في بحثه (تأملات فلسفية حول تقارير هايت) نشره في كتاب (النساء والحب) لشير هايت Shere Hite,

من جهة أخرى، يؤكد معظم الباحثين، وجود نظرية جنسية تقليدية سائدة ومتماسكة، تعود صياغتها إلى القرون الوسطى على أيدي العلماء المسلمين. وتلخّص فاطمة المرنيسي الباحثة المغربية، في كتابها (ما وراء الحجاب)، التصور الإسلامي التقليدي للجنس، وتشبهه إلى حد كبير بمفهوم فرويد للجنس، واعتبار الغريزة الخام هي مصدر الطاقة. وليست للغرائز الجنسية مضامين صالحة، أو شريرة، إلا بقدر ما تخدم نظاماً اجتماعياً معيناً.

وحيث أن الجنس في الشرق الأوسط، وفي أي مكان آخر من العالم، هو المركب الأساسي للهوية الشخصية، فإنه من المفيد أن نعرف كيف نظرت المرأة العربية إلى نفسها، وإلى دورها الجنسي، على ضوء النظرية الجنسية السائدة.

- 3-

كانت المسألة الجنسانية Sexuality في التاريخ - حيث يقول سارتر، أنه من المتعذر الإمساك بالتاريخ كتاريخ. وأن كل نظرية للتاريخ هي بالتحديد “دوكسولوجيا” (نظرية الشكر والحمد). وهي نظرية منتشرة بشل كبير في التاريخ العربي – الإسلامي. (أنظر: ميشيل فوكو، “همُّ الحقيقة”، ص 18) ،

و(انظر: عبد الصمد الدّيالمي، “سوسيولوجيا الجنسانية العربية”، ص 12-16) - والثقافة الإنسانية، ركناً أساسياً من الأركان، التي تناولها العقل البشري، والقلم البشري كذلك، منذ فجر الحضارة الإغريقية، وحتى الآن.

وهناك فرق واختلاف، بين مفهوم الجنس والجنسانية. فالجنس يحيل إلى مجموع الخصائص البيولوجية – حسب المنظمة العالمية للصحة – التي تقسم البشر إلى أناث وذكور. أما الجنسانية فتضم الخصائص البيولوجية المميزة بين الذكر والأنثى، والخصائص الاجتماعية المميزة بين الرجل والمرأة؛ أي الهوية الجنسية، والنوعية.

والجنسانية هي نتيجة تداخل بين النفسي، والبيولوجي، والاقتصادي، والتاريخي، والثقافي، والأخلاقي، والديني.. الخ. والجنسانية بناء اجتماعي تاريخي، وقراءة للمعطى البيولوجي، محدداً في نهاية التحليل. والجنسانية في النهاية ظاهرة اجتماعية شمولية، تدور حول مصالح معقدة، ومتناقضة. وبفعل كثرة القيان والجواري، في التاريخ العربي الممتد قبل الإسلام، وبعد الإسلام. أصبحت الجنسانية العربية، الثانوية في الاقتصاد السياسي العربي – الإسلامي، والدونية، في التدبير السياسي.

وتتميز الجنسانية عن الجنس، أن الجنس هو فعل الجنس مع الآخر. أما الجنسانية فهي علم الجنس بما يؤثر عليه من عوامل غذائية، وصحية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وتاريخية، ومكانية، وزمانية. وهذه كلها، عوامل تؤثر في الجنس – كمعطى مباشر - الذي ينتج الإنسان، أو الحيوان، أو الحشرات، أو الطيور، أو النباتات.

وينبغي تناول الجنس عبر الجنسانية، وليس منفصلاً عن هذه العوامل المؤثرة فيه. وبهذه الوسيلة، تم انتقال الجنس وإشكالياته، من باب “الأخلاق” إلى باب “السلوك”، و“الممارسات السلوكية”، أو كما أُطلق عليه الإتيكا L’Ethique.

فنرى على سبيل المثال، انهماك أشهر فلاسفة الإغريق كأفلاطون، وأرسطو، وسقراط، وكتّابهم المسرحيين، ومؤرخيهم، وشعرائهم، ومثقفيهم، بالمسألة الجنسانية، وتحليلها، وتقنينها، وتموضعها الفكري، والثقافي بشكل عام.

وقد حظيت الأمور الجنسية بالكثير من الرعاية والاهتمام، من قبل الفلاسفة، والمفكرين، والعلماء، والأطباء، على مدار التاريخ، لأنها طاقة أساسية في الحياة، لا تتجدد فقط في مجال التعبير الجنسي المباشر، وإنما يتسع التعبير عنها، ليشمل مجالات واسعة وغير مباشرة، في حياة الإنسان. وهو ما يؤكد أن غريزتي الجنس والجوع أهم غريزتين لدى الإنسان، وتتحكمان بشؤون العالم. فالتاريخ والحضارة وما يشملهما، يحمل طابع الجنس.

فوجودنا يعتمد على الجنس.

وحضارتنا لا تُبنى إلا به، كما يقول الباحث الفلسطيني علي كمال في كتابه (“الجنس والنفس في الحياة الإنسانية”، ص 4).

وعندما أعلن فرويد الدور المهم، الذي يلعبه النشاط الجنسي والغريزة الجنسية في حياة الانسان والمجتمع، تعرض لهجمات مختلف المحافل العلمية لزمن طويل، إلى أن ثبتت صحة نظرياته، وانتشرت، رغم ما كان فيها من أخطاء، كما يقول محمود الودرني، في (“علم النفس الجنسي”، ص 116، 117),

وعلينا أن نلاحظ، أن فرويد أبدى أسفه لعدم فهمه للنساء، كما أنه أبدى مع الأيام، تحفظه في إطلاق أحكامه الخاصة بالجنس والنساء. وكان حجر الزاوية في فكر فرويد يتمثل في اليقين الذكوري، وهو أن المرأة رجلٌ مخصي. وأن ألم المرأة مصدره حرمانها من القضيب، ومحاولاتها العبثية إنكار هذا الوضع.

-4-

إن الظاهرة الجنسانية، لدى شعب من الشعوب، في عصر من العصور، هي القاموس الكبير، والمرشد، والدليل العام، الذي يمكن أن يُفسر لنا بقية العناصر المكوّنة لقيام المجتمعات البشرية، في حقبة معينة، وضمن جغرافية معينة.

بل إن ظهور الأديان السماوية والأرضية في زمن معين، وفي مكان معين، له تفسير جنساني Sexualist ، إلى جانب التفسيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، الأخرى.

ويقول مُطاع صفدي في مقدمته للجزء الأول (إرادة المعرفة) من كتاب فوكو (الجنسانية في التاريخ) أن هناك تثنيات أربع تشكل “اركيولوجيا الجنسانية”، وترجع إلى التراث أكثر مما ترجع إلى الوقت الراهن. وهي تصلح - في رأي فوكو - للتعبير عن انبناء (تذويت) الذات. ويقول صفدي أن هناك ثلاثة أبعاد للإنبناء:

الذات، والمعرفة، والسلطة.

أما التثنيات الأربع، فهي:

1- الجانب المادي، وهو الجسد وملذاته لدى اليونانيين. وهو الشهوة ، واللحم، ورغائبه لدى المسيحيين، وهي محرمة، ومرادفة لأفعال الخطيئة. وهو شكل يقابل مبدأ العلية الغائية.

2- ثنية مرتبطة بعلاقة القوى مباشرة. وهذه العلاقة ليست قاعدة طبيعية فاعلة، (كما عند اليونان) أو قاعدة إلهية، (كما في المسيحية)، أو عقلانية جمالية (كما في الأنوار). وهو شكل يقابل مبدأ العلية الصورية.

3- ثنية المعرفة أو الحقيقة. وتشكل علاقة الحق بالكينونة وعلاقة الكينونة بالحقيقة الشرط الحاسم لكل معرفة. وهو شكل يقابل العلية التوليدية.

4- علاقة الذات بالخارج. وهو شكل مقابل العلية المادية، للذاتية.

-5-

ومن الجدير بالذكر، أن مفردة “الجنسانية” ظهرت متأخرة (في مطلع القرن التاسع عشر). واستخدام الكلمة، تمَّ حسب علاقته بظواهر أخرى، منها تطور ميادين المعارف المختلفة، وظهور مجموعة من القواعد والمعايير التقليدية والجديدة، تستند إلى مؤسسات دينية، وقانونية، وتربوية، وطبية، وبروز التحولات الواقعة في الطريقة، التي يتوصل إليها الأفراد، لمنح معنى أو قيمة لسلوكهم، وواجباتهم، وملذاتهم، ومشاعرهم، وأحاسيسهم، وأحلامهم، كما يقول ميشيل فوكو، في (استعمال اللذات)، ( الجزء الثاني من تاريخ الجنسانية)، ص 7.

وتظل الجنسانية مجموعة من الظواهر البيولوجية، والتشريحية، والفسيولوجية، والسكيولوجية، والاجتماعية، والسياسية، المتعلقة بعملية التناسل بالعمليات الممهدة لها، وما ينتج عنها من نتائج، تتجاوز حدود الفرد إلى النوع، مع مراعاة ما يصاحب مختلف هذه الظواهر من حالات نفسية، وما تتركه من آثار في نفسية الفرد، وشخصيته.


.

صورة مفقودة
 
أعلى