قصص عراقية يعقوب زامل الربيعي - غفــوة العناقيـد

لم يلحظ وجودها خلفه رغم العطر الذي طيبت به عنقها قبل مجيئها اليه . ظنت انه كان يتعمد الأمر ، ومع هذا أنتظرت ان يبدل مزاحه وتعمده . وعندما لم تجد ما يدل على تبدله وضعت بيت راحتيها حول عنقه التي وجدتها باردة مما لفت أنتباهتها ، فأندفعت في قلق نحو كرسيها المعتاد لتجلس بانتظار ان تدرك حقيقة ما يحصل .
كانت حقيبة خاطرها مليئة بالأفكار والأحلام والكلمات ، ولكنهالحظة بحثت عن شيء ما يغير طقس اللقاء وجدت ان ما فكرت به متلازما بالأثارة والمعقولية قبل قليل كان قد انفرط من خيطه واختلط. ربما سيصبح لظم الأشياء ببعضها من جديد أو أختيار الأنسب من الأولويات مجرد وهم غير معقول ، لذا فضلت ان تأخذ دور المتأملة المتذاكية أمام سحنته الساهمة المجدرة بندوب من القسوة .
لم تعد تحفل بعدد قفزات البلبل السجين في بيتها عندما توقفت عند العشرين أوأكثر قبل ان يصيبها السأم فتحولت ناحية علبة زينتها الخشبية تنتقي بدون عناية ظاهرة شيئا لزينة وجهها الذي بدا خشنا متزمتا وأكثر شحوبا ورزانة .وحين تطلعت في مرآتها الصغيرة التي رمتها بلا مبالاة داخل حقيبتها ،
نهضت متباطئة نحو مغسلة الحمام لتزيل كل ما نالته المياه من رأسها كله، بعد قليل احست بحاجتها للنوم فتمددت على سريرها وبعد ساعة او أكثر كان صوت منامها يبدو واضحا لأمها التي كانت تسحب الغطاء أعلى صدر أبنتها قبل ان تغلق باب الغرفة خلفها .
قبل ان يغادر القطار بساعة تقريبا كان يجلس منزويا تحت قبة بناية المحطة التي خلت من سواه . تعّود محنة الأنتظار وحيدا لذا لم يعبأ بخلو القاعة من المسافرين أو من غيرهم فقد كان مشغولا بأشياء ربما كانت أكثر ايحاءا وسلوة . فكر بها ، وكيف جعلها وحيدة في مقعدها تنتظر . لم تعتده بهذه الجفوة من قبل .
مع كل غفلة من أفكاره كان يمسح كل ما حوله بالنظر الحسير ، وعندما تسقط عيناه ناحية أحد الشبابيك الخشبية المغلقة يقرأ لمرات عديدة اليافطة التي علقت فوقها ( تأكد انك حجزت من هنا .. رجاء" ) فيلامس لأكثر من مرة رزمة صغيرة من النقود أعدها لحجز مقعده في الدرجة الثالثة .
بيت من الخشب البسيط في التيه ، وسماء صافية زرقاء ملبدة بحنو الغبش يرتمي تحتها فوق مرج أخضر لدن مندى يوشوش سمعه صدى تكسر مياه تجري بخمول حين يختلط به رجع زقزقات آمنات لعصافير وقبرات ونداءآت تكهرب الجسد لطيور تزيف حول اناثها في لحظة أشتهاء .. وثمة دورق مترع بالنزق الملون يركن متحفزا مذ كان عنقودا في ركن المساءات النبيلة ، تشاركه في جميع فصوله المترفة تلك امرأة تغدو بلون الليلك لحظة تمنح نفسها معه لنقيع الزيتون .
عندما كان يذّوب روحه أمامها مغنيا ، او منشدا ، تهتز ثناياها مرتعشة . وغالبا ما تشعر بقدرته على تحويلها لأرجوحة من نار تئز جيئة وأيابا أمام تحولات روحه المعبأة بالخطر والأمن معا .
سألته يوما ان كان يشكو علة بعينها تشل صفوه ؟ أنشّدت غمازتيه ببنت علة الأمل الدفين فأردف كما توقعت حينها بصوت يكاد للينه ينثني : " مامش ابمامش ، يميزان الذهب وتغش واحبك ! " أحست بالخجل يسيل بين أبطيها . وحين أطرقت بعينين منداة نحو حجرها تعبث بطية فستانها سمعته وبنفس التون الشفيف منشدا : " هـوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى .. وأني وأياها لمختلفان "
كانت قد أعتادت طريقة نزفه تلك ، فهو حين يكون داخل دائرة حزن روحه وشكوكها يمسي غازيا بعّدة من السلام المدمى ، فتروح مرتمية بحظنه تطوقه ببليل القبل فيعتصرها .
أحس متيقظاعلى حفيف منشة تخط الأرض المبلطة بالرخام أمامه .. أنتبه فزعا .. لملم الرجل المسن نظرة الشاب التي أحسها معاتبة .. قال : " كنت أكنس مخلفات المسافرين . تصور انهم يرمونها أنّا يحلو لهم مع ان حاويات النفايات كثيرة كما ترى " .
لم يرتبك أو تبدو عليه أمارة من أمارات المفاجئة والمرارة أو الأحباط نتيجة سقوطه بغفلة الكــرى المفاجىء وفشله بالسفر المؤمل . ألتفت ناحية حقيبته الصغيرة ليأخذها .. لم يفاجأ عندما وجدها وقد توسدتها قريبا منه ؛ كان رأسها ملتصقا بصدرها .. ينسدل شعرها امام وجهها .. وقبل ان يلتقط الحقيبة أنتزع يدها المتصلبة عن طية فستانها ليسحبها مترنحة نحو الخارج .


.

صورة مفقودة
 
أعلى