ياسين النصير - في سوسيولوجيا النكتة الفاحشة

3-1
لم يكن نشوء ظاهرة النكتة الفاحشة والبذيئة في العراق ، وشيوعها شيئا عابرا، أو حاجة أملتها ظروف آنية، بل هي ظاهرة معقدة نشأت بين أوساط العامة والمثقفين والجنود،وهذا يعني أنها تحاكي الفئات الوسطية من المجتمع خاصة شرائح الطبقة الوسطى، ويقف خلف شيوعها عوامل كثيرة منها الظروف الاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي سببتها الحروب لهذه الشرائح الوسطية بحيث تخلى الكثير منها عن وظائفه المدنية ليلتحق بالجيش وبمؤسساته ضمانا لراتب أفضل ولامتيازات حزبية..، وعن تغييرات مهنية وعن تباين اجتماعي وظائفي ومناطقي. وعن تغيير ديموغرافي أصاب المدينة العراقية وعن عبثية الظروف التي مرّ العراق بها، فظاهرة مثل هذه برزت فجأة وبفترة قصيرة خلال أيام الحرب العراقية الإيرانية تحديدا ليست طبيعية ونمت في ظروف التنوع الثقافي والحرية اللفظية والعملية والتسامح وشيوع ظاهرة الجنس الذكوري، إن الجذور العميقة لها تفصح عن بنية شعبية ترتبط بالتنكيل وتقليل شأن الأخر،والدخول إلى خصوصياته بسلاح شعبي يراد به تحجيمه وتقليل من شأنه ومن ثم تبرير الأفعال التي يقومون بها ضد هؤلاء الذين عنتهم النكتة، ومن يتتبع ديموغرافية النكتة الفاحشة نجد وسط وجنوب العراق وحدهما المنطقتان المعنيتان بها،لا نجدها في النتائج المفتعلة والنسخ لنكات أجنبية طوعت لتلاءم الوقع العراقي، وإنما هي بنية ثقافية كامنة في المفارقة بين فئة شعبية وجدت نفسها مسحوقة تحت عجلة الحروب وفئة متنفذه تمتهن الإهانة ومن بينها النكتة على معارضيها ومن تعتقد أنهم بدلاء لها، ومن هنا نجد أن ظاهرة النكتة الفاحشة هي دفاع عن النفس أحيانا وأحينا جزء من اللعب السياسيين وفي أوقات الكثير التخفيف عن الوضع النفسي للشباب العراقيين أثناء فترة الحروب العبثية...كانت الناس تجد فيها إطارا عامة للتعبير عن حياتها الملتبسة خاصة وأن شروط هذه الحياة كانت ملحقة بالسلطة من حيث الأمن والوظائف والرواتب والأعياد والهبات والمكرمات حتى غدونا لا نستطيع ابتداع أو ابتكار أي شيء إلا بمباركة السلطة هذا الوضع شد كل الناس إلى قدرية واضحة استعاضت عن الله بالحكام وعن الدين بالعطايا وعن السلم بالحروب وعن الأمان بالتخويف وعن الجوع بالترهيب والترغيب، حياة لازمت وتلازم كل تحول جديد يحدث في المجتمع. فتسير معه مترافقة تارة، ومتقدمة أو متأخرة تارة أخرى. خاصة تلك التحولات التي ترتبط بصعود فئة سياسية ذات برنامج اقتصادي وسياسي – مهما كان نوع هذا البرنامج – فنجد الثقافة المرافقة لهذا البرنامج توظف نشاطات ثقافية توظيفا أحادي الجانب، تعكس بالضرورة التوجه الخاص لتلك الفئة ضمن هذه المرحلة أو تلك.

في ضوء ذلك تبدو معاينة النكتة الفاحشة والبذيئة ضمن هذا السياق مسألة معقدة بعض الشيء، فالجنس، وهو محورها، يرتبط أولا بالجسد هذا الكيان العضوي المستغل كآلة للحرب،ويشكل انتهاكه حتى لفظيا إلى مشكلة أخلاقية، فتحول إلى تكوين ساخر يمكن أن تلصق به كل الصفات الكريهة بعدما أصبح سلعة تتبادلها الحروب وساحات القتال، الجسد هذا التكوين المقدس يمتهن ببساطة بالإهمال بالتعري من حقائقه الإنسانية لأنه ما عاد محترما من قبل السلطة عندما يكون كساؤه صعبا وتغذيته تعبا وراحته بطرا وعلمه ترفا، الجسد في عرف السلطات كيان ممتهن مرهون لهم يتلاعبون به ما يشاءون يسوقونه للحروب أو يعطلونه عن العمل أو يحرمونه من ملذاته أو يجعلونه عالة على صاحبه فكيف إذا كان في البيت عدد من الأجساد المهملة العارية والجائعة والخائفة والمهددة بالموت والحروب والغلاء؟بمثل هذه الوضعية الممتهنة للجسد تتشكل لغة الاستهانة وما النكتة التي تجعل منه سلعة ولو بالكلام إلا طريقة لتدميره وإلغائه وسحقه تحت هيمنة قوى غامضة سرية وعلنية تحتاج إلى اسم أو مسمى كي يقال فيه وعنه الكلام الفاحش وكان الشخصية الفنية “.....” هي الغطاء العام لمثل هذه النعوت الملصقة بالجسد الدنس الجسد المخرب والمهان والمحقر فكانت أن أصبح المحمول وهو اسم” ...” حانلا لأمراض اجتماعية هي الفحشاء.بالبنى التحتية والفوقية للمجتمع معا. فهو عنصر مشترك بين كل الأحياء، ومادة تراثية ومعاصرة يمكن توظيفها توظيفا دراسيا خاصا. وما التمايز الذي يجعله مختلفا عند هذه الفئة أو تلك إلا تشخيصا وانعكاسا لفكرها ومنهجها إزاء الوظيفة التي يؤديها اجتماعيا وثقافيا.
فقد استعمل الجنس مصدرا لزيادة السكان، وبالتالي فهو ثروة قومية يمكن إنماؤها وتطورها، حيث الكثرة عاملا فاعلا على المستوى الديموغرافي والجغرافي معا، وعندما يزداد، وتفقد السيطرة عليه يتحول إنتاجه – الولادات – إلى عائق يعيق خطط التنمية والتطور الاجتماعي، فتفضي الحاجة إلى ابتداع الحروب والأوبئة لتقليل نسبة السكان – كما يرى مالتوس. وقد يكون الجنس عامل نقاء عرقي، ومفاخرة إقليمية – اقتصادية، خاصة إذا ارتبط بفلسفة مغيرة وكلية، فيدفع ببعض الساسة والطبقات إلى اعتباره عنصر قوة إلهية، وهو ما حاوله هتلر في فاشيته المعروفة. وقد يصبح الجنس جزءا من تأكيد محورية الفرد في العالم. خاصة بعد انهيار النظم والديانات التقليدية في أوروبا فتحول إلى عنصر تزييني – ترفيهي يلازم كل مدينة حديثة، وينشئ مصدر سياحة متطورا، كما هو حادث الآن في عدد كبير من مدن أوروبا الحديثة. وقد يصبح الجنس تجارة لرقيق أبيض أو أسود، مما يسبب أمراضا وأوضاعا خاصة يتطلب الأمر لعلاجها مصادر تمويل وبحوث هائلة... الخ.

ضمن هذه المسيرة المعقدة للجنس، نجده، وبخاصة في مجتمع مثل مجتمعنا الشرقي – شبه محافظ، شبه منفتح – عامل قلق مستمر، وليس على مستوى الدراسة والتعليم فقط، وإنما على مستوى الحرية واثبات الشخصية الوطنية، وبالتالي على جعله نموذجا قلقا لكل مشروع ثقافي واقتصادي وسياسي.

في ضوء ذلك تحتم علينا ظاهرة النكتة الفاحشة والبذيئة، التخلي كليا عن الطرح الآني، والسريع لأسباب ظهورها أو اختفائها. فالمظهر الثقافي الذي يرافق التوظيف الجنسي توظيفا طبقيا واجتماعيا، يكشف لنا عن تباين مستويات التفكير. ففي أوروبا مثلا هناك قنوات تلفزيونية ودور سينما، وآلية إنتاج كبيرة لأفلام ومسلسلات الجنس، بينما لا يكون مثل هذا متوفرا للبلدان النامية، وذات الطبيعة الاجتماعية المحافظة ميسرا، مما يفرض الواقع ظهور أدوات ثقافية أقل انتشارا، من بينها ظاهرة النكتة الشفاهة، أو الظاهرة الشفهية بشكل عام، النكتة البذيئة والفاحشة جزء منها.

وفي مجتمعنا، الذي شهد صعود فئات اجتماعية محافظة في تفكيرها الديني، متطلعة لبناء نهضة عمرانية وثقافية، وظفت الجنس توظيفا لا منهجيا مما عكس تذبذب خطابها الفكري والسياسي، وبالتالي أعطى تصورا عن فقدان أي تخطيط منهجي لاستعمال الجنس ضمن المسار التنموي المنشود.
لذلك لا يمكننا القول أن عامل الحرب الذي دام ثماني سنوات بين العراق وإيران كان هو السبب الذي أوجب وجود مثل هذه النكات، فما كان من ثقل الزمن الحربي على النفوس إلا أن جعل الناس يتندرون ويتفكهون بالجنس كنوع من فكاهة الصحب، أو لقضاء الوقت، أو للتسلية ونسيان ما يحدث. وإنما يصح القول إن الحرب والنكتة الفاحشة والبذيئة جزء من تكوين ثقافي – اقتصادي مشوه البنية، فما كان من الحرب إلا أن فجرت اللسان الشفهي ليس في مجال النكتة فقط، وإنما في مجال الأغنية، والفن التشكيلي والشعر، والعمارة، وتخطيط المدن، والتسويق، والصناعات والثقافة بوجه عام، فالحرب لوحدها يمكن أن تؤلف نشاطا ساخرا بوصفها تعبيرا عن سياسة متحكمة وأيديولوجية مارست ثقلها على المجتمع ضمن مرحلة معقدة من مراحل نمو وتطور مجتمعنا. من هنا يمكن عد الحرب والنكتة الفاحشة معا عوامل تدميرية للبنى الثقافية والمعرفية الحقيقية، ولكن لم يكن بمقدور هذه البنى مزاحمة التوجهات المرحلية التي تترافق مع تهيئة كاملة لنقل المجتمع من حال البناء والعمران، إلى حال التدمير والانكسار.

ومع ذلك كله، فلا يعد ارتباط النكتة بصعود فئات اجتماعية معينة إلى مراكز السلطة، فمثل هذا تفسير تبسيطي للظاهرة، وإن كانت جزء من العقلية القبلية، والشوفينية التي تدعيها بعض هذه الفئات، وإنما يكتشف دارس الثقافة الشفهية، يجد مصادرها الأنثروبولوجية– أي النكتة – قديمة قدم الدين، واللغة، والأنثروبولوجيا، وتكون المجتمعات، فالنكتة بشكل عام، والنكتة الفاحشة – البذيئة بوجه خاص نتاج ثقافي لتطور اجتماعي معقد، ليس كل مظاهر هذا التطور جديدة، وإنما بعضها جديد، وبعضها متطور عن قديم يمتلك أحقية بالاستمرار، وبعضها نشأ مرحليا. ومرحلة نشوء المجتمع المدني، تفرض مثل هذه الظواهر العرضية. مما يعني أن معاينة جذورها القديمة ينجينا من السقوط في التفسير الآني السريع. فالنكتة الفاحشة – البذيئة ترتبط بمدى حاجة الفئات المهيمنة على تبرير سياستها ومواقفها، ولذا فهي ليست أحادية، ولا هي نقية الشكل والمحتوى، بل إن شأنها – إبداعيا – شأن أي إنتاج ثقافي – اقتصادي يخضع لعوامل العرض والطلب، ولها أسواقها التي تمارس من خلالها فعل الانتشار وتحقيق الهدف. فنجدها تزدهر في مرحلة عندما يكون الشكل التعبيري لها ملائما للوضع النفسي، وتختفي مرحلة أخرى عندما يسود من يمنع ثقافتها. من هنا يمكننا القول: إن النكتة الفاحشة – البذيئة، لها خصوصية فنية تجعلها مشاعة ضمن ظروف، ومختفية ضمن ظروف أخرى.

ولكن هل ترتبط النكتة الفاحشة والبذيئة بظروف بلد ما وحده، أم أنها جزء من ظاهرة عالمية، خارجية وداخلية معا. شأنها شأن أي منتج ثقافي يمكن استنساخه وتعميمه. وبالتالي لقياس مدى التفاعلات التي يحدثها في كل بيئة أملا في تشذيب أو تقوية عناصره.

فعلى المستوى الدولي، شهدت السنوات الخمسين الماضية تداخلات كبرى بين الأنظمة والبلدان، فهناك حروب اقتصادية خلقت لها حروب موضعية وداخلية، وباردة، كان من نتيجتها أن فرزت على مختلف الساحات، بما فيها الساحة العربية، أنماطا من الفئات الاجتماعية المرتبطة بحركة الاقتصاد العالمي وحروبه الباردة، وكان من شأن هذا الارتباط أن تمكنت هذه الفئات من السيطرة بفعل حركات عسكرية أو انقلابات للهيمنة السياسية، وبالتالي الاندماج بحركة السوق العالمية، وكان من شأن هذه العملية أنها عكست جانبا من تلك الصراعات الدولية في المنطقة العربية التي يشكل النفط عصب الاقتصاد العالمي. والمتتبع للظاهرة الانقلابية في المجتمعات العربية، وما رافقها من قمع لقوى التحرر والأحزاب الماركسية بالذات، يجد أن الظاهرة كانت من الدقة والتخطيط ما يجعل مفهوم البرجوازية عندنا مفهوما شائبا، لأنها لم تخضع إلى قوانين وجودها المادية والثورية، وإنما خضعت لهيمنة تفكير أحادي هو خليط من البنى التراثية والدينية والعسكرية وشبه الإقطاعية والعشائرية. وهذا ما دفع هذه القوى عندما تسلمت مقاليد الحكم في عدد من البلدان إلى تبني خطة تنمية معرفية، هي تنمية أجهزة القمع البوليسية وتقوية المؤسسة العسكرية، والاستيلاء اللاعقلاني على الثروات المعدنية والبشرية. مما يعني أن أي تحولات جذرية في البنية التحتية للمجتمع وما يرافقها من نمو للدخل القومي ونشوء الطبقات الاجتماعية الفاعلة غير معنية بها، فالتنمية بكل فروعها لم تكن هي المعنية بالتغيير، فمن شأنه أن يجعل كل الفئات لحاكمة متعلقة بتسويق أطروحات السياسة الدولية المتناقضة على ساحتها المحلية، فتجدها تتبنى الاشتراكية في برامجها السياسية والاقتصادية المعلنة، وفي الوقت نفسه تغرق السوق بالحاجات المصنعة في دول أوروبا واليابان، وتفتح مجالا للتداخل بين الأسواق الخاصة والتجارة ضمن الشركات المتعددة الجنسيات. ولا يعدم التوجه المزدوج هذا من استنهاض كل القيم الايجابية في التراث والدين من اجل تسويغ وإضفاء طابع الشرعية على كل الأعمال التي تقوم بها. فما كان من الفئات الحاكمة إلا أن أسندت مصادر بقائها بقوى اقتصادية وأمنية، فأنشأت حولها دوائر أمن وحرس ومؤسسات علنية وسرية، وأطلقت يدها في المجتمع وفي الثقافة وفي الاقتصاد، ومكنتها من الاستيلاء على الأرض والناس بقوة القوانين التي تسن من الأعلى بعد أن عطّل الدستور وألغى البرلمان ومجالس الشعب والصحافة والآراء المعارضة. فما كان إلا أن أصبح أي تقدم جديد إلا من قبيل الهبة أو المكرمة التي تمن بها المؤسسة العسكرية الاقتصادية على الشعب.

كما شهدت المرحلة نفسها ثورة تكنولوجية هائلة، في ميادين الاتصال والتصنيع سهلت لعدد كبير من العمليات الداخلية والموضعية لأن ترتبط بحركة السوق العالمية فسهلت عملية الانتشار والتسويق وأصبحت وسائل الأعلام المرئية والمسموعة في متناول الجميع – أعني هنا جميع أبناء الفئة الحاكمة – فشاع الفيديو وأفلام الجنس والفوتوغراف وأصبحت ظاهرة استنساخ الثقافة وتوزيعها بدلا من إنتاجها المعرفي، هي العملية الشائعة في ميادين عدة. كما تطورت العقلية التجارية باستخدام كل فروع المعرفة استخداما اقتصاديا جاعلين من الأرضية الاجتماعية أدوات استهلاله وتعريف، دون أن يؤسسوا بنية مرافعة لكل تطور جديد لتشكيل أرضية مهيأة لتقبل الظاهرة الاتصالية أولا، ومن هضمها وتمثلها في الجسد الاجتماعي والثقافي ثانيا. مثل ما يكون للتقدم نمو وتطور حقيقيين، يكون للتخلف نمو وتطور حقيقيين أيضا ولكن باتجاه الإبقاء على الفجوة بين الشرق والغرب، وفي هذه الفجوة نجد حركة السوق من التقدم إلى التخلف، وهي تنشئ في مراكزها التسويقية بنى عقلية وثورية، وتؤسس في مراكزها الاستهلاكية بنى لا عقلانية ولا ثورية، هكذا نشأ الجيل الجديد من الشباب وهم يتمثلون بمظاهر الغرب الرأسمالي، دون أن تكون لهم عدة ثقافية توازي التمرد الذي ينشدونه في ترسيخ طماحهم الجديد، والفجوة بين ثقافة الأجيال والثورة الاتصالية الكبيرة تؤسس أنظمتها المعرفية باستمرار، هذه الأنظمة التي تجعل من حقيقة تغيب الوعي عن هذه الأجيال سلاحا بيد الحكام، فالوعي المغيب هذه المرة ليس بفاعلية وهيمنة القوى الدينية أو السلفية مثلا، وإنما بفعل الفجوة بين أدوات الاتصال وثقافة الأجيال في بلداننا. والقصد من وراء ذلك كله، هو إبقاء بنية السلطة اللاطبقية معتمدة على قواها الموروثة: العسكرة الاجتماعية والهيمنة على رأس المال، والسيطرة على السوق، وتقوية مراكز ومنشآت حمايتها الذاتية.

فما كان من هذا الوضع المربك والمعقد إلا أن أحدث النقل العشوائي في الاستيراد والتثقيف، الذي من نتائجه التفكك الأسري والديني معا. فأشاع الفيديو ثقافة أفلام الجنس إلى جانب الثقافة المدرسية والفكرية الأخرى، وتوسع التأثير باتساع فاعلية النقد والقوة الشرائية لشرائح لم تكن مهيأة لأن تختصر الفجوة، فأصبح الإنتاج الثقافي المحلي عرضة للتشويه وصناعة تفتقد هويتها، وأعيد تركيب الوعي الثقافي من خلال أن الموروث وحده هو القوة الفاعلة في كبح جماح هذه الثورة، فما كان من هذا المسعى إلا السقوط في الهوة نفسها، وهكذا عاشت المجتمعات العربية بين قوتي جذب، إحداهما تشده إلى ثقافة الاستهلاك اليومي، وأخرى تشده إلى الماضي وقيمه، وكلتا القوتين مدفوعتان من قبل المؤسسة الحاكمة نفسها. فأصبح الهدف الإعلامي، ليس النقل فقط، وإنما البحث عن خصوصيات محلية تتلاءم والمسعى إلى التخلف، فما كان من الماضي والتراث وكل المقولات القديمة إلا أن أصبحت قوى فاعلة ليس في بناء المخيلة المرتبطة بالتجديد، وإنما بتحويل التجديد إلى بنى كامنة في ذلك الماضي وبالتالي فإننا نبقى ندور في الحلقة ذاتها، ولكن في كل دورة جديدة لنا تعميق خط الدائرة، وليس تغييره. وهكذا تحول الماضي وتراثه، والحاضر وتقنيته بيد السلطات الحاكمة وأجهزتها الأيديولوجية إلى بنى قامعة للحاضر وللتقدم، فمهمتها إشاعة ثقافة استهلاكية يومية ترتبط بعملية التقنية العالمية، وفي الوقت نفسه تؤكد أن لا حقيقة جديدة، غير حقيقة فكر ونمط حياة الفئة الحاكمة وثقافتها المعلنة بقوة القانون.

وعلى المستوى الداخلي، شهد العراق – وهو موضوع النكتة الفاحشة – البذيئة – نهوضا متناميا على مختلف الأصعدة، رافق هذا النهوض عودة لأساليب قول ثقافية وشفوية ما كان لها أن تعود لولا الظروف الموضوعية التي خلقتها الحرب. والأساليب ذات طابع فردي، وترتبط بمنحى ذاتي، في الخطاب وفي المخاطب. وهي الأساليب نفسها التي كانت سائدة في زمن الخلفاء والولاة، بمعنى أن الأساليب، وخلال تطورها النوعي تنتقل بالثقافة المتضمنة لها من البعد الفردي، إلى البعد الجماعي، وعلى المستويين: المبدع والمتلقي، مع بقاء الخصوصية في كلا المجالين.. إلا أننا شهدنا عودة إلى الأساليب القديمة التي كانت موجهة للفرد، أو لفئة معينة محددة ويراد بها التوجه بخطابها إلى الجماعة دون أن تعتمد بنية الجماعة. إن عودة القصيدة العمودية المفاخرة والمادحة والذامة، والإخوانية والغزلية، والمعبأة بصياغات القبيلة المعاصرة، والتواريخ الشخصية والمجمدة لحركة التاريخ، هي عودة واقعية لأغراض القصيدة القديمة، فأصبحت هي النمط الثقافي السائد للواجهة الإعلامية والإبداعية في مرحلة الحرب، فالعودة إلى القصيدة العمودية عودة فرضتها الأغراض نفسها، وليس الطابع البنائي الخاص لها، والمحدد بالوزن والقافية. فالماضي هو الحقيقة ليس على مستوى التفكير والأيديولوجي، وإنما ليس الحاضر من وجود للتراكم فيه، فهو نسخة مكررة من ماض، وعليه فالثقافة الجديدة ثقافة الماضي دائما، وهكذا شاع في فترة الحرب، الزجل، والرجز، والغناء القبلي بالمفاخر، والتأليه للألقاب والأنساب، والمفاخرة بحروبنا القديمة، واعتماد أحادية منهجية في الفكر طريقا لبقاء التراث حيا بالاستنساخ المعاصر، وهكذا جرى البحث عن واحديه تاريخية، وطريق خاص لا يشبه أحدا، وإنتاج ثقافة – لا يفسرها لنا الآخرون – وقد رافق هذه النغمة التحديثية – التراجعية، عودة إلى الأزياء القديمة، والمطبخ القديم، والبناء القديم، وهكذا نشأت فجوة أخرى أكثر اتساعا، بين نتاج ثقافي نما خلال عقدي الستينات والسبعينات وهو نتاج تقدمي وثوري، وبين نتاج ثقافي فرض قسرا خلال عقد الثمانينات محاولة حساسية مرتدة ليس لمعاينة الواقع وحركته، وإنما في صلب العملية الإبداعية وهذا ما ولد كتابات متناقضة ومتباعدة، بعضها امتهن التاريخ للكتابة، وبعضها امتحن الحاضر للكتابة.. كتابات التاريخ وحدها كانت تجد طريقها للنشر.

ما دفعني للكتابة عن النكتة الفاحشة- البذيئة، حقيقتان:
الأولى: إن النكتة الفاحشة – البذيئة أصبحت جزءا من خطاب شفاهي شعبي نشأ هذا الخطاب ونما في مرحلة التشيؤ الاقتصادي – الثقافي، وأعني بها المرحلة التي سبقت الحرب العراقية الإيرانية وما زالت مستمرة، ومن خصوصيات هذه المرحلة أنها شهدت تحولات جذرية على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية بعد تأميم النفط عام 1972. ومن ملامح تلك الفترة أن العراق كله كان ورشة عمل كبرى، وجرى استقدام ملايين الشغيلة من البلدان العربية والآسيوية فأصبحت العمالة لوحدها مظهرا ديموغرافيا كبيرا. ومن شهد العراق في تلك الفترة كان يعرف بالضبط ماذا تعني التنمية العشوائية والبناء اللامخطط، وهذه القفزة الاقتصادية الكبرى في موارد النفط لم تأخذ حقها في التعبير على مختلف المستويات. ففي الوقت الذي انعدمت فيه أية مظاهر نهضوية في ميادين التعليم والثقافة والبحوث والإعلام والفلسفة والمجتمع وبالتالي في الجامعات والمؤسسات العلمية، شهدت مرافق أخرى نهوضا، فالمؤسسة العسكرية والأمنية، وفي خضم هذه العملية الجدلية المربكة، صعدت فئات اجتماعية إلى مصاف الطبقة البرجوازية، أولا، ثم انتقلت إلى الطبقة الرأسمالية المهيمنة على المقاولات والتشييد والزراعة والأسواق، وكان يتم أغناء الشرائح الملحقة بهذه الفئات الصاعدة من خلال تخصيص مراكز عمل مريحة لها، أصبحت فاعليتها مباشرة ومرئية بفعل القوانين والقرارات التي كانت تسن لحماية هذه المراكز، وكان من نتيجة ذلك أن أدخلت في نسيج المجتمع الجديد أفعال وسلوك هذه الفئات التي تحولت لاحقا إلى مظاهر ثقافية – احتفالية كرس لها الجهاز الإعلامي قنوات بثه وكتابه. وحصيلة هذه القفزة المالية أن نشأت فئات طفيلية هددت ليس بنية المجتمع الراسخ، وإنما نفسها عندما وجدت أنها غير قادرة على مواكبة التجديد في أطروحاتها، فما كان منها إلا أن بقيت حبيسة أيديولوجيتها السابقة مكتفية بإشارات مظهرية دالة على سلطتها المسندة. وهكذا أصبحت كل المنتجات الثقافية بما فيها الكتابة خاضعة للمسابقة والمهرجانية والندوات والاحتفالية والجوائز، رافق ذلك كله نهوض عشوائي في فتح آلاف المحلات لبيع الخمر والمشروبات، مع عشرات الفنادق والكازينوهات التي استقدمت آلاف الراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات من مختلف دول العالم، بمعنى أن الاستهلاك اليومي للثقافة الناشئة بفعل التضخم المالي والاقتصادي وانفتاح السوق على العمالة بكل فروعها قد ولد مستهلكا يوميا يشبه نفسه في مرحلة كهذه بالسلعة، فأصبح الفنانون سلعة تداولها محلات الغناء والفنادق، وأصبحت الموسيقى سلعة يمتهنها أنصاف المتعلمين ليصبحوا عازفين في الفنادق والكازينوهات، كما أصبح رواد هذه الأماكن سلعة أيضا عندما كانوا يتميزون بانتسابهم إلى هذه القبيلة أو تلك، ثم أصبحت أغاني الكاسيتات سلعة هي الأخرى، ألغت من فنها كل أصيل وتقدمي، واعتمدت موسيقى وكلمات وألحان عادية، بل وأوطأ من العادية، وإذا بصف المغنين يطول، وبالطلبات على توظيفهم في النوادي الليلية يطول هو الآخر، وهكذا تحول البلد إلى ورشة عمل لثقافة استهلاكية مادتها الثقافة الرديئة والمغنون السلعة، والجمهور الاستهلاكي اليومي فالمرحلة المعنية هنا، هي المرحلة التي جرى فيها الدمج بين ما هو ثقافي وما هو نقدي. فنشأت عبر وسائل الإنتاج – التي بدأت تستورد من الخارج لفتح استوديوهات وورش عمل ومطابع.. الخ – المتغيرة لغة محكية ويومية هي من أكثر اللغات ارتباطا بالعادي والشاذ والعابر والثانوي والاستهلاكي واليومي، مما يجعلها لغة تداولية كالسلعة التي تمتلك أحقية التكرار نتيجة لاستعمالها اليومي مما يحولها إلى سلطة تمارس قوتها بفاعلية حضورها المستمر والمهيمن بقوة المادة التي تشعيها وتذيعها. ويعطينا مثل هذا الوضع تصورا أن المحكيات الشفهية اليومية لا تحتاج قاموسية ومرجعية خصبة، ولا إلى مصدرية مسندة، ولا إلى معرفة واسعة ودقيقة بمكوناتها، وإنما كل ما تحتاجه إلى جس نبض الشارع اليومي بما يجس به من مشكلات اقتصادية ونفسية فتروح مؤلفة حولها نكات أو أقوال هي بمثابة الإسناد الفعلي لشيوعها، وغالبا ما تكون مادة الإسناد هذه إشاعة أو محاولة للدلالة على وضع سلطوي شاذ، أو تشخيصها لظاهرة سوقية – اذكر أن معد برنامج شعبي ويومي كان يتفاخر أنه يستلم مادة برنامجه اليومي من استعلامات القصر الجمهوري. مما يعني أن توسيع مجال النكتة اليومية الدالة يأتي من خلال الكلام المعبر عن حال، وعندما تصبح الحال معروفة، تتحول إلى كيان قابل للانشطار والتوسع والتغيير وتبديل الألفاظ، وإسباغ معاني عدة وهنا يأتي دور الراوي في الإضافة والتجديد.

*



صورة مفقودة
 
2 ـ 3
لم يكن المتلقي – المستمع – وهو الطرف الثالث الذي يشترك في عملية الإنتاج والتسويق للنكتة ببعيد عن المنهج، فالمستمع منتج كلامي، بينما الراوي منتج حالات، والجهة الممولة للحالات منتجة أسواق، بمثل هذه المعادلة الاقتصادية تجد المستمع يوسع من دائرة انتشار النكتة لأن بضاعته الكلام، والكلام ألشفاهي في أكثر الحالات. مثله مثل المنتج المحلي للسلع، يشتري المادة الأولية من السوق ثم يعيد تصنيعها بما يتلاءم وحاجة السوق اليومية، والفترة المعنية هنا، شهدت، خاصة خلال الحرب وبعدها، نموا غير منطقي للسلعة المحلية والمصنعة بمواد مستوردة ومحلية، ومعدة بأدوات أقل جودة. مما مهد لظهور صناعات محلية بعيدة عن الرقابة وعن المسؤولية، فكما أن النكتة لا تخضع لمعايير كلامية ثابتة، لأن هدفها ضرب الأخلاق والبحث عما يضحك من خلال المفارقات. خضعت السلعة المصنعة محليا إلى مثل هذه المعايير فكانت كل ابتكارات السلعة نكتة، وكل ابتكارات النكتة سلعة، وكلتاهما تدور حول محور واحد، أخذ بعد انتهاء الحرب بالاتساع والتكرار حتى إذا ما نشأت حرب الخليج، وجدناهما معا يتسيدان الشارع السلعي والكلامي، فالتجديد سواء بالسلعة أو بالنكتة كان يتم بالأغلفة والكلمات وليس بالمادة والجودة (كتب أحد الصحفيين حول الأسماء الكثيرة التي تعلنها مؤسسة الزيوت النباتية عن أشكال الصابون الجديد، وظهر بعد التحقيق أن المادة المستعملة في صناعة أنواع الصابون هي نفسها، أما المتغير الوحيد فقد كان هو الأسماء والأغلفة).

الثانية: هي أنني سمعت ودونت عددا كبيرا من هذه النكات، وبخاصة التي قيلت في السنوات العشرين الأخيرة، لاهتمامي الأساس بالمسرح، وبالمسرحيات المعروضة، فوجدت أن هذه المسرحيات أجهزة إعلامية لتسويق النكتة السمجة والبذيئة، فكانت تتم أول الأمر بلغة أشارية، ثم تحولت إلى لغة كلامية، حيّية أول الأمر، إلا إنها أصبحت مادة أساسا من مواد بناء العرض المسرحي، فالألفاظ تتحول إلى حركات، واللغة الإشارة تصبح دالة على الجنس، والشكل العام للعرض يستهدف الإضحاك، وقد استعار المسرح العراقي بعض هذه الظواهر من المسرح المصري التجاري حتى تحولت بفاعلية الفن ألشفاهي إلى علامة من علامات العرض الناجح ماليا، ثم وجدت هذه المظاهر في بعض الكتابات الصحفية والفنية، ولم يقف الأمر على العراق وحده، بل إن هذه النكات قد وجدت طريقها إلى مشرق الوطن العربي وإلى مغربه، كما أصبحت مادة يتداول المغتربون، رسائل وكلمات ثم يضيفون عليها وتناقلتها الألسن بلغات أخرى، حتى غدت رديفا شعبيا لكل حديث.

إن تسويق النكتة الفاحشة كان يتم من خلال غض النظر عنها إما من خلال الرقابة أو الذوق العام، وهذه الحساسية المفرطة بالسماح ما كانت لتجد حضورا لها على المدى الثقافي لو لم تكن هناك أرضية نفسية وصلت إليها فئات عدة من الشعب، هذه الأرضية القلقة التي تجد في بعض مظاهر الإضحاك تسلية عابرة وتفريغا آنيا، إنها أيضا سلعة يومية يجري تصديرها للسوق المحلية سرعان ما يعاد تشكيلها ثانية بأطر جديدة. وكانت الخاصية المنهجية لمثل هذه الثقافة أن انقلابا كلاميا جرى على ألسن بعض الناس من شأنه أن يعيد لنا تصورات ساذجة قديمة عن الجنس، وغايتها نشد التحول السيكولوجي الذي يعوض الناس عن الأحزان والمصائب. فبدت جزءا من ظاهرة اجتماعية؛ ثمة موت على جبهات القتال، وفي الداخل مسرحيات الإضحاك العام. (يحدث أحيانا أن يتحول مجلس العزاء إلى مكان للتندر والضحك). فالمزاج الشعبي، وهو من أكثر الخصائص الاجتماعية رسوخا وثباتا، يتعرض إلى هزة داخلية مدخلها اللسان وعناصرها الجنس المبتذل، فالظروف الموضوعية وإن أسهمت في تفجير مثل هذه الظاهرة، إلا أن الظاهرة نفسها كانت مغطاة بأفعال اجتماعية كبيرة، أفعال النضال ضد الاستعمار، أفعال التنمية، أفعال بناء النهضة الجديدة، أفعال حركة التحرير العالمية، أفعال بناء المجتمع الحديث.. وعندما غابت كل هذه الأفعال، وجدت الساحة الفارغة وكان على المعنيين أن يملأوها بثقافة يومية عابرة واستهلاكية.

النكتة لغويا هي “اللطخة السوداء على الصفحة البيضاء” وهذه الثنائية: السوداء / البيضاء تعطينا تصورا بالمفارقة. فاللطخة / النكتة، لا تعني الكلام، وإنما علامة على وجود خلل ما في تلك البقعة البيضاء. وقد استعارها القاص محمود أحمد السيد في قصته “نكتة الصحافة” مضمنا إياها المعنى اللغوي هذا، إلا أن التفسير الشعبي أحالها إلى إساءة. فعندما نبّه أحد الجلساء بطل القصة الذي يرتدي العمة فوق رأسه، بوجود نكتة ما عليها، غضب الرجل وحسب ذلك أن فيه أو في أسرته خللا. وكان السيد في قصته يريد إظهار المعنى المزدوج للنكتة، وهي الكلام السيئ، واللطخة في الموقع المناقض لها. وكان مفهوم العمامة شعبيا، يعني موقعا اعتباريا ودينيا فهي علامة دالة على المركز الاجتماعي والديني معا.

يدلنا المعنى المزدوج للفظ “النكتة” أن النكتة بشكل عام تدل على الإساءة، ولو أن الباحث الأستاذ بوعلي ياسين لا يرى ذلك دائما، بل يرى فيها جوانب تربوية وأخلاقية وإصلاحية، إلا أن النكتة بعامة تجعل من مفهوم الإساءة بنية قارة لها.

من يا ترى يستطيع الإساءة؟ وما هي الأدوات التي تنفذ بها هذه الإساءة؟ وما هي الكيفية التي تصاغ بها مفردات الإساءة، ثم ما هي الغاية من وراء إشاعة النكتة في ظرف معين.
في المفهوم العام لمن يستطيع الإساءة، هو من يمتلك قوى مادية يستطيع بوساطتها أن يؤلف أشكالا من الدعايات والمانشيتات لتثبيت كيانه، وإشاعة الخلل في خصومه أو أعدائه، ونلاحظ هنا، أن طرفي النكتة الفاحشة، غير حاضرين باستمرار في لحظة سماع النكتة، وإنما هما كيانان يتضاربان بالسلطة والمال والفكر والثقافة والجاه، ومن يستطيع تجنيد وسائل إشاعة النكتة وذيوعها بسرعة ودقة ولباقة يمتلك حضورا في ذهن الناس، هي إذن جزء من آلة اقتصادية تستخدم لأغراض تسويقية معينة وخلفها جنود مجهولين يعدون لها الإعداد الكافي.

كتب أحد الصحفيين مقالا قال فيه “إن – فلانا – ويقصد به رئيس دولة حديثة – عاد إلى بلاده على طائرة (الإير فرانس) وكان يقصد بالمعنى المزدوج للفظ (اير) إشارة إلى ما يشم منه الإساءة لهذا الزعيم وشتمه بطريقة بذيئة مستخدما لغة (علامة) لشركة الخطوط الجوية الفرنسية دالا به على هوية سياسية هي غيرها المعنية باللفظ (اير)”.

جرى تسويق هذه النكتة خلال الحرب، وكاتبها أحد المسؤولين الإعلاميين الكبار.

يدلنا المعنى المزدوج – وسنأتي على مفهوم الازدواج في مجال النكتة وفق مفهوم علم النفس – إن بنية الإساءة كامنة في كل نكتة حتى لو كان كلامها ومفرداته لا تعني الإساءة المباشرة. وقد تكون هذه المفردات فاعلة سلبا في سياقات مؤولة أخرى يترتب عليها أحيانا مواقف مأساوية – وفي قرانا العراقية حوادث دامية كثيرة حدثت جراء التفسيرات المختلفة للنكتة.

يفصح المعنى اللغوي للنكتة الفاحشة – البذيئة أنها معنية بالأفراد والجماعات معا، والنكتة التي سادت العراق خلال العشرين سنة الأخيرة محورها الأفراد والجماعات لاعتبارات تتصل بحداثتها، حيث ارتباطها يتم دائما بنموذج غير محدد ويتطلب زمنا كي يصبح خاصا بفئة أو بشخص معين، ففي المرحلة التي يتحول فيها السلوك الفردي إلى نمط يكون قد دخل مرحلة التصنيع والتسويق وبالتالي قبوله من قبل المستهلكين – المستمعين كفئة مستقلة – إلا أن مثل هذا لم يكن متكاملا وإن حدث ما يشبهه، لأن التداول ألشفاهي للنكتة لم يكن سلوكا يستوجب التوثيق، وعندما اتسعت دائرة حضورها ألشفاهي أصبحت متمحورة حول إشارة معينة أو علامة يمكن أن تؤدي وظيفة لسانية، فالكثير من النكات الفاحشة – البذيئة كانت تدور حول الجنس المذكر وارتباطها علاماتي بهيأة إرشادية دالة على الذكورة المنتهكة، ليست إلا وعاء شكليا للنكتة، فالنكتة بما ترمي إليه تتجاوز الأسماء والحالات لتصبح إعلاما للتسلية، وتفكها لحال مأساوية لم يجر تجاوزها بالأوضاع الحالية، إنها تفصح عن معاناة مبتكر النكتة وليس عمن تجري تسميته أو الإشارة إليه. فهدفها المباشر هو إما النكاية بأحد أو جهة ما، أو للحديث العابر واللامترابط الذي يصاحب جلسات الخمر، أو لأنها الأسلوب الأكثر شعبية وفهما من الجميع عندما يعوض الفاشل عن فشله بإلقاء النكات، وعموما فهي أداة تسلية تصاحب المواقف الخاسرة دائما، وقلما حكيت لذاتها، أو لجزء من بنية ثقافية مقصودة. ولذلك لن تجد مثل هذه النكات شيوعا إلا في الأوساط التي تشخص الخلل، أما الحال التي انتشرت فيها في العشرين سنة الأخيرة فقد كانت مختلفة. حيث أن الراوي – المؤلف في أحايين كثيرة – والسامع يتقاسمان النكتة رواية وتأليفا. بمعنى أنها خرجت عن إطار مصدرية ما، فأصبحت قولا متداولا، وسلعة يجري كساؤها كل يوم بأثواب جديدة. فقد يكون مصدر النكتة عباسيا أو معاصرا، وقد يكون بيت شعر قديم أو حديث، أو قطعة نثرية من الليالي أو من أي مصدر آخر، إلا أنها لن تكون عند استعمالها شفهيا في الوقت الحاضر إلا ابنة اللحظة نفسها. لذلك لا يصبح التدوين لمثل هذه النكات مصدرا ثابتا لها، وإنما عدم تدوينها يتيح المجال لأن تتجدد وتنمو وتتغير.

إلا أن عمق الإساءة الذي تحمله النكتة يكمن في الموقف الديني منها “ولا تنابزوا بالألقاب” و”بأس الاسم الفسوق”. والدين هنا بمعناه اللغوي القرآن، واللغة العربية معا. فكلاهما مبدأ صياني اعتمده الإسلام كجزء من عقيدة بنائية كاملة: الدين بتعاليمه، واللغة بوصفها لغة القرآن. ولم يجر تخريب اللغة بالعامية إلا في فترات الانحطاط.. النكتة بطبيعتها جزء من عامية اللغة، لذلك توجب إدانتها دينيا ولغويا.

النكتة الفاحشة، من المحرمات اللغوية والدينية معا. ولذلك يعد تداولها علانية خرقا لهذين المبدأين. فألفاظ مثل: الزنا، الفجور، الفسوق، اللواط وغيرها جرى تحريمها لسانيا وسلوكيا، والجذر الديني واللغوي لها يرتبط بالنجاسة وبغير المقدس مما يعني أن أي استعمال لغوي لها يعد انتهاكا للطهر والعفة والمقدس، وبالتالي للعرف والتقاليد والعادة، وثمة واشج سلوكي بين العرف والمحرم، وبين الزنا والفحش. من هنا اكتسب المفهوم اللغوي قدسية معلنة ومضمرة معا، وأصبحت ممارستها عقوبة يطالها القانون ويدان مرتكبها وإن كانت كلاما غير مدون. فالمحرمات اللسانية والدينية معا لا تكتفي بأن تدان دوقا وسمعا وعرفا، وإنما تدان لأنها ترتبط بجذر ديني ولغوي يتجاوز اللغة والعادة إلى جوهر فعل المسلم في الحياة، ولكن هل كان منتجو النكات الفاحشة ومروجوها على دراية تامة بتحريمها دينيا ولغويا؟.

إن إحدى ظواهر السوق اللامراقبة، تنتج بضائع لا تخضع لمواصفات السيطرة النوعية وقياساتها. وكان الوضع القانوني يلاحق مثل هذه البضائع، وبالتالي فإن قوت الناس محمي بفعل قوة القانون، ولكن عندما جرى اختراق القانون بالتحايل عليه، اخترق الدين كذلك واللغة المسوقة بها البضاعة، فما تبيحه ظروف الحروب والكوارث مؤقتا لا يمكن أن يصبح قانونا من قوانين السوق إلا متى ما أصبحت الحاجة أكبر من المعروض. وما حدث خلال أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من مظاهر السوق السوداء كثير جدا. فقد انتشرت البضائع غير المصنفة والمجهولة المصدر، ورافق هذا الإنتاج لغة هي الأخرى نتاج لهذا الوضع مادة الكذب والتزوير، وتغيير تواريخ الإنتاج والانتهاء، وتبديل الأغلفة، وخلط المواد – لجأ بعض تجار السوق السوداء إلى خلط السكر بالملح، والرز بالحصباء، والشاي بالخشب المحروق، والسجاير بالحشيش.. الخ.

كما لجأ البعض إلى تغيير منشأ البضائع، وتغطية الرديء منها بقطع جيدة، وفتح أسواق بعيدة عن الأسواق المعروفة، وتوسيع قاعدة البيع بالجملة والمفرد معا، ولم يقف الغش والتزوير عند حد، فقد طال مواد عدة لسنا بصدد التعريف الموجز بها هنا. فكيف لا يكون المجال فسيحا أمام اللسان والفحشاء، والغش كجزء من بضاعة يومية يجري تداولها وتسويقها ما دام كل شيء خاضع لقانون الحروب وكوارثها. إن الدين بمعناه الإنساني والقانوني، يجري تجميده على مستوى العامة، في الوقت الذي يجري توظيفه على مستوى الخاصة (أفتى أحد خطباء الجمعة في الجوامع، بجواز الزكاة والخمس على الموظفين). وكان ذلك إيذانا بالتضرر الذي لحق هذه الفئة الاجتماعية الواسعة من الناس، مما يعني أنها الشريحة الوسطى التي تضررت بفعل الحرب وبفعل تجار السوق ومتلاعب السلع واللسان. ففي الوقت الذي يجري استخدام الدين وسيلة لمحاربة الكفار، وشعارا رسميا للدولة، تجري على مبعدة من مراكز الدولة، تسويغات لبضائع مهربة وغير مرسمه، وذات مناشىء عدة، وبنوعية رديئة.. مما اضطر لاحقا لأن تكون ثمة عقوبات صارمة، إلا أن الظاهرة نفسها لم يقض عليها، بل وجدت سبلا أخرى للانتشار.

ماذا بقي إذن” سوق ببضاعة مزورة، وثقافة جيدة متنحية عن الممارسة والإنتاج، ونكسات تملأ اللسان والذاكرة، ومسرحيات مليئة ببضاعة لسانية رديئة.. وتهديد مستمر.. وقانون سلامة اللغة قد جمد وأهمل، وبدلا من مؤسسة كاملة له، أصبح مديره يحتل غرفة صغيرة في جسد أعلام الدولة. إذا ما الذي جعل من قانون سلامة اللغة العربية – وهو قانون تقدمي كما أعتقد – منحيا ومشلولا عن ممارسة دوره، بعدما كان القائمون عليه يستثيرون حقا وغضبا تجاه القصيدة الشعبية والمسرحية التي تعتمد لغة جنوبية، والأغنية التي تردد مفردات شعبية مألوفة “مثل يا دادة مثل الماي طب وطلع” وقد فسرتا تفسيرا جنسيا، بينما كان الشاعر الشعبي يمثل الحبيب – على لسان حبيبته – بالمد والجزر في أنهار الجنوب، لأنه يأتي ويذهب بلا موعد محدد. إن إغماض عيني قانون سلامة اللغة كان أحد أهم الأسباب التي جعلت الجهات المعنية لاحقا توغل في استعمال الأشعار الشعبية والحسجات، والهوسات لأنها لسان العامة من الناس، أولئك الذين لا يستقيم الوطن إلا بشهامتهم.. إن مبدأ (العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق). ينطبق تماما على فكرة ومبدأ إزاحة وتمجيد قانون السلامة اللغوية، بعدما أصبحت النكتة الفاحشة جزءا من ثقافة المسرح التجاري المبتذل، وبعدما اعتمدت اللهجة البغدادية في الأعمال الدرامية والإذاعية والتلفزيونية، بديلا عن لهجات الجنوب والشمال.

وفي العمق من هذا التحول، جرى اعتماد توزيع سوسيولوجي – سلطوي لمدن العراق، فقسم العراق إلى مدن البادية، ومدن الريف، واعتبرت مدن البادية هي المدن التي تقود، لغة ودينا وعسكرة، بينما تبقى مدن الريف، والمدن العراقية الممتدة من جنوب بغداد وحتى البصرة مدنا ريفية، أي تقاد من قبل الآخرين، معتمدين هذا التقسيم بدافع حضري – ديني، يمتد شأنه إلى زمن قيام الدولة الإسلامية. ولذلك لا يسود لغة إلا اللغة العربية، لغة البادية وتقاليدها وأزيائها، وبالتالي خصوصيتها السيكولوجية والاجتماعية، ومع أن تقسيما كهذا لم يوضع موضع التطبيق بفعل ما آلت إليه الحرب من متطلبات، جمد هو الآخر، واتجهت عجلة الثقافة إلى الجنوب مستنهضة فيه هوساته وأهازيجه وأغانيه، وتقاليده، ولكن عندما استمر الجنوب بالنهوض محاولا رفض تدجينه، قمع بفعل وقوة السلاح وعمق اللغة والدين معا، ثم ارتبطت كل النكات البذيئة والفاحشة بمدن الوسط والجنوب.

يمدنا هذا التصور أن إنتاج مرحلة ما من مراحل تقدم المجتمع يمكن إلغاءه أو تجميده أو تنحيته أو ترحيله ولو مؤقتا ليحل محله إنتاجا آنيا وذا هدف محدد، وعندما تطور مرحلة الطوارئ هذه، يصبح إنتاجها الآني، إنتاجا أساسيا، بل وجزء من هويتها التي تبدلت هي الأخرى وأصبحت هوية خاصة. فالدعوة إلى الخصوصية الفكرية واعتماد الطريق الواحد في الفكر والعمل، وتخطئة الآخرين مهما كان فكرهم، ما هي إلا نتيجة التراكم من الأفعال والخطط الآنية، والتي تسبب العزلة والقولبة ضمن مفاهيم تتأرجح بين الدينية والعشائرية، ومن نتائج هذه العزلة – مهما كان شكل النظام أو الدولة – أن تنشئ حروبها الداخلية والخارجية.

إن من عايش مخاض السنوات العشرين الأخيرة في العراق، يقف على مقولات كانت المحرك الأساس في الأفعال التي حدثت لاحقا. مثل: البقعة المحررة، الطريق الخاص، الأيديولوجي الشاملة، الحزب الواحد.. الخ. مما يعطينا تصورا أن البنى الكبرى للمجتمع مثل الدين، اللغة، التراث، التاريخ، الماضي، الحاضر، الثروة الوطنية.. كانت تصور أنها مهددة بالانزياح والتلاشي لولا وجود فكر قومي خاص يصونها ويحميها وبالتالي يبرزها كقوة فاعلة ليس في المنطقة العربية فقط، وإنما في العالم. ولذا فالتمسك بالخصوصية المحلية – التراثية – لا سيما إذا ما أسندت بثروات طبيعية وبشرية – يصبح مبدأ صيانيا. وضمن هذا التصور فان العدو الذي يهدد كيان مثل هذه الدولة، مهما كان، يستحق أن يقال عنه، إعلاما وثقافة وفكرا بما يؤكد هويته التدميرية، وقديما كانت المؤسسة الحاكمة في عصور الدولة الإسلامية تنعت كل حركة تخرج على نظام هذه المؤسسة، حتى ولو كانت دعوتها باسم الدين وشرائعه نفسها بالارتداد والزندقة والكفر والمروق. تتعمق الظاهرة اللغوية للنكتة لتصبح جزءا من هوية فردية مرضية، فالثقافة الشفهية والنكتة جزء منها، هي محصلة لا واعية لتفاعلات البنى المجتمعية كلها. وما ظهر منها بأشكال مختلفة، ليس إلا تمظهرات هذه المحلة ثقافيا. فقد تكون مقبولة في مرحلة، ومرفوضة في مرحلة أخرى، وما الانتشار الذي يصاحبها إلا تسوق ممنهج، مهما كان المحرك الفاعل لها. ولذلك لا تعني البذاءة التي تحملها النكتة الفاحشة – البذيئة انحطاطا وتخلفا للثقافة الشفهية فقط، وإنما انحطاط وتخلف للبنى العقلية التي تسوقها وتصنعها ثانية.
وهذا الشكل الذي يظهر بكلمات يومية وعادية ومنفتح على التوسع والزيادة والنقصان وله قدرة ذاتية على التناسل والتكرار والاستنساخ والتحوير، إلا شكل مرضي من أمراض الأفراد – لا الجماعات. ولهذا السبب يجري ترحيل النكتة – كأي سلعة – من بلد إلى آخر، كأن تكون النكتة مصرية أو أوروبية، ولكنها بعد التحوير وملاءمتها للواقع المحلي، تصبح خليجية أو عراقية أو سورية، فالثقافة الرديئة لا تعرف إلا أشكالا محددة تصب فيها لسانها اليومي، وتوجها واحدا تسعى إليه مفرداتها فتصبح تيارا يجري في أعماق الأفراد، كما يجري في سواحلهم والحياة العادية، وخلال جريانه ينتج أشكالا مشوهة من الأداء: اذكر أن رقصات شبه ماجنة كانت تعم الأوساط الشعبية شبه المغلقة لشباب طويلي الشعر، ويرتدون ملابس غريبة، ويشربون المخدرات.. تسمى هذه الرقصات – البريكية – ولعلها إعادة لأشكال من الرقص الرجالي الذي كان سائدا في مناطق الخليج وجنوب العراق – الشدات الليلية - . إن عودة لهذه الأشكال قد سادت السنوات الأخيرة من الحرب، إن الثقافة لا يمكن لها أن ترى بمعزل عن تياراتها العميقة والضحلة معا.

ضمن هذا الإطار الواسع والمتجدد، تصبح النكتة الفاحشة – البذيئة مرتبطة بسيكولوجية اجتماعية – فردية أعم. وهنا نجد تداخلا بين فاعلية اللغة، وفاعلية الوضع النفسي.

إن النكتة هي نتاج بلاغي للخطاب، هذا ما تنادي به اللسانيات الحديثة. وبما أنها تندرج ضمن الكلام ألشفاهي فهي تؤكد على أهمية اللاوعي في السلوك، ويرى فرويده “إن الجذر المزدوج للمتعة الروحية، هو اللعب بالكلمات واللعب بالأفكار” ومن شأن هذا اللعب هو “التمييز الأساسي بين النكتة اللغوية والنكتة العقلية”. وبما أن جانبا مهما من الطب النفسي يعتمد على التداعي الحر للكلمات خاصة في حلمي اليقظة والنوم، فقد اعتمدت النكتة القائمة على اللغة بوصفها طريقا ومدخلا لمشكلة المريض نفسيا، ولارتباطها بالكلام العادي والحر الذي يأتي عفو اللسان، ومن هنا نجد فرويد يقسم النكتة اللغوية إلى ثلاث مجموعات.
المجموعة الأولى:
هي التي تنشأ النكتة فيها من خلال اللعب بالكلمات نفسها، كأن تغيّر من نطق بعض الحروف، أو أن تستبدل حرفا أو أكثر بآخر، أو أن تقدم كلمة وتؤخر أخرى. وقوة وقبول هذه النكتة يعتمد على حسن الأداء بالدرجة الأولى، لأن التلاعب بالكلمات والحروف يحتاج إلى ضبط دقيق وأداء يبلغ حد الإضحاك عند سماعه. وتوسع هذا النمط من النكات عندما يمزج بين كلمتين أو أكثر، أو بين أنصاف وأرباع الكلمات مما ينتج لفظا غريبا مستهجنا وغير مستهجن.
لعبت النكتة الفاحشة – البذيئة، على هذا النمط من البناء اللغوي وكانت تخفي مقاصدها خلف تداخل الحروف والكلمات فظهرت أغان على اللحن نفسه الذي تؤدى به الأغنية الأصلية، إلا أن كلماتها كلها أو بعضها فاحشة وبذيئة. وتعد الأكلة الشعبية المغربية “الكسكسى” لفظة ذات معنى جنسي في المشرق. ولفظ “الصمون” في المشرق يعني الخبز، بينما يعني في المغرب لفظا جنسيا... الخ.

المجموعة الثانية: تعتمد النكتة فيها على كلمات ذات معنى محدد، ما أن يجري تداولها حتى يستدعي المعنى الإشاري لها، وقد حذف الإسم السادس من الأسماء الستة، وبقيت أسماء خمسة، لأن اسم “هنوك” يعني هوية جنسية للمرأة، كما تعتمد المفارقة بالكلمات بين اللغات الأجنبية والعربية مادة للإضحاك، فما أن تنطق كلمة بالعربية فإذا بها تعني معنى آخر في اللغات الأوروبية. وكل ذلك بشأن اختلاف اللهجات في البلد الواحد خاصة إذا ما ارتبطت الكلمة بعادة ما. وفي كل الأحوال تعتمد هذه النكتة على الكلمات المنطوقة، أي أن النطق يصبح هو الصوت الدال على المعاني المفارقة. وفي العراق لمجرد ذكر رقم خمسة فإنه يثير لدى بعض الأوساط نمطا. سئل (....) عن تصوره لقرار مجلس الأمن الخاص بوقف القتال وهو القرار رقم 598، قائلا أن بدايته تبشر بخير، (أول الرقم بالنسبة للنكتة هو 5).

المجموعة الثالثة: تعتمد النكتة فيها على وجود كلمات متضادة المعنى في النكتة الواحدة وفي اللغة المنطوقة نفسها، مما يثير ضحكا على هذه المتضادات. والتضاد هو أسهل أنواع الكشف عن المقصود في اللفظ، فقد يكون التضاد لفظا أو معنى – كما يلفظ الأخوة المصريون لفظ “تنح” وتعني عندهم المعاندة بينما لا تعني كذلك في أمكنة أخرى.

ازدواج فياحشة جزء من التركيب اللغوي، ولا شك أن التباين بين اللهجات والعادات هو الذي يعطي معاني شعبية لعدد من الألفاظ، وذلك يعود إلى تفشي العامية بين الشعوب العربية، والأسماء المزدوجة المعنى حتى لو لم تكن جنسية فهي تثير الإضحاك، وللازدواج ثلاثة أنواع. ازدواج في المعنى، وازدواج في اللفظ، وازدواج بالأشياء أو الأسماء. وكل هذه المزدوجة تستبعد قصديه الإساءة أو السخرية.

إن الدلالة الأعمق في تركيبة النكتة سيكولوجيا أنها تصبح جزءا من حال أعم، وهذا التعميم مرضي ولا شك وإلا لما ساد هذا النوع من التنكيت. والحال المرضية المعنية هنا، هي الخلل الواضح في التركيبة الاجتماعية – النفسية، والذي يعكس اضطرابا في القيم والمثل والسلوك. ولا ينشأ مثل هذا الخلل المرضي إلا في الوقت الذي تضطرب العلاقة فيه بين الإنسان وحاجاته اليومية والمتغيرات السريعة التي تحدث في السوق أو في الأفكار. ومنها التبريرات التي يسوقها الإعلام المرئي والمسموع لعدد من الظواهر، مما يعني أن هيمنة اقتصادية – أيديولوجية قد مارست دورها على تفكير الناس. النكتة الفاحشة والسمجة ليست مقصودة لذاتها، وإنما نشأت من هذه المفارقة بين الناس وحاجاتهم، الناس والأفكار التي تضخ لهم يوميا، وقد تبدو انعكاسا مباشرا لمثل هذه الأوضاع الشاذة، إلا أنها في حقيقة أمرها جزء من بنية الخلل نفسه، لذلك لا يصح القول أن شيوعها داخل على ضياع دين أو خلل ما في الأخلاق العامة، أو تبدل مقصود في لسان الناس. وإنما هي إحدى النوافذ التي يصرّف المجتمع فيها قذارته اليومية، إنها إفراز مدينة وسوق وإعلام، ولذلك نجد أول من يتأثر بها هو كلام الناس اليومي، ولكن تراكم هذا التأثير قد يخلق حالة من تركيب لساني أعمق، عندئذ يحدث ما كان محظورا، أي أن يصبح الكلام السمج كلاما لعدد كبير من فئات الناس فتصبح لغة تداولية ولو كانت محدودة، خاصة إذا عرفنا أن الأسيجة بين الشارع والمدرسية ليست مرتفعة بالدرجة التي تمنع تسرب الانتهاكات اللغوية. والكثير من الآباء يشكون من أن أبناءهم قد تعلموا كلاما بذيئا ورديئا عندما دخلوا إلى بعض المدارس الشعبية، في المناطق الشعبية. فكيف إذا انتقلت الحال المرضية إلى وسط ثقافي مثلا، وجرى تداولها كتابة ونصوصا ممثلة ومرئية، وهذا ما وصلت إليه بعض عروض المسرح التجاري الهابط.


* ياسين النصير
في سوسيولوجيا النكتة الفاحشة
 
3 ـ 3

والكلام الفاحش عندما يستعمل فنيا لا يصبح نكتة، وإنما تكوينا مشخصا لحال. هذا ما لجأ إليه الشاعر مظفر النواب في بعض قصائده، لكننا لو أمعنا النظر في هذا النمط من الثقافة، لوجدناها معبرة عن حال اليأس الذي وصلت إليه الجماهير، فلا تملك إلا لغة الشتائم والفشار. “هل كانوا لوطيين بمحض إرادتهم كلاءات القمة”.

وفي الآداب العالمية الكثير من هذا النوع الذي يحمل السخرية المريرة من أوضاع، ولم يجر أن استخدم الجنس غاية لذاته في أدبنا العراقي، ولذلك يعد البعض أن هذا الأدب يفتقد الطراوة والليونة، ليس لعدم استخدامه موضوعات الجنس والسياسة مثلا، وإنما لأنه يضع الممنوعات أمام المباح له فلا يجد فجأة للكتابة إلا عن تلك الزوايا التي يختلط فيها الليل بالنهار، فتأتي رمادية الكتابة مهربا من المباشرة والإدانة.

وعبثا نحسب العمق الشعبي في النصوص الأدبية يأتي من مصدر استخدام اللهجات السمجة والمرفوضة، لقد عرض أدبنا الكتابة عن حالات شعبية مليئة بالسوءات: النخلة والجيران لغائب طعمة فرحان، والرباعية لشمران الياسري. إلا أن هذه الكتابات لم تكن كافية لتغطية أوضاع مرتكبة تحتاج إلى مبضع أدق لمعاينة الواقع المختفي تحت القشرة الاجتماعية الخارجية.

لقد غابت عن أدبنا العراقي، الشعبية بمفهومها الواسع، فهناك حقول قول كثيرة لم يتطرق إليها: منها التباين باللهجات المحلية – كتب الروائيين اليهود العراقيين: سمير نقاش، رواية باللهجة العامية الموصلية فلم أفهم الكثير منها. لكنه اخترق حاجزا مهما، وكشف عن غنى هذه اللهجة في استيعاب مادته. كما غاب الجنس بمعناه الإنساني والاجتماعي ولم تعد كتابات حسين مروان الشعرية والنثرية إلا محاذية لهذا الواقع لأنه اختار المرأة، وبقي ضمن دائرتها. كما لم تعد قصائد “الأيروتيكا” التي كتبها سعدي يوسف وآخرين إلا ملامسة خارجية للمرأة غير الشعبية فبقيت الكتابات ضمن حدودها الثقافية.. وغابت عن أدبنا حقول أخرى: العادات والتقاليد الشعبية، الاحتفالات، المظاهرات، الثورات، الانتفاضات، الأعياد، المثيولوجيا الغارقة في الوجدان الشعبي، المياه.. والبلد منقوعا كله بالماء.. كما غابت التعازي الكربلائية وأعماقها الشعبية، والملاحم المنسوجة حول الفداء والتضحية وغاب المطر إلا من قصيدة رائعة للسياب.. وغابت لذلك مواسم الحصاد والزرع وصيد الأسماك والسفر والملاحة، والطبخ والأزياء والحب.. ترى هل نستطيع بعد ذلك الحديث عن أدب اقترب من الشعب ومجالاته.

اذكر هنا، رواية رائعة – آخر الملائكة – لفاضل العزاوي، فهي النص الروائي الوحيد الذي أنهض مثيولوجيا المدن والقرى ليصب في قالب فني معاصر تمكن من خلالها عن تاريخ المدن والناس معا.. ولكنها تبقي عملا مفردا.

سقت هذه الأفكار حول أدبنا العراقي الحديث لأصل إلى نتيجة أن نقرأ بالحساسية الاجتماعية المتغيرة والثابتة، هو ما حدث لكتابنا في الأدب. فالمزاج الشعبي العام يتسم بالجهامة والجدية والحدة، وهذا يعود إلى سرعة التغيير في كل الميادين. إذ لا تستطيع ملاحقة ظاهرة ما حتى يأتي نقيضها بعد سنة أو سنوات عدة.. إن مبدأ التراكم، وهو المبدأ يمنح الثقافة عمقها وحسها الشعبي. من هنا نشأت السخرية والسماجة واللعب بالكلمات والإشارات والتنابز بالألقاب، كجزء من وضع متغير وسريع التقلبات.

ترتبط الفحشاء والبذاءة لسان، بالنجاسة اللفظية، وقد يكون مصدر ذلك مصدران:
الأول، إنها كلمات دالة على مواطن الإفرازات الجسدية وهذه الحال تتطلب معاينة أدق – إذ لا يمكن اعتبار الجسد نظيفا ومطهرا إلا بعد اغتساله بالماء، وذلك يعني أن للإفرازات: الدم، البول، الغائط، ولحد ما البصاق والعرق، طابعا نجسا.

الثاني: أن الارتباط بين اللفظ ودلالته، يعطي للفظ سمة تحويلية من الصوت إلى المعنى. وهذا ما يلجأ إليه المسلمون مثلا مرافقة عملية الاغتسال بتلاوة كلمات دينية.

في ضوء ذلك تصبح الألفاظ المتعلقة بالنجاسة نجسة أيضا، النكتة الفاحشة – البذيئة، جزء من هذه الألفاظ، لا لأنها مكروفة لفظا ومعنى فقط، وإنما لأنها ترتبط بمواضع النجاسة من الجسد.

وتشترط النظافة – نظافة اللسان، نظافة الجسد، إذ لا يصح أن الإنسان نجسا ويتعبد مثلا، أو نجسا ويدخل جامعا أو مكانا للعبادة، فالنجاسة تعني دائما – في الوقت الحاضر في الأقل ضد الدين، فقد كانت سابقا محببة من بعض الأديان، خاصة فيما يتعلق بالعبادة الخاصة بالحيوانات والتضحية بالدم، وهذا موضوع آخر. ونظافة اللسان، هي نظافة جسدية قبل أن تكون نظافة للجسد، ولكل عضو من أعضاء الجسد الإنساني طريقة خاصة لتنظيفه.

وعند تقليب الظاهرة، ظاهرة العلاقة بين نظافة اللسان ونظافة الجسد، نجد أنفسنا منساقين إلى القول، أن كل ما يخرج من الجسد الإنساني، لفظا ومادة نجسة (لاحظ العلاقة السابقة بين الألفاظ المحددة بالنجاسة فقط). وأنها تخرج من – داخل إلى الفضاء – خارج، ولأنها كذلك فقد تحوط الناس والمجتمع من هذه الفضلات. فخصصوا لها أمكنة تحميهم من آثارها اللاحقة، ألا يعني تداول النكتة الفاحشة سرا، وعلانية محدودة، ولا تدون ولا تنشر ولا يجري تسويقها علانية – بمثابة فضلات جسدية – اجتماعية يجري حجرها وإبادتها بالمطهرات والمعمقات، لأن الخارج من السعة غالبا ما يكون أكثر سعة من الداخل، ولما كانت السعة تعني الانتشار والتكرار فليس بمقدور الفرد حماية نفسه منها. وهنا تعود المؤسسات الدينية والقانونية والأعراف للحضور كقوى مانعة وقامعة للنجاسة ليس على مستوى الخارج فقط، والداخل أيضا.
ونعود لتقليب الظاهرة مرة ثانية، فالنجاسة لفظا وجسدا مرتبطة بما هو أرضي، بينما النظافة مرتبطة بما هو روحي – سماوي (علاقة الروح بالسماء أقوى من علاقة الجسد بالأرض، الأولى باقية بينما الجسد يفنى)، لذلك يرتبط اللفظ النظيف بالروح، بينما يمارس حضورا في الجسد، لأنه اللفظ بعد إنساني سماوي في حين لا تكون النجاسة إلا أرضية – جسدية، ولم يكتف الجسد بالكلام للنظافة، بل يحتاج إلى عوامل مساعدة أخرى: الماء، التراب، الهواء أيضا.. في حين لا تتطلب الروح إلا اللغة.

على مستوى الممارسة الأدبية، يخشى معظم العاملين في حقول الثقافة على عدم نشر الكلام الفاحش والبذيء، في كتاباتهم وفي تحقيقهم للتراث. (أذكر أن الأستاذ جلال الحنفي عندما أصدر كتابه: الأمثال البغدادية عزل عنها الأمثال الفاحشة والبذيئة وطبعها طبعة خاصة لم توزع إلا على نطاق محدود، كما عمدت أنا شخصيا عندما استمزجت الأمثال والكنايات من ألف ليلة وليلة، ونشرتها في مجلة التراث الشعبي العراقية، عمدت إلى عزل الأمثال الفاحشة، ولم أنشرها ولم أوزعها، وأعتقد أن هذه الحال حدثت مع الكثير من محققي دواوين الشعر العربي القديم وتراثه وأدبياته، والليالي وغيرها. والأمر نفسه قادني إلى أنني في هذه المقالة لم ألجأ إلى الاستشهاد كثيرا بأمثال ونكات فاحشة تسند الآراء). أخلص من هذه النقطة المحرجة في القول إلى أن النكتة إذا ما دونت ثبتت، وبالتالي قلت فاعليتها، فالنكتة ما وجدت إلا لتتناسل وتتكرر وتستوعب الجديد والطارئ، وتتابع الحالات التي لم تظهر سابقا، إن وجودها المرن مرتبط بالحركة، وما عدا ذلك فلا قيمة لها إن هي قرئت مدونة، فالزمن لا يكون لعالمها إلا متى ما تحركت فيه.

يعمق حركتها ومرونتها، كونها – أي النكتة – جزء من اللاوعي لارتباطها الأكثر بالكلام الداخلي للإنسان، كما أنها تحتوي على قدر من البدائية، خاصة فيما يتصل بفعل الإضحاك على أفعال جسدية قديمة لذا فهي تنتمي إلى أدب البواقي – إن صح ذلك – وإلى الآثار الكلامية التي ما إن تدوّن حتى تتقو لب ومن ثم تموت. وهذه الانفتاحية المستمرة على الجديد والمتطور تضمر ضمنا مبدأ إلغائها وحذفها، لا بحكم عجزها عن التطور والنمو، وإنما لأن لكل فترة سماتها الكلامية وخصائصها التعبيرية فقد ينشأ ما يخالف القديم، لا باسم المحدث الجديد، وإنما باسم مواكبة ما استجد واستحدث.. ومن هنا قل الاستشهاد بمثل هذه الصنوف من الأقوال، والذي شذب منها وبقي سندا يحتمل القياس عليه هو الأمثال والأمثال الفصيحة التي لا تخالف القرآن والسنة والشريعة والإجماع.

ولذلك تعد هذه الأمثال، إن هي دخلت مرحلة القياس بمثابة اللسان العربي الموازي للشعر. فالقرآن الكريم، وهو يضع حاجزا قارا أمام أي ابتداع أو تحوير، إنما قضى على إحالة ما يستجد في المياه إلى مثل هذه الصنوف، فكيف إذا كانت النكتة، والنكتة الفاحشة منها بالذات، فهي من الكلام الباطل والكلام الباطل هو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال الوقائع ومجالس الخمور، وكحكاية مذاهب أهل الأهواء، وحكاية ما جرى بين الصحابة على وجه الاستنقاص يبعضهم. ويفسر الغمش “بأنه التعبير عن الأمور المستحبة بالعبارات الصريحة” كما يقول الغزّالي. من هنا كان موقع النكتة أدنى من موقع الأمثال والكنايات، ولأنه كذلك كان تدوينها أشبه بالعبث.

إلا أن الأحوال لا تجري كما يريد النص السلفي ذلك، فقد تحمل النكتة بكل صنوفها بعض ملامح المرحلة، ولذلك لا تدرس النكتة بوصفها ثقافة مستقلة، أو نوعا له سماته القارة، وإنما تدرس ضمن السياق العام للمجتمع، وضمن البعد السوسيولوجي للمراحل. من هنا لا يقاس عليها، كما لا تقاس على كل المراحل.

في المرحلة التي نعالجها، وهي العشرين سنة الأخيرة، نجد أن ظاهرة النكتة الفاحشة قد ارتبطت بجملة ظواهر اجتماعية أخرى، بعضها راسخ كالاحتفالات والأعياد والمواسم، وبعضها طارئ، كالسحر، وفتح الفال والشعوذة، والضرب بالرمل، وقراءة الكف، والكشف عن الطالع، والتنجيم وقراءة الأبراج، وكتابة التعويذات والإحراز، والخيرة، وقراءة أرقام الأحرف.. الخ. وازدياد ظاهرة الغيبيات في حياة الناس خلال هذه الفترة هو جزء من بنية الوضع الاقتصادي السيئ، والغياب الطويل للأبناء في جبهات القتال، والخلخلة بين المعلوم من الأخبار والمجهول منها، وعدم التصديق على ما يقال، وتضارب الأنباء في حالات السوق والحرب، وضعف الإيمان الديني، والدعوة إلى أن ما يحدث هو من إرادة الله، وإن الإنسان في هذه الدنيا مسيّر وليس مخيرا، والتوق إلى الخلاص، خلاص الإنسان من وضعه النفسي والاجتماعي. وعموما فالشعوذة بكل صنوفها وما يرافقها من نكتة أو أقوال مشابهة بالمقصد، دال على ظاهرة الوعي المستلب للناس. فالغيبيات في هذه الأحوال، هي الملجأ لما تفعله الماديات في حياة الناس. وهنا علينا أن نفرّق بين زيارة العتبات المقدسة وطلب المراد منها، وبين الشعوذة والسحر والتنجيم فتلك ظاهرة سوسيولوجية ترتبط بثوابت دينية وتقليدية عريقة، وإن لم تخل بعض الممارسات لدى العامة من مظاهر الاستلاب، إن ما أعنيه بالشعوذة هنا، الفعل البشري القائم على الوهم، وادعاء الكشف عن الغيب والمستور، فهو لا يتوسل لتحقيق ذلك إلا برموز شيطانية وأدعية وهمية، يلجأ إليها الساحر أو المشعوذ اعتمادا على قدرة الناس البسيطة في وعي المشكلات وحصر الطلبات في مظاهر محددة نشأت ضمن فترة محددة، وفي أغلبها البحث عن أبنائهم المفقودين في جبهات القتال.

لقد شاهدت بنفسي عددا من ممارسي مهنة الشعوذة والسحر، وفي مناطق عدة من العراق، ففي بغداد شهدت ذلك في مدينة الثورة، وفي حي الجهاد – الكرخ – وفي الكاظمية – ساحة الصحن – وفي العامل وفي الدورة وفي الشعلة وحي الإسكان الثالثة والشرطة الرابعة.. وغيرها، وكنت أذهب مستطلعا الحال العامة، حال الذين يؤمون هذه البيوت فوجدتهم من عامة الناس، وبخاصة من القطاعات الشعبية الفقيرة، وقد جلبت معها حليها ونقودها، ويلجأ غالبية السحرة إلى الإيهام بالحال، بأنهم لا يفعلون ذلك إلا لمرضاة الله، وأنهم ليسوا إلا واسطة بين الآباء والملائكة والموكولين بالقضية. والظاهرة ملفتة للنظر، إن معظم من يزاول مهنة الشعوذة والسحر وفتح الفال هم من المعوقين، نساء ورجالا، ليسوا معوقي حرب، وإنما من كان به مرضا، بعضهم لا يتحرك لشلل ما – كما في حال مشعوذة حي الجهاد، وبعضهم أخرس، كما في حال مشعوذ الثورة، وبعضهم أعمى كما في حال مشعوذ الشرطة الرابعة.. الخ.

كما شهدت الحال نفسها في سوق المربد في البصرة، وفي البصرة القديمة وعلى الطريق المؤدية إلى صفوان، وفي المواقع التي ينصرف منها الجنود إلى الجبهات، كما نصب البعض منهم له شاخصا في الطريق العام بين بغداد والبصرة مرورا بالعمارة وعلي الشرقي، وبخاصة في المواقع والممرات المؤدية إلى الوحدات العسكرية.. وقد علق على الشاخص علما أخضر، كما ازدادت ظاهرة الأولياء الذين يطوفون هذه المواقع، مما حدا ببعض الناس الادعاء أن الأولياء خصوهم بأماكن مقدسة بين بيوتهم ومن سواهم – كما حدث في منطقة على الغربي بالقرب من الطيب.

وشهدت الظاهرة في كركوك أيضا وبخاصة في الجوامع، حيث اختلاط الأديان هناك يتيح حرية الادعاء بأحقية الكشف عن المخبوء لطائفة دون أخرى، وشاهدتها في الموصل، في باب جديد أيضا، وحول محلة النبي يونس، وإن لم تكن كثيرة.. أما في النجف وكربلاء، وبخاصة في المقابر وبعض الدور فالأمر يفوق التصور.. والكثير من الناس ذهبت بأموالها ضحية هذا الوضع المزري.

الحاجة إلى الغيب وكشف المجهول، حاجة اقتصادية بالأساس، فالأبناء ضمانة للآباء، والمستقبل المجهول يجعل الجميع في دوامة البحث عن ملجأ، ومع الحاجة الاقتصادية الحاجة إلى الاطمئنان والأمان، والدعوة إلى السلامة العامة، وتجنب ما هو مهلك أو مميت. وظاهرة البحث عن الغيب من خلال السحر والشعوذة، وخلال حرب الخليج أو الحرب مع إيران لم تقف على العراق وشعبه، بل تعدت ذلك إلى دول الجوار، فالأسرى الإيرانيون يكشفون باستمرار عن دور الغيب والتعويذة في حياتهم، وقد عكست الصحافة الكثير من هذه الوقائع التي تظهر أن الجندي الإيراني لا يجهل سبب الحرب الحقيقي فقط، بل ويجهل تركيبة العراق الجغرافية والسكانية. لقد صرح عدد من الأسرى الإيرانيين أن كربلاء والنجف تقع مباشرة خلف خطوط جبهات القتال، وأن اجتياز هذه الجبهات يعني الوصول إلى العتبات المقدسة، وما تعنيه العتبات المقدسة له شيء كبير، وكبير جدا.

وهذا الدكتور أحمد جرادات، ينشر مقالا مهما في جريدة “الجماهير” جريدة الحزب الشيوعي الأردني عن “دور الخرافة في حرب الخليج” وفيه يوضح كيف انتشرت الخرافة بين السكان الأردنيين وسكان الضفة الغربية، وأن تباشير النصر للعراق كانت تلوح مرسومة على القمر، وأن وعد بتحرير فلسطين يأتي من العراق.

وبين الدكتور جرادات دور المؤسسة الإعلامية الرسمية في إشاعة مثل هذه الخرافات، وأن الآليات الخلفية لفعل الغيب في معالجة قضايا التكنولوجيا والأسلحة تتوقف على القدر والغيب والمجهول. ولا يعدم الباحث التطرق إلى مظاهر الشعوذة التي سادت الشارع الأردني وما فرزته من مظاهر شعبية تسيدت الأسواق وبعض المناطق. لكن هذا الشعب المسكين والذي راهن على قوة الدينار العراقي، لم يكن يتوقع أن يخسر بين يوم وليلة ما ادخره من هذه العملة التي ألغيت، فكان انهيارا اقتصاديا لا مثيل له، شمل عددا كبيرا من الأسر الأردنية والفلسطينية الفقيرة.

النكتة ابن هذه الظروف المليئة بالمفارقة والمصادفات وتقلب الأحوال، وعندما لا يجد الإنسان البسيط حلا لمشكلاته يبتدع نكات وأقوالا، هي من قبيل الشتم والسخرية والهجاء.

ليس لحال الناس دخل في تركيب أقوال يراد بها الإساءة، وإنما حال الناس تحمل ضمنا مبدأ وقوع الإساءة من قبل قوى، علنية ومجهولة، لذلك تنشأ مفارقة بين ما هو معيشة وما هو مؤمل. ضمن هذه الفجوة التي لا تردم بالكلام، بل بالعمل، تنمو حساسية التفكه والتندر والسخرية وعندما تستمر تتحول هذه الحساسية إلى إعلام لفئات الناس، وهوية تطبع لسانهم ضمن مرحلة، ومن عايش فترة اضطراب السوق خلال حرب الخليج وما حمله من تنوع في البضائع واضطراب في قيمة العملات وجد أن الكثير من القول الجديد قد نشأ وتداوله الناس، من قبيل المسميات الجديدة، وطرق الإعلانات الصوتية الجديدة، وأساليب نداءات الباعة، وأساليب تصريفها في أسواق المفرد.

إن مرافقة ظهور السحر والشعوذة والنكتة الفاحشة، للهزات الاجتماعية والسياسية الكبرى جزء من بنيتها. فقد شاع أن ظهرت العذراء فوق كنيسة مصرية بعد هزيمة حزيران، وما رافق هذه الإشاعة من نكات ورسوم كاريكاتورية وتعليقات. وشاع أيضا تجول مريم العذراء، شيما أو ندرا فوق سهول فيتنام بعد هزيمة أمريكا وهي تتفقد الجنود والقتلى.. إن ظاهرة الشعوذة والسحر والمثيولوجيا الدينية والتنجيم وما يجاورها تجسيد لاضطراب القيم الثقافية في مراحل الذات الكبرى. ففكرة الخلاص تأتي من السماء عبر ممثليها على الأرض – الحكام -، ورسلهم على الأرض، الفقراء والمشعوذين ومدعي القدرة على استحضار الأرواح والغيب، فإن فشل هؤلاء الحكام في جانبهم العسكري أو سلطة القوى، استعانوا بالجانب الغيبي والسخرية، مما يعني أن الإيمان لا يأتي إلا بعد صدمة، والحروب والكوارث صدمة كبرى، لا تؤسس إيمانا لذاته، بل تؤسس خللا في البنى الاقتصادية والسياسية تكون مفارقاتها الاعتماد على النكتة والشعوذة. (حدث أن طبيبا شعبيا ادعى شفاء الناس من مرض السرطان بتناولهم أعشابا، مع قراءات دينية، فاعترف بقدرته رسميا، كان ذلك في أواخر الثمانينات).

إن الفترة التي شاعت فيها النكتة الفاحشة – البذيئة هي نفسها الفترة التي فتحت فيها آلاف النوادي الليلية والملاهي والبارات، واستورد لها آلاف الراقصين والموسيقيين، وأصبح محط إغراءات عدة لجلب رؤوس الأموال التي يمتلكها أشخاص ليس لهم قدرة من العلم والثقافة، وهي نفسها الفترة التي انفتحت فيها الأسواق على مختلف البضائع الأجنبية، وعلى مختلف السلع المصنعة محليا بدون رقابة. وهي نفسها الفترة التي أصبح عدد المليونيرين في العراق يعدون بالآلاف.

حدث أن جيّر أحد الشباب ألحديثي النعمة شيكا بمليون دينار لراقصة في ملهى ليلي، فما كان من الجهات المسؤولية إلا أن أوقفت هذا الشاب وأحالته إلى المحاكم، ومن ثم إيقاف التظاهر بالنقود ونشرها على رؤوس الراقصات والمغنين.

لقد اتسعت الظاهرة، وأصابت المجتمع بخلل بليغ، ولم يصدر ما يوقفها أو يتيه لها، ولما أصبحت حقيقية واقعة، خصص لها قناة تلفزيونية يطل منها مشعوذ بلباس ديني، يفتي الناس بأمور حياتية وخصصت قناة أخرى لعرض الأفلام شبه الجنسية، وحملت الصحافة الكثير الكثير من مظاهر الشعوذة، كان اتساع الظاهرة وتنوع أساليبها، وتعدد مسمياتها فرض على أجهزة الدولة الثقافية واقعا جديدا، فانحسرت النكتة، أو انزوت في الخلف، بعدما أصبح الجنس، معروضا، في التلفزيون أو في النوادي الليلية.. فما عادت الحاجة ملحة لأن يتندر الناس بها، ويصوغون نكات وأقوالا حولها.


* ياسين النصير
في سوسيولوجيا النكتة الفاحشة
 
أعلى