إدريس كثير - شبح النهايات

· الأيروتيكا والفلسفة:
يمكن أن نعود بموضوعة الأيروتيكا إلى مأدبة أفلاطون (427/348 ق.م)، حيث يُقدَّم إيروس في مختلف أوجهه وفق التصورات المختلفة لشخصيات الحوار في محاورة المأدبة. بالنسبة لفيدر إيروس إله أساسي "هو الذي أصبغ كل الخير على الناس" وهو إله "شجاع باسل" و"من أقدم الآلهة وأعظمهم قادر على جعل الناس فضلاء سعداء في كل حياتهم وبعد مماتهم". في حين يميز بوسانياس بين ضربين من الحب، وبين أفروديتين الأولى سامية كبيرة في السن ابنة أورانوس والثانية من ذرية زوس وديونيه.. شابة وتعرف بأفروديت الشعبية. وإذن هناك إيروسان واحد شعبي يسود وسط عامة الناس ولا يختار وينتخب في حبه يحب النساء كما الغلمان، ويرنو إلى المتعة كيفما تمت واتفقت والثاني مخلص لكن "للفتيان والغلمان"، ذكي وقوي ولا يبغي متعة الجسد بقدر ما يريد المعاشرة الفنية والفلسفية.
ينحاز أفلاطون كما هو معلوم إلى تقسيم بوسانْياس، لكنه يعتبر إيروس على لسان إريكسيماك روحا تسكن كل الكائنات وتتجلى في الجمال، إيروس هذا هو ملاك الإلهام أوراني (Oranie). أم الإيروس الآخر فيجب التعامل معه بحذر لشعبيته وسوقيته.
حسب سقراط إيروس هو حب الجمال، وهو رسول بين البشر والآلهة، يرفع للسماء ابتهالات العشاق وتضحياتهم وينقل للبشر أوامر الآلهة واستجاباتهم، ولد من زواج بوروس (الخيرات) ابن ميتيس (الحذر) وبنْيا (الفقر) يوم الاحتفال بمولد أفروديت. فهو فقير من جهة بِنْيا ودائم البحث عن الخير والجمال من جهة بوروس. فقير جميل فحل حكيم ساحر إنه بكلمة محب للحكمة.
الفلسفة حسب جان لوك ماريون... رغم أن اسمها مشتق من "حب الحكمة"فهي لا تتحدث عن الحب بقدر ما تهتم بالحكمة. تصمت تجاه الحب كظاهرة إيروتيكية. بل تقصيه وتلغيه وتعولي الأهمية الكبرى للموضوعاتع الميتافزيقية والوجودية...
الفلسفة لا تقول إلا القليل عن الحب. وصمتها هذا فيه خير للحب فهي إن تكلمت عنه خانته. لأن الفلاسفة لا يملكون الكلمات ولا المفاهيم لمثل هذا القول. لقد أهمل الحب في الثنايا الهامشية و المظلمة للعقل.
الشعر يستطيع قول الحب وتجربته ويبدو أنه قادر على تخليص الإنسان من حبسته الأيروتيكية لكنه لا يستطيع فهم الحب في مفهومه الحقيقي .الرواية كذلك لكنها تتحد ثعن حب الأخرين. التحليل النفسي وإن مس الحب في العمق اللاشعوري إلا أنه لا يستطيع أن يشرح سوى الألم والمعاناة
على الفلسفة أن تبدأ بالحب قبل الحكمة والمعرفة .حب الحكمة لا يعني الانغماس في الحكمة وحتى ننسى الحب. والحكمة ليست هي البحث عن الحقيقة إنما هي حب الحقيقة. الإنسان لا يحب تلقاءيا الحقيقة ويمكنه التضحية بها لصالح الكذب إذا كان هذا الأخير سيمكنه من السلطة والقوة.فتوجه الفلسفة نحو علم الحقيقة والتقانة مكننت العالم بما فيه الإنسان وضحت بالحبأي نسيت أيروتيكا الحكمة. الفلسفة لا تحب الحب لأنه يذكرها ببدايتها ومنطلق طفولتها.
لكن دعونا نفترض أن هذه الكراهية هي كراهية المحب .أولا يجب نحت المفهوم اللائق بهذا الشعور الذي نسميه الحب حتى نخلصه من معناه الغاني ومن تشيئه وانتهازيته.
ثانيا لنجرؤ على إعلان حبنا للآخر صراحة ولا نغلف حبنا في يافطات "الأخوة" و "التضامن" و"العمل الانساني". لكن بؤس هذه اليلفطات ناتج من غياب المفهوم الذي يقول الحبو على الفلسفة تقع هذه المهمة. لأنه بدون مفهوم لا يمكن معرفة الحب ولا التفكير فيه.
ترى ما الذي منع الفلسفة من التفكير في الحب؟ إن منحها الأسبقية للوجود دفعها إلى رفض وحدة الحب وعقلانيته وأهميته.
1- تضعف وحدة المفهوم حين نميز فيه بين الحب والصدقة وبين الأهواء اللاعقلية والحب العقلاني( الأخلاقي).
الأيروتيكا كل متماسك لا يجزئه إلا الفكر اللاإيروتيكي. وهي لا تقال باشتراك الاسم إنما بوحدته.
2-على ذات المفهوم أن يمنح العقىنية لكل ما يوصف في الحب أنه لاعقلاني الأهواء الرغبات الشهوات المتع الغيرة الكذب .. صحيح أن هذه المشاعر والميولات لا تدرك بالعقل الحسابي ولا باللوغوس المنطقي، لكنها تدرك بالوجه الآخر للعقل بجانبه الأكبر ذلك الذي ينظم و يعقلن الجسد ، بالحدس الجسدي .فالحب عقلانية أيروتيكية.
3- أهمية المفهوم تكمن في قدرته على الوصول الى كل التجارب والظواهر الأيروتيكية وانطلاقا منها لا من غيرها سواء كانت ميتافزيقا أو أنطولوجيا.. ولا ضرورة لتأكيد أسبقية الوجود لكي نحب أو نعشق. يمكن محبة ما لا يوجد ةكما يمكن التمتع للحظة لا تساوي شيئا في الوجود..
أهمية الظاهرة الأيروتيكية تتحدد في أفقها الخاص أي في أفق الحب بدون أسبقية الوجود.
أما بالنسبة لجورج باطاي(6) فالأيروتيكا إذا كانت تخيف العقل الإنساني، فهو مما يبدو قادر على تجاوز ما يخيفه والنظر إليه وجها في وجه. منذ مدة لم تعد الأيروتيكا موضوعا "طابوها" لا يقاربه "الإنسان الجدّي". إلا أن مقاربته تختلف من هذا إلى ذلك. بالنسبة لباطاي هاجسه هو البحث عن الانسجام والتناغم في الموضوعات العديدة والأشكال المختلفة للأيروتيكا. وهذا الهاجس لا يمكن بلوغه إلا بالنظرة الشاملة التي تعود بالإنسان نفسه، وإلى تاريخ الشغل وإلى تاريخ الأديان المقران.
يتكون هذا المؤلف لباطاي من قسمين كبيرين، القسم الأول يركز عل التوازن والتآلف بين مختلف أوجه الحياة الإنسانية من زاوية الأيروتيكا. أما القسم الثاني فهو جمع للعديد من الدراسات المستقلة عن البعض لكن توحدها الأيروتيكا.
سيقترح باطاي العديد من التعريفات المختلفة لكنها المتكاملة للأيروتيكا، وسيبدأ بهذه الصنيعة : "الأيروتيكا هي حسب الحياة حتى الموت" (ص 17). إلا أن التعريف المحدد لها لابد أن يستحضر الحياة الجنسية ومسألة الإنجاب، والأمران معا يتقاسمهما الإنسان مع الحيوان، إلا أن الفرق بينهما هو ارتباط الأيروتيكا لدى الإنسان بمفهوم الموت أو الجريمة، هنا يحضر الماريكز دوساد بقوة :
« Il n’y a pas un libertin un peu ancré dans le vice qui ne sache combien le meurtre à d’empire sur les sens » (p.17).
فالعلاقة الحرة والابتلاء والجريمة هي السادية منظور إليها كإروتيكا.
لكن أليست الشهرة الجنسية شبيهة بالموت ؟ قريبة من طقوس الموت، في رعشاتها؟ من الناحية الفلسفية لا يمكن فصل الجنس والإنجاب كلية. لأن هذا الأخير يقدم مفهوم الانفصال بين الناس (الآباء/ الأبناء/ الأحقاد...). كل واحد يولد وحيدا (حتى التوأم) ويموت وحيدا، هذه الوحدانية هي الانفصال الذي لا يبتعد عن الاتصال كما تحققه الموت.
أيروتيكا انبهار من الحياة وانبهار من الموت، كيف ذلك ؟
يُميز باطاي بين ثلاثة أصناف من الأيروتيكا : إيروتيكا الأجساد، إيروتيكا القلوب وأيروتيكا المقدس. هدف هذا التصنيف هو تبيان أن الأيروتيكا عامة تروم تعويض الانفصال باتصال عميق. البحث في اتصال الأجساد والقلوب أمر واضح أكثر من الاتصال في الأيروتيكا المقدسة، أي في حب الله وعشقه، بحال الأيروتيكا هو مجال العنف اقتلاع الإنسان من انفصاله لوضعه في انفصال آخر) إنه مجال خرق القوانين. ترى ما هي أيروتيكا الأجساد إن لم تكن هي اقتراع وجود الإنسان، هتك عرضه وتعنيفه حتى الموت. في جهة أخرى ما هي الأيروتيكا أن لم تكن تعريا وتخليا عن كل ستر وحجاب إن لم تكن التفرد وإظهار ما هو جميل رائع لذيذ وفي نفس الوقت بشع منفر مقزز... التعري شبيه بالموت. تبدو الأجساد أنانية أما القلوب وحين تتخلى عن مادية الجسد تغدو أيروتيكا عُذرية.
أيروتيكا المقدس تجمع بين الاثنين وتتعداهما، فهي تعري لممارسة الطقوس وهي تضحية (موت) وذبائح تقدم كطقوس، وكأن باطاي لم يكن إلا تحت تأثير تأويل جملة ساد "ليس هناك من وسيلة للتآلف مع الموت أفضل من فكرة الحب"، أي الأيروتيكا.
الأيروتيكا تجربة للحياة الباطنية، إنها تتم داخل وعي الإنسان تسمح له بإعادة مساءلة وجوده باستمرار، وذلك لما اكتشف الشغل واخترع له الأدوات وأدرك أنه كائن فان وانتقل من مقاربة الجنس دون حشمة إلى الاحتشام وسن الممنوع والحرام (L’interdit).
الأيروتيكا كتجربة جوانية لا تستقيم إلا بإضافة ارتكاب الحرام وخرق الممنوع. (Transgression). فتصبح إيروتيكا المقدس هي تجربة صراع بيم الحرام والحلال بين خرق القوانين وارتكاب بالخطيئة.
شبح ساد يبقى مهيمنا على مؤلف باطاي، إلا أن توجهاته التدميرية الفردية وُضعت في سياق الدين وسياق الإثنولوجيا أو ما سماه باطاي بـ "تيولوجيا التيولوجيا" وجعل مفاتيح مثل الرغبة ومنعها والمقوى وخرقة وجدلها هو المخرج الأساس للأيروتيكا.
بين الرجل المؤمن وضحيته وبين العاشق وعشيقته تماثل صارخ :
الأول يجرد ضحيته ويسندها على الأرض والثاني يعري عشيقته ويمددها على السرير يبدأ الأول بطقوس الذبح ويتبعه الثاني بمقدمات العشق. ينحر الأول ضحيته قربانا ويحتوي الثاني ضحيته احتواءا. ويحصل العنف والانتزاع(100/ 101).
إذا تجاوزنا مؤسسة الزواج (لأن الأيروتيكا فيها لا تخرق مانعا ولا نُدنّس مقدسا)؟ وتجاوزنا التكاثر (la pléthore) (تكاثر الخلايا، تكاثر النسل بطريقة بهيمية، فالدعوة إلى الطبيعة وإلى ما هو طبيعي لدى الطبيعيين على المستوى الجنسي (Naturalistes) تعود إلى هذا الأصل الحيواني ؟ - وتجاوزنا التويزة (l’orgie) (كالاحتفالات جنسية لا تخلو من قداسة وطقوس.. سيبقى في حوزتنا موضوعي للإيروتيكا، الأول هو النساء (حتى في الدعارة) والثاني هو الجمال (الجسدي).
موضوع الأيروتيكا هو موضوع الرغبة (désir) دون أن تستغرق هذه الأخيرة كل عمق الأيروتيكا. وهذا الموضوع هو النساء، وحين يؤكد باطاي على النساء لا يعني بذلك أن الرجل لا يمكنه أن يكون موضوع رغبة بالنسبة للنساء. إنما الذي تفصح عنه الحياة الجنسية بدءً من الحيوانات إلى الإنسان هو مبادرة الرجال في البحث عن النساء وتدلل هؤلاء الأخيرات ليثرن الرجال جمال النساء هو أنهن يضعن أنفسهن موضع رغبة أو موضوع اشتهاء، هذا الموضوع حين يتجاوز مؤسسة الزواج أو الأصح يخرج من إطارها يُسمى. وما يشوه هذه الأخيرة هو البؤس، إنها موضوع الإيروتيكا لأنها تقتات من الممنوعات وتمارسها.
الموضوع الثاني هو الجمال، جمال النساء لا الجمال عامة. فالرغبة في هذا الإطار ترميتا خارج ذواتنا، إلى حد الانكسار. لكنها توجد أمامنا في شكل وجه جميل يشدنا إلى الحياة. رائع أن نبقى دائما في شباك الرغبة دون أن نمتلكها كلية حتى النهاية. حتى الموت، الجمال ليس قيمة ذاتية كلية، فهو في سياق إيروتيكا الجسد مشتركة بين الإنسان والحيوان (جمال ريش العصافير واستغلاله في التظاهرات الإيروتيكية..)، لكن جمال الإنسان (رجل / امرأة) لا يتحدد إلا بالابتعاد عن الحيوانية شكلا، أما مضمونا فلربما الأيروتيكا تكمن في هذا الجانب بالضبط لدى المرأة المرغوب فيها (في شراستها...)
المعنى الأخير للإيروتيكا هنا هو الموت... (ص 159). ويبدو لنا ذلك في البحث عن الجمال (الوجه المليح، القدُّ المريح والخصر الفسيح) لتجاوز القطيعة والانفصال عنها والانفلات منها نحو استمرارية دائمة، لكن هذا التجاوز يراوج ذاته بين طرفي المفارقة البقاء عند الحدود التي يرسمها الممنوع والمقدس، وتخطيها إلى ما وراء المُباح، الخوف من الانفصال والانبهار بالاستمرار. الرغبة في الجمال وبراءته والاندفاع نحو تدنيسه وإفساده. هذا ما عبر عنه ليونارد دافنشي حين قال في مذكراته : " الممارسة الجنسية وأعضاؤها هي من القبح والاشمئزاز بمكان لولا جمال الوجوه والأهداب المزينة للأجساد.. لفقدت الطبيعة الجنس البشري" (ص 160)، لا شيء أكثر إحباطا وهجرا من قبح وجه المرأة. لكن كلما كان الجمال عميقا رفيعا كان الدنس كذلك، الأيروتيكا في كل هذا تبحث عن الاستمرار المفقود وهي تسطك خوفا وغشا من تيار الموت الذي يجرها نحو الحدود القصوى نحو اللاعودة نحو النهاية.
الجزء الثاني من كتاب باطاي هو إضافات وتوضيحات لإشكالية الأيروتيكا، كإعادة التذكير بأهمية الشغل لا باعتباره شقاء وضياعا ولكن باعتباره حدا فاصلا بين الإنسان وحيوانية ؛ أي اكتساب الإنسان للوعي.. وضمنه الوعي الشقي بالأيروتيكا الجنسية، (اعتمادا على تقرير (Kinser الأمريكي) وإعادة فحص أيروتيكا ساد في مقالتين ستعود إليهما بتفصيل أكثر في المفصل المتعلق بساد والأيروتيكا. كما سيُفصل الحديث في "لغز زنى المحارم" من خلال أنتوبولوجيـا كلود ليقي ستروس (البنيات الأولية للقرابة / دراسة)، وهذه المحارم هي التوضيح الكافي للممنوعات كمكون أساسي للأيـروتيكا عند باطاي.
وأخيرا للأيروتيكا أبعاد قضية قد تتعلق بالقداسة وبالعُزلة كما قد ترتبط بالتصوف والتطرف أمور يخصها باطاي بعناية خاصة ضمن ما تبقى من مقالاته.. ومن المؤكد أن باطاي عاد وعرج على موضوع الأيروتيكا في كتاباته الأخرى، إذا علمنا بأن الموضوع لم يكن بحثا وتنقيبا بقدر ما كان اهتماما وهاجسا وجوديا خاصا بباطاي طيلة حياته سواء في كتابه "تاريخ العين" "Histoire de l’œil" أو في ... التجربة الباطنية "l’expérience intérieure"، أو في "دموع إيروس" "les larmes d’Eros".



المراجع:

1- Marqui de sade. Les 120 journées de Sodome.
Ou l école du libertinage 1et 2.
Préface de Gilbert Lily.10/18.1975.
2- http://multitudessamizdatnet/Deuleuze-gilles
3- Henry miller. Sexus. La crucificationen rose.
Tr.Georges Belmont. Livre de poche.1968.
4- H. miller. Jours tranquilles à Clichy.
Tr. Gérald Robitaille.10/18.1974.
5-
6- Ch-marion, htm. Le phénomène érotique. Grasset.
7- Georges Bataille.l Erotisme.ed.de minuit.1975.


صورة مفقودة
 
أعلى