منقول - الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية

إن الاهتمام بالكتابة النسائية يتطلب التسلح المعرفي بالقضايا “الجندرية”، بما هو الشكل الأولي للعلاقات الدالة على السلطة، خاصة أخذ الحيطة والحذر مما تنتجه اللغة من معاني تحجرت في المعجم الذكوري وفي سياقاته، فانعكست تلك الهيمنة على قراءة النص النسائي، فتمثلت المرأة هامشا في اللغة والخطاب.

والنقد الأدبي النسائي وهو يوظف مقاربة النوع الاجتماعي ينطلق من كون “الجندر” مفهوم يهيكل الإدراك والتنظيم الرمزي لسائر الحياة الاجتماعية، من خلال: الرموز والطقوس الثقافية، والمفاهيم الناتجة عن الدلالات والمعاني الرمزية الواردة في مختلف المذاهب الدينية والعلمية والتعليمية التي ترسم خريطة مختلف التمثلات من جهة، وتحدد بشكل يقيني وموحد معنى كل من الرجل والمرأة والمذكر والمؤنث، من جهة ثانية.
يحقق النقد الأدبي النسائي انسجامه مع النقد الثقافي، بما هو نقد يستطيع تحويل الرؤية المعرفية للمرأة إلى علاقات نصيّة، نقد يرصد الأنثوي الذي يشكل وجوده المُفكر فيه خلخلة لثقافة النسق المهيمنة، وهو الأنثوي الذي يشغل الهامش الكامن في فجوات هذه الثقافة، إنه نقد يستمع ويقرأ النص الأدبي للمرأة بمرجعية نقدية منفتحة على كل الإطارات النقدية السابقة، فهو يصغي إلى الشفرات المؤنثة المبثوثة في النصوص، ويدرك إيحاءاتها التي تعلن عنها مجمل الفروق الجنسية، لا فيما يتعلق ببنائها المادي الفيزيولوجي أو ببنائها الثقافي والاجتماعي، وخاصة رصد الموقف “الجندري” للأدب المتضمن في لاشعور النص، الشيء الذي يسمح لنا بالدخول إلى المكون الأدبي عبر عدة تساؤلات منها:
هل هناك حقا كتابة للمرأة؟
هل هناك تقاليد أنثوية للكتابة النسائية؟
هل من الممكن تحديد الآليات التي تخضع لها هذه الكتابة؟
لا شك أن الأسئلة الجديدة التي أثارها ويثيرها هذا التِّزْواج بين الأدب والنوع الاجتماعي الذي ينخرط هذا الكتاب في بناء إرهاصاته، لمن شأنه أن يُغني الخطاب الأدبي وينعكس بالإيجاب على الحقل المنهجي.
لقد اعتمد النقد الأدبي النسائي على ما يثيره النص لدى القارئ من تساؤلات تهم السياق المرجعي الرمزي واللغوي والتاريخي والسياسي والثقافي والاجتماعي، في سبيل تمكين القارئ من فهم الإشكال الأساسي الذي يثيره الطرح المؤنث داخل النص وخارجه، وخاصة الكيفية التي ينفلت بها الإبداع الأنثوي من الرقابة الذكورية بخلق نص مختلف، نص تحتي لا ينكشف إلا لقارئ جديد، بإمكانه تتبع نقد السيطرة الذكورية. حيث لا يوجد في النص النسائي جوهر مركزي، بل تشظي وعدم انتظام، على خلاف ما صرحت به البنيوية التكوينية، من أن النص يملك بنية ذات مركز يحتلها الذكر مهيمنا.
إن مفهوم “الجندر” بالرغم من كونه مفهوما إشكاليا، يسهٍّل على الدارس عملية فك رموز المعاني والدلالات التي تمنحها الثقافات للفوارق الجنسية حيث يمكن استعماله أداة تحليلية، فبالإضافة لانتقاده للتصورات السائدة والمؤسسات والقيم الاجتماعية والثقافية، بإمكانه أيضا بناء معارف وتصورات جديدة في الأدب والفن والفلسفة والقانون.
ويلامس كتاب “النقد الجندري: تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية” للدكتور عبد النور إدريس، المنحى النقدي لقضية الخصوصية والاختلاف في كتابة المرأة، ويعتبر مقاربـة النوع الاجتماعي (الجندر) مدخلا لفهم تعقـيدات التواصل ما بين أشكال مختلفة من التفاعل الإنساني، لما له من تأثيرات وتمظهرات في فعل التواصل الرمزي الكتابي، فمفهوم النوع الاجتماعي قادر على تأويل الاختلافات بين الرجل والمرأة على أساس أنها نتاج للسيرورات التاريخية وتقسيماتها ترجع إلى رموز اجتماعية تحدد كل جنس (ذكر وأنثى) داخل ثقافة معينة.
إن الحدود والفواصل التي يقيمها المجتمع بينهما حدود هشة، واهية غير ثابتة أمام زحزحتها، ويلعب مفهوم النوع هنا دورا رائدا في كشف ثغرات الدراسات الأدبية السابقة التي اعتبرت الكثير من السمات خاصيات أنثوية طبيعية، وأقامت عليها فرضياتها النظرية، وهي ليست سوى صفات اكتسبتها النساء وتقمصنها عبر سيرورة بالغة التعقيد، يتداخل فيها ما هو فردي بما هو جماعي داخل كل ثقافة معينة، حيث: “اتخذ المفهوم وظيفة نقدية، كاشفة عن الثغرات في الدراسات الأدبية والاجتماعية والسياسية والعملية”. هذا دون أن نغفل أن مفهوم النوع الاجتماعي (الجندر) لا يلغي ولا يهمش الفوارق البيولوجية القائمة بين الرجل والمرأة، على اعتبار أن هذه الفوارق مبرمجة في طبيعتنا كبشر.
وتعتمد ممارستنا النقدية المعتمدة على هذه المقاربة على تفكيك الخطاب الذكوري، بالعمل على خلخلة المفاهيم التي تجعل المرأة صوتا مخنوقا وسط دوائر متعددة من الحجب والمنع، وسط العديد من الأشكال المجتمعية المشمولة بالثبات: الرموز والطقوس والتقاليد والعادات والثقافة الأبوية المكتسبة، التي تحول دون انبثاق الصوت الخاص للمرأة.
إن النقد الأدبي النسائي الذي سننحت له اسما تركيبيا يجمع بين النقد الأدبي النسائي ومقاربة النوع الاجتماعي مع توظيف كلمة جندر، التي تم شرحها سابقا، إحالة عليه وهو: النقد الجندري الذي يتخذ إبداعية المؤنث موضوعا له، ويبحث في النص المؤنث عن الوعي الذي يفيض في حناياه، وهو ينوب عن المرأة في التعبير عن صمتها، مستجليا فكرة تمثيل المرأة الكاتبة لذاتها ولبنات جنسها.
إن المرأة مُحاطة بالعديد من الإنشاءات الثقافية والسياقات التقليدية الضاغطة التي تجعلها غير قادرة على تمثيل نفسها فبالأحرى باقي النساء، وذلك بسبب تعدد الحُجُب وسمك الستائر الأيديولوجية التي تقف حائلا أمام الكاتبة لزعزعة بعض قناعات المجتمع الذكوري، قناعات غذت مسلمات وبديهيات مع مرور الوقت، وبذلك فقد وضعت المرأة الكاتبة بسبب إصرارها في فعل الكتابة، يدها على موضع جرح النساء.
فكيف تعبر المرأة عن الفرح والحمل والمعيش والزمن ومدة عادة النساء الشهرية؟
إن اللغة تعمل على نقل وبلورة الأفكار والممارسات المتعلقة بالنوع الاجتماعي، فاللغة المتداولة والمكتوبة والمبثوثة في حركات الجسد، لا تزال تحمل علامات الذكر الذي رسّخ فيها معطيات مذكرة، مع إقصاء عالم المرأة على المستوى اللسني، وتكمن إحدى إشكالات اللغة في أنها توجد ضمن أعمدة ثقافة المذكر من حيث أنه يعتبرها طريقته الفضلى للتموضع في بؤرة كل نقاش نظري أو فكري، كما تعتبر أحد أهم أدوات هذه الثقافة للاستمرار وإعادة إنتاج ذاتها، وهذا الإحساس بذكورة اللغة مستنتج من الإحساس بذكورة الثقافة التي تعتبر مجالا حيويا وطبيعيا لهيمنة النظام الأبوي، ولهذا لم تستطع المرأة إلا أن تبادل اللغة بالجسد، فحتى وإن شاركت مع الرجل في التعبير العادي، فهي تتفوق عليه في تعبيرات الجسد، فاللغة المباشرة للجسد تعتبر إحدى أسلحة المرأة للدفاع عن وجودها المباشر أمام سلطة المؤسسة اللغوية السائدة، وضد الذوبان والانصهار المعلن والخفي في صف الذكورة. فيقابل احتفاء المرأة بجسدها ولغاته، احتفالية الرجل بفحولته التي يعبر من خلالها عن كينونته وتفوقه في مدارج السلطة المعرفية والثقافية، ولهذا من حق المرأة أن تنظر لقضية الاختلاف بمفهوم التمايز لا بمفهوم المساواة.
ويأمل النقد الجندري الذي نتبناه أن يحدث خطوطا جديدة في هندسة النقد الأدبي الذي ظل يستعمل مفاهيم الموضوعية في التحليل والمقاربة في تعاطيه مع كتابة النساء، من حيث أن الخطاب النقدي العربي مُورس في غالبيته من طرف الرجال الذين عبّروا عن أيديولوجية ذكورية مركزية، حاولت مناقشة الكتابة النسائية من معيار المساواة، على حساب الخصوصية والاختلاف والتمايز. هذا الخطاب إذ بجهله مسألة الاختلاف الجنسي، إنما يؤكد ضعف خطابه ورؤيته ومحدودية تصوره لأدب المرأة، مما يعكس بعض عوائقه المعرفية والتاريخية.
إن النقد الجندري في سياق طرحه لإشكالية الأدب النسائي يجعل من مشروعية الاختلاف الجنسي وأثره في فعل الكتابة مبحثا مستقلا، وهو بذلك يسعى إلى إحداث منافذ جديدة في الدراسات والسرديات النسائية، نظرا لما يحمله النص النسائي من موقف فكري اتجاه المؤسسة الرسمية وسلطة المجتمع وهيمنته.
وتبعا لذلك فقد تم توزيع محتويات الكتاب الصادر حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع بعمَّان في 232 صفحة من القطع الكبير إلى فصول وعناصر فرعية، وقد أوردنا ماهو نظري لعلاقته بما هو تطبيقي.
الفصل الأول:
يحمل هذا الفصل عنوان: “الكتابة النسائية بين البُعد المرجعي والبُعد الأدبي”، ويتناول مشكلة الأدب النسائي المصطلحية والمفهومية، والمراحل التي مرّ منها حتى استقرَّ في شرط الجسد، من حيث أن قضية ضبط المصطلح، وتعيين حدوده ومجال اشتغاله الدلالية تعتبر من القضايا البارزة في المناهج النقدية الحديثة، وهي ترتبط بتعدد التيارات، والاجتهادات النقدية داخل النظرية الواحدة، وكذلك بتعدد المرجعيات التي تستند إليها هذه التيارات والمناهج في صياغة رؤاها ومفاهيمها وأدواتها، إن هذه القضية لا تخصُّ الأدب والنقد الموسومين بالنسائي، بل تطال جميع المناهج والنظريات النقدية بتياراتها ومسمياتها المختلفة، وقد تم اختيار بعض النماذج النقدية التي تمثل تنوعا في مقاربة موضوع الكتابة النسائية.
كما يسائل الفصل مراحل الوعي بكتابة الجسد الأنثوي، باعتباره علامة من علامات الكتابة النسائية، وقد جعل على عاتقه محاولة الإجابة عما إذا كانت المرأة تستعمل جسدها للتعبير عن وجودها الواقعي أو الرمزي أو هما معا، وحول ما إذا كانت كتابة الجسد الأنثوي سرديا تعتبر حالة نضج أدبي، ومحورا تحليليا يجمع بين مفهوم الكتابة والجسد وعالم النساء، ويناقش هذا الفصل أهمية الوعي بالكتابة النسائية وكيف يشكل الجسد حلقة أساسية في هذا الوعي الذي ينطلق من أن الكتابة بالجسد هي كتابة الذات بالدرجة الأولى.
الفصل الثاني:
أما هذا الفصل الذي عنوانه “أسئلة النقد النسائي والنوع الاجتماعي”، فيقدم مدخلا لفهم المصطلحات والمفاهيم، وهي تَمنح النقد الأدبي النسائي أداة للتفكير والمقاربة، فتطرق إلى بعض المدارس النقدية بالتحليل وخاصة البنيوية التكوينية والسيميائيات والتفكيكية، كما تطرق إلى قرب أو بُعد هذه المناهج النقدية من مرجعية الأنثوي لينتقل لطرح سؤال الخصوصية المتعلق بهذا البحث، الذي حاولنا فيه شرح مفهوم النوع الاجتماعي (الجندر gender) على عدة مستويات منها المصطلحية والمفاهيمية، قصد تبيان الحمولة الفلسفية والمعرفية، التي جعلنا منها مفتاح الدخول إلى عالم المرأة الأدبي والرمزي.
وقد تم التعامل مع مصطلح النوع الاجتماعي باعتباره حاملا لقضية فلسفية، يمكن استثمارها في ميدان النقد النسائي، ولهذا جاء الفصل محملا بالعديد من التصورات والآراء التي تتناول مسألة الاختلاف الجنسي، باعتباره فكرا نظريا يؤطر النقاش النقدي، فتم استقصاء الجذور التاريخية للكتابة النسائية الفرنسية في هذا الفصل، بما أنها حضرت بالمشهد الأدبي في فترات تاريخية محددة، دون إغفال بعض الصفحات المشرقة للكتابة النسائية الانجليزية، حيث تم التعرف على أهم رائدات النـزعة النسوية الغربية كسيمون دي بوفوار وجوليا كريستيفا وفيرجينيا وولف وروسي إيريغاري.
الفصل الثالث:
لقد أصبحت مقاربة النوع الاجتماعي، تحيل على مبدأ فلسفي جديد يحث على التحرر من الافتراض التاريخي الذي يعتبر تاريخ الذكورة فرضية وحيدة للقراءة، تتكسر فيه شحنة التوتر التي صاحبت الرؤية الثنائية للعالم. ومن ثمة فقد اعتبر هذا الفصل مبحثا نقديا ضروريا لبناء تصور نقدي، عنوانه “النقد النسائي: الواقع النظري وآفاق التطبيق” تم فيه تناول الجانب النظري لواقع النقد النسائي وتمايزه والنقد النسوي، واختلافهما على المستوى المصطلحي والمنهجي، وخلص فيه إلى أن المنحى النقدي الذي نسج منه الخيوط الأساسية للموضوع تتجلى في توظيف مقاربة النوع الاجتماعي لرؤية الكتابة النسائية من الداخل.
الفصل الرابع (الجانب التطبيقي)
إن خطاب الجسد يحمل من المعاني ما لا تستطيع حمله ونقله سوى اللغة أو بالضبط وعي اللغة التي تفكر بالموازاة مع الكاتب والكاتبة، ذلك أن المبدع حينما يفكر في شيء، فإن اللغة تنخرط في نفس التفكير، بحيث يغدو ما كتبه مماثلا لما فكرت فيه اللغة.
وتعد الشخصية السردية علامة لغوية مرتبطة بباقي العلامات داخل البناء السردي، تشير إلى العلاقات اللاواعية التي تنتجها اللغة في الوقت الذي يجتهد المبدع والمبدعة في إنتاج العلاقات الواعية، ومن ذلك يحقق النسق الِّلسني مضمونه في النص، فوق إرادة المبدع والمبدعة. تلك اللغة المشحونة بالصور لا تزال تخدم مملكةَ لُغةٍ يطبعها الذكوري، الذي يجعل الأسلوب هو الرجل والكتابة هي المرأة. بالرغم من أن لفظة “إبداع” تحيل على فضاء عام، على فضاء غير محسوس، يخلق داخله الفضاء السردي بشكل خاص موضوعه المستقل بذاته، كما يخلق عالمه الداخلي الفني، من بين العديد من الانفعالات الإنسانية المواكبة لواقعية الحالات المعيشة، فالسارد(ة) يخلق كائنات مملوءة بالإحساسات، ويتم تصعيد عباراته مستنجدا بإمكانية اللغة في تحويل تلك الأحاسيس إلى لحظة عبر ذاتية، وإن كانت تتشكل فيما بعد كواقعة اجتماعية، ولهذا كان الطرح اللغوي بتمثلاته التي يوقعها على جسد المؤنث من بين أهم السمات النقدية التي ناقشها البحث إلى جانب التوظيف الإبداعي الذي توظف به الكاتبة جسدها داخل النص.
أما الجانب التطبيقي الموسوم بـ: “كتابة الجسد وبداية تمرحل السرد النسائي”، فيسعى إلى تبيان الكيفية التي انتقل فيها المحكي الشفهي إلى المكتوب، وكيف استطاعت حكايا ألف ليلة وليلة أن تنقل المرأة من هامش الحكي إلى متن المكتوب، وقد تضمن هذا الفصل جانبا تطبيقيا همَّ شهرزادية ألف ليلة وليلة باعتبارها تؤسس للبداية الأولى للسرد النسائي، وتحقق للجسد متعة ذهنية من متعه الأخرى، وهي تواكب العرض في ذاكرة النساء.
إن البحث يضعنا، أمام العديد من الطروحات المرتبطة باستراتيجية الكتابة النسائية، كما يدعونا فعل الخروج عن السائد، في اتجاه مساءلة الماضي واكتشاف المسكوت عنه ونقده وتفكيكه، وخاصة ما يتعلق بتابوهات عديدة متعلقة بالذات النسائية مثل: الحب والحرية والجسد والقهر والمعاناة والصمت والعزلة.. كما نجد في فعل الولوج إلى مغامرة لغة الاختلاف، مساءلة اللغة واعتبار لغة المرأة لغة منسية غطّاها تراكم التجارب الحكائية الشفهية التي فجرت منطقة لا وعي الأنثى وعملت على تأنيث النص.



___________
* (ميدل ايست أونلاين)
 
أعلى