يوسف عدنان - الرغبة في حوّاء وتأويلها.. أنطولوجيا قصة الخلق من منظور اختلافي

ملخّص للبحث متضمنا إشكالاته
نتغيا من خلال هذا المنجز محاولة الكشف عن خبايا الكينونة الأنثوية المحتجبة وراء السرد النشوئي البدئي؛ وذلك من خلال إعادة التفكير والانشغال الفلسفي بسؤال الأصل المرتبط هنا بقصة الخلق الإنسي مع الوقوف على استيضاح صحّة أسطورة الانفصال الآدمي من عدمها، بلفت الانتباه إلى مفهوم الرغبة «désir»الذي ظلّ غائبا عن مسار التفكير الكوني في إشكالية الخلق الإنسي إلى حدود زماننا المعاصر. لربما هي عودة ملحاحة إلى الوراء، إلى ذلك الوجود الأصيل و المنسيّ كما اتّسم به قلق السؤال الفلسفي عند وورثة الفلسفات الأنطولوجية. فالاجتثاث الفينومينولوجي للأنطولوجيا معناه في المقام الأول إماطة اللّثام عن تاريخية مفاهيمها وتصوراتها للوجود. ومن أجل تحقيق ذا مبتغى، كان لزاما عليّنا التوسيع من حقل التفكير، والبحث عن المبادئ الموجهة للأشياء، ضمن آفاق ترتدي المجهول واللامنطوق والغوري، منطلقا في رحلة استكناه للتاريخ النشوئي، يسكنني فيها التّيه والشغف، باحثا عن موقع للاشعور و عن أثر للرغبة، في معرض الاسترجاع النقدي التحليلي لقصة الخلق البدئي، وإحياء السؤال المتفلسف القاضي بنا إلى تجديد فهمنا للغزية الوجود الإنسي.
تبعا لهذا الأفق الذي نخوض في رسم قسماته، أجد نفسي وبدون نيّة مسبقة، أخطّ نقدا راديكاليا يساءل زخما تاريخيا من التأويلات الأسطورية – الدينية، بل حتى الفلسفية منها، والتي أسرفت في مجملها التركيز على مسألة خلق المرأة من ضلع الرجل، لدعم أسطورة كمال الذكر عن الأنثى، بينما تمّ إهمال في مقابل ذلك جانب من الخيال تتحقق ضمنه قوة التأويل- المتعلق هنا بالحلم وفعالية التجربة الصوفية- باعتباره الأسبق، والأهم في نظرنا عند الحديث عن سرّ ازدواجية الجسد الإنساني، ومحاولة كشف حقيقة الرغبة المتوارية خلف جدار الوعي. حيث يترجم هذا المنجز بين يدي القارئ، جهدا تأمليّا قلّ نضيره في زمن النزعة الآلية واتساع مناخات الكسوف الفلسفي، أصبوا من خلاله وضع ملامح أنطولوجيا كينونية، تتصوّر قصة الخلق الإنسي كوجود راغب، وتقوم بتقويض جذري للأفهام، للبنى، للأنساق، للنصوص المبلوعة في جوفها ذاتية الموجود الأنثوي. كما تسمح هذه القراءة من جوانب متشعّبة أخرى بتفجير إشكاليات ميتافيزيقية كافية حول الكيان النفسي للإنسان.
ممّا لا جدال فيه اختلاف الفكر الكوني منذ الأزمنة الغابرة إلى الحقبة المعاصرة حول كيفية خلق حوّاء. ولا نعلم علم اليقين إن كان الرّب جلّ ذكره قد خلق حوّاء في نفس وقت خلق آدم أم بعده، ومزمع ما أمكننا معرفته هو ما تذكره الكتب السماوية التي لا تخوض في التفاصيل، و كذا الأحاديث المنسوبة إلى نبي الإسلام، إلى جانب روايات متضاربة تصلنا من زمن أساطير الأوّلين. بمعنى ليس فقط ذكر واقعة خلق حوّاء من ضلع آدم {مع تعليق الحكم هنا حول قضية الضلع} هو كفيل بمعرفة خبايا الوجود الإنسي والنفس والجسد. فالخطاب الإلهي في مضمونه الذكوري موجّه إلى كائن ذكر معلوم باسمه، ألا وهو آدم، بينما المرأة ملحقة مضافة كانتماء فرعي، نوعي. ومع كل الأسف نجد هذا التفسير الأجوف لايزال يجثم على سيرورة الفكر الإنساني عبر أزمنة التخلّقات الفكرية. هذا على الرغم من كونه مبني على الرأي والظنّ والاعتقاد غير المشفوع ببراهين وأدلّة سواء أتت من نبع عقلاني برهاني أو ذوقي عرفاني. ولا نخفي ميلنا إلى السبيل الثاني.
تجدر الإشارة إلى أن قصّة الخلق غير متوازنة في السّرد بين النوعين. فحينما نعود إلى مجريات قصّة البدء الإنسي، نجد آدم هو وحده المخاطب من طرف الرّب في كافة أطوار خلقه : بدءا بخلقه وإشهاده على ذرّيته في الملأ الأعلى، ثم تعليمه اللغة وسيادته على الملائكة، ثم تعرّفه على الموجودات في الكون وتسميتها بمسمياتها، إلى وقوعه في الخطيئة وطلبه الغفران والثوبة من الرّب متحدثا باسم حوّاء، حتّى عودته إلى أديم الأرض.
أمّا قصّة خلق حوّاء فلا يأتي ذكر لاسمها إذا استثنينا الإشارة إليها بالزوج أو الأنثى، بل حتىّ أن الرّب لم يبلغ الأنثى بخطاب مباشر عن منع الأكل من الشجرة المحظورة وإنما وصلها النهي عنها عن طريق آدم. لذا لا بد من إعادة قراءة قصة خلق حوّاء ما دام يلفّها كل هذا السواد والغموض وفيها الكثير من الفراغات والمغيوبات، كما لها – وهو ما سنأتي على توضيحه في تفاصيل البحث – جانب باطني أوسع من أن يحدّد بدقة أو يفسر تفسيرا تامّا أو يأمل المرء بكشفه تماما. مما يترك حقيقة خلق المرأة معلّقة بالعلم الإلهي وغامضة على مرّ التاريخ الإنساني، الذي اكتفى فيه الفكر الكوني بالتّركيز على كيفية وهب المرأة للحياة، ولم يتساءل في الكثير من الأحيان كيف جاءت المرأة إلى الوجود. هل فعلا ثم خلق حوّاء من ضلع آدم بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة والمعدوم فيها أي ذكر أو إشارة لمفهوم الرغبة، لكأن آدم وحوّاء كائنين مجردين من الرغبة التي هي مفتاح كيان الإنسان ومشتلّ نزوعاته المتدفقة باستمرار. إذن فهذ اللّبس تحديدا، الذي اقترن بمفهوم الضّلع الأعوج ومعناه الترميزي، هو ما سنحاوله استكناه مغالقه، وسبر أغواره في سياق معالجتنا لمسألة خلق الأنثى. حيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحّواء. وهذا الجانب المهمل {اللامفكر فيه} نجده الخيط الناظم لبحثنا.
تندرج هذه الورقة ذات النّفس النقدي – التأسيسي، والتي تحاول في طياتها جاهدة تفتيق معالم رؤيا اختلافية، تعيد تقويض الأنطولوجيا النشوئية منذ فجرها، بغية تكسير »التقليد الإنتسابي « الذي بموجبه لا يمكن للمرأة أن توجد سوى في، ومن، داخل جنس الذكر {جسده/ ضلعه}، والحرص في المقابل على إعادة تشييد معنى مخالف يسمح بإرباك نمطية الفهم السطحي، والانزياح به عن المسالك المألوفة التي يمتطيها عادة التّفكير في الموضوع، من خلال تطوين مفهوم الرغبة بدلا من الضلع كمبدأ يقوم عليه تفسير وتأويل واقعة الخلق الإنسي. فبدل الاكتفاء بالنقد والتفكيك نرسم في هذا البحث منعطفا جديدا لعله يتجاوز ويهدي في ذات الوقت لتأويل مغاير من المرجى الأخذ بناصيته كل ما تعلق الأمر بسؤال الرغبة في التكوين البدئي للإنسان.


تقديم هامشي:
تعدّ أسطورة البدء المقدس أو “النشأة التكونية للإنسان” من بين أهم الأحداث التي تستوجب من الحس الفلسفي وقفات تأملية، ليعيد التفكير في أبعادها من منظور استعادي «rétrospective » ، ويتساءل على نحو يدفع بإرادة المعرفة خارج ثنايا المألوف، والجاهز من الخطابات المحنّطة لعقود من الدّهر في تلافيف المعتقد والموروث والمؤسطر وطبقات العقل الباطن. فالدعوة إلى إعادة القراءة المتجددة للتراث الفكري –خاصة بعده الإناسي منه- حاجة معرفية لضبط منشئه وحركة مفاهيمه في نواميس أنساقنا الثقافية والفكرية والمعتقدية والأخلاقية.
إذ علينا أن نقيم تمييزا جوهريا بين المظهر الأنطولوجيّ، والمظهر الذي يقدمه لنا التاريخ الرسميّ بخصوص الخلق الأنثوي. فعلاقة آدم وحوّاء النشوئية قد تمت بعجلة شديدة لم تمهل الفكر ليقول كلمته. لذا، فإننا نطمح من وراء المساهمة بهذا الموجز، القبض على المعنى قبل أن يحشر في نظم الخطاب التي تسيّج مساحات التّفكير ضمن جغرافيا المقدس، وتوابته السّكونية المؤبّدة. وليس الغرض من تناول هذا الموضوع الموغل في عمق القدم – ما قبل التاريخ- إعادة التّفكير في المفكّر فيه، وإنما تأتي هذه الورقة بلمحات مركّزة حول حلقات مفقودة في الانشغال الفكري بقصّة الخلق الإنسي، ليتسنّى لنا إثرها تخصيب آفاق أخرى مغايرة، تنأى بقدر كافي عن تفسيرات غافلة/ قاصرة/ متناقضة/ فارغة (…) الخ. ويبقى دائما السؤال يستلحق معناه المؤجل، ومفتوحا على أجوبة ليست حاضرة، مما يستدعي المزيد من الحفر والتنقيب والتدّارس إيمانا منا بنسبانية كلّ معرفة تتّخذ الإنسان موضوعا لها.
كثيرة هي الاختلافات بين أصحاب الرؤى والمذاهب الفقهية الاجتهادية حول قضايا مقدسة داخل أو خارج النص الديني، غير أن باب الاجتهاد والتأويل يظل مشروعا، ولا يحقّ لأي كان أن يصادر حق الرأي والتفكير والحوار والمساءلة النقدية. ولست أزعم أنني أجبت على جميع التساؤلات التي تولّد وجهاتها المجهولة عبر مسارات هذا البحث المحّمل بثقل التاريخ الإنساني بتأويلاته. و لا أدّعي كذلك أن هذا التفسير الذي قدّمته للرغبة والحلم الآدمي هو الأصح والخالي من الهفوات، لكنني على قدر من الإيمان بأن هذا البحث يستبطن جوانب خفيّة لم تكتشف بعد، ويثري بحثنا المتعلق بأصل المعتقد الأسطوري والديني عند الإنسان وبدايته النشوئية.
ما أكبره من خطأ وخسارة أن نصّور تاريخ النزوع الإنساني بهذه الطريقة الجوفاء التي لا نجد فيها أيّ أثر للرغبة – رغبة آدم وحوّاء في بعضهما البعض- ويلفت النظر شيء، أنهم حرصوا على تصوير واقعة الخلق الأول بالعدمية والخشونة ومجانبة الرغبة الإنسانية. وما أكثر التّفاهات التي تحاك في هذا المجال، والحقيقة أنني أعجب وآسف في نفس الوقت حين أقرأ بعض ما كتب حول هذا
الموضوع. فالخطابات الفقهية والعقل الذكوري المتعالي والأساطير المؤسسّة جميعهم يتحاملون على إجهاض المعنى المراد به من قصة الخلق الإنسي ملجمين بذلك صوت الرغبة التي لا يأتون على ذكرها سواء عن قصد أو غير قصد. بل ونصطدم بجدار الكبت أكثر تصلّبا عند الرجال من النساء، حين يعتبرون خلق حوّاء شيئا ثانويا وجد تعريفه عند آدم كسائر المخلوقات، متشبّثين بهذا الموقف الاستنساخي الذي ينسب وجود الأنثى إلى علّة ما ذكورية.
كما لم يفتني في هذه القراءة إضعاف مفعول مقولات العقل النقلي {الوسائلي}؛ واستخراج نقائص دالة من النصوص الميثولوجية والدينية مع تسليط الضوء على تاريخ الرغبة المهدور والمحجوب وراء جدار الوعي. ففي هذا الطرح تأصيل لمسعى فكري يراد منه إعادة تقويض وتفكيك ثنائية أصل / فرع، إلى جانب تأزيم فكرة مركزية المعنى المحصورة عند الطرّف الذكوري. لذلك، فإذا استطعنا أن نفسر على ضوء هذا النموذج أساس قانون الخلقة السليم بشكل لا يصوّغ ممارسة الخصاء على الكائن الأنثوي، آنها يمكن أن نسمع نداء الرغبة الحقيقية في المرأة كذات وكيان مكتفي بذاته، لا كموجود غير مرغوب فيه أو كموضوع بدون رغبة. وقصارى القول أن النزوع الإنساني لا يمكن إلاّ أن يكون نزوعا راغبا، وإذا سبق وكان العكس، فسنكون قد سلّمنا سلفا – منذ الخطاب الإلهي للأرواح – أن نعيش في هذه الحياة بدون رغبة، تاركين قوى الطبيعة تفعل فينا على نحو ميكانيكي، تطبعه الاستجابات الغريزية أكثر من النزوعات العرفانية والجمالية.
إنّ أهم ركيزة يقف عليها بنيان البحث هو مفهوم الرغبة. فنحن نحثّ من خلال إعادة التفكير في قصة الخلق الإنسي، على استحضار الرغبة كحلقة مفقودة في تفسير علاقة آدم وحوّاء النشوئية. وعلى ضوء هذا المستجد المفهومي نهدف معالجة القضايا الإشكالية التالية :
-العمل على فكّ طلاسم العلاقة المعقدة بين الجسد الذكوري والجسد الأنثوي، والمقصود بالتحديد مساءلة قضية الضّلع وانتساب حوّاء من حيث الخلق لآدم.
-تأصيل مفهوم الرغبة في تجربة النزوع الإنسي، بعد أن غاب هذا الأخير على التّفكير الكوني في مسألة خلق آدم وحوّاء على مرّ الزمن الأنطولوجي.
-إدراج الحلم كسجل خيالي باطني ينضاف إلى تفسير حدث الخلق الأنثوي، باعتبار المنام الذي راود آدم قد تضمن كشفا عن صورة حوّاء قبل أن توجد ككائن مجسم في واقع آدم.
– إعادة الاعتبار للاشعور في تجربة الخلق الانسي، على أساس كونه مسرح الصراع النفسي لآدم وحوّاء مع ذواتهم ومجال الرغبة أيضا. الشيء المفضي إلى إعادة مساءلة مفهوم الخطيئة الأصلية ومجمل النزوعات المخبوءة في النفس الآدمية والتي وجدت تعبيرها في خرق الأمر الإلهي، بدل أن تتم مقاربتها من زاويا أخرى.

التساؤلات الإشكالية للبحث:
ملحوظة: المرجو الإبقاء على تساؤلات البحث مع أهدافه عند النشر.

كيف حظرت حوّاء كموجود في الوجود؟ وهل من الممكن أن يكون قد جسّد الحلم أول تجلي للكيان الأنثوي؟
لماذا كان هناك منام في قصة الخلق الأنثوي، ولم يكن هناك تجليّ مباشر؟
ما غاية الحلم في قصة الخلق الإنسي، وما موقع اللاشعور من الغيب؟
هل رغب آدم في حوّاء قبل خلقها ؟ أيمكن أن ننتهي إلى القول أن خلق حوّاء هو جواب عن رغبة ؟
ما علاقة الرغبة بكل من المعرفة والجنس والموت ؟
هل خلق حوّاء كان حقّا بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة، والقصد هنا أسطورة الضلع ؟
عندما نتساءل عن الرغبة الأصيلة في نزوع الكائن الإنساني، هل نكون أمام موضوع بدون رغبة، أو رغبة بدون موضوع؟
لماذا يبدو الحضور الأنثوي كما لو أنه معنى خارج التاريخ الإنسي ؟
كيف أمكن آدم إدراك حوّاء؟ هل من خلال ملكة العقل، أم عن طريق الحس، أم هو حدس باطني ترآى في حضرة الخيال ؟
لماذا لم يخلق الرّب آدم وحوّاء في وقت واحد ؟
هل يمكن للإنسان أن يسعد بشيء لم يرغب فيه قبلا ؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن لآدم أن يسعد مع حوّاء دون رغبة مسبقة فيها، وأن تبادله هي كذلك نفس الشعور ؟

الموجود الأنثوي كجرح أنطولوجي

“إن تاريخ الفلسفة يكشف لنا عن فشل الفلسفة في فهم طبيعة المرأة” نيتشه، ما وراء الخير والشر

نستهّل هذه الورقة بلفت انتباه القارئ إلى كون التحليل الذي نهتدي به لفهم طبيعة الكينونة الإنسانية، قد يتنافى مع جملة من المعتقدات المتجذّرة تاريخيا، والمسلمات الموروثة ثقافيا حيال التّصور الأرخي “archaïque” للوجود الأنثوي. وهي أنماط ونماذج من الوعي يزدوج فيها الرصيد الميثولوجي {الأسطوري} بالمنظور التيولوجي {اللاهوتي}، من أجل صياغة الموقف المتعصّب والشائع، المتشبّع حتى النّخاع بفكرة أن أصل المرأة من صلب الرجل- من داخله- مع نفي قطعي لرغبة آدم المسبقة في الموجود الأنثوي. حوّاء التي انفصلت عن آدم – تبعا لهذا التفسير- في مشهد منامي لاواعي، أرّخ لواقعة انشطار الجسد وازدواجية الجنسين. ونحن نعلم ابتداء النماذج الجذورية المفصلية للمشهد النشوئي للكائن البشري من هذه الوحدة البدئية المنشطرة. لذا كان حرّيا بنا عدّها باعتبارها مصادرات أنطولوجية، أي وجودية، لكونها مقولات ميتافيزيقية مرجعية أسّست حولها رؤى العالم» « world view » للكائن الإنساني المنقسم إلى شطرين.
إن فكرة الكائن الخنثوي البدئي «Androgyne » الذي يطبع حضوره الكثير من الأساطير، نجد توظيفاته منذ مأدبة أفلاطون في شرح الرغبة الجنسية، باعتبارها توق الذكر والأنثى للعودة إلى الوحدة البدئية الضائعة (1). وهو تصور بموجبه تعاش الحياة كتباعد وانفصال نظرا لقيام هوة منذ الأزل بين الطرفين {ذكر/أنثى} لا يمكن ردمها مهما استغرق الوجود نفسه. وهذه النظرية تذكّر بما جاء على لسان الروائي اليوناني أريستوفان “Aristophane” {توفي قرابة عام 380 ق.م}. الذي يقول بأنه كان للبشر في بداية أمرهم أربعة أذرع وأربع أرجل »الكائن الرابوعي « وقد تمرّدوا على الإله “زيوس” فعاقبهم بشطرهم إلى قسمين. ومنذ ذلك الوقت أخذ كل شطر يبحث عن الآخر من خلال غريزة الحب ليجتمع معه ويرجع إلى أصله (2). لذلك تكون كل عملية جنسية سعيا وشوقا إلى تحقيق التوحد البدئي الضائع بعد انشطار آدم إلى ذكر وأنثى *.
غير هذه الأسطورة الضاربة في رحم الحضارات والمتواترة بشكل نافد، تذهب الميثولوجيا اليهودية إلى اعتبار حوّاء ليست زوجة آدم الأولى. فوفقا للتفسيرات العبرية المتأخرة كانت ليليت “Lilith” – تبعا لسفر التكوين- هي الزوجة الأولى لآدم. وتشير الروايات اليهودية أيضا إلى أن الرّب خلق ليليت، الزوجة الأولى لآدم بالطريقة نفسها التي خلق بها آدم. غير أن آدم وليليت لم يتفقا مع بعضهما أبدا. فلم تكن ليليت مستعدة للخضوع لآدم. وقد بررت مطالبتها بالمساواة مع آدم بأنها قد خلقت من التراب نفسه الذي خُـلق منه آدم. لقد عبّرت ليليت المتمردة عن مطمع مساواتها مع آدم من خلال امتـناعها عن أن يلقي آدم جسده فوقها أثـناء ممارسة الجنس. فليليث أرادت أن تكون مشاركة في الفعل الجنسي بصورة فاعلة وتـنام فوق آدم (3).
ويمكن أن نوجز عقدة ليليت « Lilith-complexe » ، ذلك الجزء المحرم من النفس الأنثوية في ثلاث مظاهر على الأقل دون أن نفصّل فيها: هناك المرأة المساوية للرجل، والتي لا هي أدنى ولاهي أعلى منه، وإنما مساوية له، الناشئة من الأصل ذاته. وأيضا هناك المرأة الفاعلة جنسياً، المستقلة برغباتها الماقتة للدونية القضيبية، ثم المرأة الكارهة للأطفال الرافضة للأمومة. على هذا النحو قسّمت صورة الأنـثى منذ عشرات آلاف السنين إلى حوّاء وليليت، حيث تقدّس البطريركية صورة حوّاء وتلعن صورة ليليت وتحرمها ولا تأتي على ذكرها. وعليه فإن حوّاء ترمز لخضوع المرأة والسلبـية الجنسية وللزواج الأحادي « monogamie » وللأمومة «المضحية» وللمطبخ والعبادة وتربـية الأولاد وخدمتهم. وهو في الواقع مجرد جانب واحد فقط من الأنوثة المزدوجة. أما الجانب الآخر فتعبّر عنه ليليت التي ترمز للمساواة والفاعلية الجنسية والرغبة ورفض الإنجاب والأمومة. وعليه فإننا نـتعرّف في كل من حوّاء وليليت على وجهين من الوجود الانثوي، منفصلان عن بعضهما ومتـنافرين على الأغلب، ويمتلكان مشاعر عدائية تجاه بعضهما البعض. بحيث يمثلان نمطين مختلفين من النساء: القديسة والعاهرة (4).
لكن من الملاحظ ،أن هذا الثابت القيمي منذ قصّة الخلق الإنسي – زمن البدء الأول- لم يتعرّض لقضية نجدها أساسية بما كان في حياتنا الذاتية، وهي تتعلق بخواص بنية النفس والنزوع الراغب لدى الإنسان على خلاف الحيوان الذي يفتقر إلى عدّة مقومات لكي يدخل عالم الرغبة، يأتي على رأسها الخيال واللغة. حوّاء خلقت من آدم وهي طرف جزئي منه، اعتقاد ضعيف، ولم يجزم أحد في هذا اللّغز الذي لا يكفّ عن ملاحقة التّفكير البشري إلى حدّ الآن. ولكن ينساب هذا المعطى إلى الذهن، لأن القارّ في أذهاننا ومخايلنا الكوني جميعا أن واحد منهما خُلق من الآخر. فيتم التّسليم غلطا بأن حوّاء خلقت من آدم مادام قد سبقها كموجود؛ وجودا ظاهريا وملموسا في العالم المادي. فكما يرى العديد من الرّاسخون في العلم – ونحن ننوّه بما ذهبوا إليه – أنّه لا يجوز أن تخلق حوّاء من نفس آدم اللّحمي- لا الترابي- لأنها إن خلقت من لحمه يعني تولّدت منه، فتصبح بمثابة بنته وليس زوجته. ولأن الزّوجة أمر عرضي خارجي، أما البنت فهي أمر ذاتي، والذاتي يختلف عن العرضي بالماهية، فلا يقاس أحدهما بالآخر إطلاقا (5) (6).
بوجود افتراض كهذا، قد اختلفت الآراء والتّصورات على مرّ تواريخ الحضارات في كيفية خلق حوّاء. ولا نعلم علم اليقين إن كان الرّب قد خلق حوّاء في نفس وقت خلق آدم أم بعده، وجلّ ما أمكننا معرفته هو ما تذكره الكتب السماوية التي لا تخوض في التفاصيل، وكذا الأحاديث المنسوبة إلى نبي الإسلام إلى جانب روايات متضاربة تصلنا من زمن أساطير الأوّلين. بمعنى أنّه ليس فقط ذكر واقعة خلق حوّاء من ضلع آدم – مع تعليق الحكم هنا حول قضيّة الضلع – هو كفيل بمعرفة خبايا الوجود الإنسي والنفس والجسد. فالخطاب الإلهي في مضمونه الذكوري موجّه إلى كائن ذكر معلوم باسمه، ألا وهو آدم، بينما المرأة ملحقة مضافة كانتماء فرعي، نوعي (7).
الجدير بالإشارة كون قصّة الخلق غير متوازنة في السّرد بين النوعين. فحينما نعود إلى مجريات قصّة البدء الإنسي، نجد آدم هو وحده المخاطب من طرف الرّب في كافة أطوار خلقه : بدءا بخلقه وإشهاده على ذرّيته في الملأ الأعلى، ثم تعليمه اللغة وسيادته على الملائكة بعد سجودهم له، ثم تعرّفه على الموجودات في الكون وتسميتها بمسمياتها، إلى وقوعه في الخطيئة وطلبه الغفران والثوبة من الرّب متحدثا باسم حوّاء، حتّى عودته إلى أديم الأرض. أمّا قصّة خلق حوّاء فلا يأتي ذكر لاسمها إذا استثنينا الإشارة إليها بالزوج أو الأنثى، بل حتىّ أن الرّب لم يبلغ الأنثى بخطاب مباشر عن منع الأكل من الشجرة وإنما وصلها النّهي بالمحظور عن طريق آدم. لذا لا بد من إعادة قراءة وتمحيص قصة خلق حوّاء ما دام يلفّها كل هذا السواد والغموض وفيها الكثير من الفراغات والمغيوبات، كما لها – وهو ما سنأتي على توضيحه في تفاصيل البحث – جانب باطني أوسع من أن يحدّد بدقة أو يفسر تفسيرا تامّا أو يأمل المرء بكشفه تماما. ممّا يترك حقيقة خلق المرأة معلّقة بالعلم الإلهي وغامضة على مرّ التاريخ الإنساني، الذي اكتفى فيه الفكر الكوني بالتّركيز على كيفية وهب المرأة للحياة، ولم يتساءل في الكثير من الأحيان كيف جاءت المرأة إلى الوجود. هل فعلا ثم خلق حوّاء من ضلع آدم بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة والمنعدم في مجرياتها أي ذكر أو إشارة لمفهوم الرغبة. لكأن آدم وحوّاء كائنين مجرّدين من الرغبة التي هي مفتاح كيان الإنسان ونبع نزوعاته المتدفقة كسدّ جارف باستمرار.
إذن فهذ اللّبس تحديدا، الذي اقترن بمفهوم الضّلع الأعوج ومعناه الترميزي، هو ما سنحاوله استكناه مغالقه، وسبر أغواره في سياق معالجتنا لمسألة خلق الأنثى. حيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوّض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحّواء. ولعلّ هذا الجدل المحتدم حول طبيعة الخلق الأنثوي، قد يحلينا بالضّرورة للحديث عن ثنائية الداخل والخارج ضمن مساقاتها اللاهوتية والفلسفية العقلانية، بنّية تفكيك الثنائية ذكر/أنثى، وباقي المتلازمات التي تتفرّع عنها {أصل/ فرع، داخل/ خارج، مركز/هامش، حقيقة/ وهم، معنى/ اللامعنى …} الخ ، مع تبيان الكيفية التي تتحرّك بها ومن خلالها، هذه المعاني ضمن كوسمولوجيا مجنّسة تطبعها علاقات الصراع والتّضاد بين الطّرفين. فثنائية ذكر / أنثى تدخل ضمن مساق الأزواج المفاهيمية المزدوجة التي يتمحور حولها اللاغوس الغربي، بحيث تحكمها علاقة التناقض من جهة {تناقض طبيعة الذكر مع طبيعة الأنثى} وعلاقة التراتبية من جهة أخرى {تفوق وهيمنة الذكر على الأنثى}، والتي تمّ الحطّ تاريخيا من دلالة الطرف الثاني، والإعلاء من قيمة ودلالة الطرف الأول (8). كما وقد صيغت على نسق هذا المنطق المتعارض جميع التضادات التصورية. والجدير بنا في هذا المنوال التّنويه باستراتيجية التفكيك مع فيلسوف الهوامش جاك دريدا، التي أبرز من خلالها هشاشة هذه الثنائيات المخترقة لما هو ذكوري وما هو أنثوي. فالثاني حسب دريدا ليس ما يأتي بعد الأول فحسب، وإنما هو ما يسمح للأول بأن يكون أولا. وهكذا فالأول لا يصير أولا بقواه وبإمكاناته وحدها، بل ينبغي على الثاني أن يساعده بكل قوة تأخره، فبفضل الثاني يكون الأول أول (9) (10).
فيما يخصّ واقعة الانسلاخ من عدمها، يمكننا البدء بتناول المفارقة التالية: فلو افترضنا جدلا أن القاعدة أو الأصل هو الاتصال {الخلق من الداخل، وخروج حوّاء من ضلع آدم} ثم حدث بعده انفصال الجسد الإنساني عن نفسه، لانعدمت حينها أي إمكانية في ملئ هذا الفراغ المتروك لدى الكائن الإنساني المنقسم إلى شطرين. وهو بالمناسبة تصوّر تعاش الحياة بموجبه كتباعد وانفصال، نظرا لقيام هوّة أزلية بين الطرفين {ذكر/أنثى}، لا يمكن ردمها مهما استغرق الوجود نفسه.
وبالعكس تماما، فنحن نجد أنه في سبيل تحقيق هذا الارتباط البعدي بين النوعين، تحصل وحدة الحالة التجاسدية بمختلف انفعالاتها متوّجة في الجنس {بما يفيد الجناس والتّجانس}. وليست هناك من فكّ إلهي لارتباط قبلي مزعوم بين جسد الذكر والأنثى أثناء خلقهما. فالقاعدة كما نرى هي الانفصال، أي أن كل جنس كان مفصولا عن الآخر في البداية النشوئية، ليأتي من بعد الخلق الاتصال والالتحام الرمزي في شكل جسد واحد. ففكرة التّكامل والتّجانس لم تكن واردة بين آدم وحوّاء حتىّ علموا بالارتباط المقدس المترجم أخلاقيا في سنّة القران. ومن أجل أن يحقّق الرّب الخطّة كاملة في الواقع ويوثّق عرى العلاقة بينهما جسما وروحا، باين بين جسميهما، بينما “النفس” ظلّت واحدة. وهذا التّباين هو الذي يجذب كلاّ منهما نحو الآخر، ويجعل منها عاشقين لبعضهما. هذا وإن كان للمرأة جسم وأخلاق ورغبات الرجال لتعذّر عليها أن تجذب الرجل نحوها وتحوله إلى عاشق محب لها، وفي المقابل لو كان للرجل نفس مواصفات المرأة الجسمية والروحية، لما أمكن المرأة أن تعدّه فارس أحلامها وتظهر من فنونها ما تصطاد به قلبه (11). إن هذه الحقيقة المبدئية تدعم نموذجا من التّفكير، سيكون له دور مشرق في تصويب الفهم وإضاءة خارطة الطريق في القادم من البحث.
يتعامل الفكر مع قصة الخلق الإنسي بوصفها مصدرا للمعرفة، وأمّا نحن فنضعها موضع مساءلة. بحيث أن الوعي النقدي يكّف عن التفكير من داخل إطار التصورات أو بواسطتها لكي يستطيع التفكير من خارجها. طالما أن بنية التصور ذاتها، ليس لها من مصدر سوى السياق التكويني نفسه. ففي لعبة السياق نلحظ أن التصورات القارّة المسبوكة في الوعي الإنساني هي مجرد أداة لخدمة ذات السياق. ويكون لهذه التصورات وجهين: وجها معرفيا: أو بنية التصور ذاتها، ووجها تاريخيا: أو تكوينه التاريخي. والتكوين التاريخي مرتبط بالسياق، سياق الخبرة. وأمّا البنية فهي المضمون العقلي للعالم والأشياء، وهي معرفة معرضة باستمرار للانزلاق في هذا السياق ولفقدان قيمتها، وخصوصا إن كان السياق مرتبطا بخبرات ميّتة. كما وأن السياق هو يبني العلاقات القائمة بين الأشياء. وهذه العلاقات لا تقوم في الشيء ذاته، بل يفترضها السياق افتراضا، ويحيل الأشياء إليها، فهي كالشبكة التي يصطاد بها الأشياء ويحكم بها الواقع. ورغم ذلك فالسياق التكويني للتصورات هو ما يجعل تأثيرها الاجتماعي وحضورها الثقافي ممكنا (12).
لا مندوحة أننا في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مجاوزة هذه الرؤيا الدونية والاختزالية للمرأة، خاصة ونحن نعلم أن هذه الطبيعة الغامضة لمنشأ الأنثى جعلت عرب الجاهلية على سبيل المثال يعتقدون أن النساء ليست مخلوقة من الآلهة، وإنما هي مخلوقات شيطانية. حيث كان يبيحون التقليد القبلي المتزمت مبدأ “الوأد” الإناثي عند الولادة، فتسوّل لهم أنفسهم دفن البنات فورا بعد ميلادهن، لأنهنّ في اعتقادهم الجاهلي مخلوقات مدنّسة، وأن ميلاد الأنثى بدل الذكر هو نذير شؤم وهلاك ونقص في الجاه والمال (…) الخ. وكثير من الحضارات كانت في شكّ وعماية في شأن الأنثى، وهل روحها شيطانية، أم آدمية إنسانية. بل حتى تاريخ الكنيسة المسيحية لم يسلم من تأثره بهذه العقيدة المعادية للمرأة، والتي تجد تشخيصها من زاوية نفسية فيما يعرف برهاب النساء أو الجينوفوبيا « gynophobie » * .
وظلّ الشكّ يحوم حول طبيعة الأنثى الغامضة قرونا متواصلة حتى القرن السادس ميلادي، و بعد الخروج من عصر الظلمات عقدت مؤتمرات ليتدارسوا فيها هل المرأة لها روح أصلا أو هي كائن بدون روح. لأن الشائع أنها كانت بروح حيوانية، والبعض قال إن لا روح لها أصلا. وتراجع هؤلاء فيما بعد عن أحكامهم، وقالوا يبدوا أن لها روحا ولكن دون روح الرجل، وهي مخلوقة فقط لخدمته وإسعاده وإرضاءه. يقول الداعية القديس بولس الأول في رسالته: المرأة مجد الرجل، لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل (13). بل حتى مواقف الفلاسفة من المرأة لم تكن بريئة كما ينبغي أن تكون عليه سريرة الفيلسوف، حيث بدت هي الأخرى مشحونة بنوع من الذاتية وبقايا الجروح العاطفية التي تعود إلى تخوم الطفولة و بقايا الحب الأمومي المشوش. ويكفي أن نسجّل في هذا الصدد الحكم الذاتي للفيلسوف عن المرأة. إذ غالبا ما تكون الظروف الشخصية للفيلسوف أو طبيعة علاقته بزوجته أو محبوبته أو أمه، هي التي تعكس في آخر المطاف مواقفه من المرأة، والأمثلة عديدة في هذا الباب (14). فالصورة التي رسمها أرسطو مثلا – وقبله أفلاطون- للمرأة تعدّ بالغة الأهمية، إذ رسّبت في أعماق الثقافة الغربية، وأصبحت الهادي والمرشد عن النساء بصفة عامة (15). فعند مقارنته بين الرجل والمرأة، تساءل، هل تعدّ المرأة من الجنس البشري، وتنتسب إلى الإنسانية ؟ يجيب نافيا، لكونه يعتبرها كائنا دونيا، وقد خلقت مسخا مشوها ناقصا. وهي مجرد كائن بهيمي أقرب ما يكون إلى القردة (16). فالمبدأ الأول في الفكر الأرسطو طاليسي كان مذكرا بامتياز نافيا في تمركزه للمؤنث. كما كان كبار المفكرين الغربيين من أبناء القرن الثامن عشر من مثال غوته وروسو ومونتسيكيو وأوغست كونت (…) الخ، كانوا أيضا من دعاة تقزيم المرأة والحطّ من شأنها وتفضيل سيادة وسيطرة الرجل عليها. لذا فتناول موضوع الاختلاف الجنسي عند فيلسوف بعينه، لا يجب أن يتم بمعزل عن ارتباطاته وتداخلاته مع الموضوعات الأخرى، ولا بمعزل عن رهانته الاجتماعية والتاريخية (17).
إنّ اعتبار المرأة كائن ناقص كان مشتهرا في الغرب قبل شيوعه بين شعوب الشرق. فالغربيون كثيرا ما جنوا على المرأة بالطعن فيها واعتبارها ناقصة، مبرّرين ادعائهم بكون قانون الخلقة قد خلق المرأة ناقصة عقلا ودينا لحكمة ما. إذ قالوا على لسان الكنيسة والدين: {أن المرأة يجب أن تخجل من كونها امرأة}. وقالوا: {المرأة هي الموجود ذو الشعر الطويل والعقل القصير} و {المرأة آخر موجود وحشي دجّنه الرجل} و {المرأة نقلة بين الحيوان والإنسان} وأمثال ذلك غزيرة. وعلى خلاف الأسطورة التّوراتية والمسيحية لاحقا فإن مفردة حوّاء، بالمعنى الفلسفي، هي أصل كآدم، لا تخالفه نفساً ولا جسما إلاّ بما اختصّتها به طبيعة الأنثى. وكل ما قيل ويقال عن نفسها وعقلها وأضلاعها، تخريفات، وتوهيمات، ترمي إلى تسليعها والإتجار بها. وحوّاء ترمز إلى الخلود الأنثوي، المحتوية رغبات الرجل والسائرة به إلى أعلى (18). لا ريب، أننا متحجّرون في قيم الموروث النقلي لصياغات الضمير الجمعي، وننفر من تخلقات المستحدث، ونحاول كلما صحا الضمير من غفوة الماضي الثقيل بادرنا إلى زيادة جرعة المنوّم لإبقائه خارج دائرة الصحوة الوعي والزمان، وعزل تلك الرؤى التي تشكل قوى الرفض المتحدية للصياغات التقليدية (19).
لعلّ جميع من يقولون بأن حوّاء خُلقت من الضلع الأيسر لآدم، إنما هم يعتمدون في ذلك على ما يرد في سفر التكوين، الإصحاح الثاني. أما الآخرون اللذين يقولون بأن الرّب خلق المرأة بنفس الطريقة التي خلق بها آدم، فهم في هذا قريبين من القصة الواردة في الإصحاح الأول من سفر التكوين. في حين أن القرآن لا يأتي على ذكر قصة خلق حوّاء بتاتا، ولكنه يفككّ بالمقابل شفرة الخلق الإنسي من خلال كشفه ولأول مرّة سرّ أطوار خلق الإنسان، وقد جاءت فيه وفق الترتيب التالي : طور النّطفة – طور العلقة – طور المضغة – طور العظام {الهيكل الجسدي} – طور كسوا العظام باللّحم – طور النشأة خلقا آخر {وخلقناكم أطوارا} . ومما قد يزيد في التأكيد على بهتان هذا المنظور الضلعي للخلق الأنثوي هو كون نطفة المرأة تختلف عن نطفة الرجل، وهو ما قاله نبي الإسلام عن خلق الإنسان {من كل يُخلق: من نطفة الرجل، ومن نطفة المرأة ، فأمَا نُطفة الرجل فنطفة غلِيظة ، منها العظم والعصب ، وأمَا نطفة المرأة فَنطْفة رقِيقة منها اللحم والدَم}. وبالتالي ما دامت نطفة المرأة من لحم ودم تستبعد بديهيا قضية الضلع كمادة خلقت منها الأنثى كما يسود الاعتقاد. فالنّطفة هي المادة الأوليّة التي يبتدأ بها أطوار خلق الإنسان ذكرا كان أم أنثى كما وضحنّا توّا. فضلا عن ذلك، فما أن نتأمل مليّا في الأصل والسبب، حتى نلاحظ، تلك الأولية للمؤنث (20).
في ضوء هذه الامتدادات التاريخية لهذه التصورات المحشوة في أمشاج الذهنيات البشرية عبر العصور المظلمة والمستنيرة، نسجّل ما يحقّقه هذا المنظور – المنصب حول إعادة كتابة تاريخ الرغبة الإنسية – من اختلاف وقلب لاستراتيجية التأويل في تناولنا سائر قضايا المرأة عمّا لو قاربناها من منظور إطاري منمذج، يمكن أن ندعوه ب »إطار الانتساب« ، تتموقع في نسقيّته المرأة كذيل أو ملحق تابع للرجل، لأنها مخلوقة من جزء منه، من ضلعه. وهذا النموذج الإستتباعي له طابع تثبيتي للنّظرة التّحقيرية المتوجهة إلى نرجسية المرأة، إلى سلبيتها وإذعانها للهيمنة. ويأخذ على النساء إذا لاحظنا السهولة التي من خلالها تخلّيهن عن أسمائهن ويأخذن أسماء أزواجهن، إذ يستنتج: أن المرأة في الجوهر من دون اسم، وذلك لأنه ينقصها، بالطبيعة، الشخصية (21). استنادا على هذا الإطار الإنتسابي، تحشر الأنثى بين ثنائية الموجب والسالب، باعتبارها شيئا فرعيا وتابعا، يحيل مرجعيا على الدّال “الذكر”، لتنتظم مركزية المعنى بمجمل المركزية القضيبية في أنماط الوعي وقوالب اللغة، ممتدة إلى العلاقات الجندرية داخل المجتمع وباقي الميادين الحياتية الأخرى. فمركزية العقل « logocentrisme »هي الوجه الآخر لمركزية القضيب « phallocentrisme » من هنا مجيء الفلسفة التفكيكية بمقولة مركزية العقل والقضيب (. « phallogocentrisme » (22إن واقع المرأة الخصيّ هذا ومهما اختلفت أسبابه، فهو يعود في منتهاه إلى طبيعة الفكر الذكوري المتعالي الذي شكّلت في هوامشه المرأة كجنس آخر أو كجنس ثاني *، كما أحبت أن تنعتها سيمون دي بوفوار. فالمرأة لا تولد امرأة، وإنما تصير كذلك، وهذا أقصى اعتراف قد يخرج من فاه فيلسوفة وجودية حتى أخمص قدميها.
مهما حاولنا البحث عن أجوبة، فإن حدث الخلق الأنثوي يبقى مجادلا فيه، ويظلّ يطرح إشكالات تؤرّق الفكر الكوني على مرّ الزمن. وكما هو ملاحظ لدى الفكر المنسوب إلى العقل الذكوري من ربطه لخاصيّة الحضور بالذكر المنتصب والمتجليّ، في حين يترك الغياب يمزّق كيان المرأة الهشوش، منذ أن انشقّت عن الجسد الذكوري كما يسود الاعتقاد، ليكون هو الأصل والحقيقة، وتكون هي رمز للوهم والزّيف، بما هي مجرّد انعكاس مشوه للجسد الذكوري في السّجل الواقعي. وهذا الحضور الواهم أو الأنا المزيّف الذي ترتجف خلفه سيكولوجية المرأة حسب التحليل النفسي الفرويدي هو ما يجعلها تخفي ما لا تملك {هوام القضيب المفقود} وتخون المعنى. فالترّاث الذكوري أراد عبر تقنيات تحكمّ وتوجيه متعدّدة تقعيد صورة مشوّهة للمرأة، بوصفها كائن شبقي، رامز للخصاء، ومجرّد جزء مستّل من الجسد الذكوري الذي انشقّت عنه في انشطار واغتراب وحالة من الألم، لتكون بذلك معجونة من طينة أو طبيعة مازوشية، تلد وهي مستيقظة، وترى الموت أمامها، لكنها تزداد عاطفة وحبّا، واجدة في عذابها لذّتها. بالمقابل يتم الحرص على التضخيم النرجسي لسادية الرجل، الذي يتقوّى من هذا الضعف الفطري الكامن في تكوين المرأة النفجنسي.

.
 
الرغبة في حوّاء (2): تأويل المنام الآدمي.. الحلم كأول تجليّ للكيان الأنثوي
يوسف عدنان



عندما نعود بالذاكرة الإنسانية إلى الوراء، مستحضرين هذا المعطى -الأثر- القابع في سحيق الزمن النشوئي الإنسي، وهو كون حوّاء خلقت من جسد آدم، وتحديدا من ضلع أعوج يقع على مقربة من الجانب الخلفي للقلب، فإن هذه العودة قد تقتضي علينا قبل المسارعة في إصدار أي رأي يعوزه البرهان وإقامة الحجة على صلاحيّته، الوقوف مليّا عند التاريخ النشوئي « L’histoire Primordiale » وهو تاريخ إطلاقي عصي عن الضبط ، يشكل آدم وحوّاء أقانيمه الرئيسية (23)، والذي نرنو من خلال إعادة طرحه، الإحاطة بحقيقة التّكون الروحي و النفسي لآدم وحوّاء. وتحت وطأة هذا المنظور السالف ذكره، كون حوّاء سلخت من آدم، ربما قد يسأل سائل: ما الجدوى من إعادة التفكير في هذه النازلة ؟ ولماذا ينبغي أن نوسع من زوايا التأمل والتفكير في هذا الموضوع ؟ فسواء خلقت حوّاء بشكل مستقل عن آدم، أو استلّت من ضلعه، الحاصل أنهم خلقو من طين وتراب. لكن المسألة لها آفاق أرحب بكثير من ذلك، بل وأشدّ التباسا مما يتبادر للذهن لأول وهلة. ذلك، أن طريق الوصول إلى كينونة الكائن الأنثوي ورغبته، يكمن أولا في فك طلاسم العلاقة المعقدة التي تجمعه بالجسد الذكوري. وهذا الدّرب المنسي، هو ما لم يخض فيه الكثير من السائلين، إذ غالبا ما انكبوا على افتحاص قضية الضلع بينما تم إهمال سؤال الرغبة.
تتعذر المعرفة الخالصة بقصة الخلق البدئي بما هي معرفة ترتحل إلى ما قبل التاريخ . وفي هذه الأصول الضائعة ذات الطابع الأسطوري يقيم الفكر الايديولوجي خطابه السلطوي. ويعرّف الأسطوري هنا: باللامعقول، ما لا يمكن إدراك ماهيته الداخلية، وجهلنا بماهيته الداخلية “المفترضة” نابع من غياب أي إمكانية لإخضاعه للتناول التاريخي، أي من غياب أصله الزماني الممكن، ولا يكون الفكر أسطوريا إلا بالنظر إلى غياب هذا الأصل الممكن، لا إلى غياب محتواه الذي هو نتيجة لغياب الأصل ذاته (24). إنّ قلق السؤال ليدعونا للمزيد من تعميق التّفكير في حدث الخلق الأنثوي، بما يفيد استنهاض إشكالات أخرى غير مهادنة للخطاب المتوارث حول حقيقة النشأة، كأن نتساءل: كيف حظرت حواء في الوجود؟ ما غاية الحلم والمنام في قصة الخلق، وما موقع اللاشعور من الغيب؟ وهل من الممكن أن يكون قد جسّد الحلم الآدمي أول تجليّ للكيان الأنثوي؟
لقد ورد في مضمون مجموعة من الكتب الدينية والمصنفات الإسلامية مرويات مختلفة يمكن إيجازها في الحديث التالي: لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه وخلق منه حوّاء، جلست بجنبه. فلمّا انتبه لها رآها جالسة بقربه، خاطبها وسماها حوّاء نسبة للحياة والشيء الحيّ. وقيل أنه لم يؤذه أخذ الضلع شيئا ولو أداه لما عطف رجل على امرأة أبدا، فلم يكن بهذا المعنى لآدم أن يحبّ شيئا ألمه *. ونقرأ في تفسير الطبري عن السدّي، قوله: أسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوجة يسكن إليها، فنام نومة، فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الرّب من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ أجابته: امرأة. قال ولم خلقت؟ قالت لتسكن إلي (25). إذ لم يقنع الخالق ببقاء آدم – الإنسان وحيدا بينما تجد كلّ خليقة أخرى شريكها المقابل، فأوقع على آدم سباتا عميقا وأخذ أحد أضلاعه وبرا منه المرأة وجاء بها الإنسان الذي دعاها امرأة لأنّها من امرئ أخذت (26).
بما أن الطرح السائد يعتقد في خلق حوّاء الداخلي من آدم، هناك العديد من الأصوات تعتقد أن غاية النوم، كانت بمثابة الحجاب الواقي من »صدمة الانفصال « التي كان سيتلقّاها آدم، لو أنه أحسّ أو شاهد كيف انسلّت حوّاء من صلبه. ومفاد هذا الرأي المتداول، هو أن لو خلقت حوّاء من آدم وهو مستيقظ، لشعر بألم خروجها من ضلعه وكرهها. لكنها خلقت منه وهو نائم، حتى لا يشعر بالألم، فيميل إليها. وهذا قول زمرة من علماء اللاهوت كما اجتهد على تثبيته المشرّعون والمفسرون، إلاّ أنه ليس هناك أبعد عن الصواب من هذا القول، الذي كرّس فهما شائعا ومسلمات {doxa} يتلبّسها الحس المشترك « sens commun » ، تم تصديقها والجزم فيها بصورة متعجلة دون أدنى درجة من الحيطة والوعي النقدي .*
وفي نفس السياق ، نعرّج على تفسير آخر متناقض في موقفه نوعا ما، لا يبتعد هو الآخر عن المألوف ويصبّ في تكليس نفس التصور حول واقعة الانشطار النشوئي للكائن. فهو يقرّ من جهة، أن آدم قد حلم بحوّاء وتجلّت له في منامه اللاواعي، وهو ما بات يعرف عند عامة الناس بتحقّق الحلم. غير أن هذا التفسير يضيف من جهة أخرى، واقعة انسلال حوّاء من صلب آدم أثناء نومه. فنحن نتّفق مع الواقعة المتعلقة بالحلم وتحقّقه في الواقع، كمنطلق للتفكير في سؤال الرغبة ومكانتها في قصة الخلق الأنسي. وينظر ذلك لما يمكن أن يحققه هذا السند من مرامي نتغيّا إيضاحها من خلال هذا التأويل الذي نقدمه لحلم آدم. موضحين إثره، أنه مادام هناك منام في قصة البدء، إلاّ وكانت هناك رغبة شكّلت مضمون الحلم اللاشعوري في المنام. بينما نعرض في المقابل على التفسير الضّلعي للخلق الأنثوي الذي نراه يسقط مطرح تناقض حادّ، عندما يرّد خلق حوّاء من داخل آدم، حيث يحضر الحلم وتغيب الرغبة، وهو غير الممكن في نظرنا، مدلّلين في ما تقدم من البحث لماذا ؟
لنتوقف عند هذا التصوير الأجوف لتشكّل الكائن الأنثوي في قصّة الخلق الإنسي، ونتساءل معا: هل خلق حوّاء كان حقّا بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة؟ فمن حيث هو ملاحظ إلى حدّ الآن، كيف يقنت التفكير الإنساني في محراب التفسير الأسطوري البدئي، ويمحور حدث خلق حواء برمّته، بل ويختزله في الدّور الوقائي للنوم، الذي يرون فيه تحصينا لآدم من الشعور بالألم، وكذلك من حيث هو – النوم- انفلات أو تعطيل مؤقت للعقل -الشعور- لكي لا يعي صدمة الانفصال والاستلال. وعلى ذكر الانفصال، يفطن القارئ لمتون ابن عربي إلى أن هذا المفهوم مرتبط بما يسميه الوجود الانبعاثي أو الإضافي، فوجود المرأة في فلسفته هو وجود ظليّ انفصالي و انبعاثي متفرع من الأصل (27). وهو يفسر خلق حواء من آدم عبر تفكيره بالظّل، ويري أن وجودها ظلّي انفصالي. على أية حال، هذا يعود إلى التقسيم السالف للوجود والانفصال عنده، حيث تبدو حوّاء في وجودها الانفصالي في تراتبية تقابل النفس الكلية التي هي وجود منفصل عن العقل الأول، الذي يقابله من جهة ثانية آدم*. فالغائب الكبير في التفسير الأكبري (ابن عربي) هي لحظة التجلّي الكشفي للكائن الأنثوي في منام آدم. إن حدث الخلق الأنثوي المتكتّم حوله التاريخ النشوئي، ليس في رأينا مبنيّا على الألم، ولا على الانفصال الصّدمي، بل على الرغبة، وكيف ترجمها الحلم في لاشعور آدم. فالنوم، لم يكن مكانا لرقود النفس، وإنما هو بدا كفسحة لتتكلم الرغبة عن نفسها.
تدعونا الإشارة السابقة إلى التفكير في الحلم كمعبر وجسر نحو مجاهيل النفس وما وراء الشعور. فحدث النوم الذي يهمله الكثيرون في تفسير هذا الحدث، تظلّ له قيمة أنطولوجية أصيلة تتجلّى في وظيفتي الاستباق و الإنباء » الحلم الإنبائي « . فحّواء لم تكن موجود وإنما معدوم، والعدم في العلم الإلهي هو القابل للوجود، بما هو موجود في الأعيان الثابتة. يقول ابن عربي: ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك (28). لذلك نلقي على الطاولة فرضية أخرى تفيد في إمكان لقاء روح آدم بروح حوّاء في العالم الغيبي قبل أن يريان بعضهما في العالم العيني {تجلي الغيبي في الوجودي}، وقذف الرّب صورة حوّاء التي اتّخذت شكل هوام – صورة تلقائية الانبثاق بالتخيل الباطني- في حلم آدم، كاستجابة لنداء الرغبة المسكوت عنها في دواخله، والتي لم يكن من الممكن أن يعرب عنها بشكل مباشر، مادام موضوعها مفقود في الواقع. يقول أفلوطين: إذا انبثقت الرغبة، جاءت المخيّلة فصورت لنا ما يشبه موضوع هذه الرغبة *.
ولكي أدلّكم توّا على هذه الصيغة التي اتّخذتها الرغبة في مسالك النفس، أذكّركم بالغاية من ذكر منام آدم في النصوص الدينية – التوراتية منها والمسيحية والإسلامية وأيضا بعض الأساطير التي تؤمن بنظرية التراكم الملحمي*، رغم اختلاف التأويلات والرموز المنوطة بكل من آدم “Adam” وحوّاء “Eve” من سياق ثقافي لآخر. هذا الحضور البارز للحلم لم يكن مجرد أمرا عارضا، أو إخبارا إلهيا للبشر بخصّيصة أو ضرورة بيولوجية تتمثل في حاجت بنى آدم للنوم وإراحة البدن. بل المقصد قد يبدو أعظم من ذلك بكثير، ويتجلّى الهدف منه إحالة الإنسان منذ سليقته على بعده اللاشعوري والحياة الكامنة وراء الوعي، والتي يشكّل قطاع الأحلام حيزا وفيرا منها *.
استخلاصا لما سبق ذكره، نرى أن الإحاطة بهذه الكيفيّة المجهولة لنا فيما يخصّ خلق المرأة قد تقتضي لزوما العودة إلى الحلم الذي راود آدم في منامه. كما قد نختلف في معرض تأوليه مع بعض التوجيهات الفرويدية المفسرة للحلم كظاهرة نفسية **. فصورة حوّاء تبدّت لأول مرة في المنام، كموضوع موجود تخيّليا وغير موجود ماديا، حاضر وغائب في نفس الوقت. إنّ الحلم هنا يحجب قسطا من الوهم المضمر في الرغبة. لذا فمسألة النوم وتحقق الحلم في الواقع، هي من ضمن الالتباسات المحيّرة في قصة الخلق الإنسي، قد تستدعي منا المزيد من الكشف والتعرية بدءا وانتهاء بسؤال الرغبة.
للمزيد من الكشف عن الكيفية التي نفّسر من خلالها هذه اللحظة الحلمية العابرة في منام آدم والتي تجلّت إثرها حوّاء – كما ذكرنا سابقا – في الخيال قبل أن توجد في العالم الحسي المادي ككائن مجسم. نتوقف عند حادثة طريفة لا تخلو من دلالات ومعاني، وردت في كتاب “طوق الحمامة في الألفة والآلاف” (49)، في معرض الحديث عن أصول الحب وأسبابه { في باب من أحب في النوم}. نسرد بلسان الراوي هذه الأعجوبة على حدّ قوله: “دخلت يوما على أبي السبري عمار بن زياد فوجدته مهتمّا، فسألته عما بها، فيتمنع ساعة ثم قال: لي أعجوبة ما سمعت قط؟ فسألته و ما ذلك؟ قال: رأيت –في نومي- الليلة جارية فاستيقظت، وقد ذهب عقلي فيها، وهمت بها، وإني لفي أصعب حال من حبها؟ ولقد بقي أياما كثيرة تزيد على الشهر مغموما مهموما لا يهنأ له شيء إلى أن عذلته وقلت له: وما الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتعلق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي ؟ فقلت له إنك لقليل الرأي، مصاب البصيرة، أن تحب من لم تره قط، ولا خلق. فلا هو في الدنيا، وعشقت صورة من صور الحمّام لكنت عندي أعذر. فأجاب صاحب المنام بالقول، هذا عندي عن حديث النفس وأضغاثها، وداخل في باب التّمني وتخيل الفكر، وفي ذلك أقول شعرا منه:
ياليت شعري من كانت؟ وكيف سرت؟ أطلعت الشمس كانت أم هي القمر؟!
أظنها العقل أبداه تدبّره أم صورة الروح أبدتها لي الفكر
أو صورة مثلث في النفس من أملي فقد تحير في إدراكها البصر
أو لم يكن كل هذا فهي حادثة أتى بها سببا في حتفي القدر؟ (50).
نتبيّن من خلال هذا المروي السريالي أو الأبيات الشعرية المتأبّية التي صاحبته، لهيب لحظة عشقّية وما يرافقها من أحاسيس مباغتة متدفقة تهزّ الكيان الراغب، يودّ الحالم حين يقظته لو استطال به هذا الشعور عديم الوصف. فهي رغبة نمّت بوضوح عن حالة من الاستشراف الروحي وكأن الكيان المحتجب والغائب أمامك يراك وينظر إليك ويتحدث معك. أما هذا الأثر المنفلت للحضور الأنثوي الهلامي، فقد لا يكفّ عن التّسرب إلى إنتاجات الفنانين والشعراء والأدباء (…) الخ. إذ تراهم يبحثون من خلال مجازات لغوية ولمسات فنية ومقاطع شعرية على تجسيد المرأة كمعنى منفلت، أو كسراب عابر لا يمكن التقاطه *. لربما لغز الإنوجاد الأنثوي هذا إذا لم يخب بنا الظن، ما دفع المحلل النفسي لاكان حدّ القول في عبارته الشهيرة »المرأة لا توجد « كما لو أنه يريد أن يدلّل على هذا التمرئي الهلامي للكائن الأنثوي الذي نحن بصدد كشف تجلّياته، من أجل تعقيل ممكن لهذا الطابع الفلتان للرغبة، لهذا الحضور الأنثوي الذي يبدو كما لو أنه معنى خارج التاريخ الإنسي. مضيفا أنه ليس عبثا أن ملاحظة أن انكشاف الدال الأكثر خفاء، والذي هو دال الأسرار كان مقصورا على النساء.
فما يضفي بعدا أنطولوجيا على قصة الخلق تلك الطريقة الملتوية التي اكتشف بها آدم وجوده الثاني، والتي تبعث بالدهشة والتّعجب، مع وضع أكثر من علامة استفهام حيال الأمر. خاصة من حيث هو إدراك للموضوع – حوّاء- لم يمكن بالمستطاع التّعبير عنه بلغة مباشرة أو جعل فهمه خارج عن نطاق الخيال والرمز. لأنها تمظهرت في الأصل كرغبة صامتة غير منطوقة منفلتة حتى من أسر اللغة وسلطان الكلام *. إن المضي في مسارات هذه القراءة التفكيكية المنفلتة من أنساق الانطولوجيا، يبين بقلق وتعجب؟! كيف هي المرأة من طبيعة طيفية- حلمية، أي أنها وجدت في المتخّيل – نعني حلم آدم- قبل أن تحضر في واقعه ككائن مجسم، أو بالأحرى قبل أن تصير من معدوم إلى موجود.


.../...
 
الرغبة في حوّاء (3): البعد الرغبوي المحجوب في قصة الخلق
يوسف عدنان




لقد سبق أن دعانا الفيلسوف سبينوزا في مسائل تتعلق بانفعالات النفس وطبيعة الرغبة، تجاوز الثنائية الديكارتية القائمة بين العقل والجسد، ذاهبا إلى اعتبار أن العقل والجسد شيء واحد، وذلك من منطلق وجود جوهر واحد يحمل صفتي الفكر والامتداد في نفس الوقت. فالعقل والجسد عند سبينوزا صفتان أو حالان للجوهر الواحد. قد يتناغم هذا المنظور الفلسفي إلى حدّ ما مع تصورنا للرغبة. و الحقيقة وبدون أن نقتصر على هذا الجانب فقط، فقراءة سبينوزا لطالما ما تقودنا إلى ما يمكن أن ندعوه بالمحو الجذري أو الشامل، أن تمحو كل ما سبق أن تعلّمته، وبعددها تتجه نحو ما هو جوهري. وبداية من هنا نستطيع بناء شيء ما. حيث يصعب التّصديق أن حاجة آدم لحوّاء لم تأتي من رغبة ذاتية جوانية، مادامت الرغبة تشترط في قيامها، ازدواجية بين النفس والجسم (29). فأن نسلّم بأن فعل الوجود الأنثوي كان فقط مجرّد إملاء إلهي نزل كرها على آدم {قضية الضلع}، أو هو ترجمة لإرادة ملغوزة – كتصور ما منعكس في ذهن آدم عن عالم الحيوان – لهو فعلا درب من الهراء. ذلك أن الرغبة لا تنبع هنا من تّصور قبلي*. أولا، لأن الإنسان يرغب في موضوع متعالي عليه، وبالتالي لا يمكن أن يمدّه الفردوس السّماوي بتصور ما عن شكل حوّاء، بقدر ما يمكن أن تتبلور لديه فكرة عن الحياة الثنائية وليس الرغبة في الجنس الآخر. لأن فكرة آدم عن وجود جنس آخر شبيه ومختلف – وإن حدث عكس ما ذهبنا إليه – لن تكون هذه الفكرة – التي هي عبارة عن تصور ذهني- من الوضوح بأن تطابق موضوعها تماما، بكلّ ما في ذلك من مقتضيات البداهة الديكارتية.
إنّ هذه الماهية المبهمة للرغبة الأولى لآدم في الكيان الأنثوي هي ما يجب الانتباه إليه، فآدم رغب في حوّاء لكنه لم يكن ليعلم تماما علّة هذه الرغبة المتيقّظة فيه. فالرغبة هنا تعي ذاتها لكن لا تعي علّتها التي أحجبت عنها، أي انكشاف الجسد فيما بعد، ومعرفة البعد المزدوج للإنسان ككائن شبقي. ومن حيث علاقة الرغبة بشجرة المعرفة، نجد جلّ التفسيرات ترّد لعنة الجنس إلى الشجرة والإغواء الشيطاني، بينما هو في الحقيقة خرق مشدود بمطلب مدفوع بالغريزة. إنّ الشهوة التي وصلت حد التوثب ودفعت بحّواء للأكل من الشجرة وإطعام آدم منها، لم تكن فقط حاجة للأكل أو استسلام منهم للإغراء الشيطاني الحسي، وإنما هي نزوة مدفوعة بمطلب لاشعوري ملحّ، بما هي – الشهوة – عبارة عن كبت الغريزة الجنسية التي تحرّكت عند حوّاء قبل آدم. وسنعود للغوص في هذه المسألة. ثانيا نرى أنه لم يكن هناك نموذج مرجعي قبلي يستقي منه آدم صورة الأنثى قبل أن تتجلّى في منامه ويراها بعدها بدون حجاب في الواقع. لذلك، ولتحقيق هذا الرباط التّعارفي والتناقل العواطفي، كان الحلم مهادا – كما نشرح في تفاصيل بحثنا – لترجمة مضمون هذه الرغبة في المتخيّل أو لنقول في اللاشعور نبعها الأصلي.
ندفع بالتّفكير في هذا المستوى إلى حدوده القصوى، متسائلين: كيف أدرك آدم حوّاء؟ هل من خلال ملكة العقل، أم عن طريق الحس، أم بواسطة الخيال ؟ فإذا عدنا إلى التفسير المذكور أعلاه {أنظر: ص، ص 14 – 15}، فسنجده يقصي جميع هذه السبل المشار إليها توّا، معتبرا إدراك انوجاد حوّاء من طرف آدم قد تم بشكل بديهي، والبداهة كما لا يخفا علينا هي معرفة حاصلة في الذّهن دفعة واحدة من غير نظر واستدلال عقليّ أو خبرة سابقة. و من حيث هي إدراك مباشر لا يتطلّب نوعا من التفكير، وبالتالي سنكون أمام تجاوب فوري لآدم مع حوّاء لم يحتج معه تفكيرا في طبيعة الموضوع المجرد والمعدوم الذي اقتحم عالمه في غفلة منه. غير أن نقطة التأزم « critical point » في هذا التفسير، هو كون خلق ووجود حوّاء لم يكن من تلك البديهيات « axiomatique » الممكن أن ينفذ إليها إدراك آدم في عفويته. فحتى قاعدة البداهة الديكارتية لا تجد لنفسها موطأ قدم في حل هذه المسألة العويصة. فالقضية البديهية هي من تفرض نفسها على العقل بحيث لا تترك له مجالا لأن يساوره الشكّ في صدقها. أمّا التّجلي الكشفي لحّواء في حلم آدم، فقد سبق الإدراك المباشر لها كموضوع بديهي ماثل أمام أعينه بعد اليقظة، أي بعد أن صار المعدوم موجودا. وهنا تفوت على ملكة البداهة العقلية وأيضا الحسية تعقّل الموضوع، لكي نستطيع القول في حقّه أنه بديهي. وبهذه التأملات نكون قد قمنا بإبطال التفسيرات المألوفة لواقعة الخلق الأنثوي الضّلعي والعديد من الخرافات الأخرى المصاحبة لتاريخ الانطولوجيا الذي تبقى مهمة اجتثاثه حاجة ينبغي إنجازها على حد تعبير فيلسوف الكينونة.
ثم بعدها تأتي مسألة الحوار البدئي آدم مع حوّاء، بعد أن تسوّت وانجلت أمام أنظاره لحما ودما وروحا. إذ لابد ولفت الانتباه إلى هذا الحدث البدئي للغة، للكلام الثنائي بين الجنسين. حيث اكتمل الخلق الالهي حينما تلقت الأشياء أسماءها من الإنسان. هذا الإنسان انطلاقا منه فقط يمكن للغة أن تتكلم داخل الاسم (30). فحوّاء وكما نعلم من خلال النصوص التراثية الدينية، لم يخاطبها الرّب واختص آدم وحده بذلك، عندما علمّه الأسماء كلّها، أو عندما أسكنه بسلطان اللغة وألوهية الحرف. وبالتالي نلحظ غياب أي مبادئ قبليّة تختّص بحوّاء في هذا الجانب. بمعنى كيف ستكون حوّاء جاهزة ككيان يتحدث، يحس، ينفعل (…) الخ، لتستقبل سؤال آدم عندما سألها عن نفسها. وكيف كان بمقدورها أن تتعّرف و تعرّف في نفس الوقت نفسها، بدون أن يكون لها وعي مسبق يشمل كل من اللغة، الهوية، الكينونة. ومن جهة أخرى كيف سيكون إقبال حوّاء على آدم وتجاوبها مع رغبته خاصة وأن الوعي بالفارق الجنسي لم يدخل بعد ضمن حيز المعرفة. فمن بين اشتقاقات اسم حوّاء نجد الحوار، المحاورة، إذ هذه الخاصية التي أقحمتها حوّاء في عالم آدم العمودي والأخرس، ينبغي أن توقظ فينا مزيد من الدهشة و التساؤل، بل وأن تبعدنا بما فيه الكفاية عن التّصور المألوف الذي أنفق جهدا في تظليل الفهم على مر تاريخ الفكر الكوني، بتأكيده على أن خلق حوّاء قد تم بشكل فجائي، واستجابت آدم العفوية مع الحضور الأنثوي غير المرغوب فيه. هذا التفسير القاصر، الذي لم ينظر إلى حوّاء كذات أو ككيان، مموقعا بذلك إياها كموضوع هامشي لا ينبغي النظر إليه كغاية في ذاته وإنما مجرد وسيلة أتت لتأنس آدم وتخرجه من وحدته.
من هنا يعود الجدل ليقودنا الى نقطة انطلاقه، لماذا لم يخلق الرّب آدم وحوّاء في وقت واحد؟ فبعد أن خلق الربّ آدم “أب البشرية” وأسكنه في الجنة، أوصاه أن يأكل من جميع شجرها ما عدا شجرة معرفة الخير والشر، وهدّده بالموت إن هو أكل من هذه الشجرة الملعونة. يعيش آدم في النعيم سعيدا سعادة مملّة، ذلك لأنه وحيد فيخلق الرّب جميع حيوانات الأرض وجميع طيور السماء ويقدّمها له، لكن هذا لا يجدي نفعا، بعد أن انتابه الإحساس بالوحدة والفراغ العاطفي، و من حيث شعوره كذلك بعدم الكفاية و نقص في كينونته يصبو للتحقّق. ففي الرغبة كما هو معلوم حرمان واعتراف في نفس الوقت بالافتقار لموضوع الرغبة، إذ هي لا يكمن أن توجد دون افتقارها إلى الموضوع المرغوب فيه. وهي المعادلة التي لم يستثنيها الوجد من كيان آدم. وحيث قال الرّب: ليس مستحسنا أن يبقى آدم وحيدا، سأصنع له معينا مشابها له (31). ووفقا لهذا البعد الرغبوي الذي لا ينكفّ عن التّجلي في قصّة الخلق، يوقع الرّب آدم في نوم عميق استجابة لرغبته. لكن خلافا للرأي السائد، لم يأخذ الرّب واحدا من أضلاعه، ويصنع منها أنثى يقدّمها له، كما لو أن آدم كائن مجرد من الإحساس والرغبة والإرادة. فالنوم وكما وضّحنا سابقا قد بدا كفسحة تتكلم فيها الرغبة عن نفسها، طالما أن إمكانية التعرّف القبلي على حوّاء من قبل آدم لم يكن ممكنا بل مستحيلا إلاّ وفقا لهذا البعد الخيالي المائز في قصة الخلق الإنسي. فالمرأة وبما أنها تتقاسم الجذر نفسه مع المرآة، فإنها تظل متعلقة بما هو مرآوي. فهي “بصرية” بعمق لأنها مقيمة لغويا في الموقع الذي تسكنه الرؤية والرؤيا (32).
لذا، نرى أنه ينبغي القطع من هنا فصاعدا مع هذا الموقف الميكانيكي الذي ساد دحرا من الزمن ولازال، لأنه تفسير يجرّد آدم من رغبته المسبقة في حوّاء. حيث لا يهمنا في هذه الواقعة معرفة من السابق عن خلق الآخر { الذكر قبل الأنثى أو الأنثى من الذكر}، إذا ما أردنا الخروج من هذه الدائرة المغلقة، لأن الجواب يكمن حسب رأينا في موضوع الرغبة ذاته. لقد خلق الرب آدم وحواء كلّ على حدة، ليس لتكون أسبقية للذكر على الأنثى، أو لتخلق الأنثى من الذكر، ولكن لأنه لابد وأن يجري الإحساس بناء على»الرغبة «. فحوّاء هي جواب عن رغبة، ذات شحنة عاطفية إنسية مكثّفة لها ما يبررها وجوديا ونفسيا. لذا لا بدّ من وجود علاقة تبادلية سابقة بين المرسل والمرسل إليه قد شكلت بنية الرغبة، تتوق فيها الذات لتكون موضوع رغبة الآخر. لذلك فلو خلق الرّب آدم وحوّاء في وقت واحد، ما كان الأول رغب في الآخر – غياب موضوع الرغبة – وكان الإحساس سيجري بينها ككيان واحد لا يدرك أنه منفصل عن بعضه ومنفرد ذات الوقت بخصوصياته. بمعنى لن يعي كل منهما طبيعة نوعه، ولا نقصد بكلمة نوعه هنا الفارق الجنسي الفيزيولوجي فحسب، بل طبيعة الاختلاف الوجداني والعاطفي بين الرجل والأنثى، خاصة و أن الوعي بالفارق التشريحي لم يكن في حقل مدركات أي منهما حتىّ تذوّقان من الشجرة المحرمة، لتتحدّد معها ماهيتهم الجنسية. وصفوة القول أن وجود حوّاء وخلقها لم يكن ليكون له معنى دون رغبة مسبقة من آدم في هذا الموجود *.
وفقا لما تم ذكره، نرى أن رغبة آدم، هي رغبة في حوّاء – النظير الآخر للذات- أما رغبة حوّاء فهي رغبة في رغبة آدم “رغبة الرغبة” فالمرأة ترغب داخل مجال رغبة الرجل. ومن هنا يأتي تفاوت مشاعر الرجل والمرأة تجاه بعضهما: الرجل مظهرا للطرف المحب العاشق الطالب، والمرأة مظهرا للطرف المحبوب المعشوق المطلوب. إحساسات الرجل تمثل الحاجة وإحساسات المرأة تمثل الدلال، وإحساسات الرجل طالبة وإحساسات المرأة مطلوبة. فالمرأة هي جواب عن رغبة وعليها أن لا تخجل أو تشمئز من ذلك. ولكي لا يعتقد القارئ انني أعطي معنى أحادي هنا للرغبة – أي بردها إلى طرف واحد – بينما الأمر ليس كذلك. فمن مستعصيات التحليل هذا الإشكال بالذات. أي كيف يمكن لحوّاء أن تكون كذلك ذاتا راغبة في آدم ؟ إن السبيل الوحيد للجواب عن هذا اللّغز المستغلق كما بينت سابقا، هو العودة إلى مضمون الحلم اللاشعوري.
فالمرأة لم ترغب في آدم وهذا مما يعمّم على باقي بنات حوّاء، ولكن تجاوبت مع رغبته. لذلك قلت أن رغبة المرأة هي رغبة في رغبة الرجل. وإن كان العكس صحيحا، فلماذا يتنافس الذكور دائما من أجل الفوز بصحبة الأنثى وتقع بينهم الحروب والمنازعات لذلك، أما في الإناث فلا يحدث أبدا الحرص والولع لاصطحاب الذكر ؟ السبب هو أن دور الذكر غير دور الأنثى. فجنس الذكر اقترن بدور الطالب/ الراغب، وجنس الأنثى لم يطلب جنس الذكر بحرص وولع مطلقا، بل يظهر نوعا من الاستغناء وعدم الحاجة رغم تعطشه. فقانون الخلقة قد منح المرأة الجمال والغرور والاستغناء، ومنح الرجل الاحتياج والطلب والعشق والتغّزل وهكذا نجد الرجل هو الذي يذهب لخطبة المرأة ويبادر لطلب يدها، وقد لا يخلو الواقع من أمثلة أخرى.


.../...
 
الرغبة في حوّاء (4): لاشعور راغب في صمت
يوسف عدنان

“إننا نقتنع بالبراهين التي أقمناها بأنفسنا أكثر ممّا نقتنع بالبراهين التي أقامها غيرنا” بليز باسكال

نرى حسب ما تبيّن لنا على مدار انشغالي الشغوف والمطوّل بهذا الموضوع، وكذلك من حيث نقاشاتي المثمرة مع بعض الزملاء في مختلف التّخصصات العارفة حيال بعض القضايا والإشكالات المتعلقة بقصة الخلق الإنسي، أنّ آدم اختلجته رغبة قبلية مبهمة ومضمرة في المرأة ، لذلك تطلّب تجلّي حوّاء في منامه قبل أن تخلق في الواقع. فالحلم هنا هو جواب عن رغبة، تلك الرغبة التي لم تستطع أن تعرب عن طلبها أو تجد موضوعها في السجل الواقعي، سيزيحها الأنا إلى الخيال الحالم. بل يمكن القول أنه في اللاشعور بالضبط تموقعت وظيفة الرغبة. هنا يسقط الحجاب السميك على أسطورة البدئ وتنقشع لنا حقيقية المنام -حلم آدم- وكيف أن الرغبة في المرأة، في الأم حوّاء، قد تجسّدت من حيث الأصل في كنه اللاشعور.
وجل المقصود من تأويلنا هذا المقدّم، هو تحقّق ما كان حلما في الواقع، أن يعدو الغيبي حقيقي، وهذا أكبر دليل ساطع على أن خلق حوّاء لم يكن من داخل آدم – من ضلعه- بل وبدون رغبة مسبقة لدى الطرفين كذوات راغبة في بعضهم البعض. وفي سبيل الخروج من هذا المأزق الذي يستعصى عن الفهم، نشدّ على الأخذ بباطن التفسير لا بظاهره. فقد تطلّب خلق حوّاء تمهيدا قبليا ترجمه مضمون الحلم – التجلي الأنثوي في المنام – قبل حضور حوّاء ككائن مجسم. وبالتالي يبدو لنا أن إيلاء أهمية إلى المعطى الجسدي في خلق و تكون الأنثى {معطى الضلع} ليس ذي بال، أمام الجانب اللاشعوري والباطني. فالفهم المبسط، ينساب نحو التماس القاعدة الفيزيولوجية – الضلع- مبدآ للتفسير. أما الطرح المخالف الذي نعرضه، فيتقصى تحديدا من داخل السجل الخيالي والباطني.
ففي اعتقادنا، لم يحدث أن خلقت حوّاء بشكل فجائي أمام أنظار آدم، كما لو أن الأمر قد كان خارج عن رغبة آدم من جهة، وتجاوب حوّاء مع هذه الرغبة من جهة أخرى. ففي المنام رأت حوّاء كذلك آدم وحظيت بفرصة التّعرف على هذا الكيان المخالف، فكان مجال الرغبة الخيال وليس الواقع المادي. ولا يمكن أن نتصور عقلا أو نقلا عكس هذا المنظور، لأن وجود حوّاء لم يكن ليكون له معنى وقابلية للإمكان بدون رغبة مسبقة من آدم في هذا الموجود. بما هو يحضر كانكشاف حقيقي للوجود، بالمعنى الذي يعطيه هايدغر لمسألة حضور الكينونة واختفاءها (33). فاكتمال الوجود تمّ مع متول حوّاء في العالم، هذه الإضافة التي قد منحت آدم ولادة ثانية اكتملت معها إذا لاحظنا الكينونة الإنسانية.
ونأتي هنا على تأكيد أنه حتىّ الجنس هو حدث خافي لم يكن المتضمّن الظاهر للرغبة – أي رغبة آدم- لأن موضوع الرغبة في البدء لم يكن هو جسد حوّاء، بل هي رغبة تعلّقت بالكشف والإلهام وإعادة النظر في الموجود وثقله الجسدي من خلال انعكاس صورة آدم في وجه حوّاء، المرأة كمرآة. فالمرأة مرآة الرجل، أي صورته الأخرى التي يمكنه من خلالها أن ينظر فيها لنفسه، وذلك الأنا الذي يخاطبه ويملئ عالمه، وبالتالي فوعي الذات بذاتها يدين بشكل قوي لحضور الآخر في صلب التجربة الإنسانية. فالرغبة أيضا وأساسا رغبة فيما سوى الذات، في شيء آخر غير الذات كما أوضح ذلك ديالكتيك الرغبة الهيغلي المسحوب على المرأة (34). إنّ الرغبة منقاضة بتخالج، يخرج بالذات من تطابقها مع ذاتها، واعتراف بوجود الموضوع خارج الذات، وبعيدا عن متناولها *. فإلى متى سيظلّ الذهن البشري يقاوم هذه الحقيقة، حقيقة الرغبة الآدمية المتوارية خلف جدران السرد التاريخ البدئي.
من كلّ هذا وذاك، نجد أنّ الموقف المتصلّب والبارد، الذي يتمسّك بوهم انسلال حوّاء عن جسد آدم أثناء نومه، واقتحامها عالمه فجأة عندما استفاق، بدون أدنى علم مسبق له بطبيعة هذا الكيان الذي من المفترض أنه رغب فيه أولا، لهو نفس الموقف الشّبقي الذي يغيب معه التمثل القبلي اللاجنسي للجسد – ويمحو كل رغبة حقيقية في المرأة المنفصلة عن الأصل الذكوري- بوصفها وجودا مستّقلا- نافيا بذلك تلك الرغبة التي لا تحمل طلاسم العلاقة المعقدة مع الجسد الأنثوي، تلك الرغبة في المرأة ككيان باعتبارها موضوعا خارجيا مفصولا ذاتا ومعنى، له مواصفاته وخصائصه المختلفة. وهذا ما أقصده تحديدا بتحرير المعنى من مركزية المعنى. لا بتقليص الوجود الأنثوي أنطولوجيا الى مجرد سلب خالص، يكاد لا يمت الى الوجود سوى بصلة التحديد السلبي لذكورية المذكر الموجبة والممتلئة. بحيث أضحت الذكورة تشكل مرجعا، لا تتعرف المرأة عن ذاتها وجنسها وهويتها إلا من خلاله، أي أن المرأة لا تتعرف على هويتها الجنسية إلا سلبا، كما لو أن في وجود المرأة نقص أصلي، خواء، ثقب، جرح (35). إذ ينبغي علينا تفكيك هذه القواعد الارتهانية قصد تحرير المرأة من تبعات الانغلاق الأسطوري الذي يحويها تاريخيا. بحيث أننا عندما نقوم بتفكيك للأصل الأنثوي على هذا النحو، نكون بصدد هدم وتشييد، استئصال وتجذير محو وتأسيس، نعيد من خلاله كتابة تاريخ مضاد للرغبة المهدورة في مستواها الأنطولوجي العميق.
لعّل نفس السؤال المأزوم الذي توقف عنده فرويد: ماذا تريد بالفعل المرأة ؟ أو بالأحرى من تكون الأنثى ؟ قد حاول أن يستأنفه وريثه جاك لاكان “Jaques Lacan” لكن بدون جدوى، ما دام هو الآخر قد انتهى في متاهاته التحليلية الوعرة التضاريس، إلى اعتبار وجود المرأة لغز محيّر، لنكون أمام رغبة بدون موضوع. ويستغلق الفهم أكثر عندما يدخل على الخط، حس تحليلي نسوي، يدفع بالنزوع الجنسي الأنثوي خارج مآخذ التأمل القضيبي. فأن نكون أمام رغبة بدون موضوع، هذا ما قد يجني اختلافا ليس بالهّين مع الموقف اللاكاني من الرغبة والأنوثة. وذلك بتوجيهنا السؤال صوب ذلك الأصل الضائع في خبايا أسطورة الخلق الإنسي، إلى تلك الهوية الأنثوية المحجوبة، التي طالها كما يزعم جرح التّفضيل الإلهي، لا أن نشرنق الرغبة في متاهة نصوص ميثولوجية ومسرحية، يمكن أن تقرأ بأكثر من نظّارة واحدة، وتخترق من نوافذ نقدية وتأويلية متنوعة، حسب المرجعيات التي يتكّل عليها كلّ عارف ومفكر * .
بالرغم من كون العديد من الكتابات والأبحاث قد أسهبت في الحديث عن البداية النشوئية من زوايا تخصصيّة مختلفة، ليصير الأمر غير خاف عن البشرية جمعاء، إلا أن هذه القراءات والتأويلات الأحادية ظلّت قاصرة على استبطان البعد الخيالي المراد من التجربة الحلمية لآدم، حيث إذا ما استثنينا هذا السجل -الخيالي- لا نكاد نجد أيّ حضور للرغبة في نزوع الكائن الإنساني. وإذا كان هناك من تعديل أو تصويب محتمل للنزوع الإنسي الرغبوي، فهو يمرّ بالأساس من إعادة فهم جذري للعلاقة المعقدة بين الكائن و جسده، بغية فضّ الغبار عن تاريخ منسي لا يترك وراءه أي علامة تسمح باقتفاء أثر الرغبة في قصة الخلق الإنسي. وسأقدم أول ملحوظة بخصوص هذا الجانب:
فالرغبة الأولى لآدم في حوّاء، قد كانت رغبة منفلتة عن أي تصور شبقي- إيروتيكي للجسد الأنثوي. و دليلنا على هذا الطرح، كون آدم وحوّاء لم يدركان معا مفهوم الجنس المتمثل في العورة، إلاّ بعد الأكل من شجرة المعرفة التي حذّرهما الرب التذوّق منها، مع العلم أن هناك كثير من الروايات التي تتضارب في هذا الشأن. خاصة حول كيفية حصول الإغواء، وتلازم هذا الخرق للمحظور بانفتاح عالم المعرفة والجنس والموت. هذا الثلاثي المفزع الذي انحشرت في ديدانه الرغبة. إذ علينا أن نوقن أن غريزة الجنس لا زالت قبل “الخرق” طاقة معطّلة شبه عمياء لذا كلى النوعين، ومتضمنة لمفعول مؤجل. وهو ما وجد تعبيره في دنوّ الرغبة إلى حضيض الحاجة الفيزيولوجية موقظا الغريزة الجنسية. بمعنى من المعاني، إنها رغبة تمثل الشكل الأسمى للنزوع الإنسي، بحيث تغيب فيها أي شهوة جنسية وعلاقة هيمنة حول رهان أسبقية امتلاك الفالوس. حيث لم يكن هذا الرمز الدّال – بالمعنى اللاكاني – ذي بال في التّمثل القبلي لآدم وحوّاء عن حقيقة ذواتهم. فالعشق البدئي كما كان الرّب يريده لا تشوبه فكرة الزواج ولا الخطيئة (36).إذا كان هذا التصور الذي نقدّمه يدلّ على شيء، فهو ينفي بشكل قطعي لا يخلو من براهين، وجود أيّ تصور مسبق للمرأة كجسد شبقي في المتخيّل الآدمي، لأن الفارق الجنسي الليبيدي لم يجد هنا تعبيره الوعيوي و الأخلاقي/ المعياري، حتىّ حدث انفلات الرغبة من مجالها العذري {العلوي} إلى قطب الواقع الشهواني {الوجود الدنيوي} .” إن الفعل الجنسي قد عبّر عن نفسه منذ قصة الخلق ككبت لاشعوري أصيل، كمعنى مؤجل للشّبقية الشهوانية الأرضية “.


.../...
 
الرغبة في حوّاء (5): النهي الإلهي والرغبة والخطيئة الأصلية
يوسف عدنان



تحتلّ واقعة الخطيئة مكانة بارزة في الانعطاف بمصير الكائن البشري. وإذا عدنا إلى أسباب طرد آدم وحوّاء كما ورد في المؤدلج الأسطوري البدائي فسنجدها تعود إلى غواية الشيطان الذي أخلاهما من فردوسهما الخالد إثر أكلهما تفاحة الأبدية التي دلل إليها الرمز الأسطوري إلى “الشهوة”، وكشف لهما حقيقة عريهما حينما تبدّت لهما سوءاتهما وتمثل في الرّمز ولادة وموت، ويبدو أن كشف الوعي العقلاني للحقيقة الجنسية أضحت في المنظور الأسطوري المؤدلج لعنة أو خطيئة آثمة اقترفتها حوّاء {الأنثى} وجعلت من آدم {الذكر} أداة إلهية تقتص من الأنوثة عقابا تجاه خديعتها الذكورة (37). ففي التأويل الإسلامي تظهر المرأة على أنها هي التي تعرف ما له علاقة بالجنس. إذ حين سألها آدم لماذا خلقت أجابت: لتسكن إليّ. فبفضل حوّاء عرف آدم أنّه يحمل قضيب (38). لكن كيف يجوز هذا التفسير ونحن نعلم أن الأعضاء التناسلية مازلت قبل الخرق محجوبة عن ذواتهم وخارج نطاق مداركهم. لقد ذكرنا سابقا كيف احتجب وراء الرغبة ثالوث مخفيّ عن آبائنا آدم وحوّاء، وهو يضمّ كل من المعرفة و الجنس والموت. فالمعرفة تمثلت في إعادة اكتشاف الجسد الإنساني وممكناته. والجنس وجد جوابه في استيقاض الغريزة وما هو فطري. أما الموت فكان نتاج خرق المحظور لتفنى الرغبة التي طلبت الخلود في ذاتها. فالحب الذي كان موّجه فقط إلى الذات الربانية قد عرف مع خلق حوّاء خفضا من درجات التعلق الروحاني بالخالق. وهو ما يمكن أن ندعوه بحب الإنسانية لبعضها البعض، وينعت الفيلسوف لوك فيري هذا النوع من الحب ب “الأفيليا” .
لقد مثل النهي الإلهي عن الأكل من الشجرة المحرمة أوّل تابو يكون للإنسان من تاريخ ، بل كان الوجود سديما، لا زمن له. وعندما أكل آدم وحوّاء من شجرة المحرمة كسرا التابو ومزقا حاجز الجهل، فاكتشفا جسديهما واكتشفا عرييهما، ورأيا أنهما جسدان مزودان بأعضاء تناسلية. ومن هذا الاكتشاف الجميل كان للإنسان، وبدأ تاريخ الإنسان على الأرض باكتشاف الجسد (39). إذن فاكتشاف الجسد لم يأت اعتباطيا أو صدفة، بل جاء لأن آدم وحوّاء أكلا من شجرة متميزة جدا – تميّز المحظور – هي شجرة المعرفة. وبهذه القراءة للخطيئة الأصلية، تنتفي علاقتها بالجنسانية والمرأة، وتكون الخطيئة الأصلية التي عجّلت بخروج آدم وحوّاء من الجنة هي خطيئة إرادة المعرفة (40). وما دامت الشجرة لم يحصل تعرفيها ولا ذكر طبيعتها في الكتب السماوية، فهي إذن دال مفصول عن مدلوله.
كما لا ينبغي فهم حضور الشجرة بالمعنى الظاهر. فالإشارة إلى الشجرة في لحظة الإغواء لا يجب أن يستحوذ عن تفاصيل الحدث. ويمكن أن نفسّر ذلك من خلال ما تذهب إليه الآية القرآنية: “وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما. ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين” (41). إن التّحذير هنا لا يتعلق فقط بالأكل أو التّذوق، ولكن بجانب من اكتشاف المحظور. فالشجرة رمز للمكبوت، للوعي بالجنس وبداية المعرفة بالخير والشر واشتغال عداد الموت. لذلك جاء الخطاب الإلهي محذّرا من القرب منها وليس فقط فعل الأكل. والشجرة أيضا رمز للموت وبداية مسك الأرواح. لأن الإنسان هو في الأصل خالد، ويبقى كذلك بعد حياة البرزخ والحشر، لهذا قرّر الشيطان المعروف بغروره أن يربك حضور الإنسان القلق في الوجود.
في نفس الصدد، تقول آيات قرآنية أخرى: ” فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربّهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين” (42)، بمعنى أن آدم كان فعلا خالدا قبل الأكل من شجرة المعرفة. لقد أخرج إبليس الإنسان من حياة الخلود، وهذا الجانب قليل ما يرغب الخالق الحديث عنه *.
لكن ألا يمكن أن نرى جانبا من الصراحة الماكرة في إغواء إبليس لآدم وحوّاء. فالإنسان ولو أنه كان خالدا في النعيم لا يذوق طعم الموت، إلا أن الأكل من الشجرة قد دعاه إلى خلود آخر أرضاني، وهو ما وجد تعبيره في تناسل البشر وانتشارهم. ولذلك سميت الشجرة المختلف حولها بشجرة الخلد. فهي إذن بداية الامتداد بعد الأكل منها عبر تاريخ الإنسانية من خلال التناسل. وربما كانت الرغبة في الخلود وجدت جوابها في استيقاظ الدوافع الجنسية للتناسل، مادامت هي الوسيلة الميسرة للإنسان للامتداد وراء العمر الفردي المحدود. كل هذه فروض لتفسير مصاحبة ظهور سوءاتهما عند الأكل من الشجرة. فالرّب لم يقل فبدت سوءاتهما وإنما قال فبدت لهما سوءاتهما. مما يؤذن أنها كانت محجوبة عنهما فظهرت لهما بدافع داخلي من إحساسهما (43). هذا، وقد ساد اعتقاد أن “عزازيل” ملاك غير جنسي – لا يملك جهازا جنسيا- مقارنة بالإنسان الجنسي، إذ أن عامل الغيرة من جنسانية الإنسان تدفعه لأن يحرّض الشعور بالافتتان والشبق الجنسي لفعل المنكر وايقاع المرء في جريرة الخطيئة (44).
ويبقى السؤال المحيّر يحوم حول شجرة الخطيئة وحقيقة الإغواء: هل كان لإبليس علم مسبق بالجانب الشهوي لدى الإنسان والغريزة المكبوحة في جوفه ؟ وهو ما يفسر إغواءه لآدم وحوّاء كما لو أنه على معرفة بمكمن ضعفهما. ذلك أن العورة لم تكن بادية سوى بالنسبة لهما فقط من ضمن المخلوقات الأخرى. إذ لمّا وقع الخرق كانت الأعضاء التناسلية مصدر خجل لهما وحدهما، مع أنه لم يطرأ على جسديهما أي طارئ مادي سوى الخطيئة. أم أن إبليس لم يكن ليعلم الغيب، وبالتالي تجوز تبرئته من وزر الخطيئة، بما هو كان محرضا على تنفيد أمر كان مفعولا ؟
إن الجنس ليس فاحشة أو زنى، لكنه بدا كذلك عندما استعجل آدم وحوّاء فعل العلاقة الجنسية في الملكوت الأعلى. فكانت نفس الخطيئة التي استمرت في الذرية إلى يومنا. وهذا هو السّرد المخبوء في قصة الخلق الإنسي. فكلّ الأجواء المحيطة بالخطيئة والشجرة المحرمة تقود إلى أن آدم وحوّاء استعجلا الأمر بعد أن نسيا تحذير الرّب لهما، ومارسا العلاقة الزوجية الجسدية قبل أن يأذن لهما. سواء أكان السبب في الّنهي عدم جواز ممارسة تلك الفعلة في الملكوت أو لأن مصلحة آدم وحواء كانت في تأجيل ارتباطهما جسديا فترة من الزمن حتى ينضجا جسدياً ونفسياً قبل أن يبدآ علاقة الأزواج (45). ومن ضمن مقاصد الآية القرآنية ” يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (46)، أن آدم وحواء قد فتنوا ومارسوا العلاقة الجنسية، بعد أن بدا لهما شيء جديد من أمر جسديهما. في حين تدلّ كلمة نزع {ينزع عنهما ثيابهما} على انكشاف النزوة أو تلك الطاقة الليّبيدية المغشية. والدليل على ذلك أن جسدا آدم وحوّاء لم يتغيرا في الظاهر ولم يطرأ عليها جديد بعد التذوق من الشجرة. كما لم يكونا يرتديان ملابس ليخلعاها. يقول الرّب: “كان آدم وامرأته عريانين ولم يعتريهما الخجل” (47). من الواضح أن لو كانت لهما ملابس لأعادا ارتداءها، وبذلك تصّح عبارة نزع هنا على الثياب الملموس والمحسوس. فاللباس غير الثوب في لغة القرآن. ومن الجائز أن يكون اللباس الذي نزعه الشيطان ليس لباسا روحيا إنما هو شعور ساتر، لربما قد يكون هو شعور البراءة والطهارة والعذرية أو تلك الغشاوة التي كانت تحجب عن الإنسان حقيقته الأخرى ككائن يريد أن يعرف، يرغب، يتهيّج، يحي ويموت.
إن اللامفكر فيه في الخطاب الفلسفي هو حضور “الرغبة” في قصة الخلق الإنسي {آدم / حوّاء}. وهو غياب نحسبه انفلات من الوعي وحقل التفكير، الذي لم يسبق له أن أظهر أو أخفى سؤال الرغبة فيما يخّص أنطولوجيا البدء الإنسي. ويعزى ذلك في نظرنا الى التفكير في ماهية الخلق الأنثوي على أساس معيار مذكر، بمعنى حلول مسلمة الخلق الضلعي كعلة يرجع إليها أصل الموجود الأنثوي. لذلك فمن دعائم تقويض هذه الترسيمة المسجلة في لاوعي المعرفة، هو النظر بالمقابل إلى المرأة كاختلاف من خارج الأصل الذكوري وليس من داخله. فليس الاختلاف الجنسي سبّاقا عن الاختلاف الأنطولوجي، وإنما أريد به أن يكون كذلك، لمحو سمة الوجود الأصيل، الذي يؤوي الكينونة من كل تمزق وانشطار وتشظي، ويتحقّق فيه لاجنسانية الدازين « dasein » الوجود هنا être – là حسب هايدغر.
يبدو من اللازم في هذا المقام الوقوف عند ولو بإيجاز عند دازين هايدغر، مادام يحمل هذا المفهوم طابع الاختلاف الجنسي الذي فكّر فيه من منطلق بنية الوجود الأنطولوجي للكائن الحيّ من حيث هو منفتح في وجوده على الآخر “الوجود مع. « l’être – avec » هذا وإن كان هايدغر لا يأتي على ذكر الاختلاف الجنسي أو الجنسانية sexualité ، مفضلا الحديث عن التأويل السالب « privative » الضامن لكل ما هو حيادي ولاجنسي ومختلف، تختفي فيه العلامة الجنسية التي تفيد الانتماء إلى جنس معين. فإذا كان الدازين لا ينتمي الى أي من الجنسين عند هايدغر – حسب تأويل دريدا – فهذا لا يعني أنه كموجود مجرد ومحروم مما هو جنساني. على العكس يمكن أن نفكر هنا في جنسانية قبل اختلافية « prédifférencielle »، أو بالأحرى قبل ثنائية (48).
كلمة ختامية
بعد أن قطعنا مسافات غائرة في تشريح السؤال المتعلق بقصة الخلق الإنسي، نكون قد وصلنا إلى منتهى هذا البحث. ولا نشاء بالبثة في ختامه استعادة أو تركيب أهم لحظاته، كما لو أننا نرسم اكتمال و انغلاق الأفق الباعث إلى المزيد من التساؤل والتفكير في جل القضايا التي تثيرها هذه الورقة. ومما لا يدعوا للشك، أنه لم يكن لهذا البحث أن ينضج ويستوي، لولا تلاقح العديد من المنظورات المعرفية مع بعضها البعض، لتلقي بظلالها على هوامش وفراغات، ربما قد وجدناها هي من صنعت المعنى في هذه القراءة المأنسنة للجنسانية في بعدها المتصل بالرغبة، وتحديدا الإشكالية التي تثيرها الثنائية “ذكر / أنثى”، وكذا مجمل التفرعات التي يلحقها جدل التقابلات الضدية « opposition binaire » من : أصل/ فرع، داخل/ خارج، مركز/ هامش، حضور/ غياب، حقيقة/ وهم، وجود/ عدم أو فراغ، أساسي/ ثانوي، مرئي/ لا مرئي، محتوى/ شكل (…) الخ.
إن هذه الورقة ذات النّفس النقدي – التأسيسي، تحاول جاهدة تفتيق معالم رؤيا اختلافية تعيد تقويض الأنطولوجيا النشوئية منذ فجرها، بغية تكسير »التقليد الإنتسابي « الذي بموجبه لا يمكن للمرأة أن توجد سوى في، ومن، داخل جنس الذكر {جسده/ ضلعه}، والحرص في المقابل على إعادة تشييد معنى مخالف يسمح بإرباك نمطية الفهم السطحي، مع الانزياح به عن المسالك المألوفة التي يمتطيها عادة التّفكير بالموضوع، من خلال تطوين مفهوم الرغبة بدل الضلع كمبدأ يقوم عليه تفسير وتأويل واقعة الخلق الإنسي. وحيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحوّاء.
فبدل الاكتفاء بالنقد وتفكيك قصة الخلق الإنسي، نرسم في هذا المنجز منعطفا جديدا لعلّه يتجاوز ويهدي في نفس الوقت لتأويل مغاير من المرجى الأخذ بناصيته كلّ ما تعلق الأمر بسؤال الرغبة في التكوين البدئي للإنسان. إنه إقحام لجانب مهدور من الخيال تتحقق ضمنه قوة التأويل- المتعلق هنا بالحلم – باعتباره الأسبق والأهم في نظرنا عند الحديث عن سرّ ازدواجية الجسد الإنساني، ومحاولة كشف حقيقة الرغبة المتوارية خلف جدار الوعي. فبحضور مفهوم الرغبة في تجربة الخلق البدئي نعيد أنسنة تاريخ البشرية الذي افتقد بالكامل هذه الخصّيصة الإنسانية، والتي من خلالها يعبر الإنسان هذا الكائن الراغب من عالم الأشياء أو الموضوعات إلى عالم الذوات، مسجلا حضوره على نحو منفرد وغائي ومتساءل. ولا يفوتنا التنبيه إلى أنّ هذا المنجز يفتح في أبعاده أفقا وضاءا للفكر النسوي المناهض لكل أشكال المركزية الذكورية.
 
أعلى