الكتاني حميد - المرأةُ في التّراث

[SIZE=6]صراعُ اللغة[/SIZE]

اللغةُ هي قدرُ الإنسانِ وعالمُهُ الذي يعيشُ، وأينمَا ارتسمتْ حدودُ لغتهِ تكونُ حدودُ الإنسان ففي اللغة تكونُ ثقافة الإنسان وفيها يكونُ انتماؤهُ، وفيها يكونُ وطنُهُ وشخصيّتُهُ، فاللغة بتعبير "هايدجر" هي الهواء الذي نتنفّسُهُ ونفكّرُ به. فثقافةُ كلُّ مجتمعٍ مبثوثةٌ في لغتهِ، في نظامها النّحوي، في نظامها الصرفي، وفي نظامها المعجمي، وفي نظامها المصطلحي فمن خلال اللغة نُبصرُ العالمَ وِفْقَ تراتُبِيّات، وأنظمة، ودلالات، تجسّدُ في الحقيقة رؤيتنا لحقوقنا داخل اللغة.

فلو نظرنا مثلاً إلى حقل المواريث في الإسلام وجدناهُ يقوم على أسس الفوارق اللغوية الدقيقة التي تتيحها اللغة العربية الثّرّة بكثرة مفرداتها، فنجدُ على سبيل المثال لفظة "الأمّ-المؤنّث" لها سمات دلالية محدّدة هي "الأم - مؤنّث - كائن حي - عاقلة - وريث شرعي"، ونجد لفظة "البنت - المؤنّث" لها سمات دلالية مُحدّدة هي "البنتُ - مؤنّث- كائن حيّ - عاقلة - وريث شرعي".
يقول النحاةُ "أقسام الكلام الاسم والفعل والحرف" يظهر في هذا القول ضمير الرجل المذكر الرجل بارزا في المصطلح النّحوي، ألمْ يكن في مقدورهم أن يقولوا "الاسمية والفعلية والحرفية"؟

لكن الملفت في هذا هو أن نصيب الأم ليس هو نصيب البنت، وهذا راجعٌ إلى أمرين هما أحدهما هو الحكمة الإلهية في قسمة الإرث، وثانيهما هو الوضع الأصلي لِكِلْتَا اللفظتين في اللغة العربية، لأن لفظة "الأم" من أهمّ مقتضياتها اللغوية أنّها "متزوّجة"، في حين أن من أهمّ مقتضَياتِ لفظة "البنت" أنها "عازبة" وهناك مقتضيَات يضيق المقام لبسطها.

إذا تقّررَ أن خطورة اللغة تصل لدرجة تحديد الحقوق المدنية والدينية للإنسان، فهذا كافٍ لكي يكونَ سببًا مٌقنِعاً لمناقشة بعض الآراء التي تعتبر بمثابة مسلّمات في العلوم اللغويّة، وهذه المناقشة ليست من باب التجريح في جهود علماء اللغة والنّحو بقدر ما هي قراءة من زاوية أخرى، لنسمّيها اتفاقًّا بزاوية نظر المرأة/ المؤنّث/ الأنثى.

مع تطور الإنسان في الحياة نظرَ في هذه الثنائية وانعكسَ نظرُهُ في لغتهِ التي يتواصلُ بها، وحدُّ اللغة أنها أصواتٌ يتواصلُ بها الإنسان حسب تعبير "ابن جنّي". وكان أولُ نظر لهُ هو تفريقهُ بين الذكر والأنثى في مستوى اللغة، وهنا أخذَ كلُّ طرفٍ من الثنائية قِسْمَتَهُ في الوجود اللغويّ؛ ويبدو أن قسمةَ الأنثى بقيت رهينة في أيدي الذكر، فأصبحَ يؤنثها حينا، ويذكّرُها حيناً آخر، وحتى مع تطورِ العلوم اللغوية بقيَ الذكرُ مستبدًّا باللغة وعلومها، ويسجّلُ التاريخ قلّة الأعلام النسائية في تلك العلوم، فأصبحت الأنثى ترى وجودَها من خلال زاوية نظر الذكر..

وهنا نشأ صراع اللغة بين المذكّر/ الذكر، والمؤنّث / الأنثى، وكان مسرحُ الصراع هو اللغة، وليست غايتُنا هنا أن نحْصِي عددَ الألفاظ المؤنّثة وعدد الألفاظ المذكّرة لنعرفَ من الأكثر نفوذا في اللغة، لا ليس هذا مرادُنا لأنه من شأنه أن يُدخِلنَا في جدالٍ فارغٍ مع المعاني الأثليّة للألفاظ في الوضع العربي، وواضحٌ أنّ العلماء العرب/ الذكور طبعا ميّزوا بين المذكّر والمؤنّث في المستوى المعجمي بشكلٍ عادلٍ أساسُهُ النظر في وضع المفردة الواحدة ومعناها بناءً على قاعدة أساسية في العلوم اللغوية هي قاعدة السّماع.

ولكن النظر اللغوي ليس هو النظر النحوي، فالنحويّون لم يبحثوا في تعليل تلك الفوارق بين المؤنّث والمذكر، وفي أقصى تعليلاتهم كانوا يكْتَفُونَ بالنظر فيها عن بعدٍ، فهذا أبو حيّان التوحيدي في كتابه "الهوامل والشوامل" ص266. يرى أن تأنيث العرب للشّمس راجعٌ لاعتقاد العرب بأنها من الكواكب الشريفة، وكلّ ما كانَ أشرف عندهم عبّدوهُ، ولهذا عبّدوا الشّمسَ وكان من أسمائها "اللاَّتَ" التي كانت من أعظم معبودات العرب..

وليس هذا موطن الصراع بين المؤنث والمذكر، ولكن بداية الصراع تظهرُ عندما يغيبً صوتُ المرأة عن الصيغ التي كتبتْ بها العلوم اللغوية، مقابل طغيان واضح للصوت الذكوري. هل كان هذا هو أصل "نمط المجتمع الذكوري"، حتى عندما يتعلق الأمر بالعلوم اللغوية؟ هل غُيِّبَ صوتُ المرأة عن كتابة النحو مثلا؟ بداهةً نقول إن ضمير المرأة "المؤنّث" له حضورٌ في اللغة وهذا الحق لم يعطيه للمرأة الرجل، بل وُجدَ في اللغة ابتداءً، وقاعدة السماع كانت منصفة لضمير المرأة مناصفة مع ضمير الرجل "المذكّر".

لكن عندما انتقلنا لمرحلة كتابة نحو اللغة العربية انتقلنا إلى أساسٍ جديد يُسمّى بـ "القياس" أوجدهُ العلماء الذكور، وعندما شرعوا في كتابة النحو كتبوه بصيغة المذكّر، ولهذا نجد أغلب صيغ المصطلح النحوي هي صيغ المُذكّر، في مقابل نزر قليل جاء على صيغ المؤّنث. ألا يمكنُ تفسير هذا كون الرجل تأثر بعوامل جعلتهُ ينتقمُ من المرأة وهو يضع المصطلح النحوي. أم أن الأمر يتعلقُ بإقبارِ صوت المرأة وكفى. يبدو هذا قريبا للصحة لأنه حسب ما وصلنا من كتب النّحو لا نجد أسماء نساء عالمات تحدّثنَ عن النحو، أو ساهمنَ في بناء صرح النظرية النحوية وصياغة مصطلحاتها، ولو أنهُ وصلنا كتاب واحد من تأليف امرأة حتما كنّا سنجدُ خلافاً في صياغة المصطلح النحوي بين الصيغتين "المذكر والمؤنّث" سيبدو فيها صوت المؤنّث واضحا.
ما دام التأنيث ليس أصلا في اللغة، وما دام أنه ثانٍ، وما دامَ أنه فرعٌ طارئ على الأصل الذي هو المذكر، فلا ضيرَ في عدم الاعتماد عليه في صياغة المصطلح النحوي.

من خلال النصوص التي سندرجها سيتضح استبداد ضمير الرجل المذكر بالمصطلح النحوي، وكأنّ النحاة الذكور أرادوا أن يوحّدوا ضمير المصطلح تذكيرا وحَسْب، وقد فعلوا ذلك، وعندما كانت تعترضُهم ضرورة وضع مصطلح على ضمير المؤنث كانوا يحتالون عليه بإدخاله في أحكام معقّدة، وفي أحسن الأحوال يضعوه في حكم الشاذ الذي لا يُقاسُ عليه، والقياس قال به العلماء الذكور.

يظهر استبداد ضمير الرجل المذكر وانعدام ضمير المرأة المؤنث في أهمّ ركن من علم النّحو، يقول النحاةُ "أقسام الكلام الاسم والفعل والحرف" يظهر في هذا القول ضمير الرجل المذكر الرجل بارزا في المصطلح النّحوي، ألمْ يكن في مقدورهم أن يقولوا "الاسمية والفعلية والحرفية"؟ ليس هناك إلا جواب واحد هو أن النحاة الرجال الذين صاغوا المًصطلح النحوي نظروا لضمير المرأة المؤنث على أنه: فرعٌ وتابعٌ وثانوي، فهذا ابن الأنبا ري يقول "اعلم أنّ المذكّر أصلٌ للمؤنّث" كتاب البُلْغة ص 63.

ويقول سيبويه "الأشياء كلّها أصلها التذكير ثم تختصُّ بعد" الكتاب ص 122. ويقول أبو علي الفارسي "أصل الأسماء التذكير والتأنيث ثان له". أما أبو حيان فيرى أن "كل مؤنّث أصلهُ مذكر عندَ العرب" كتاب الهوامل ص 267.

ما دام التأنيث ليس أصلا في اللغة، وما دام أنه ثانٍ، وما دامَ أنه فرعٌ طارئ على الأصل الذي هو المذكر، فلا ضيرَ في عدم الاعتماد عليه في صياغة المصطلح النحوي، ليس رأينا هنا من قبيل التعسف على هذه النصوص وغيرها، بقدر ما هي رؤية من زاوية مغايرة هي زاوية ضمير المرأة المؤنث، سنكمل رحلة استنطاق النصوص الذكورية في الحلقة القادمة من هذه السلسلة بحثنا عن ضمير المرأة المؤنث في المصطلح النحوي، وبحثا أيضا عن امتداد التصورات اللغوية النحوية في الثقافة العربية.
 
حميد الكتاني -
المرأة في التراث اللغوي: الخفّة و الثقل \ الصوت و المعنى
(2)

1) الخفة و الثقل
تحيلنا ثنائية الخفة و الثقل على تصوُّرٍ اكثر تحيُّزٍ لصالح ضمير الرجل المذكّر، يظهر هذا بجلاء عندما نبحثُ في التعليلات التي يقدّمُها بعض النحاة لكثير من الظواهر النحوية ، فهذا السجستاني يقول ( اعلم أنّ المذكّرَ أخفُّ من المؤنّث؛ لأنّ التذكير قبل المؤنث، فلذلك صُرفَ أكثرُ المُذكّر العربي ، و تُرِكَ صرفُ المؤنّث العربي) يقْذِفُنا قول السجستاني في بحرٍ متلاطم الأمواج تًصادر فيه حقوق المؤنث تحت ذريعة العلل المانعة من الصرف !! فقول السجستاني يُحيلنا على قاعدتين أساسيتين ، الأولى متعلّقة بالخفّة و الثقل. و الثانية متعلّقة بالممنوع من الصرف في اللغة العربية، يرى النحاة في الفعل الماضي مثلا (ذهب : فعل ماض مبني عل الفتح..و هو مبني على الفتح لأنه أصل في السماع.) أمّا في نحو(ذهبتْ : فيقولون في تاء التأنيث الساكنة أنها لا محلّلها من الإعراب) و هي عند ابن يعيش في ‘شرح الفصل’ لتأنيث الفاعل في بنية الجملة ، و ليست لتأنيث نفسها، و هناك اضطهاد آخر لصوت الأنثى في السياق التركيبي للجملة. أمّا في حالة تعدّد الفاعل لفعل واحد من قبيل (جاء زيدٌ و خالدٌ و زهيرٌ و فاطمةٌ و سعادٌ) فإنّ الفعل يأخذ صفة التذكير التي هي أصل فيه و هي تتطابقُ تماما مع الفاعل المذكر، و رغم أن الجملة تضم فواعل مؤنثة فإن صيغة الفعل تبقى مذكر لأن المذكر أصل و المؤنث فرع .ص 353. يظهر التحيز في أن الأصل يأخذ إعرابا بالبناء على الفتح لأنه أصل، و الأصل مذكّر، و المذكر لا علامة له، لأنه أصل لا يفتقر لعلامة تدلُّ عليه حسب تعبير السجستاني في الصفحة 36. و يبدو أنّ ثنائية الأصل و الفرع (المذكّر \ المؤنث) ستلاحق المؤنث\ المرأة حتى و هي تتخذ موقعا إعرابيا، فما بالنا إن بَحَثَتِ المرأة المؤنث عن موقع في الحقوق المدنية !! و يتابعُ السِّجِسْتاني أنّ المذكّر أكثرهُ ينصرف ، و الأكثر يدخلُ في العموم الذي يطّردُ و يُقاسُ عليه، و اللغة تؤخذُ بالقياس كما ورد عند علماء النحو الذكور. أمّا المؤنث فهو متروك لا ينصرف، وذلك لعلّة مرضيّة هي “التأنيث” تظهرُ على المؤنث لفظا و معنى !! يضعُ النحاة لمنع صرف المؤنث قيدين ؛ أحدهما لفظي، و ثانيهما معنوي، هل يا ترى يتعلق الأمر بعدوٍّ سيحاربهم فتراهم قد وضعوا له قيدين لكي لا ينصرف و لا يتحرك، و لا تظهر عليه علامة الحرية، لأنه إن ظهرت عليه علامة الحرية و اخذ مواقع إعرابية مختلفة سيستوي مع المذكّر، و هذا لا يستقيم في نظر النحاة الذكور ، يحدّثنا ابن يعيش عن هذين القيدين فيقول : (ان تكون فيه علامة تأنيث في اللفظ مثل ‘طلحةَ’ فإنه مؤنث و لكنه لا ينصرف للعلميّة و التأنيث..أما القيد المعنوي فأن يكون مسمّاهُ مؤنثا ، و إن لم يكن فيه علامة ظاهرة مثل ‘سعادَ’ و ‘زينبَ’) شرح المفصل ج1. ص 169. وهكذا يجب على المؤنث ان يظلّ مكبّلاً بحركة واحدةٍ، أو لنقل مكبّلاً بسلاسل غياهب السجون التي يتصورُها النسق الثقافي الثاوي في عقلية الذكور ! و في أحسن الأحوال إن أراد المؤنث أن ينصرف، و يتحرر من قيود اللفظ و المعنى..فعليه أن يصبحَ نكرة ، و النكرة تجعل المؤنث \المرأة في موقع المجهول الذي لا هوية له\ها ، يقول ابن يعيش ( فإذا نُكِّرَ انصرف، لأنه لم يبقَ فيه إلا التأنيث وحدَهُ) ص 168. و ما دام التأنيث وحده فلا خوفَ منهُ. يُمكنُ تفسير هذا التحيّز في صوغ المصطلح النحوي أو تعريفه و رسم حدوده بأمورٍ منها : أن الذين قعّدوا للغة العربية هم ذكور بلا شك..و بالتالي لا ضير أن يُهيمن النظر الذكوري على حساب زاوية نظر الأنثى، هذا من جهة، و من جهة أخرى لا ضير أيضا أن يوجد زخمٌ هائل من المصطلح المذكر في مقابل ترسانة قليلة العدة من المصطلحات المؤنثة و رغم قلّتها فإنّ النحاة الذكور وضعوا لها قواعد صارمة تضعها في حكم الشاذ الذي لا يطّرد لأن المؤنث في نهاية الأمر هو نشاز و فرعٌ طارئ على الأصل الذي هو مذكّر.
2) الصوت و المعنى.
تثير النصوص التي عرضناها فيما سبق إشكالية كبيرة و خطيرة في الآن نفسه و هي غياب المرأة عن كتابة التراث النحوي العربي حصرا. هل هذا يعني أنّ المرأة غُيّبت عن كتابة النحو ؟؟ أم أنها انشغلت بتربية من كتبوا النحو وأنكروا الجميل ؟ ! سيظهر من خلال النصوص التي سنعرضها فيما بعد أن صوت المرأة كان مرفوضاً ، و سيظهر أيضا أن قسمة الأصل و الفرع في اللغة ستمتدُّ إلى آفاق معرفية أخرى كالبلاغة مثلا؛ هل هذا يعني أن البلاغة ستكون تحت سيطرة الذكور ــ هي الأخرى ــ ؟؟ هنا يفاجئنا عبد الحميد الكاتب في إحدى رسائله قائلاً (خير الكلام ما كان لفظُهُ فحلاً ، و معناهُ بكراً ) ص 133. و هنا من جديد تأخذ المرأة \ المؤنث قسمتها في اللغة تحت إشراف عبد الحميد الكاتب \ (الفحلُ) ؛ لما لا و قد أعطى أخطر ما في اللغة للمذكّر \ الرجل ، و هو اللفظ الفحلُ. و تركَ المعنى للمؤنّث للمرأة ، و هذا المعنى بكرٌ. و البكر كما جاء عند صاحب معجم مقاييس اللغة أن (البكر هي النساء التي لم تُمس قطُّ) يُفهمُ من قسمة عبد الحميد الكاتب، و من تحديد صاحب قاموس “مقاييس اللغة” أنّ ‘البكر’ معنى جديد لم يسبق إليه أحدٌ لاستهلاكه أو قوله ، و كثيرا ما كان النقّاد القدامى يعيبون على الشعراء استعمال المعاني القديمة في أشعارهم. و كأنّ الصراع سباق إلى قول معاني جديدة ، او بتعبير أدق الصراع هو سباق إلى فتح أبكار لم تُمس من قبلُ. وبما أن خير الكلام ما كان لفظهُ فحلاً، فإنّ الإبداع سيظل رهينا في يد الفحل، و كلّ تميّز و تفرّدٍ لغوي فهو فحل قويّ مذكّر، و لا غرابة في هذا، فقد أكّد اللساني أحمد شحلان المتخصّص في اللغة العبرية أن العبرية تطلقُ اللفظ المذكّر على كل ما هو قويٌّ و خطيرٌ و متوحّشٌ، و ضخمٌ و شجاعٌ، أمّا المؤنث فيطلقُ على معنى الأمومة ، و الخصوبة ، و التغذية و على كل ما يتسم بالأنوثة او لنقل بتعبير عبد الحميد ‘الأبكار’. تُحيلنا هذه الثنائية على قسمة خطيرة في الوجود الثقافي للمرأة العربية خاصة ، و هي أن اللفظ الفحل هو قِوامُ اللغة و تجسُّدها الحقيقي، في حين يبقى المعنى البكر موجها من لدن اللفظ الفحل. فالمعنى \ البكر تابع في أحسن الأحوال ، و لا يُمكنُ أن يكونَ أصلاً لكي يصبحَ مُوَجِّهًا. هنا يفاجئنا نصٌّ آخر يقولهُ رجل آخر فحلٌ هو الجاحظ في “البيان و التبيين ج 1 الصفحة 155 ” ( المعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العربي و العجمي) فالمعنى \البكر \ المؤنث مطروحٌ في الطريق لا يعدو أن يكون موضوعا فقط ، إذا كان اللفظ \ الفحلُ فاعلا فهو المظهر الخطّي و الكتابي للغة و عليه مدار الأمر ، أمّا المعنى فيبقى على الهامش فهو موضوع و لا يمكنُ أن يكونَ ذاتاً لغوية ، و يعود الجاحظ نفسهُ \ الفحل ليؤكد أن خير الكلام ما قوِيَ لفظُهُ و اختير بعناية ، يقول ( المعاني موجودة في طباع الناس يستوي فيها الجاهل و الحاذق ، و لكن العمدة على جودة اللفظ ، و حسن السبك ، و صحة التأليف ) فاختيار اللفظ \ الفحلُ ضروري ليكون الكلامُ صحيح التأليف ، أمّا المعنى \ البكر \ المؤنث فيستوي فيه الحاذق و الجاهل. و شتان بين الحاذق و الجاهل !! ها هنا فكرة مهمة جدا : هل كُتِبَ على المعنى \ البكر \ المؤنث أن يكونَ هامشيا إلى درجة أنه مطروح على قارعة الطريق ، و يستوي فيه الجاهل و الحاذق ؟؟ !! إنها قسمة غير عادلة و تحيُّزٌ ذكوري فاحش ، حتى و إن كان على مسرح اللغة.
هناك نصٌّ آخر يؤكد النظر الذكوري التهميشي لكل ما هو مؤنث \ بكر يقول فخر الدين الرازي ( اعلم أن الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد ، و أصلها من قولهم أفصحَ اللبن إذا أخذت عنه الرغوة) و الرغوةُ عند صاحب مقاييس اللغة ج2ص 415 هي ( الزبدُ . و الجمعُ رغًى ، و رغّى اللبنُ من الرغوة ــ و عنده أيضا ــ كلامٌ مرغٍّ : لم يُفسّر ، كأنّ عليه رغوة ) يؤكد الرازي في قوله السابق أن الأصل في الفصاحة هو خلوصها من التعقيد و هذا التعقيد هو الرغوة الزائدة التي تطفو على سطح اللبن، و هذه الرغوة لا نفع فيها لأنها حسب معانيها اللغوية مجرّد زبد ، و الزبدُ يذهبُ جفاءً. هناك تحاملٌ آخر على المعنى \ البكر \ المؤنث لكونه كلام مرغٍّ لم يفسّر. و الملفتُ في كلام الرازي انّ ‘الفصاحة ‘ مؤنث \ بكر لكنه احتال عليها و عرّفها تعريف المذكّر (اعلم أنّ الفصاحة ‘ خلوص الكلام من التعقيد ‘ )؛ و هذا التعقيد \ أو الرغوة \ المؤنث له معنى آخر في قول الجاحظ الفحل ( البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى)، سبق أن أشرنا إلى أن قسمة المرأة في اللغة هي المعنى ، و المعنى هنا له قناعٌ ، و المعنى \ البكر مطروح في الطريق ، و المعنى \ البكر يستوي فيه الحاذق و الجاهل..و الآن هل قسمة المرأة \ المؤنث التي هي المعنى المطروح الهامشي و المعنى المقنّع دليل على غموض المرأة ؟ هل من المعقول أن نختزل ضمير المؤنث في دائرة الغموض المُقنّع ؟؟ ! سنكمل هذه الرحلة في الحلقة القادمة مع تقديم إجابات مُمكنة.
 
حميد الكتاني - المرأة في التراث اللغوي : صوت الأنثى بين الموت و الحياة

3-

مرّ بنا في حلقة سابقة أنّ ضمير المرأة المؤنث عرف تهميشا أثناء صوغِ المصطلح في العلوم اللغوي ، منها النحو و البلاغة ، و ظهر ذلك في تحيُّزِ العلماء الذكور لضميرهم المذكر الذي اعطوه أخطر قسمة في الوجود اللغوي ، و هو اللفظ عماد اللغة ، و تركوا المعنى لضمير المؤنث الذي لا يعدو أن يكونَ فرعا هامشيا و مطروحا على قارعة الطريق !!

تُظهر النصوص الدينية الصحيحة أن الأصل في الخلق هو آدم \ الذكر و بالتالي فإنّ أول ضمير سيوجد في اللغة هو ضمير المذكّر، أمّا الفرع الثاني في الخلق هو الأنثى \ حواء، و بالتالي فإن ضمير المؤنث سيكون ثاني وتالٍ لضمير المذكر، وكان ذلك لحكمة إلهية عادلة.

غيرَ أنّ النصوص الدينية \ القرآنية على وجه الخصوص تبيّن لنا أنّ الأنثى تعرّضت لأبشع صور القتل و الإقبار منذ فجر التاريخ و كان ذلك على يد الرجال \ الذكور \ الفحول ، ألم يقل الله تعالى (و إذا الموءودة سُئِلَت ؛ بأي ذنبٍ قُتِلت ) التكوير 8 \ 9 . و الموءودة حسب ابن عبّاس ترجمان القرآن هي البنت المدفونة ، و يذكر ابن كثير في تفسيره الضخم أن صحابيا يدعى قيس بن عاصم جاء إلى رسول الله و قال لهُ يا رسول الله إنّي وأدتُ بناتٍ لي في الجاهلية. التفسير ص 1966. ألا يبدو الآن أن تهميش ضمير الأنثى \المؤنث من لدن علماء العربية الذكور أثناء صوغهم المصطلح النحوي و جعلوه على الأكثر مذكّراً هو امتدادٌ لتهميش و إقبار الأنثى في الجاهلية ! هل كانت الأنثى نشازا غير مرغوب فيه عند الذكر \ الأصل ؟ ! هذه العادة رفضها الإسلام و أقر تكريم المرأة أيّما تكريم.

يُخبرنا الله تعالى عن قصّة امرأة عمران فيقول في سياق هذا (و ليس الذّكرُ كالأنثى) يفسر ابن كثير هذه الآية قائلا : ( أي : في القوة و الجلد في العبادة و خدمة المسجد الأقصى) ص362. هذا التفسير يحيلُ إلى أمرين ؛ الأول أن امرأة عمران كانت ترغب في مولود ذكر يتفرغ للعبادة و يقوم بخدمة بيت المقدس كما هو واضح فيما قبل هذه الآية. الثاني : أنّ ابن كثير يشيرُ إلى مميزات الذكر الفحل و هي الصبر و الجلد..؛ و لكنّهُ لا يشير إلى مميزات الأنثى ! هذه الأنثى في الآية ستكون أم نبي الله عيسى عليه السلام. كما أنه لا يشير إلى المفاضلة بين الجنسين ، لأنّ المقام ليس مقام المفاضلة أو القِوامة ، و لوْ كان ذلك لكانت الأنثى أفضل ،لأنّها ستكون مريم (و إنّي سميتُها مريم) والدة عيسى عليه السلام، ولكنه لم يذكر هذا ! و ستكون الأنثى أفضل لأنّها جاءت في مقام المُشبه به ، و المشبّه به أقوى في المنزلة من المشبّه ، فجات صيغة الآية بلاغيا (و ليس الذكر "المشبه" كالأنثى "المشبه به" ). و أستغرب لماذا لم يذكر هذا ابن كثير و هو المفسّر الفحلُ النّحريرُ !! و حاشا لله أن نجرّح في جهود ابن كثير. و لكن السؤال يبقى مطروحا. هناك مسألة غريبة هي أنه لم يصِلنا تفسير للقرآن كتبتْهُ امرأة ؛ غاب صوت المرأة عن كتابة تفاسير للقرآن الكريم !!

و من بين صور إقبار صوت المرأة المؤنث في التراث اللغوي نجد تجريد الأسماء المؤنّثة من مُقوّماتها التي يسمّيها النحاة بــعلامات التأنيث و منها "التـاء" فقالوا مثلا في لفظ وُضِعَ للمؤنث (زوجة) ليس فصيحا ، بل الأفصح هو (زوج) و الفصيح هو ما كان لفظُهُ فحلاً أصلا مُذكّرا (زوج) ، أمّا لفظ (زوجة) إن أراد أن يكون فصيحا فعليه أن يتنازل عن علامة التأنيث "التاء" و يرتدي غطاء التذكير ليُصبحَ فحلاً ! إنّي أتخيل امرأة تعرّفُ بنفسها و تقول : ( أنا فلانة زوجُ فُلان...) هل كُتبَ على صوت المرأة أن يتكلّم من داخل صوت الرجل \المذكّر ؟ بدعوى التفاصح في الكلام ! يبدو هذا صحيحاً على الأقل في المستوى التجريدي للغة العربية ؛ دعوى التفاصح في الكلام كانت الهمّ الأكبر لدى علماء النحو و البلاغة ، و كانوا يهيبون بالمتفاصح في الكلام يقول السجستاني ( الفصاحة ترفع الخامل ، و تزيد النبيه انتباهً) بل إنهم كانوا أكثر هوساً بذلك لدرجة أنّهم يستدلّون بمثلٍ ينسبونه لعليّ رضي الله عنه و هو ( المرءُ مخبوءٌ تحت لسانهِ ) يعني إذا نطق فأفصحَ عَظُمَ في العيون ، و المَثَلُ جاء مذكرا لأنّ الأفصح التذكير، و عليه فصيغة (المرأة مخبوءةٌ تحت لسانها ) صيغة مرفوضة لأنها تفيد التخصيص \ المؤنث. و المؤنث ليس أصلا ، و عليه فالتذكير أولى و أصح للمثل . يُمكنُ أن نضيف مثالاً آخر يجسد هذه الحقيقة على مستوى الواقع بعيدا عن مستوى التجريد ، و نعرضُ قولاً مأثوراً عن الشاعر بشّار بن برد الملقب بصريع الغواني ، يذكر هذا القول الكاتب عمر رضا كحالة في كتابه الكبير " أعلام النساء " ج 1 الصفحة 361 ، حيث يقول : ( وكان بشّار يقول : لم تقل امرأة شعراً قطُّ إلا و تبيّنَ الضّعفُ فيه ، فقيلَ لهُ : أَوَ كذلكَ الخنساءُ؟ ! فقال : تلكَ كان لها أربعُ خصي ) يحيل هذا القول إلى أمرين، أحدهما أن الشاعرة الخنساء \المؤنث هي حالة استثناء فقط و لا يقاسُ عليها ، لأن أي امرأة قالت الشعرَ إلا و يكون شعرها ضعيفا. الثاني يكون هذا الاستثناء الخنساء \ الأنثى \ قوة ضاربة يًبيحُ من الضروري تذكير المؤنث و إعطائه بعضا من خصائص الرجل \ المذكّر ، و لهذا قال بشار (تلك كان له أربع خصي ) هذا يؤكد حقيقة مفادها أنه لا مفر من سيطرة الرجل على المرأة ، و إن أرادت أن تكونَ مثله عليها أن تتخذ شيئا من صفاته ، و هذا واقع تؤكد بعض الحقائق المجتمعية. الخنساء هنا في ذهن بشّار الرجل الفحل هي امرأة مسترجلة لأنها غلبت كبار الشعراء الفحول (الأعشى \ حسان بن ثابت ..) و هذا الأمر كان سائدا و ساري المفعول ، لأن المرأة مخلوق ضعيف في ذاكرة الأعراب ، و إذا قوِيت عليها أن تقوى بأعضاء الرجل ، و إذا تكلمت عليها أن تتكلّم بضمير المذكّر لكي تكون أفصح ! فقوة المرأة كامنة في قوّة الرجل.

هناك نصٌّ آخر يؤسس لهذه الثقافة التي ترى في المرأة مخلوقا ضعيفا لا قيمة له ، و بالتالي لا يمكن الاعتداد بها ، و لوْ أنها ممّا خلقَ اللهُ و كرّمَ...؛ و هذا النصُّ أكثر خطورة لأنه يؤسس لثقافة الوهم التي عشّشتْ في ذاكرة الأعراب ، جاء في قصيدة من قصائد النقائض للشاعر جرير و هو يتفاخر على خصمه الفرزدق بيتٌ شعري يدعونا للتوقف كثيرا ، يقول : (شيطانهُ من الجنِّ أنثى \\\ و شيطاني من الجنّ ذَكَر) هذا البيت الشعري يحيل إلى خرافة كانت العرب تؤمن بها و هي أنّ لكل شاعر شيطانٌ يلهمُهُ الشعر ، و بيت جرير هنا يحيل إليها مباشرة ، كما يسجّل هذا البيت أن المرأة ليست ضعيفة في الحقيقة وحسبْ ، بل هي ضعيفة حتى عند الجنّ ، فجرير هنا يُلحقُ بالفرزدق هزيمة نكراء بأن جعلَ شيطانهُ من الجنّ أنثى ، و يعُدُّها نقيصة من نقائصه ؛ و مجرّد الرجوع إلى شعر جرير سنجده يتفنن في هجاء خصمه الفرزدق بكل الأوصاف المؤنّثة و كأنّه ــ و كأن ثقافة العرب ــ لا يجدُ أوصافاً مُذكّرة ليهجوهُ بها !!، و هذا موت آخر يصيب المرأة المؤنث عن طريق الرجل المذكّر و لو كان ذلك في ثقافة وهمية إلا أنّ له امتداد في ثقافة الواقع ، هذه الثقافة سيجسدها رواد النظر الشبقي الجنسي للمرأة ، و هذا موضوع حلقتنا القادمة.
 
حميد الكتاني - المرأة في التراث : بين الرّجُلِ الفَحْلِ و الأنثَى الفَحْلةُ

-4-

يُلاحظُ في تراثنا اللغوي و الثقافي أن قسمةَ الأنثى في اللغة لم تتعدَّ حدودَ المعنى الهامشي ، و المطروح على قارعة الطريق ، و المُقنّع ؛ كما سبق في حلقات هذا الموضوع. في حين بقيَ اللفظُ الفحلُ هو الموجِّهُ و المتحكمُ في المعنى ، و هذه القسمة غير العادلة التي وضعها علماء اللغة الفحول ، حتى و إنْ كانت تمثلُ المستوى التجريدي للغة ، فإنها تحيلُ إلى نسقٍ ثقافي ثاوٍ في مخيّلة الرجل \الفحل اتجاه المرأة \الفحلة ، يزكّي هذا القول الكثير من التصورات التي جاء بها الفحول و أصبحت بمثابة ثوابت ينبغي الاعتقادُ بها، حتى و إن كانت تصورات وهميّة ذكورية محضة !! تتيح لنا زاوية النظر الذكر إلى الأنثى الوقوف على مظاهر التخلّف و صناعة الوهم في تعامل الرجل مع ضمير المرأة ، و أولى مظاهر التحيز في هذا السياق نجد لفظ (الفحل) ؛ ما هو الفحل ؟ و هل له انعكاس على ضمير المرأة \الأنثى \ الفحلة ؟؟

يُحدّدُ صاحب لسان العرب ابن منظرو لفظ (الفحل) قائلا : ( الفحلُ الذكرُ من كلّ حيوانٍ ،..و في حديث عن عمر بأنهُ بعثَ رجلاً يشتري لهُ أضحيةً فقال : اشترهِ فحلاً فحيلاً ..، أرادَ بالفحل غير خصيٍّ ، أي ذكرٍ) و يتابعُ في نفس التحديد (امرأةٌ فحلةٌ : سليطة ) يريدُ سليطة اللسان. ما يُسجلُ على تحديد ابن منظور أنه جعلَ الفحلَ هو كلّ ذكرٍ من الحيوان. لكنهُ جعلَ (الفحلة) المؤنثة هي سليطة اللسان و كان عليه أن يجعلها هي الأنثى من كل حيوانٍ. هذا ما يقتضيهِ الوضعُ العربي و التحديد المنطقي و الحدّي للألفاظ في الفصل بين الجنسين بمنطق علامات التأنيث ؛ و لكنهُ جعلها سليطة لسان لكي يصنعَ لنا وهما ما زلنا نعيشهُ : المرأة سليطة لسان و ثرثارة !! كان هذا في اللغة.

أما في الاصطلاح فإنّ الفحولة تعني درجة عالية من الإبداع و الجمال و الجزالة الأسلوب في الشعر..ولطالما تسابق الشعراء الذكور إلى احتلالها و الانتساب إليها ، أما الشاعرات النساء فقد غِبنَ عنها باستثناء الشاعرة الخنساء فقد أصبحت من الشعراء الفحول عندما جعلَ لها بشار بن برد أربعَ خصي !! ألحق بعضا من خصائص الذكر الفحل ، الخصي أو لنقل جواز السفر الشاعرة الأنثى للانتساب و الدخول إلى الفحولة \ الابداع و الجزالة !!

يتأسّسُ وهمُ الفحولة في النسق الثقافي العربي على دلالات تحيُّزية مثل (الفحل هو الذكر غير الأنثى ، هو المنجب غير الخصي ، هو النبيل الشريف غير الوضيع ، هو الأمر العظيم و الخطبُ الجلل غير العادي و البسيط ..) أما مؤنث لفظ الفحل (فحلة) فدلالاتها تنحصر في (السليطة اللسان) ، و هنا تنشأ ثنائية وهمية يعيشها الذكر على حساب الأنثى ، ثنائية الفحل و الفحلة.

بناءً على هذه الثنائية تتأسس رؤية الرجل \ الفحل الهامشية للأنثى \ الفحلة و يطرُدُها خارج التوصيف الخاص به ، و يترتبُ عن هذا الطرد أو الاضطهاد الذكوري تصورٌ على مستوى سلوك الرجل اتجاه المرأة و هذا دائما تحت نفوذ القانون اللغوي الذكوري الذي ينصُّ على أن الأصل هو المذكّر ، و المؤنث فرع عنه أو نشاز…؛ في هذا السياق حاولت نوال السعداوي أن تردَّ هذا القانون الذكوري و ألّفت كتاباً سمّتهُ بــ ( الأنثى هي الأصل) حاولت فيه تسفيهَ هذا القانوني اللغوي ، بقانون آخر مجتمعي ثقافي أسري بعيد تمامَ البعد عن التحديد الفسيولوجي ، و مقتضيات قانونها أن الأسرة هي المُتحكّمة في تنشئة الفرد بنظرتها إليه كذكر أو كأنى ، أمّا الأعضاء التناسلية فليست محددا أساسيا للتمييز بين الذكر و الأنثى في النسق الثقافي ما دام الطّبّ الحديث يمكنُ أنيجري عمليات استئصال لتكل الأعضاء ، و تبقى نظرة الأسرة متحكة !! و هذا رأيها حيث تقول ( إنّ العوامل الاجتماعية و الثقافية و التربوية تحدد أنوثة المرأة أو ذكورة الرجل ) الصفحة 99 . يبدو على محاولة نوال السعداوي أنها محاولة بائسة في تسفيه القانون الذكوري القاضي بأن المذكر هو الأصل و المؤنث هو الفرع في الوجود اللغوي من جهة ، و القاضي بأنّ أول ضمير يتكلم في الوجود الإنساني هو ضمير المذكّر من جهة أخرى ، و بالتالي فإنّ أول صوت هو صوت الرجل \الفحل ، إنه أصل الأصوات ، إنّ أولية صوت المذكٍّر جعلته صوتا نقيّا، لدرجة جعلت بعض الأدباء الفرنسيين الذكور (رولان بارت) يقول في كتاب (البلاغة القديمة) : (وحدَهُ آدم من تكلّمَ لغةً نقيّة) الصفحة 55. ما زلت أبحثُ لماذا لم يقل : (وحدهُا حواء من تكلمت لغةً نقية) و لا أجد الجواب !!

إنّ ثنائية الأصل و الفرع تمتدُّ لتصل تأثيراتُها إلى معاني (الفحولة و الأنوثة)، و لعل التفسير الاجتماعي الذي تقول به نوال السعداوي كمحدد لأنوثة المرأة أو ذكورتها أو العكس بالنسبة للرجل… لا يعدو أن يجعل الرجل (خُنْثى) أو المخنث ، و المُخنثُ هنا لا يبقى أصلا لمجرد أنّهُ أصبح يحملُ صفات الأنثى ، فلا هو بالرجل الفحل ، و لا هو بالمرأة الأنثى ، هل يكفي الاعتماد على التفسير المجتمعي للتمييز بين المذكر و المؤنث ، أو لنقل بين الرجل و المرأة (الفحل \الأنثى) ؟ أم أنه لا يكفي لردم الهوة بين الذكر و الأنثى خاصة على مستوى النظر و السلوك ، ففي المستويين معاً يتمُ ربط المؤنث \المرأة بمعاني شيئية تبخيسية ؛هل هذا يعني أن الرجل جاهل بحقيقة المرأة \ الفحلة ، و هذا الجهل يجعلهُ مقتصرًا على توصيفها بالمعاني البخسة الشيئية المادّية ؟؟ ! يرى العالم الكندي (كنيث ووكر) في هذا السياق أنّ الرجل يجهل المرأة تمام الجهل ، لأنه لا يفهمُ المرأة كإنسان مثلَهُ تماما. و لهذا فهو يرتضي لها صفاتٍ لا يرتضيها لنفسهِ ، فالفحل هو الشريف غير الوضيع ، هو القوي غير الضعيف ، أم الفحلة فهي سليطة لسان ! و لو أنهُ فهِمها فهماً إنسانيًا لما ارتضى لها تلك الصفات.

إنّ الفحولة لا تقفُ عند هذا الحدّ ، بل تتعدّاهُ إلى معاني أخرى أكثر خطورة ، و أكثر تحقيرًا للأنوثة ، و هذا دائما فحضور الفحولة يلازمُه تحقير للأنوثة وتغيبٌ لها لدرجة اختزال وجودها الإنساني في وجود ضيق ، وجود متعةُ الرجل \الفحل ، حيثُ تصبحُ الأنوثة وسيلة لإمتاع الرجل ، و وعاءً للأطفال ، و الأخطر من هذا أن بعض النصوص التراثية التي سندرجها هنا و في الحلقات اللاحقة تزيد من درجة اختزال وجود المرأة إلى الحد الذي يتماهى وجودها مع وجود عضوي شبقي محدود في رَحِمِ المرأة.

من بين النصوص التي تظهر هذا الاختزال الشبقي للأنثى نجدُ نصًّا منسوبا للأحاديث النبوية الشريفة ، و لا أصلَ لهُ و لا صحّة ، و استشهادُنا بهذا الحديث الضعيف هو دليل على أنّ ذاكرة الرجل يسيطر عليها الحس الشبقي اتجاه الأنثى للحدِّ الذي يجعلهُ يضعُ أحاديث و ينسبها للنبي الكريم بهتانا و زورًا ، و كأنّ الصراع هو صراع البحث عن اللذة و الجنس ، جاء في النصّ ( قيل يا رسول الله ! أنفضِي إلى نسائنا في الجنّة …قال : و الذي نفسُ محمدٍ بيدهِ إنّ الرجلَ ليُفضي بالغداةِ الواحدة إلى مئة عذراء) الحديث أخرجهُ البَيْهقيُّ في كتاب “البعث و النشور” رقم 355. على ضعف هذا الحديث و عدم صحتهِ فهو يؤكدُ على ثنائية الفحولة و الأنوثة ؛ إنّ الرجل في هذا الحديث ليس أي رجل ، فهو رجلٌ يفضي إلى مئة عذراء \بكر في الغداة الواحدة و لا يكلُّ و يضعفُ !! نفس التصور نجدهُ في نصٍّ آخر يؤكدُ على الثنائية نفسها (الفحل القوي و الأنثى الجسد) يقول الشيخ النفزاوي في مطلع كتابه (الروض العاطر في نزهة الخاطر) : (سبحانهُ من كبيرٍ متعالٍ خلقَ النساءَ و زيّنَهنَّ باللحوم و الشحوم و الشعور و النحور و القدِّ و النّهْدِ و الغنجِ و التغنُّج) ، و يتابعُ قائلا في فصل من فصول الكتاب (إنّ النساء لا يرتوين أبدًا ، و لا يكففنَ عن المضاجعة ، و إنّ تعطشهنّ للنكاح لا يلبّى على الاطلاق ) إذا كان النص الأول جعل قوة الفحل في أنه قادر على مضاجعة مئة بكر في الغداة الواحدة ، فإنّ الشيخ النفزاوي يعيدُ نفس التصور ، لكن اتجاه الأنثى هذه المرة ، فهو يرى في الأنثى وجودها الجسدي و مُقوّماتِها الشبقية ، لما لا و هي زينة النساء ! و يرى من جهةٍ أخرى أنّ الأنثى لا ترتوي بمضاجعةٍ واحدةٍ ، و إنّ تعطُّشها للجنس غير محدود… إذا صحّ أنّ للأنثى شهوة لا ترتوي ، فإنّ مصيراً مُرعبًا ينتظرُ الرجلَ الفحل الذي كان يُفضي إلى مئة عذراء ، و الذي سيصبحُ غير قادر على تلبية شهوة أنثى \ عذراء واحدة !! و إنّ الأنثى التي لا ترتوي جنسيا قد تبحثُ عن رجلٍ آخر يحققُ لها إشباعها الغريزي ، و هكذا تصبحُ معارك الرجل و المرأة معارك جنسية تتجاذبُها تحيُّزات ثقافية و لغوية و شخصية . و الآن هل هذا كلُّ ما في الأنثى (الجسد و الشهوة) ؟ ! الجواب على هذا السؤال كامنٌ في الكتب التي ألّفها الذكور الفحول في مواضع الجنس و المرأة ، فكما كان اضطهادُ ضمير المرأة في كتب النحو الذكوري ، سنجد اضطهادا للوجود الأنثوي في عالم الانسان ، و في الحلقة القادمة لنا وقفة مع الشيخ النفزاوي في روضهِ العاطر.


.
 
حميد الكتاني - المَرأةُ في التُّراث : لَـــذّةُ الجَسد ؛ الجسدُ و الشيخُ الحلقة (5)

ليسَ كلُّ شرْقٍ أبويًّا و مُتزَمّتًا ، بلْ إنَّ الرُّؤية الأبوية في المجتمع العربي المُسلم امتدّتْ من أقْصى الشرق إلى أقصَى شمالِ أفريقيا ، تونسُ على وجه الخصوص ، حيثُ كانَ الشيخُ النّفزاوي يُحاضرُ في مواضيع الجنسِ و الحب و الشّبق من زاوية نظر الفُحُولَة ، لــِــمَ لاَ !! و هو الرجُلُ الفحْلُ ، و الذكيُّ الأريبُ ، العالمُ بشؤونِ المرأةِ ، الوصيُّ عليها في أمْرَي : الجنس و النّــكاح ؛ ولـــمْ يكن الشيخُ النّفزاوي وَحدَهُ ، بل كان شيوخٌ آخرونَ يكتبونَ في موضوع الجــنس ، و جسد المرأة و عقلها ..، في مُقابل فحولة الرجل التي لا تُفارقُ ذاكرة الشيوخ أبدًا ، و منهُمُ الشيخُ جلال الدّين السيوطي مُؤلّف كتاب : ( شَقائـــقُ الأَتــْـرُجِ في رَقَائِقُ الغــُنْجِ ) ، و أيضا كتابهُ الشهير (نَــواضرُ الأيكِ في مَعرفة النّيك) ، و منهم أيضا الشيخُ شهابُ الدّين أحمد المعروف بــالتّـــيــفاشي ، صاحب كتاب (نُزهة الألباب فيما لا يوجدُ في كتاب) و غيرهما كثير ...، و هاته الكُتب لم تأتِ في سياق التوجه التّعليمي أو التّثقيفي للمُسلمين عامّتهم و خاصّتهم فــقط في أمور الجنس و الحب ، بل إنّها كتبٌ تدُلُّ على أمرينِ ؛ الأوّل درجة التحرّر التي يُقرّها الإسلام للحديث عن أمور الجنس و الحبّ دونَ أيّ تبـَرُّمٍ من الشيوخ ، شرطَ الإفادة و أخلاق العلم. الأمر الثاني : أنّها تدلُّ في كثيرٍ منها على صناعة الوهم الشّبقي الجنسي من زاوية نظر الذكورة \ الفحولة ، ترى في المرأة الجَسَدَ أكثرَ مما ترى فيها المــرأة الإنسان أو باقي محاسنها ، و هذا الوهم المصنوع يأتي في الوقتِ الذي تُريدُ فيه المرأة أن تصْنعَ ميثاقَ وجودِها الأنثوي ، بغيةَ تأسيس وجهة نظر مُتّزنة تجعلُ من أنوثَتها مَطْلبًا ، ومنْ وجودِها الإنساني كوجودِ الرجلِ مكْسَبًا للوجود الإنساني : ذكُورةً و أنوثةً ؛ لكن السؤال الذي يصرخُ في وجهنَا مُعلنًا إحراجهُ لنا ، و قساوتهُ على قلوب الأنوثة العربية هو : أينَ يكمنُ الوهم المزعومُ ؟ للإجابة على هذا السؤال ننطلقُ في رحلة الألف ميل في كتاب الشيخ النفزاوي ، أو لنقُل نفْــتَــتِـــحُ رِحلتَنا في روضِهِ العاطر !!

إنَّ أوّلَ ما يخْطُرُ على بال القارئ و هو يَتـــصفّحُ كتــابَ الشيخ النفزاوي (الروض العاطر في نُزهةِ الخاطر) هو وجود ثُنائية تقوم على حــيّــزَيْـنِ ؛ الحيزُ الأولُ : جُغرافيٌّ يتضمّنُهُ اللفظُ الأول من عنوان الكتاب و هو ( الروضُ \ الروضة )، و الحيزُ الثاني : حسّيٌّ أو لنقل بصريٌّ يتضمنُهُ اللفظُ الرابعُ في عنوان الكتاب و هو ( النُّزهة \ نَزّهَ \ تنزّهَ )، إذن ؛ نحنُ أمام مجالين الأول جغرافي تتحدّدُ دلالتهُ في ثنايا الكتاب ، حيثُ يتحوّلُ الرّوضُ العاطر إلى الجسدِ العاطرِ \ جسد المرأة ، و الثاني حسّي ، حيثُ يُصبحُ البصرُ عبارة عن نُزهة في للخاطر ، و الخاطرُ هنا خاطرُ الرجل \الذكر \ الفحل . فهي إذن؛ رحلةٌ مُمْتعة ــ حسب النفزاوي ــ نُزهةُ خاطر الرجل في الروض العاطر \ في جسدِ المرأة العاطر !!

هذه النّظرة الحسّية لجسد المرأة ، أو لنقل النظرة التـشْيـِـيــئِيّـــة لجسد المرأة هي تؤسس لثقافة الجهل و الوهم حول جسد المرأة ، حيثُ يبيحُ النفزاوي لنفسِهِ الحديث عن جسد المرأة من منبر الوصاية ، لـِمَ لا !! وهو قاضي من قضاة المسلمين الذي يحكمُ بينَ الناس ، و يحكمُ في زواجهم و طلاقهم ،و هو قاضي الأنكحة إنْ صحّ التعبير ، يُضافُ إلى هذا مُلاحظةٌ أخرى هي : أنّ قاضي الأنكحة النفزاوي ألّفَ كتابَهُ (العاطر ) تحت طلبٍ من سيادة الوزير المؤنس للسلطان عبد العزيز الحفصي الذي ألحَّ في الطّلبِ ، و زادَ عليهِ أنْ طلبَ من الشيخ أن يويدَ في الكتاب تفاصيلَ أخرى ، نظرًا لأهمية هذا " العلم " بتعبيرهِ ــ أيُّ علم ــ !! علمُ الأنكحة !! فقدْ قال الشيخُ على لسان الوزير : ( و هو ــ أي : علم الأنكحة ــ ممَّا يُحتاجُ إلى معرفتِهِ ، و لا يجهلهُ أو يهزأُ بهِ إلاّ جاهلٌ أحمــقٌ ، قلـيـلُ الدِّرايةِ ) الصفحة 2. نحنُ إذن ؛ أمامَ خطاب وصايةٍ جديد يُمارسُهُ علينا الشيخُ الهمامُ النفزاوي في ضرورةِ معرفَتنَا بالموضوع \ علم الأنكحة ، تُرى هل كان النفزاوي يقصدُ بحكمهِ هذا القاعدة الفقهية المشهورة : (ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب) !؟ لعلهُ ذاك ، فهو الفقيهُ النّحريرُ. إنّ درجة الوصاية هنا تصلُ للحدّ الذي نتحوّلُ فيه ــ نحنُ عامة الناس ــ إلى : جَهَلَة ، و حمْقى ، و قلِيـلِــي الدّراية !! كلُّ هذا لأنّنا لم نعرف علم الأنكحة ، أو نهزأُ به بدعوى أنهُ وهم أو أنهُ خاص من أخصِّ خواصِّ الفرد في المُجتمع ، و هذا ــ في الحقيقة ــ إرهابٌ فكريٌّ تصنيفي واضحٌ و فاحشٌ ، فإذا أردتَ أن تكونَ حاذِقًا و ذكيّا لبيبًا ، و فَحْلاً فَعليْكَ بـــرأيِ النّفزاوي في علم الأنكحة و جسد المرأة ، أمّا إذا خالفتهُ ، فالويلُ لكَ ، فأنتَ جاهلٌ أحمقٌ قَليل الدّراية !!

يسْتنِدُ الشيخُ النّفزاوي في سياق روضهِ العاطر إلى تِرْسانة مُصطلحيّة جبّارة و هائلة ليُثْبِتَ أطروحتَهُ ( المرأة الجسد) ضدًّا في أطروحة (المرأة الإنسان)، منها : مُصطلحُ "الدّراية" و هذا مُصطلحُ الرّجال ، و لا يُتقنُهُ إلا الرجال ، و لا يوجدُ إلا في علم (الرجال) \ (علم الحديث النبوي ). فإذا كانت معرفتنا بعلم الأنكحة قليلة فهذا يعني أنّنا : قليلي الدّراية . و يعني أيضًا أنّنا في منزلة الجُهّال الذين لا ثقة فيهم و لا فضلَ لهم. فالرجل إذا كانَ قليل الدراية بأخبار الرسول الكريم فهو قليل الثقة. لا ثقة فيه. فالذي يدري ليس كالذي لا يدري، و هكذا تُصبحُ الدّراية شرطا من شروط علم الأنكحة؟، كما كانت من قبل شرطًا من شروط علم الرجال !! و منها أيضا مُصطلحُ (الحكيمة) من (الحِكْمَةُ) ، و هو مُصطلحٌ يذكرُهُ عندما يسْرُدُ حكمة في موضوع الجنس ، أو لنقل موضوع شيْئيّة المرأة ، ليكونَ ذلك "حكمَةً" قالتها "حكيمةٌ" ، و قولُ الحكيمة يجبُ أن يحظى بالسمع و الطّاعة لأنه صادرٌ من حكيمة. و الحكيمة هنا هي : الخبيرة بأمور الجنس و المرأة. و يستعملها كثيرًا في كتابه . و هذا الاستعمال ضربٌ من الإيقاع بالمُخاطب \ القارئ ، و تكبيل ذهنهِ بسلاسل الحكيمة الخبيرة \ المُمْتعة. و بدون أدنى شكّ نحنُ ــ القراء ــ هنا سنحقّقُ مُتعةً أثناء سماعنا لِحكَمِ المرأة "الحكيمة" في الروض العاطر..و سنتوجُ أنفسَنا بنُزهة الخاطر في تفاصيلِ حِكمها ، فقدْ قِيلَ لها : أيّتُها الحكيمة : أينَ يوجدُ عقلُ النّساء ؟ في الحلقة القادمة سنعرفُ جواب الحكيمة ، و قولها في عقل النّساء.



.
 
أعلى