علي الجندي - في تاريخ الأدب الجاهلي

الغزل:


وأما الغزل. فقد كان فنًّا مطروقًا من جميع الشعراء. تغنوا به جميعًا. فاتخذوه حلية لقصائدهم. وزينة لأشعارهم، إذ جعلوه افتتاحيتهم على الدوام، كأنما كان ألذ المشهيات يتناولها الآكل في بدء طعامه، لتتفتح شهيته، وتزداد رغبته في الطعام، فيقبل على الأكل بشغف، ويحس فيه اللذة والمتعة.
إن الإفتتاحية -بجميع أنواعها وبخاصة الغزلية- للقصيدة كالمقدمة الموسيقية للأغنية: توقظ مشاعر الشاعر والمغني، وتبعث في كل منها النشاط الروحي الفني، فيسري في جوانحه مسرى الدم في شرايين جسمه وتلهب أحاسيسه شيئًا فشيئًا إلى أن يصل إلى أوج الانفعال،
وتتأجج عواطفه، فينطلق في فنه الرائع الأخاذ، مبدعًا نغمًا شجيًّا يفعل فعل السحر في نفوس السامعين والقارئين.
وقد ورد في الاستعمال الأدبي: الغزل والتشبيب والنسيب، وهي ألفاظ مترادفة، ولكن بعض النقاد حاولوا أن يفرقوا بينها، فقالوا:
الغزل: هو الاشتهار بمودة النساء، وتتبعهن، والحديث إليهن، والعبث بذلك في الكلام، وإن لم يتعلق القائل منهن بهوى أو صبابة.
والتشبيب: ذكر المرأة في مطالع الكلام، وما يتصل بذلك من ذكر الرسوم، ومساءلة الأطلال، توخيًا لتعليق القلوب، وتقييد الأسماع قبل المفاجأة بغرضه من الكلام، وقد يذكر فيه ما يحاول المتيمون من العشاق ستره من المحبوبة كالوعد واللقاء.
والنسيب: هو أثر الحب وتبريح الصبابة فيما يبثه الشاعر من الشكوى، وما يصفه من التجني، وما يعرض له من ذكر محاسن النساء.
والغزل في الآداب كلها، حديث الهوى والحب، وتصوير عواطف الرجل ومشاعره نحو المرأة، التي رأى فيها تمثالًا للجمال الإنساني، وهي في الوقت ذاته نصفه الذي يكمل حياته، وبها يتم ما يتمناه من راحة واستقرار وسعادة.
وقد احتل الغزل في الأدب الجاهلي، مكانًا ظاهرًا، وكان حظه فيه عظيمًا، وقال فيه جميع الشعراء، من اشتهر منهم، ومن لم يشتهر، واتفق الجميع فيه على جعله بدءًا لقصائدهم، وسار كل منهم فيه حسب ما يحلو له من وصف الحبيبة، وأثر حبها وفراقها في نفسه، وما يعانيه من عشقه لها وهيامه بها. ولكن الظاهرة الواضحة في غزل الجاهليين، أن الشعراء كأنما كانوا يتبارون في عرض محبوباتهم. فحاول كل منهم أن يصورها في أجمل خلق، وأحسن مظهر، وإن اختلفوا في الإجمال والتفصيل، أو في التصريح والتلميح.
وقد سار الشعراء الجاهليون جميعًا على تقليد التزموه في قصائدهم، هو افتتاحها دائمًا بالحديث عن الأطلال، والوقوف عندها والبكاء لديها، بسبب ما تثيره من الذكريات التي تثار لدى الشعراء عندما يرون ما أصبحت عليه ديار حبيباتهم بعد أن هجرنها، وقد كان لهم فيها معهن أوقات حلوة، لا ينسيها مر الزمن، ولا تغيب ذكرياتها عن البال، وإن تغيرت الديار إلى رسوم وأطلال. ولئن أردنا تعليلًا لهذه الظاهرة؛ فربما كان ذلك لأن رؤية الخراب بعد العمار، والخمود بعد الحركة، والوحشة بعد البهجة، مما يحرك العواطف والوجدان، ويثير الأحزان والأشجان، وتبعث على تذكر ما كان لها، وما حدث فيها، فتهيج الذكريات، وتتمثل أمام القلب صور الماضي الحلوة، فتطرب لها النفس وتهش، وتستعيد ما لها من لذة وبهجة، فإذا الهدوء النفسي يعود، والعين تكف عن الدموع، وتتدفق الشاعرية، وينطلق اللسان، حاكيًا ما يرى القلب من صور الجمال.
وقد وصف الشعراء الجاهليون جمال المرأة الجسمي، كأنما كانوا يريدون أن تكون ماثلة أمام العيون فتسر برؤيتها، وتنشرح النفوس بمنظرها، وقد حاول الكثير منهم أن يتتبع جسمها جزئية جزئية، لترى بجمالها الكامل من ناصيتها إلى قدمها. ويندر أن نجد شاعرًا جاهليًّا قد خصص قصيدة طويلة بأكملها للغزل. وإنما الشائع أن القصائد الطويلة كانت غالبًا تبدأ بالحديث عن الأطلال ورحلة الحبيبة، ثم الحديث عن أوصاف هذه المحبوبة، ولكن الشعراء كانوا يختلفون في ذلك طولًا وقصرًا، فمنهم من كان يسهب في هذه الأوصاف، ومنهم من كان يوجز. ومن روائع الشعر الغزلي في الجاهلية، قصيدة لطرفة بن العبد428، وهي طويلة، نصفها الأول في الغزل حيث تعرض لأوصاف الحبيبة وجمالها الجسمي، وما تعيش فيه من نعمة ورفاهية، وتنقلاتها بين أنضر الجهات في كل فصل من فصول السنة، وأثر فراقها في نفسه، وما يحسه من اللوعة والأسى لبعدها، وما يعتاده من خيالها، وفيها يقول 428:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر429
لا يكن حبك داء قاتلا ... ليس هذا منك ماوي بحر430
كيف أرجو حبها من بعدما ... علق القلب بنصب مستسر431428 ديوان طرفة نشر الدكتور علي الجندي، قصيدة رقم5.
429 صحوت: تركت الصبا والباطل. شاقتك: هاجتك، واستخفتك. هر: اسم امرأة. المستعر: الشديد، وأصله الملتهب، من "سعرت النار" إذا أوقدتها وهيجتها، ويكون أيضا من السعار، وهو كالجنون. يخاطب الشاعر نفسه، فيقول: هل تيقظت من سكرة الحب. أم ما زالت هر تلهب عواطفك، وتستولي على عقلك. فتجاوز القدر في حبها. وتصبح بسببها كالمجنون.
430 ماوي: مرخم ماوية. المرأة، واسم امرأة. وإذا كان اسم امرأة، كان اسما آخر لنفس المرأة التي هي "هر" بحر: من شأن الشخص الحر الكريم. يقول لها: لا يجوز أن يكون جزائي على حبي لك الهجر والحرمان، فإنك إن فعلت ذلك كان سببًا لقتلي، وهذا ليس من فعل الحر الحريم.
431 أرجو حبها: أي زوال حبها عني. علق: تعلق. نصب: تعب وعناء. مستسر: مكتتم، في داخل القلب وهنا يقول: كيف آمل أن يزول حبها ويقلع عني. بعدما تعلق قلبي بها، وتمكن حبها فيه، ولا أمل في الخلاص منه.

أرق العين خيال لم يقر ... طاف والركب بصحراء يسر432
جازت البيد إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفور خدر433
ثم زارتني وصحبي هجع ... في خليط بين برد ونمر434
تخلس الطرف بعيني برغز ... وبخدي رشأ آدم غر435
وعلى المتنين منها وارد ... حسن النبت أثيث مسبكر436
ولها كشحا مهاة مطفل ... تقتري بالرمل أفنان الزهر437432 أرق العين: أسهرها. خيال: رؤيا رآها وهو نائم. لم يقر: من الوقار، وهو الرزانة، أي لم يكن هادئًا رزينًا. الركب: ركاب الإبل. والصحراء: الأرض المستوية في لين وغلظ، أو الفضاء الواسع، لا نبات فيه. يسر: موضع قريب من اليمامة يقول بعد أن استقر أهلها الراحلون في موضع صحراوي قريب من اليمامة لم يهدأ خيالها، بل خف وطرقني، والقوم هجوع، فأرقني وطرد النوم عني.
433 جازت: سارت، وسلكت. البيد: جمع بيداء، وهي الفلاة. وجازت البيد: أي المرأة، والمقصود خيالها. يعفور: ظبي تعلوه حمرة. خدر: فاتر العظام، بطيء عند القيام. يعني أنها بخيالها، قد قطعت الصحاري والقفار حتى وصلت إلى دياره في صورة ظبي، جميل الخلقة، خدر الجسم كالسكران.
434 هجع: جمع هاجع، أي ينام. برد: ثوب مخطط، أو أكسية يلتف بها. نمر: جمع نمرة، وهي حبرة. أو شملة بها خطوط بيض وسود، أو بردة تلبسها الأعراب. وخليط بين برد ونمر: أي حينما جاءته كان أصحابه النائمون معه مختلطين، بعضهم يلتحف بالبرد، وبعضهم بالنمر. أو أنها، هي، جاءته في ثياب مختلطة، فيها الثوب المخطط والموشى، أو الحبرة، والشملة، واللحاف.
435 تخلس الطرف: تسرق النظر: برغز: ولد البقرة، شبه عينها بعينه في السعة، وسواد السواد، وبياض البياض، الرشأ: الغزال إذا اشتد ومشى مع أمه. آدم: أبيض البطن، أسمر الظهر، وشبه خديها بخديه في أسالتهما. غر: غافل، لحداثة سنه. يقول: ولهذه الحبيبة عينان واسعتان، فيهما حور، ولا تنظران إلا خلسة، وفي خديها أسالة وصفاء، وهي نفسها كلها براءة ونقاء.
436 المتنان: ما اكتنف الصلب من اللحم. وارد: شعر منسدل ساقط على المتنين، وقيل سمي واردًا لأنه ورد العجيزة. أثيث: ملتف كثير الأصول. مسبكر: ممتد طويل. أي، ولها شعر كثيف ينسدل على متنيها.
437 الكشح: الخاصر. مهاة: بقرة وحشية، شبه كشح المرأة بكشح المهاة في طيه واستوائه. مطفل: ذات طفل أي ولد صغير، وقصد ذات الولد لأنها تحن إليه وتنفرد به، وذلك يظهر حسنها أكثر مما لو كانت في قطيعها. تقتري: تتبع. أفنان: جمع فنن، وهو الغصن. والزهر: نور كل نبات، ويقصد بذلك أنها في خصب. أي ولهذه المرأة خاصرتان مطويتان مستويتان، وهي تتمتع بجمال ساحر، وتعيش في ترف ونعيم.

جابة المدرى لها ذو جدة ... تنفض الضال وأفنان السمر438
بين أكناف خفاف فاللوى ... مخرف تحنو لرخص الظلف حر439
تحسب الطرف عليها نجدة ... يا لقومي للشباب المسبكر440
حيثما قاظوا بنجد وشتوا ... حول ذات الحاذ من ثنيي وقر441
فله منها على أحيانها ... صفوة الراح بملذوذ خصر442
إن تنوله فقد تمنعه ... وتريه النجم يجري بالظهر443
ظل في عسكرة من حبها ... ونأت شحط مزار المدكر444438 المدرى: القرن. جأبة المدرى: غليظة القرن ملساؤه. لم يرتفع بعد، أراد صغر سنها. جدة: علامة في الظهر تخالف لونه. وذو جدة أي لها ولد ذو جدة في ظهره. الضال: السدر البري. وتنفض الضال، أي تضربه بقرنيها ليسقط ثمره. والسمر: شجر. أفنان: أغصان، أي أن هذه المرأة كظبية صغيرة السن، لها ولد صغير تحنو عليه، فيبدو جمالها أكثر، وتعيش في خصب وخير كثير، يقصد أن حبيبته هذه في ريعان شبابها، وهي حسنة الخلق، وتمرح بين أعطاف النعيم.
439 أكناف: جمع كنف، وهي النواحي، خفاف واللوى: موضعان. مخرف: نتجت في فصل الخريف، أو دخلت في الخريف، وذلك هنا صفة للمهاة. تحنو: تعطف. رخص الظلف: ولد صغير لم يشتد ظلفه بعد. حر: كريم عتيق. وإذا عطفت المهاة على ولدها وخذلت القطيع كان أبين لحسنها. أي هي كمهاة تعيش بين نواحي خفاف واللوى، في فصل الخريف، ولها ولد صغير تحنو عليه؛ يقصد أنها امرأة في غاية الحسن والجمال، ديارها تفيض بالخير، وأوقاتها جميلة سعيدة.
440 نجدة: شدة. المسبكر: التام المكتمل. يقصد أنها ساكنة الطرف، لا تكاد ترفع طرفها، فإذا كلفت ذلك اشتد عليها لنعمتها ورقتها. ولما بهره جمالها الشديد، لم يتمالك الشاعر نفسه من أن يصيح كالمستغيث متعجبًا من حسنها.
441 قاظوا: أقاموا زمن القيظ وهو الحر. شتوا: أقاموا زمن الشتاء. ذات الحاذ: أرض الحاذ، وهو شجر، واحدته حاذة. وقر: موضع. وثنياه: جانباه. يقصد أن قومها، وهي معهم، يقضون الصيف في نجد، ويقضون الشتاء في هذه البقعة المملوءة بأشجار الحاذ من منطقة وقر.
442 أحيانها: كل حين ووقت. والراح: الخمر؛ سميت بذلك لأن شاربها يرتاح للسخاء أي يهش له وصفوة الراح: ما صفا منها. ملذوذ: لذيذ. خصر: بارد. أي أن حبيبها يجد في حبها لذة ومتعة في كل وقت، كلذة ما صفا من الراح حينما يمزج بماء بارد. "ويقصد طرفة بحبيبها هنا نفسه".
443 تنوله: تعطه. تريه النجم يجري بالظهر. أي يظل بسبب منعها إياه في مشقة كأنه يري الكواكب نهارًا، أي يغشاه الهم والحزن فيظلم عليه نهاره فتبدو له الكواكب بالنهار كما تبدو بالليل، والشاعر هنا يقصد نفسه كذلك، أي أنها إن تصله وتسمح له بما يريد مرة، فقد تشتد عليه وتمنعه أخرى، فتضيق أمامه السبل، وتظلم الدنيا في وجهه.
444 عسكرة: شدة وحيرة، والعساكر: أهوال وهموم يركب بعضها بعضًا. نأت: بعدت. ثم تألم الشاعر أشد الألم من بعد دارها عنه فصاح قائلًا: ما أبعد مزار الحبيبة التي لا يغيب عني ذكرها. يقول: إن حبها قد ملك عقله وقلبه، فأصبح في حيرة وشدة، وأحاطت به الهموم والأهوال بسبب فراقها.

فلئن شطت نواها مرة ... لعلى عهد حبيب معتكر445
بادن تجلو إذا ما ابتسمت ... عن شتيت كأقاحي الرمل غر446
بدلته الشمس من منبته ... بردًا أبيض مصقول الأشر447
وإذا تضحك تبدي حببًا ... كرضاب المسك بالماء الخصر448
صادفته حرجف في تلعة ... فسجا وسط بلاط مسبطر449
وإذا قامت تداعى قاصف ... مال من أعلى كثيب منقعر450
تطرد القر بحر صادق ... وعكيك القيظ إن جاء بقر451445 شطت: بعدت. نواها: جهتها. معتكر: عاطف على حبها. يقصد أنها إن بعدت دارها عنه، فإنه سيظل محافظًا على عهد الحب والوفاء لها.
446 بادن: كاملة البدن، ضخمة الجسم. تجلو: تكشف وتظهر. شتيت: ثغر مفلج الأسنان. الأقاحي: جمع أقحوان وقحوان، وهو البابونج، نبت له نور تشبه به الأسنان في البياض والرقة والصفاء. وأقحوان الرمل أحسن من غيره. غر: بيض. يقول: وهذه الحبيبة ممتلئة الجسم، وثغرها جميل، وأسنانها مفلجة بيضاء ناصعة.
447 بدلته الشمس: يعني الثغر، وكان الواحد منهم إذا سقطت له سن قذف بها نحو الشمس. وقال: يا شمس أعطيتك سنا من عظم، فأعطني سنًّا من فضة. بردًا: أي أسنانًا كالبرد. وهو قطع الثلج الصغيرة التي تتساقط من الغمام. والمصقول: الأملس البراق. والأشر: تحريز في أطراف الأسنان سواء أكان خلقة أو مصنوعًا. يقول: وأسنانها التي نبتت بعد أسنان الولادة، صغيرة، شديدة البياض، وفي أطرافها تحريز يزيدها حسنًا وجمالًا.
448 الحبب: ماء الأسنان. رضاب المسك: فتاته وقطعه. يريد أن فمها كثير الريق، وإذا قل ريق الفم تغيرت رائحته. الخصر: البارد. شبه ماء فمها في طيب رائحته وبرده بالماء البارد ممزوجًا برضاب المسك. يقول: وريقها عذب، بارد، طيب الرائحة كالمسك.
449 حرجف: ريح باردة شديدة. القلعة: سيل الماء إلى الوادي. سجا: سكن واستقر. البلاط: الأرض المستوية. والمسبطر: السهل الممتد يصف هذا الماء البارد بأنه استقر في بلاط، فصفا، وهبت عليه ريح شديدة فزادت برودته.
450 تداعى: مال وانهال والقاصف: ما انقصف من الرمل أي مال. والكثيب: رمل مجتمع. والمنقعر: المنقلع عن أصله. يشير الشاعر هنا إلى ما هي فيه من نعمة وسعة، فيقول إن جسمها متراكم في لين وسهولة كأنه رمل ينهال من لينها ونعمتها.
451 القر: البرد. والعكيك: الشديد الحر الذي يأخذ بالنفس وقت سكون الريح. أي درجة حرارة جسمها مكيفة بالقدر المناسب في الحر والبرد وذلك مثل قول الآخر:
سخنة في الشتاء باردة الصيـ ... ـف سراج في الليلة الظلماء
لا تلمني إنها من نسوة ... رقد الصيف مقاليت نزر452
كبنات المخر يمأدن كما ... أنبت الصيف عساليج الخضر453
فجعوني يوم زموا عيرهم ... برخيم الصوت ملثوم عطر454
ومن الغزل الحسي قصيدة تنسب إلى النابغة الذبياني، منها:
نظرت بمقلة شادن متربب ... أحوى أحم المقلتين مقلد455
والنظم في سلك يزين نحرها ... ذهب توقد كالشهاب الموقد456
قامت تراءى بين سجفي كلة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد457
أو درة صدفية غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد458
أو دمية من مرمر مرفوعة ... بنيت بآجُرٍّ يشاد وقرمد459
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته، واتقتنا باليد460452 رقد الصيف: أي لا يتهممن بخدمة، فهن ينمن؛ لأن غيرهن يخدمن. ويقصد أنهن مكفيات بالخدمة صيفًا وشتاء. وإنما خص الصيف بالذكر لأنهن إذا لم يتصرفن في الصيف، فأحرى ألا يتصرفن في الشتاء. مقاليت: جمع مقلات، وهي التي لا يعيش لها ولد. نزر: قليلات الأولاد. أي لا يرضعن ولدًا، ولا يتهمن به، فذلك أصلح لهن وأتم لنعمتهن. يقصد أنها من نسوة مترفات، لا يقمن بأي عمل، وليس لهن أولاد يرضعنهم أو يهتممن بهم، وذلك لكثرة النعمة. ووفرة الخير، فيقوم لهن بذلك غيرهن.
453 بنات المخر: سحائب بيض رفاق، يأتين قبل الصيف. يمأدن: يتحركن ويتثنين. عساليج. جمع عسلوج، وهو شيء أبيض يخرج في الصيف. الخضر: نبت أخضر. شبه النسوة بالسحائب في سكون مشيهن وبياضهن. وخص بنات المخر لأنها أشد بياضًا، يقصد أن هؤلاء النسوة بيض الأجسام، لينتها، وهن في حركتهن تأنٍ ودلال.
454 فجعوني: أفزعوني. زموا غيرهم: جلعوا فيها الأزمة للرحيل. والعير: القافلة. رخيم الصوت: لينه سهله. ملثوم: عليه لثام، وهو ما على الفم من النقاب. عطر: مطلي بالعطر. يتحدث عن أثر ارتحال الحبيبة في نفسه، فيقول: لقد انتابني حزن شديد حينما أزمع قومها الرحيل، فأعدوا القافلة، وساروا بالحبيبة، وقد غطت وجهها بالنقاب، تلك الحبيبة ذات الصوت الرخيم. والرائحة الذكية.
455 الشادن: الشاب من الظباء. متربب: محفوظ مصون معتنى به. أحوى: فيه حمرة إلى سواد. أحم: أسود. مقلد: جعلت له الحلى والزينة قلائد.
456 النظم: العقد الذي تلبسه.
457 السجف: الستر الرقيق. الأسعد: برج الحمل، وتكون الشمس فيه على أكمل ضياء.
458 الدرة: اللؤلؤة. يهل: يرفع صوته بالتكبير.
459 الدمية: التمثال من المرمر. تشاد: تبنى وتطلى. قرمد: خزف مطبوخ.
460 النصيف: الخمار. وهو نصف الثوب.

بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد461
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبد462
لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدًا وإن لم يرشد463
وقد اشتهر امرؤ القيس بالإكثار من الحديث عن النساء، وزاد عن غيره أنه لا يتورع عن ذكر مغامراته في شعره، فكان رائدًا لعمر بن أبي ربيعة ومن تبعه، في هذه الناحية.
وفي تضاعيف الوصف الحسي لجسم الحبيبة كان كثير من الشعراء يصفون ما يحسونه من النشوة والبهجة حينما يؤخذون بجمال حبيباتهم، وما يشعرون به من الألم والعذاب عند فراقهن، من ذلك قول طرفة بن العبد:
جلت بردًا فهش له فؤادي ... فكدت إليه من شوق أطير
وقوله في قصيدة أخرى:
بلغا خولة أني أرق ... ما أنام الليل من غير سقم
كلما نام خلي باله ... بت للهم نجيًّا لم أنم
منع التغميض منى ذكرها ... فهي همي وحديثي وسدم464
ومع أن السمة العامة للغزل الجاهلي كانت الناحية الحسية، من وصف الجسد، وأعضائه، وما تتصف به الحبيبة من جمال خلقي، فإننا نجد من بين الشعراء الجاهليين من أعجب بجمال المرأة الخلقي، فأطرى ما تتمتع به من كريم الصفات، وحسن الطبع، وجميل العادات من ذلك ما ورد للشنفرى إذ يقول465:461 المخضب: الكف. رخص: لين. البنان: الأصابع. العنم: شجر لين الأغصان، له ثمر أحمر مستطيل كالأصابع.
462 الراهب: المتعبد. أشمط: أشيب. صرورة: متبتل، لم يرتكب ذنبًا.
463 رنا: أدام النظر مع سكون الطرف. يرشد: يكون في كهل العقل والصواب.
464 سدم: سقم ولكم.
465 المفضليات، ص109 ب 5-12.

فيا جارتي وأنت غير مليمة ... إذا ذكرت، ولا بذات تقلت466
لقد أعجبتني، لا سقوطًا قناعها ... إذا ما مشت، ولا بذات تلفت467
تبيت بعيد النوم تهدي غبوقها ... لجارتها إذا الهدية قلت468
تحل بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالمذمة حلت469
كأن لها في الأرض نسيًا تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت470
أميمة لا يخزى ثناها حليلها ... إذا ذكر النسوان عفت وجلت471
إذا هو أمسى آب قرة عينه ... مآب السعيد لم يسل أين ظلت472
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت431
فالشاعر لم يتحدث عن جمال الجسم إلا في البيت الأخير، إذ أشار فيه إلى أنها حسنة الخلق جميلة، وجمالها يفوق الوصف، لدرجة أن تمام الجمال لو كان يسبب لصاحبه الجنون، لكانت قد جنت من حسنها الكامل. ولكنه في الأبيات السابقة يعجب بأخلاقها وصفاتها وشمائلها، فهي كاملة في كل شيء، ليس من أفعالها ما تستحق عليه أدنى لوم، وليس في466 مليمة: أي تأتي ما تلام عليه، فتسبب اللوم لنفسها، وتجعل غيرها يلومها. تقلت: تبغض وهو ضد التحبب أي لا تأتي عملًا يسبب لها اللوم أبدًا، وليس فيها أية صفة مكروهة، بل هي وأفعالها وصفاتها محبوبة محمودة.
467 أى لا يسقط قناعها لشدة حيائها. ولا بذات تلفت: لا تكثر التلفت. فإنه من فعل أهل الريبة.
468 الغبوق: ما يشرب بالعشي. تهديه لجارتها: أي تؤثرها به لكرمها. إذا الهدية قلت: أي في زمن الجدب حين تنفد الأزواد وتذهب الألبان ويقل الغذاء.
469 بيتها: مفعول به لتحل "وهو فعل يتعدى بنفسه وبحرف الجر" وتحل معناه تسكن أو تنزل. منجاة: مفعلة من النجوة وهي الاتقاء، يقصد أن موطنها طاهر شريف، بعيد عن الشبهة.
470 النسي: الشيء المفقود المنسي. تقصه: تتبعه، وتبحث عنه. أمها "بفتح الهمزة" قصدها الذي تريده.
يقول: من شدة حيائها إذا مشت تنظر إلى أسفل كأنها تبحث عن شيء فقدته ولا ترفع رأسها. تبلت: تنقطع في كلامها، ولا تطيله.
471 الثنا: ما تتحدث به عن الرجل من حس أو سيّئ. يقال: ثنا الحديث: حدث به وأشاعه. حليلها: زوجها.
472 آب: رجع. لم يسل أين ظلت: أي لا تبرح بيتها.
473 اسبكرت: طالت وامتدت. ولعله يقصد بهذا البيت أن أعضاء جسمها كلها في منتهى الجمال، فالأعضاء التي تجعل فيها الدقة، دقيقة، والتي يحسن فيها الامتلاء مملؤة. وطول قامتها يكون في أحسن ما يكون طول القامة، ثم قال: وأكملت، أي كمل جسمها حسنًا وجمالًا. وعقب على ذلك بأنه لو كان كل الجمال الكامل سببًا في جنون صاحبه، لجنت هي من جمالها التام في كل شيء، خُلقًا وخَلقًا.
طبيعتها أو أخلاقها ما يغضب الآخرين، بل كل أفعالها، وأقوالها، وأخلاقها محمودة فأحبها جميع
الناس، وهي تمتاز بالحياء الكامل فهي في غاية الحشمة والأدب، إذا مشت لا تكون متبهرجة ولا متبرجة، فتحافظ على قناعها، ولا تتلفت في أي اتجاه، وهي كريمة تؤثر جيرانها على نفسها، وتحافظ في إهدائها على كرامة من تقدم له الهدية، فتقدم أعز ما لديها لجارتها، في وقت لا يراها فيه أحد، وبيتها كله طهارة وشرف، فهي تتصف بالعفة والنقاء، وفي منتهى البعد عن أدنى شبهة أو ظن، ويبدو حياؤها واضحًا في مشيها، فهي إذا مشت، لا تنظر إلا أمام قدمها، كأنها من شدة حيائها تبحث عن شيء ضاع منها، ولا تتحدث عن زوجها إلا بكل ما يصوره عظيمًا كريمًا. وسيرتها حلوة، ودرجتها عالية بين قريناتها، وهي في معاملتها لزوجها في منتهى الكمال، لا تبرح بيتها إلا بعلمه، وتتحرى ما يرضيه ويسره، وتعامله في غيبته كما لو كان موجودًا، وعند عودته إليها يعود وقلبه متلهف لرؤيتها؛ لأنه يحس السعادة الحقيقة في وجوده معها، وقد قال الأصمعي: هذه الأبيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن.






صورة مفقودة
 
أعلى