إحسان عباس - تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين)

6 - الغزل:
لم يكن للغزل في العصر الأموي السابق شاعره المتفرد، ولكن الشعر الغزلي كان غزيرا، وكتاب " الحدائق " لابن فرج يمثل هذه الغزارة، وتسيطر على ذلك الغزل كثرة التذلل والشكوى وذكر الدموع والسهر وامتحان صدق الحب بتمني الموت وإظهار الغيرة الشديدة وغير ذلك من المظاهر التي منحها ابن حزم في " طوق الحمامة " دراسة قائمة على شيء من التجربة والتفلسف. وقد دلنا ابن حزم عل شيء من نظرة الأندلسيين؟ في عصره إلى الحب والغزل، وعلى شيء من عوائدهم وأساليبهم فيهما، وحدثنا عن غرام بعضهم بالجمال الأشقر، وعن اتخاذ الحمائم لتبليغ الرسائل، وعن التهادي بخصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد وقد جمعت في اصلها بالصطكي وبالشمع الأبيض المصفى ولفت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه لتكون تذكرة للمحبين، وحدثنا عن ضروب من الحب عندهم أدت إلى الجنون وأخرى أدت إلى الانتحار. ويستشف من أقوال ابن حزم سيطرة الجارية على دنيا الغزل، في الأكثر، وقد يكون من الأخبار ذات الدلالة العميقة قوله: ان المنصور بن أبي عامر قتل جارية تغنت بغزل قيل فيه " صبح " أم مؤيد، وان آلا مغيث استؤصلوا ولم يبق منهم إلا الشريد الضال لأن أحمد بن مغيث تغزل بإحدى بنات الخلفاء (1) ، مما يدل على قيام حدود صارمة تجعل نساء الأشراف في منزلة خاصة لا تتطاول إليها، أولاً يجب أن تتطاول، عيون الشعراء المتغزلين.
على ان ابن حزم ربط الحب في رسالته بالنظرة الأفلاطونية أو قل وثق العلاقة بينه وبين الاخلاق، ولم يكن جاريا في هذا على طبيعته المتدينة فحسب، بل كان أيضاً يصور تيارا قويا في شعر الحب بالأندلس، وجد قبل ان يكتب طوق الحمامة. إذ كانت علاقة الشعر بالأخلاق قد أخذت تتحدد لا على نحو رومنطيقي إعرابي كما حدث في نسيب المشارقة إبان العصر الأموي بل على نحو من الإيمان بالعفاف عند المقدرة وانه سمة أخلاقية ملازمة للفتوة نفسها، تلك الفتوة النابعة أيضاً من النظرة الدينية. وكان ابن فرج صاحب الحدائق نفسه من خير من يمثلون هذا الاتجاه في مقطوعتين من شعره وصلتا إلينا، يقول في إحداهما:
وطائعة الوصال صددت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سافرة فبانت ... دياجي الليل سافرة القناع
فملكت الهوى جمحات شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي
وبت بها مبيت الطفل يظمأ ... فيمنعه الفطام عن الرضاع
كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشم من مناع
ولست من السوائم مهملات ... فاتخذت الرياض من المراعي ويقول في الأخرى:
بأيهما أنا في الحب بادي ... بشكر الطيف أم شكر الرقاد
سرى فازداد بي أملي ولكن ... عففت فلم أنل منه مرادي
وما في النوم من حرج ولكن ... جريت من العفاف على اعتيادي ومن الغريب أن يذهب في هذا الاتجاه نفسه شاعر كالرمادي، وصورته لدينا في الإقبال على اللذات والاستهتار صورة واضحة تلحقه بالنواسي؛ فهو يقول في إحدى مقطوعاته:
وكان في تحليل أزراره ... أقود لي من ألف شيطان
فتحت الجنة من جيبه ... فبت في دعوة رضوان
مروة في الحب تنهى بأن ... يجاهر الله بعصيان وقد فلسف ابن حزم هذا الصراع بين الشهوات والإقلاع عنها، فذهب إلى القول بأن في الإنسان طبيعتين متضادتين: إحداهما هي العقل وهو الذي يشير بخير ويحض عليه، والثانية هي النفس وهي التي لا تشير إلا الشهوات، والروح واصل بين هاتين الطبيعتين وموصل ما بينهما وحامل الالتقاء بهما (1) . وأنكر ابن حزم قول الناس في عصره وبلده، إن الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء، وقال: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء (2) .
وذهبت هذه النظرة في هذا الموقف " الحبي " بعد عصر الرمادي وابن فرج، في ازدواج، فأصبح الشاعر في هذا العصر الذي نتحدث عنه يتخذ من التحدث عن العفاف أو عن التمكن من الشهوات مذهبا أدبيا، دون أن يعبر في ذلك عن حقيقة أخلاقية مائلة في نفسه. وممن سلك هذه الخطة فقسم شعره بين مذهبي العفاف والمجون الشاعر أبو جعفر أحمد بن الابار أحد شعراء دولة المعتضد، فقد عبر عن القناعة في الحب في مقطوعات كثيرة منها قوله (3) :
حتى اذا غازلت أجفانه سنة ... وصيرته يد الصهباء طوع يدي
أردت توسيده خدي وقل له ... فقال: كفك عندي أفضل الوسد
فبات في حرم لا غدر بذعره ... وبت ظمآن لم يصدر ولم أرد وتنسب هذه القطعة أيضا لإدريس بن اليمان ومن تلك المقطعات قول أبي جعفر بن الأبار (4) :
حتى إذا ما السكر مال بعطفه ... وعتا يحكم الوصل في نشواته
هصرت يدي منه بغصن ناعم ... لم أجن غير الحل من ثمراته
وأطعت سلطان العفاف تكرما ... والمرء مجبول على عاداته ويقول في مقطوعة ثالثة:
فورعت عن جني الجنى ... وكففت عن فوق الكفاف
وعصيت سلطان الهوى ... وأطعت سلطان العفاف هذا، مع أن لأبي جعفر بن الابار قطعا مجونية فاحشة جرى على منواله في بعضها عبد الجليل بن وهبون وأبو بكر الداني والمتنبي الاشبيلي وغيرهم، وهذا يؤكد انقسام الغزل في هذا العصر، في الاتجاهين المذكورين عند الشاعر الواحد، إلى جانب انقسامه منذ عهد مبكر بين غزل بالمؤنث وآخر بالمذكر.
ومما يميز الغزل في هذا العصر الذي ندرسه؟ بالنسبة للعصر السابق - وضوح شخصيات بعض النساء اللواتي يدور حولهن الغزل أو؟ في الأقل - دوران الغزل حول امرأة معروفة. فمثلا كان ابن السراج المالفي شاعر بني حمود يتعشق جارية تدعى " حسن الورد " وجارية أخرى تدعى " أزهر " وله فيهما عدة مقطوعات اوردما ابن بسام في الذخيرة (1) وكان ابن الحداد قد شغف في صباه بصبية نصرانية ذهبت بلبه كل مذهب، وركب إليها اصعب مركب، وكان يسميها في شعره " نويرة " واسمها على الحقيقة " جميلة " (2) وقد تضمنت أشعاره فيها الإشارات الكثيرة إلى الطقوس والشعائر المسيحية، كما أن فيها ألغازاً كثيرة باسمها. ومن شعره فيها:
ورأت جفوني من نويرة كاسمها ... نارا تضل وكل نار ترشد
والماء أنت وما يصح لقابض ... والنار أنت وفي الحشا تتوقد وله فيها ايضا:
عساك بحق عيساك ... مريحة قلبي الشاكي
فان الحسن قد ولاك ... إحيائي وإهلاكي
وأولعني بصلبان ... ورهبان ونساك
ولم آت الكنائس عن ... هوى فيهن لولاك ويتلاعب ابن الحداد بالمعاني المستمدة من الجو المسيحي من تثليث واعتراف وزنار وأنجيل ومحبة، ويبدو في ما اختاره ابن بسام من شعره، انه كان جادا في حبه صادقا في التعبير عن عاطفته، وان نصيب شعره من حرارة الوجد يتميز على كثير من سائر الغزل الأندلسي.
وقد تظهرنا المقارنة بين قصة ابن الحداد وصاحبته " نويرة " وبين قصة ابن زيدون وصاحبته " ولادة " (والقصة الثانية من أشهر قصص الحب في الأندلس) على فروق كثيرة، فقد أصبحت صورة ابن زيدون وولادة طاغية على ما سواها من قصص الحب والغزل الأندلسيين، وسبب ذلك أنها قصة تمثل العلاقة الأرستقراطية بين اثنين من السادة، أحدهما مخزومي النسب، وصاحبته أموية من بيت الخلافة، ولذلك خلدت قصة ابن زيدون ونسي ابن الحداد. ثم إن ابن الحداد كان قد تورط في حب فتاة على دين غير دينه، وأكثر في شعره من التحدث عن المعاني المتصلة بذلك الدين، وما أظن أن مثل ذلك الشعر يحدث صدى كبيرا في بيئة محافظة. هذا إلى فرق كبير في ما أحرزه الرجلان من الطريقة الشعرية: فابن زيدون بحتري الموسيقى والسياق سهل سائغ، أما ابن الحداد فانه يمثل الشاعر المثقف الفلسفية والعلمية، وفي شعره ميل إلى التعمق الفكري يبعد به عن المستوى العام الذي يألفه الناس ويتطلبونه. ثم إن لولادة شخصية واضحة لأنها تكمل قصة الحب بالاستجابة الفنية من جانبها. أما نويرة، فنكاد لا نعرف شيئا من موقعها سوى الصد المطلق أو السلبية الكاملة، وهذا ترك أثرا في شعر كل من الرجلين، فقصائد ابن الحداد، زفرات ملتاع يشكو ويتشبث بالوصول ويتحرق بالوجد، فالحب فيها من جانب واحد، أما قصائد ابن زيدون فأنها غيوم أسى احتشدت بعد الفراق والتغير، فهي حسرة على ما فات، وبكاء على عهود انقضت وأحلام تبددت، أي هي حكاية قصة كاملة ذات طرفين.
ويبدو أن ابن زيدون أضفى على هذا الحب شيئا حين سجله في مذكرات أو ترجمة ذاتية، أو رواه متلذذا بذكريات الماضي، فقد قال ابن بسام راويا عنه: " قال أبو الوليد: كنت في أيام الشباب، وغمرة التصاب، هائما بغادة، تدعى ولادة، فلما قدر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت إلي:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فأني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا ... وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر (1) " ويحكي ابن زيدون حكايات أخرى تدل على غيرة ولادة، حين سأل المغنية وهو في بيتها أن تعيد الغناء دون اذن منها " فخبأ منها برق التبسم وبدا عارض التجهم " (2) ، وأنهما باتا على العتاب في غير اصطحاب، حتى إذا كان الصبح وبادر هو إلى الانصراف كتبت إليه أبياتا تقول فيها:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جاريتي ولم تتخير وكل هذا إنما أورده لأدل على ان ابن زيدون نفسه جعل من ذلك الحب قصة مكتوبة أو مروية في نطاق آخر مستقل عن نطاق ديوانه.
والقصة قد أضحت مشهورة شهرة تغنينا عن سردها في إسهاب، فقد دخلت شخصية ابن عبدوس فيها في صورة منافس لابن زيدون، وبعث ابن زيدون لصديقه قصيدة عنيفة، بعض العنف، يعاتبه فيها على التغير، ويذكر ولادة معرضا بقوله:
وغرك من عهد ولادة ... سراب تراءى وبرق ومض
هي الماء يأبى على قابض ... ويمنع زبدته من مخض (وبعد ذلك أبيات حذفها ابن بسام فيما يبدو هجاء لاذع في ولادة نفسها) وهذا يومئ إلى حرص ابن زيدون على استبقاء الصداقة بينه وبين ابن عبدوس بعد إذ خاب ظنه في الحب، وقد تم هذا بعد الرسالة الهزلية التي كان ابن زيدون يحرص فيها على استبقاء الحب وان أدى به إلى فقد الصديق. وقبل أن تنفصم روابط الحب كان ابن زيدون قد كتب لولادة قصيدته الثائرة التي تشبه " الجرس " الأخير في حياة حبهما:
ألم أوثر الصبر كيما أخف ... ألم اكثر الهجر كي لا أمل
ألم ارض منك بغير الرضا ... وابدي السرور بما لم أنل
ألم أغتفر موبقات الذنوب ... عمدا أتيت بها أم زلل
ولم يدر قلبك كيف النزوع ... إلى أن رأى سيرة فامتثل
وليت الذي قاد عفوا إليك ... أبي الهوى في عنان الغزل
يحيل عذوبة ذاك اللمى ... ويشفي من السقم تلك المقل وانصرفت ولادة عن ابن زيدون إلى ابن عبدوس، وظل المحب الثاني يكفل لها العيش اللين بجوده بعد إذ تحيف الدهر المستطيل حالها وطال عمرها وعمر أبي عامر حتى أربيا على الثمانين (1) .
فشخصية ولادة هي التي رسمت الطريق لغزل ابن زيدون بتقلبها وشدة غيرتها، ومن قوة الحادثة نفسها استمد غزله القوة والجيشان، وبخاصة بعد أن وقع في حال هي بين الأمل واليأس، ففي تلك الفترة أطلق الشاعر شحنة قوية من الحرارة في قصائده عندما أحس بأن " شخصه " قد اصبح مقصى عن تلك المجالس وان الإيثار قد وقع على غيره. وإذا كانت غيرة ولادة سببا في سوء ظنها بابن زيدون نفسه ثم تحولها عنه فان في شخصية ابن زيدون نفسه سببا آخر، إذ كان شابا مغرورا بجماله وفتونه، نرجسيا في نظرته لذاته، وكان مبتلى بمثل الغيرة التي لدى صاحبته، ولذلك كان استمرار العلاقة بينهما أمرا عسيرا. ولم يستطع ابن زيدون؟ رغم إعجابه بنفسه - أن يتغلب على شعوره بالنقص تجاه ولادة من حيث انها أشرف نسبا وأعلى مقاما وقد عبر عن هذه الحقيقة الكامنة في دخيلته بقوله:
ما ضر أن لم نكن أكفاءه شرفا ... ففي المودة كاف من تكافينا غير انه أن أجاز لنا أن نفسر انتهاء هذه العلاقة بتفسيرها للعوامل الدخيلة في طبيعة الشخصيتين فلا يجوز لنا بحال أن نرسم من كل شعر ابن زيدون الغزلي صورة قصة واحدة تدور كلها حول علاقته بولادة. فذلك الحب إنما استثار قصائد معدومة. ولم يكن ابن زيدون بالذي يجعل حياته كلها وقفا على علاقة حب واحد؛ هذا وان الاغراق في الحكم على شخصيتهما من القصص القليلة المتصلة بهما ونسبة الشذوذ الجنسي إلى هذا أو ذاك منهما إنما هو من التجوز؟ بل من التعدي - الذي لا تقره الدراسة المنصفة القائمة على الشواهد فقد وصف ابن بسام ولادة - مثلا " بطهارة الأثواب " ثم قال بعد ذلك بسطر: " وأوجدت إلى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها (1) فما الذي يوفق بين طهارة الأثواب والمجاهرة باللذات؟ وما معنى قول أبي عبد الله بن مكي شيخ ابن بسكوال " لم يكن لها تصاون يطابق شرفها؟ " (2) وما الصورة التي تتركها أهاجيها في تقديرنا لشخصيتها؟ مفهوم هذا كله يتجلى لنا إذ نتذكر أن ولادة كانت صاحبة " صالون " أدبي، وأنها كانت تستقبل أصنافاً من الناس فتحادث هذا وتمازح ذاك وتقبل بالحب على واحد دون آخر، فلم تكن " متصاونة " حسبما تحجب نساء الاشراف، ولم تكن تتعقق في القول لميلها إلى الدعابة حتى وان جاءت مكشوفة، وفي كل ذلك تفصل الرواية القديمة بين القول والعمل فيما تنسبه إليها.
وقد يظن أن ابن زيدون اتهمها في معرض التهكم بابن عبدوس حين قال على لسانها في الرسالة الهزلية، وعلاقته بها ما تزال قوية: " وكم بين من يتمدني بالقوة الظاهرة والشهوة الوافرة والنفس المصروفة الي واللذة الوقوفة علي وبين آخر قد نضب غديره ونزحت بيرة "؟ وهذا كلام أن لم يحمل على المقارنة بين محض رغبة المرأة؟ أي المرأة - في الشاب دون الشيخ، فانه مما قد يؤخذ سببا لتعليل غضب ولادة على ابن زيدون، إذ أنها أنفت من أن يتهمها هذا الاتهام في سبيل ان يرجح كفته على ابن عبدوس، فاختارت ابن عبدوس نكاية به وتقريعا له ودفعا لهذه التهمة.
ما حصيلة ذلك كله والحديث عن الغزل؟ من حيث هو فن - رائد هذه الفقرة لا الحديث عن حب ولادة وابن زيدون وشخصيتهما؟:
ظاهرة هامة تركت طابعها على شعر ابن زيدون في الغزل؟ وفي غير الغزل أيضا - حين أصبحت قصة الحب وما جرته من ذيول حادثة ملهمة له وتلك هي ان القصيدة قد أصبحت " رسالة " تكتب، لا وصفا للمرأة ولا كلفا بالمناجاة الذاتية. وكان من دواعي هذا الموقف ان تتخذ سياقا عاطفيا وفكريا محددا بحدود الرسالة نفسها، فقصيدته " أضحى التنائي بديلا من تدانينا " وقصيدته " أني ذكرتك بالزهراء مشتاقا " وقصيدته " لئن قصر اليأس منك الأمل " وتلك التي خاطب بها ابن عبدوس " أثرت هزبر الشرى إذ ربض " وغير هذه القصائد إنما هي جميعا في قالب رسائل.
حادثتان اذن تشابهتا في أن فرضتا على ابن زيدون مسلكا واحدا هما حادثة الحب وحادثة السجن، وفي كلتيهما نرى ابن زيدون محتجبا وراء المسافة، يكتب رسائل، محددة المعالم مرتبة الأفكار، متراوحة بين الاعتدال والثورة، مزودة بقوة الانتقاء اللفظي وحلاوة الجرس الموسيقي.
فإذا أضفت إلى هاتين الحادثتين عمله الديواني تبين لك ابن زيدون " كتابا " في كل حالة، كاتبا ناجحا، ورسالته شعرية حينا نثرية حينا آخر، حتى انك لو أطلقت على عظم ديوانه اسم " رسائل ابن زيدون " لما كنت بعيدا عن الصواب. وقد كان المتوقع أن تقوى في شعره؟ وفي الغزلي منه بخاصة - المظاهر القصصية، وهي قد ظهرت فيه حقل ولكنها لم تكن بالقوة المتوقعة.
يتضح من هذا الحديث عن الغزل في هذا العصر انه دون شاعر " متخصص " فيه يقف عليه كل جهوده مثلما كان عمر بن أبي ربيعة أو العباس بن الأحنف في المشرق ولم يبلغ في رومنطقيته مبلغ شعر المجنون وكثير عزة ونسابي الاعراب. ولكنه انقسم قسمة مصطنعة عامدة بين الإلحاح في شأن العفاف أو الانسياق في المجون، واصبح شعر ابن زيدون ذا لون يدور حول علاقة حية غير مبهمة، وبذلك يمثل صفحة جديدة فيها من حداثة الصورة ما يجعلها متميزة في النفوس لا لأنها تعبر فحسب عن اللقاء في المستوى العاطفي بل لأنها تمثل المستوى الاجتماعي وشيئا من التقارب في الصعيد الفكري وتتصل قوتها بقوة " القصة " نفسها فليس فيها من سمات فارقة في طبيعة الغزل بمقدار ما هنالك من سمات جذابة في قصة الحب. وإذا كانت قصة ابن زيدون وولادة تقاربا بين مستويين في مجتمع أرستقراطي فان قصة ابن الحداد ونويرة تقارب بين بيئتين متجاورتين تنفرد كل منهما بدينها، وتتعايشان معا على ارض الأندلس.









* كتاب: تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين)
المؤلف: دكتور إحسان عباس (المتوفى: 1424هـ)


364853072911.jpg
 
أعلى