إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحصري - جمع الجواهر في الملح والنوادر

من شعر أبي حية النميري

وأبو حية النميري من أحسن الناس شعراً وأرقهم فيه طبعاً، على لوثة كانت به؛ وهو القائل:
ألا أيّها الربع القواء ألا انطق ... سقتك الغوادي من أهاضيب فوّق
مرابيع وسميّ تسوق نشاطه ... جرار الصّبا في العارض المتألّق
وما أنت إلاّ ما أرى بعد ما أرى ... يد الحي في زي بعيني مونق
غراب ينادي يوم لا القلب عقله ... صحيح ولا الشعب الذي انصاع ملتقي
جزيت غراب البين شرّاً لطالما ... شقيت بتحجال الغراب المنعّق
ورقراقة تفترّ عن متبسّم ... كنور الأقاحي طيّب المتذوّق
إذا امتضغت بعد امتناع من الضحى ... أنابيب من عود الأراك المخلّق
سقت شعث المسواك ماء غمامة ... فضيضاً بخرطوم العراق المصفّق
فإن ذقت فاها بعدما سقط النّدى ... بعطفي بخنداة رداح المنطق
شممت العرار الغضّ غبّ هميمة ... ونور الأقاحي في الندى المترقرق
شرقت بريّا عارضيها كأنما ... شرقت بدار ... العراق المعتق
هذا شعر ظريف الصنعة حسن الوشي والسبك؛ وقد ملح ما شاء في وصف الثغر وطيب النكهة، وهو معنى حسن جميل.


أحسن ما قيل في وصف الثغر

قال أبو العباس بن الفرج الرياشي سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة:
وتجلو بفرعٍ من أراكٍ كأنه ... من العنبر الهندي والمسك يصبح
ذرى أقحوان واجه الليل وارتقى ... إليه الندى من راحة المتروّح
هجان الثنايا مغربٌ لو تبسّمت ... لأخرس عنه كاد بالقول يفصح
وكتب كشاجم إلى بعض القينات وأهدى إليها سواكاً:
قد بعثناه لكي تجلي به ... واضحاً كاللؤلؤ الرطب الأغر
طاب منه العرف حتى خلته ... كان من ريقك يسقى في الشجر
ليتني المهدى فيروي عطشي ... برد أنيابك في كلّ سحر
وأما والله لو يعلم ما ... حظّه منك لأثنى وشكر
وقد أحسن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إذ يقول:
وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي ... أخشى عقوبة مالك الأملاك
ماذا عليك دفعت قبلك للثّرى ... من أن أكون خليفة المسواك
أيجوز عندك أن يكون متيّم ... صبٌّ بحبك دون عود أراك
وقال ابن الرومي:
ألا طالما سؤت الغيور ساءني ... وبات كلانا من أخيه على وحر
وقبّلت أفواهاً عذاباً كأنها ... ينابيع خمرٍ حصّبت لؤلؤ البحر
وقال:
تعلك ريقاً يطرد النوم برده ... ويشفي القلوب الحائمات الصواديا
وهل ثغبٌ حصباؤه مثل ثغرها ... يصادف إلاّ طيّب الطعم صافيا
وقال:
وما تعتريها علّة بشريّةٌ ... من النوم إلا أنها تتخثّر
كذلك أنفاس الرياض بسحرةٍ ... تطيب وأنفاس الورى تتغيّر
وقال ابن المعتز:
بأبي حبيبٌ كنت أعهده ... لي واصلاً فازورّ جانبه
عبق الكلام كمسكةٍ نفحت ... من فيه ترضي من يعاتبه
وقال العطري:
ذات خدين ناعمين ضني ... نين بما فيهما من التفاح
وثنايا وريقةٍ كغدير ... من عقارٍ وروضةٍ من أقاح


***

من نوادر المخنثين

لما جعل عيسى بن موسى ولي العهد بعد المهدي وكان ولي عهد المنصور، قال لمخنث قدم إليه وقد جنى جناية: ما أراك تعرفني فكنت تفعل هذا الفعل؟ قال: بلى والله أيها الأمير، إني بك لعارف؛ فأنت الذي كنت غداً فصرت بعد غد.
خرج مخنث في شدة الهاجرة ببغداد وهو وقت لا يتصرف فيه أحد، فلقيه رجل فقال: لكم الليل ولنا النهار. فقال: صدقت، ولكن رأيت وجهك فظننته قطعةً من الليل.

***

أبو العبر وامرأته
مرض رجل فجاء أبو العبر يعوده وقد ثقل، فصاحت امرأته؛ من لي بعدك يا سيدي؟ قال: فغمزها أبو العبر وأومأ إليها أنا لك بعده، فلما مات الرجل وانقضت عدتها تزوجها أبو العبر، فأقامت عنده حيناً؛ ثم حضرت أبا العبر الوفاة، فجاء عواده؛ فصاحت من لي بعدك يا سيدي؟ ففتح عينيه وقال: لا يغمزها إلا من تكون أمه زانية.

***

عجوز وشابة
وبينا ابن أبي ليلى في مجلس القضاء إذ تقدم إليه امرأتان عجوز وشابة. فقالت الشابة: أنا أصلح الله القاضي امرأة مبدنة، وقد بهرني النفس؛ فإن رأى القاضي أن يأذن لي فأحسر عن وجهي فليفعل. فقالت العجوز: أصلح الله القاضي، إنها من أحسن الناس وجهاً، وإنما تريد أن تخدع القاضي، لا أمتعها الله بما وهبها من الجمال. فقال لها ابن أبي ليلى: إذا أنت شددت قناعك فشأنك ووجهك.
فحسرت الفتاة عن وجه جميل. ثم قالت: أصلح الله القاضي، إن هذه عمتي وأنا أسميها أمي لكبر سنها، وإن أبي مات وخلف مالاً، وخلفني في حجرها؛ فجعلت تمونني وتحسن التدبير في المال وتوفيره علي، إلى أن بلغت مبلغ النساء فخطبني ابن عم لي فزوجتني منه، فكان بي وبه من الحب ما لا يوقف على صفته، ثم إن ابنةً لعمتي أدركت، فجعلت هذه ترغب زوجي فيها؛ فتاقت نفسه إليها فخطبها. فقالت: لست أزوجكها حتى تجعل أمر بنت أخي في يدي. فقال لها: قد فعلت! فلم أشعر حتى أتاني رسولها فقال: عمتك تقرئك السلام وتقول لك: إن زوجك خطب ابنتي، وإني أبيت أن أزوجها منه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل ذلك فأنت طالق، فحمد الله تعالى على ما بليت به.
وإن زوج عمتي هذه قدم من سفر، فسألني عن قصتي فأخبرته فقال: تزوجيني نفسك؟ فقلت: نعم! على أن تجعل أمر عمتي في يدي. قال لي: فما تصنعين إذاً؟ قلت: ذلك إلي؛ إما أن أعفو وإما أن أقتص. قال: قد فعلت، فأرسلت إلى عمتي أن زوجك خطبني وأني أبيت عليه حتى يجعل أمرك في يدي، ففعل؛ فأنت طالق! فضحك ابن أبي ليلى! فقالت العجوز: لا تضحك أيها القاضي، فالذي بقي أكثر وأعظم. فقالت الشابة: ثم إن زوج عمتي مات فجعلت تخاصمني في ميراثه، فقلت لها: هو زوجي وأنا أحق بميراثه، فأغرت ابن عمي ووكلته بخصومتي ففعل.
فقلت: يابن العم؛ إن الحق لا يستحى منه وقد صلحت لك إذ نكحت زوجا غيرك، فهل لك في مراجعتي؟ فقال: كان ما كان ولا ذنب لي فيه، بل كنا على أشد رغبة وأعظم محبة. ثم قال: أوتفعلين؟ قلت: على أن تجعل أمر بنت عمتي بيدي. قال: قد فعلت. فأرست إلى بنت عمتي أن زوجك خطبني وأني أبيت عليه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل، فأنت طالق.
فقالت العجوز: أصلح الله القاضي؛ أيحل هذا، أطلق أنا وابنتي؟ فقال ابن أبي ليلى: نعم، التعس والنكس لك.
ثم ركب إلى المنصور فأخبره حتى ضحك وفحص برجليه، وقال: أبعد الله العجوز ولا فرج عنها.

***

جارية

وكتب بعض الكتاب إلى محمد بن منصور: وإن بين كل أمر يطالبه الرجاء وبين المطلوب إليه ذريعةً يتوصل بها إلى معروفه، ولي بارتجائك لمعرفتي بفضلك، وكذا الوسيلة، وما كنت متوسلاً إليك بشيء هو أرجى في حاجتي، ولا أصلح لطلبتي من التوسل إليك بحسن الظن فيك، وحاجتي أكرمك الله ظريفة من الجواري لم تتداولها أيدي التجار، ولا تبذلها معاودة العرض، ولي فيها شريطة أعرضها عليك لترى رأيك فيها، أحبرها فرعاء فإنه يقال: إذا اتخذت الجارية فاستجد شعرها؛ فإن الشعر أحد الوجهين؛ وتكون رائقة البياض، تامة القوام؛ فإن البياض والطول نصف الحسن؛ وتكون مليحة المضحك، فإنه أول ما يجلب المحبة، ويكسب الحظوة، ولست أكره الانكسار في الثدي، لأنه ليس للناهد عندي سوى لذة النظر. ولست من قول الشاعر:
جال الوشاح عن قضيبٍ زانه ... رمّان ثدي ليس يقطف ناهد
في شيء. وأكره العجيزة العظيمة وأريدها وسطاً؛ لأن خير الأمور أوسطها، لها طرف أدعج، وحاجب أزج، وكفل مرتج، وما وافقت هذه الصفة، وكانت رخيمة الكلام، شهية النغمة، فهي حرة قبل أن ترسلها، وحاجتي أبقاك الله يحملها قدرك ويستحقها شكرك. وأنا بالإضعاف حري، وأنت بالإسعاف قمين.
فأنفذ إليه محمد بن منصور خمسمائة دينار، وكتب إليه: قد سألت أكرمك الله عن هذه الصفة فلم أجدها، فالتمسها أنت؛ فإن وجدتها فهذه خمسمائة دينار تدفعها عربوناً حتى أبعث إليك بالثمن، والسلام.

خطبة النكاح

قال أبو سودة لابنه: يا بني، تعلم خطبة النكاح، فإني أريد أن أنكح أخاك، قال: نعم! فلما كان من الليل قال: أتعلمت شيئاً؟ قال: نعم! قال: هات. قال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال أبوه: يا بني، لا تقم الصلاة حتى أذهب وأجيء، فإني على غير وضوء.
وهذا كقول ابن أبي حفصة لما قال علي بن الجهم قصيدته التي أولها:
الله أكبر والخليفة جعفر
أراد عليٌّ أن يقول قصيدة ... بمدح أمير المؤمنين فأذّنا
فقلت له لا تعجلنّ إقامةً ... فلست على طهرٍ فقال: ولا أنا
قال يزيد بن أبي حبيب لرجل: من أين أقبلت؟ قال: من أسفل الأرض. فقال له: كيف خلفت قارون؟ وقال عبد الله بن خزيمة لصاحب شرطته: أين تذهب يا هامان؟ قال: أبني لك صرحاً.

صبي يتعلم الهجاء

أسلم رجل ابنه إلى المعلم وقال له: علمه الهجاء، ولا تشغله بغيره، فطال ترداده إلى المكتب؛ فقال أبوه: تعلمت الهجاء؟ قال: نعم! قال: ما هجاء طير؟ قال: ط أس ر أأ ح ألا ي أ، قال: ما هجاء سمكة؟ فقال: س م ك أهـ أخ ح د د، فأرسل إلى المعلم فحضر. فقال له: ويحك! تقدمت إليك أن تعلم هذا الصبي الهجاء، وقد سألته عن هجاء طير، فقال كذا وكذا، وسألته عن هجاء سمكة، فقال: كذا وكذا. فقال المعلم: تجيء إلى صبي صغير تهجيه شيئاً يطير في الهواء وشيئاً يغوص في قعر البحر كيف يتهجاه! فقال: هجه أنت. فقال المعلم: أهجي لك حماد؟ قال: هج. فقال: ح م د ك س، فانتهره أبو الولد وانصرف.
أبو محمد النوبهاري أتاه رجل فقال: وضعت رأسي في حجر امرأتي فقالت: ما أثقل رأسك! فقلت: أنت طالق إن كان رأسي أثقل من رأسك. فقال: تطلق عليك، فقيل له: ولم؟ فقال: لأن القصابين أجمعوا على أن رأس الكبش أثقل من رأس النعجة.


***


.


* جمع الجواهر في الملح والنوادر
المؤلف: إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحصري (المتوفى: 453هـ)



صورة مفقودة
 
من ظريف الصفات
وما جرى ههنا شوطاً في ظريف الصفات، يطيب مغناه ويحسن معناه. قال أشجع بن عمرو:
وماجت كموج البحر بين ثيابها ... يميل بها شطرٌ ويعدلها شطر
إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردّت شهادتها الأزر


البحتري:
رددن ما خفقت منها الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا
إذا نضون شغوف الريط آونةً ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا
ابن الرومي:
النار في خدّيه تتّقد ... والماء من برديه يطّرد
ضدّان قد جمعا كأنّهما ... دمعي يسحّ ولوعتي تقد
وقال:
صدور فوقهنّ حقاق عاجٍ ... ودرٌّ زانه حسن اتّساق
يقول القائلون إذا رأوه ... أهذا الدرّ من تلك الحقاق؟
أخذه من قوله عبد الله بن السمط:
كأن الثدي إذا ما بدت ... وزان العقزد بهنّ النحورا
حقاقٌ من العاج مكنونةٌ ... حملن في الدرّ شيئاً يسيرا
أبو النجم الكاتب:
فيا عجبي من صورةٍ آدميّةٍ ... علاها بياض الشمس في صفرة القمر
فجاءت كمثل الدرّ يشرق لونها ... وريحانة البستان للشمّ والنظر
يذكرني رؤياك ريحاً مريضة ... جرت بنسيم الروض في غلس السّحر
ابن الرومي:
فالعين لا تنفكّ من نظرٍ ... والقلب لا ينفكّ من فكر
ومحاسن الأشياء فيك معاً ... فملالتيك ملالتي بصري
وقال:
لا شيء إلاّ وفيه أحسنه ... فالعين منه إليه تنتقل
فوائد العين فيه طارفة ... كأنما أخرياتها الأول
وقال عبد القادر بن شعيب السلمي:
يا حصن مسلمة الذي أهدى لنا ... حور الظباء سقيت صوب الماطر
قد كان يبلغني فكنت مكذباً ... عن حسن أهلك في الزمان الغابر
حتى رأيت الشمس أشرق نورها ... في الحيّ بين خلاخلٍ وأساور
ورأيت غزلان الخدور سوافراً ... يبسمن عن كالأقحوان الزاهر
فجنيت من ثمر الصبابة والهوى ... وشممت من ورق السرور الناضر
فرمين منّي مقتلاً فقتلنني ... يا من رأى ليثاً قتيل جآذر
ومر أعرابي بأبي نواس وهو ينشد بعض الأمراء:
ويلي على نجل العيو ... ن النّهد والقبّ البطون
الكاتبات عن الضمي ... ر لنا بألسنة الجفون
فقال الأعرابي: ويلك أنت وحدك من هذا؟ بل ويلي أنا وويلي أبي وأمي وبني عمي، وهذا الفاعل القائم بين يديك.
التقعر في الكلام
كان رجل من التجار له ولد يتقعر في كلامه، ويستعمل الغريب؛ فجفاه أبوه استثقالاً له وتبرماً به، ومما كان يأتي به، فاعتل أبوه علةً شديدة أشرف منها على الموت. فقال: أشتهي أن أرى ولدي، فأحضروهم بين يديه وأخر هذا ثم أخر حتى لم يبق سواه، فقالوا له: ندعو لك بأخينا فلان؟ فقال: هو والله يقتلني بكلامه، فقالوا: قد ضمن ألا يتكلم بشيء تكرهه؛ فأذن لهم. فلما دخل قال: السلام عليك يا أبت، قل أشهد أن لا إله إلا الله، وإن شئت قل أشهد أن لا إله إلا الله؛ فقد قال الفراء: كلاهما جائز، والأولى أحب إلى سيبويه. والله يا أبتي ما شغلني غير أبي علي، فإنه دعاني بالأمس، فأهرس وأعدس، وأرزز وأوزز، وسكبج وسبج، وزربج وطبهج، وأبصل وأمصل، ودجدج وافلوذج ولوزج.
فصاح أبوه العليل: السلاح السلاح، صيحوا لي بجارنا الشماس لأوصيه أن يدفنني مع النصارى وأستريح من كلام هذا البندق.
وهاج بأبي علقمة النحوي دم فأتوه بحجام؛ فقال له: اشدد قصب المحاجم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً، ولا تردن أتياً.
فقال الحجام: ابعث خلفي عمرو بن معديكرب، وأما أنا فلا طاقة لي بالحرب.
وهاج به مرار فسقط فأقبل قوم يعضون إبهامه، ويؤذنون في أذنه؛ فقام من غمرات غشيته، فقال: ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة؛ افرنقعوا عني. فقال بعضهم: اتركوه فإن جنيته تتكلم بالهندية.

وقال أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن اليتيم: كنت أماشي أبا جعفر بن النحاس حتى وقفنا على بائع تمر، فقال له أبو جعفر: كيف تبيعني؟ قال: ثلاثة ونص بدرهم. قال له: قل ثلاثة ونصف بدرهم. قال: ثلاثة ونصف بدرهم. فقال له: قل ثلاثة ونصف بالكسر، فضجر وقال: ونصف، أفرغ لسانك فنحن في بيع وشراء لسنا في نحو. قال: فاجعله أربعة؟ قال: أفعل يا بغيض، فوزن له بدرهم؛ فقال له أبو جعفر: أدر الصنجة من الكفة إلى الكفة، فقال: أنا أعرف ابن النحاس فإنه أحمقكم، قال ابن اليتيم فقلت له: أبيت أن تنصرف إلا مصفوعاً.
وكان أبو العباس مليح الشعر وهو القائل:
لا لأني أنساك أُكثر ذكرا ... ك ولكن بذاك يجري لساني
أنت في القلب والجوانح والرو ... ح وأنت المنى وأنت الأماني
كل عضوٍ منّي يراك من الشو ... ق بعينٍ غنيةٍ عن عياني
ودخل بستان حسين بن الماذرائي فعلق بثوبه غصن ورد فقال:
علق الورد بي وقال إلى أي ... ن وعندي روائح الأحباب
قلت آليت لا أشمّك حتّى ... أتروّى من الثنايا العذاب
وقال:
يا زائري في ظلمة ال ... ليل البهيم على وجل
حافٍ وقد جعل القنا ... ع على النهار من الخجل
هلاّ انتعلت بوجنت ... يّ فكان يضرب بي المثل
سبحان من جعل الخدو ... د عذاب قلبي والمقل
الفرزدق وخالد بن صفوان
قال خالد بن صفوان للفرزدق: يا أبا فراس، لو رأتك صويحبات يوسف لما أكبرنك ولا قطعن أيديهن؟ فقال: وأنت يا خالد، لو رأتك صاحبة موسى لما قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين.
ووهب رجل لابن سيابة ديناراً، ثم بعث إليه ليأنس به، فكتب إليه: شغلتنا أموالنا وأهلونا.
وجاور ابن سيابة قوماً فأزعجوه. فقال: ولم تخرجوني من جواركم؟ قالوا: أنت مريب، قال: فمن أذل من مريب وأحسن جواراً.
وفيه يقول عتبة الأعور:
يابن الذي عاش غير مهتضمٍ ... يرحمه الله أيّما رجل
له رقاب الملوك خاضعةٌ ... ما بين حافٍ منهم ومنتعل
أبوك أوهى النّجاد عاتقه ... كم من كميّ أردى ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من دائر على وجل
في كفّه صارمٌ يقلّبه ... يقدّ أعناق سادةٍ نبل
وهذا بديع في وصف حجام.
وقال آخر يصف حجاماً:
له جونةٌ فيها ثلاثون مخلباً ... مناقيرها بيضٌ وأجوافها حمر
إذا عوّج الكتّاب يوماً سطورهم ... فليس بمعوجّ له أبداً سطر
وصف بعض المزينين
وقد قال بعض المزينين:
قصصت بموسى الغدر ناصية العهد ... وأجريت شرط البين في جبهة الودّ
قططت بمقراض الجفا طرّة الوفا ... فجبهة وجه الودّ مكشوفة الجلد
وما زلت مصّاصاً بجمجمة القلى ... أخا النأي في العتبى على القرب والبعد
كلام مستطرف لأهل الصناعات من طريق صناعاتهم
ولأهل الصناعات من طريق صناعاتهم كلام مستظرف؛ وربما اتفقت الاستعارة مطردة للشاعر على معنى في صناعة، حتى كأنه عانى تلك الصناعة بما جرى على لسانه من البراعة، في وصف حقائقها، ونعت طرائقها؛ كقول عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع.
غرست الهوى حتى إذا أورق الهوى ... فأينع في أغصانه ثمر الوصل
وحفّت به أنهاره في غياضه ... فأصبح ملتفّ الحدائق بالحمل
ولم يبق إلا المجتنى من ثماره ... سرور التصافي والمودة والبذل
أطاف بنا ريح الوشاة فهيّجت ... سحابة هجران تكفّ على رسل
فمالت عزاليها عليه فأحرقت ... غصون الهوى والودّ منّا بلا دخل
ودبّت سيول الهجر حول أصوله ... فأغصانه فاستقلعته من الأصل
وقال علي بن هشام:
حصد الحبيب وصالنا بمناجلٍ ... طبع المناجل من حديد البين
والشوق يطحنه بأرحية الهوى ... والعين تعجنه بماء العين
والقلب يخبزه بنيران الأسى ... والنفس تأكله بلونٍ لون

قال الجاحظ: سألت وراقاً عن حاله؟ فقال: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس أشد سواداً من الحبر بالزاج، وحظي أخفى من شق القلم، وجسمي أضعف من قصبة، وطعامي أمض من الحبر، وشرابي أمر من العفص؛ وسوء الحال ألزم بي من الصمغ. فقلت: لقد عبرت ببلاء عن بلاء.
وللجاحظ في هذا النوع رسالة كتب بها إلى المعتصم، وقيل إلى المتوكل في الحض على تعليم أولاده ضروب العلوم وأنواع الأدب وهي: يا أمير المؤمنين: علم بنيك من أنواع الأدب ما أمكن؛ فإنك إن أفردتهم بشيء واحد ثم سئلوا عن غيره لم يعرفوه؛ وذلك أن حزاماً صاحب خيلك حين سألته عن الوقعة ببلاد الروم، قال: لقيناهم في مقدار الإصطبل، فما كان إلا بمقدار ما يحس الرجل دابته حتى قتلناهم؛ فتركناهم في مثل نثير السرجين، فلو طرحت روثة لما سقطت إلا على ذنب برذون.
وكان قد أنشد في الغزل:
غن يهدم الصدّ عن قلبي مذاوده ... فإنّ قلبي بقتّ الصبر معمور
ويح امرىءٍ في وثاق الحبّ يكبحه ... لجام هجرٍ على الأسقام مقرور
أنل خليلك نيلاً من وصالك أو ... حسن الرقاد فإنّ النوم مأسور
أمنت فتل شكالي حين ودّعني ... ومبضع الحب في كفيه مطرور
لبست برقع هجر بعد ذلك في ... إصطبل ودّ فروث الحبّ منثور
وسألت بختيشوع الطبيب عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار ساحة البيمارستان؛ فما كان إلا بمقدار ما يختلف الرجل مقعدين حتى تركناهم في محقنة ثم قتلناهم، فلو طرحت مبضعاً لما وقع إلا على أكحل رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شرب الوصل بجنح الهجر فاستط ... لق بطن الوصال بالإسهال
ففؤاد المحبّ ينحله السّه ... د وقلبي معلّقٌ بالمطال
وفؤادي مبرسمٌ ذو زحيرٍ ... يابن ماسويه ضاق احتيالي
لو ببقراط بعض ما بي وجالي ... نوس ماتا منه بأسوأ حال
وسألت جعفر الخياط عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مثل سوق الخلقان؛ فما كان إلا بقدر ما يخيط الرجل درزاً، حتى تركناهم في أضيق من جربان، فلو طرحت إبرة لما وقعت إلا على درز رجل.
وكان قد قال في الغزل:
فتقت بالهجران درز الهوى ... بإبرة من إبر الصدّ
فالقلب من ضيق سراويله ... يعثر بي في تكّة الجهد
حسدتني يا طيلسان الهوى ... منه على سوءٍ شقا جدّي
أزرار عيني فيك موصولةٌ ... بعروة الدّمع على خدّي
يادستبان القلب يا زيقه ... عذّبني الدركنز بالوعد
قد قصّ ما أعرف من وصله ... مقراض بين مرهف الحدّ
يا حجزة النفس ويا ذيلها ... ما لي من وصلك من بدّ
ويا جرّبان سروري ويا ... جيب غرامي حلت عن عهدي
وسألت إسحاق بن إبراهيم عن ذلك وكان زارعاً فقال: لقيناهم في مثل جريب من الأرض؛ فما كان إلا بقدر ما يسقي الرجل مشارة حتى قتلناهم عن آخرهم، فلو طرحت منجلاً لما سقط إلا على رأس رجل؛ فصاروا مثل أكوام التبن إذا خرج عن الحب.
وكان قد قال في الغزل:
زرعت هواه في جريبٍ مثلّثٍ ... وأسقيته ماء الدوام على العهد
فلما تعالى النبت واخضرّ يانعاً ... وأفرك حبّ الحبّ في سنبل الودّ
أتته أكفّ الهجر فيها مناجلٌ ... فأسرعن فيه حين أدرك بالحصد
فيا شؤم مالي إذ يعطل للشقا ... ويا ويح ثوري صار معلفه كبدي
وسألت فرجاً الرخجي عن مثل ذلك وكان خبازاً فقال: لقيناهم في مثل مقدار جفنة، فما كان إلا بقدر ما يعجن الرجل قفيزاً أو يخبز أرغفة، حتى صيرناهم في أضيق من جحر التنور، فلو طرحت جردقاً لما وقع إلا في خوان الخبز على كثرة القتلى.
وقد كان أنشد في الغزل:
قد عجن الهجر دقيق الهوى ... في جفنةٍ من خشب الصدّ
فاختمر البين فنار الهوى ... تزجي بشوك الهجر من بعدي
وأقبل الصدّ بهجرانه ... يفحص عن أرغفة الوجد
جرادقاً للوعد مسمومةً ... مثرودةً في قصعة الجهد

وسألت عبد الله بن عبد الصمد عن مثل ذلك وكان مؤدباً فقال: لقيناهم في مقدار كنف، فما كان إلا بمقدار ما يقرأ الصبي إمامة، حتى تركناهم في أضيق من فم الرقم، فلو طرحت دواةً لما سقطت إلا على حجر قتيل.
وقد كان قال في الغزل:
قد أمات الهجران صبيان قلبي ... ففؤادي مولّهٌ ذو خبال
كسر البين لوح وصلي فما أط ... مع ممن هويته في وصال
وقع الرقم عن دواتي فمذ أطل ... ق مولاي حبله من حبالي
مشق الحبّ من فؤادي لوحي ... ن فأغرى جوانحي بالسلال
لاق كبدي دواته فمداد ال ... عين مذ صدّ مالكي ذو انهمال
وسألت الجهم بن بدر عن مثل ذلك وكان صاحب حمام ت فقال: لقيناهم في مثل بيت الابتذال، فقاتلناهم بقدر ما تخلف النورة، ثم ألجأناهم إلى أضيق من الأبزن، فهزمناهم بقدر ما يغسل الرجل وجهه؛ فلو طرحت ليفة لما وقعت إلا على ظهر رجل.
وقد كان قال في الغزل:
يا نورة الهجر غلفت الصفا ... بما بدا من ليفة الصدّ
يا مبذر الأسقام حتّى متى ... تنقع في حوضٍ من الجهد
انقل ذيول الوصل لي مرة ... منك بزنبيلٍ من الودّ
فالبين مذ أوقد حمّامه ... هيّج قلبي مشلّح الوجد
أفسد خطمي الهوى والصفا ... بحاله الناقض للعهد
وسألت الحسن بن أبي قماش وكان أبوه كناساً فقال: لقيناهم بقدر ما يكنس الرجل زنبيلاً، حتى تركناهم في أضيق من جحر المخرج، فلو رميت بنت وردان لما وقعت إلا على ظهر قتيل.
وكان قد قال في الغزل:
أصبح قلبي للهوى مخرجاً ... تسلح فيه فقحة الهجر
خنافس الهجران أثكلنني ... نومي فولّى معرضاً صبري
وبنت وردان الهوى تيّمت ... عقلي فما أعقل ما أمري
وسألت أحمد الشرابي، فقال: لقيناهم في مقدار بيت شراب، فلم يكن إلا بمقدار ما يبزل الرجل دنا، حتى تركناهم في أضيق من رطلية، ثم سالت دماؤهم كالدردي، فلو طرحت كأساً لما وقع إلا في كف رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شربت بكأس اللهو من راحة الهوى ... ورقرقت خمر الوصل في قدح البين
فسالت دنان الحبّ يدفقها الصبا ... وكرّت قرابات دمعي على عيني
وسألت عبد الله الطاهري وكان طباخاً فقال: لقيناهم في مقدار مطبخ أمير المؤمنين، فما كان إلا بمقدار ما يشوي الرجل حملاً أو جدباً، أو يفرغ من طبخ ثلاثة ألوان، أو يعقد فالوذجةً، حتى تركناهم في أضيق من أثافي القدر، فلو طرحت ملعقة لما وقعت إلا على بطن قتيل.
وكان قد قال في الغزل:
شبه الفالوذج في حمرة الخ ... دّ ولوزينج النفوس الظماء
أنت جوزينج الفؤاد وفي اللي ... ن كلين الخبيصة الصفراء
أنت مستهترٌ بسكباج ودّ ... بعد جوزابة بجنب شواء
يا قتار القدور في يوم عرسٍ ... وشبيهاً بشهدةٍ بيضاء
أنت أشهى إلى الفؤاد من الزب ... د مع البرسيان وقت الغداء
أطعم الحاسدين ألوان غمّ ... في قصاع الأحزان والضراء
قد غلا القلب مذ خلت منك داري ... غليان القدور بعد الصّلاء
هام لمّا كسرت فيك غضارا ... ت سروري مفارق الشّحناء
إنّ إسفيداج وجهك يشفي ... من رقيق الأحزان أي شفاء
فتفضل على العميد بماء ... ورد يكبت قلوب العداء
وسألت داود الفراش عن مثل ذلك قال: لقيناهم في مثل تربيع الفسطاط، فما كان إلا بقدر ما يفرش الرجل بيتاً أو بيتين، حتى تركناهم في أضيق من صاريات ثم قتلناهم، فلو رأيت نجار التراب عليهم وقد سالت دماؤهم في حمرة الأرمني.
وكان قد أنشدني في الغزل:
كنس الهجر ساحة الوصل لمّا ... عثر البين في وجوه صفائي
فلقد بثّ في فراش همومي ... تحت خدّي وسائداً لضنائي
حين هيأت بيت حسن من الوص ... ل لأثوابه ستور إخاء



* جمع الجواهر في الملح والنوادر
المؤلف: إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحصري (المتوفى: 453هـ)
 
أعلى