اسبهبد مرزبان بن شروين بن رستم بن شهريار - مرزبان نامه

فقال مرزبان: أعلم أيها الوزير الناصح والشفوق الصالح أن الملك بمنزلة الشمس المشرقة والرعية بمنزلة السراج وإذا تلألأت أشعة الشمس المشرقة على صفحات الأكوان فأي نور يبقى للسراج وأن قلوب الرعايا من فيضات أشعة قلوب الملوك فإذا صفت مرآة قلب الملك أشرقت قلوب الرعية بل والزمان والمكان كما قيل إذا تغير السلطان تغير الزمان وقد ذكر المؤرخون في قضايا لملك بهرام جور أنه في بعض الأوقات عزم على الصيد وخرج في عسكره فبينما هم في البرية وكل من الجند وجه إلى صيده إذ غيمت الدنيا وانطبقت الآفاق بالغيوم واستترت الشمس في النقاب وأرسلت عيون السحاب ومعها المدرار وجنات تجري من تحتها الأنهار وأقبلت السيول تجري في مضمارها كالخيول. فشتتت الخيول والعساكر عن بهرام فقصد قرية من القرى ونزل طالباً القرى منفرداً من عسكره مخفياً سر خبره فاتفق نزوله في بيت رئيس القرية ولم يشعر به الرئيس فلم يقم بواجبه فتنكد لذلك خاطره وتغيرت نيته ولكن لم يظهر أثر ذلك فلما أمسوا أقبل الراعي بالمواشي وذكر للرئيس أن حليب المواشي نقص عن عادته مع أن رعيها كان أحسن من كل يوم فتعجب من ذلك وكان للرئيس بنت تسجد الأقمار لخدودها وتنقصف الأغصان إذا ماست في الرياض عند ورودها، فلما سمعت كلام الراعي قالت: والله ما يكون سبب ذلك إلا خاطر سلطاننا تغير علينا فظهر لذلك النقص في حلب مواشينا وقد قيل إذا هم الحاكم بالجور على الرعايا أدخل الله تعالى النقص في أموالهم حتى الزرع فقال الرئيس إذا كان كذلك فلا مقام لنا في هذه القرية والأولى أن نرتحل منها إلى نستريح في ظل حاكمه فقالت البنت: إن كان ولابد من الارتحال فالأولى أن نتكلف لهذا الضيف بما عندنا فإنا لا نقدر على نقل جميع ما

عندنا فيحصل فيه فائدتان القيام بحق الضيف ويطيب خاطره والثانية يخف الحمل فقال الرئيس: نعم الكلام وأظهر البشاشة وصنع الأطعمة المفتخرة وقدمها للضيف فأكل ثم شرع في تجهيز الشراب والنشاط وأخذ في أسباب المعاطاة والمنادمة فلما أخذ الشراب ما أخذ من بهرام ارتفعت أسباب الحشمة وتاقت نفسه إلى ما كانت معتادة من مغازلة الغزلان وسماع القينات، فقال للرئيس: هل عندك من يطربنا بصوته أو يعجبنا بصورته من وصيفة أو صورة لطيفة ولا نطلب زيادة على النظر وحسن المنادمة إلى السحر لتزول عنا وحشة الاغتراب ودهشة الاضطراب وقد قيل الشرب بغير نغم غم وبدون طرب هم، ثم نهض الرئيس إلى حريمه وقال لابنته ما جرى بينه وبين ضيفه وقال: يا بنيه أظن ضيفنا من الأكابر والأعيان وقد التمس منا شيئاً يلهيه بمنادمته وليس عندنا من يليق لذلك سواك وأنا أعرف عفتك ونزاهتك وحسن محاضرتك ومحاورتك فإن رأيت أن تمتعيه بالنظر إلى حسن صورتك وجمالك ثم تعودي إلى مكانك مفتخرة بين أهلك وناسك فلا عار عليك والأمر مفوض إليك، فأجابت أباها وأقبلت إلى الضيف وهي من قدها ولحظها تلعب معه كالرمح السيف إلى أن صادته بلحظها المكسور وأمسى قلبه وهو في يدها مأسور فأنشأ يقول:
أرى ماءً وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
فأضمر بهرام في نفسه أنه إذا رجع إلى محل ولايته يطلب هذا الرئيس ويصاهره على هذه الكريمة ويعطيه هذه القرية مع أمثالها فما استتم الخاطر حتى جاء الراعي وقال للرئيس: إن الغنم قد فاضت ضروعها حتى صارت تشخب على الأرض وقد ملأنا اللبن جميع ما كان عندنا من الأوعية ولم نجد لذلك موضعاً فقالت البنت لا شك أن نية الملك انصلحت في حقنا حتى أعاد الله تعالى الخير علينا فتعجب بهرام من ذلك إذ بلغه فلما أصبح توجه إلى محل ولايته وأرسل إلى ذلك الرئيس وأمضى ما كان نواه وعقد على بنته وأقطعه النواحي والقرى وأعطاه ما تمنى ثم قال مرزبان: إنما أوردت هذه الحكاية لتعلموا أن الزمان تابع لنية الملك وقد قيل عدل السلطان خير من خصب الزمان وإذا لم يكن الملك على الرعية باراً ولا عليهم شفوقاً ولا متجاوزاً عن مسيئهم ومقبلاً على محسنهم فالأولى لهم أن يهاجروا من بلادهم ويخرجوا من مملكته قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك وينبغي أن لا يؤاخذ أحد بجريمة أحد قال الله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ولو طولب بذلك أحد لفسدت المملكة واضطربت الرعية واختل نظام الملك ولو فعل ذلك من تقدم من الملوك لما بقي للمتأخرين شيء وخربت الدنيا من أول الأمر وينبغي لمن باشر أمر الرعية أن يكون شديد الفكر والرأي صدوق القول متفكراً في العواقب عادلاً بين الخاص والعام شفوقاً على اليتيم ثابتاً في النوازل مشغولاً بتهذيب نفسه واضعاً الأشياء في محلها مقيماً كل أحد في محله ومنصبه ومقامه لا يتعداه حتى تستقيم بذلك الأمور والمملكة وقضايا السلطنة ويطمئن بذلك خاطر الملك الذي هو في خدمته ويتمشى أمره عنده، وينبغي للملك أن يكون كريم الأعراق لطيف الأخلاق في جميع أحواله وينبغي أن يراعي أساس ما بناه آباؤه وأجداده إن كانوا ملوكاً فإن كل من لا يراعي عادات أسلافه وأخلاق أجداده وصنائع آبائه يصيبه ما أصاب الذئب الذي أحب أن يتعشى على غناء الجدي المغني، فقال الملك: كيف كانت تلك الواقعة؟ بينها لنا.

***

وأنا أخاف أن هذه القضية لا يحصل منها بعد العناء والتعب غير الفضيحة والخيبة ويصير أمرنا كأمر امرأة الضيف الذي أراد ستر عورة امرأته فوقع منها ما هو أشنع منه، فقال العفريت: وكيف كانت تلك الحكاية؟ فقال العفريت: ذكروا أن بعض الناس كان له صاحب محترم، فنزل به في بعض الأيام ضيف وكان المضيف فقير جداً فما وسعه إلا أن يتلقى صاحبه بالبشاشة والإكرام وكان ذلك في فصل الشتاء والبرد فسجروا التنور يتدفون وجلست معهم زوجة المضيف وذلك بعد أن هيئوا ما أمكن إحضاره فلما فرغوا من الطعام اجتمعوا على رأس التنور وهيئوا ما أمكن وجلسوا يتدفون وجلست زوجة المضيف بينهم وجلس كل منهم على جانب من جوانب التنور وكان في سراويل زوجة المضيف قطع ملاقي فرجها فجعل الضيف يتأمل ما رآه ويسارق بالنظر فلمح ذلك صاحب البيت فأراد أن ينبه زوجته بأدنى إشارة فأخذ عوداً وجعل يلعب به إلى أن وصل طرفه تحت شق السروايل فأحرقها فانزعجت لذلك فأرادت أن تستر نفسها فضرطت فزادت فضيحة العين فضيحة الأذن ولم يحصل من هذا الأمر إلا الخجالة،

****


والنصيحة كالعسل والحق يصدع كالأسل فالعسل يعطي الحلاوة في ذوقه سواء كان في صحيفة الذهب أو في زقه وقاصد الصلاح والنصيحة ومن أعراضه لدفع الفساد صحيحه مخاطر بنفسه وماله ويراقب حسن حاله وأفضل المعروف إغاثة الملهوف وقد سمعت في المثل السائر أفضل الجهاد كلمة حق عند أمير جائر وهذا الطول عند ضمر الحول وكيف وملكنا أعدل الحكام وناصر دين الإسلام منصفه بمكارم الأخلاق والشيم يعامل الكبير والصغير بالمراحم والكرم فإن كنت تدري بهجة الانتفاع أو لك على قضايا الدب والجمل اطلاع فقولي وانصحي واظهري الحق تنجي وتفلحي كما فعل الوزير المنتخب مع كسرى لما استولى عليه الغضب قالت الفأرة أخبرني أيها الأمين بذلك الفعل الكمين قال الساحر: ذكر المؤرخون وسطر المسطرون أنه كان فيما تقدم من الزمان لكسرى أنوشروان زوجة يخجل الأغصان قدها ويفضح الأقمار خدمها وهي من بنات الملوك قتل أباها وأخاها زوجها الفتوك وكان مشغوفاً بحبها ومتخوفاً من تشويش فكره لئلا تتذكر قتيلها وتتحيل في أخذ ثأرها وهو لم يزل متحرزاً من أفعالها مراقباً من أحوالها وفلتات لسانها في أقوالهان فاتفق أنه كان جالساً معها على السرير وحولها من الجواري الحسان كل بدر منير فاشتاقت نفسه إليها فوضع يده عليها فنظرت إلى الجواري فرأت أعينهن إليها ناظرة فصارت بين طرفي الانقياد والامتناع حائرة، وكانت قد سمعت من أبيها ما روته عن أقاربها وذويها وهو أني لأستحي أن أباضع في بيت فيه نرجس لأنه يشبه العيون الناظرة فخطر ببالها أنه إذا استحى من عيون النرجس وهي جامدة فكيف لا أستحي أنا من النساء في المراقبة وهي غير راقدة، فغلب عليها وأراد قضاء وطره منها فانكمشت وزادها الحيا من كسرى انقباضاً فجذبها إليه فانفلتت منه وعليه استعصت فوقع عن سريره العالي وعلا خلقه الغالي وتذكر ما هي عليه من أخذ الثأر وأسود قلبه لما غار وأضرمت في أحشائه النار فدعا وزيره الكبير ودفع إليه ربة السرير وأمره بإزهاق نفسها وإسكانها في رمسها من غير مراجعة ولا شفاعة ولا مدافعة، فحملها إلى منزله ووقع في صعب الأمر ومشكله ولم يفعل شيئاً من إمضاء مرسومه وامتثال أوامر مخدومه ثم تدبر في المآل ونادته ربة الخلخال وقالت: أيها الوزير الناصح المشير صاحب الرأي والتدبير هبني أنا خاطيه ولا يرضى الملك بتائبة فما ذنب الذي في بطني المودع من الملك الذي لم يجني فلا بأس من أن تعاوده وبالإشارة تراوده وإن كان ولابد من قتلي فاستمهله إلى أن أضع ثم تهلك الأم ويبقى التبع، فإنه كان يعطى النذور والمال ويطلب الولد في ظلمات الليالي ويدعو بذلك ربه ذا الجلال، وإن أبى إلا القتل فعلى الله المتكل فعرض الوزير ذلك على آرائه بالصريح لا الإشارة واستعمل فيه أحسن عبارة فأبى فعرف أخلاقه ثائرة وأنه لابد من أن تنطفي تلك الثائرة فإذا برد قلبه وزال كربه فيطالبه بالفرع إن لم يطلب الأصل وبعد القطع لا يمكن الوصل. فرأى الوزير المصلحة في التأخير فأودعها عند الحريم للتخليد وسلك في الحزم الرأي السديد وجعل نفسه لها وقاية إلى أن أخذت مدتها النهاية فوضعت ولداً ذكراً كأنه غصن بان مثمراً قمراً فقام الوزير بتربيته وإصلاح إرضاعه وأغذيته إلى أن بلغ سبع سنين وهو كالبدر المنير والدر الثمين مربى بالدلال معبا بالكمال كأنه هو المقصود في قول الشاعر:
في تلمهد ينطق عن سعادة جده ... أثر الحنا به ساطع البرهان
فاتفق أن كسرى ركب للصيد في عسكر ونرايد فتفرق العساكر عدا وبقي كسرى فصادف غزالين يسوقان لهما ولداً خشفاً بلا مين كما قيل شعر:
بروحي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
فهجم عليهما فتخليا عن ولدهما ففوق السهم الخفيف نحو الحشف الضعيف فلما رأت أمه السهم داخلها الوهم فتصدرت للسهم دون ولدها واستقبلت نصله بكبدها فأراد إطلاق السهم من الكبد ليصيب به الولد فاعترضه الوالد بصدره وتلقاه دونها بنحره وجعل نفسه وقاية لأم ولده وفداها بروحه وجسده فتذكر كسرى أم ولده وندم على ما قدمه وتضاعف حزنه عليها وهمه وغمه وتذكر ما سلف منه في حق زوجته وما عاملها وولدها فاشتعلت النار في مهجته وقال: إذا كان هذا الحيوان الخلي من العقل حمى بروحه ولده وزوجته وجعل نفسه من الأذى لهما وقاية حيث ألفته ومع ذلك فهو حيوان أبكم صامت لا يتكلم، فإذا كانت هذه حالته فلم لم يفعل ذلك الحيوان. الناطق ثم فاضت دموع عينيه ورمى القوس من يديه ورجع مفكراً وعلى ما فرط منه متحسراً ودعى ذلك الوزير وقال: الصبر نعم النصير وكان قد سبق من المملوك الإشارة ولكن المفرط أولى بالخسارة، فالصديق الصادق والشفيق الموافق يقول ما أنصع نصحت فلم يسمع والمحب الممارق والحسود المنافق يقول أردت أقول ولكن تركت الفضول ولا حيلة للملك والوزير فيما جرى به التقدير، ثم دعى للملك وانصرف وعبأ حملاً من الهدايا والتحف وألبس ابن الملك أفخر ملبوس وجهز أمه كما تجهز العروس وأضاف إلى ذلك من المراكب الملوكية والخدامات السلطانية وأقبل بها عليه وأعرض ذلك إليه وقال: يا ملك الزمان أنا كنت راقبت هذا اليوم في ذلك الزمان وعلمت أن الندم سيعم من الرأس إلى القدم وها قد قدمت للملك من التحف الدر مع الصدف والثمر مع الشجر والشمس مع القمر متعك الله بهما ومتعهما بك وحرس من الأسواء عزيز جنابك، فلما رأى كسرى ذلك سر قلبه وانشرح صدره وأغمي عليه من شدة الفرح كما قال الشاعر:
طفح السرور علي حتى أنه ... من عظم ما قد سرني أبكاني
يا عين قد صار البكا لك عادة ... تبكين من فرح ومن أحزاني
ثم أمر ببساط السرور وجلس في النشاط والحبور وقال أيضاً شعراً:
أهلاً وسهلاً بالتي ... جادت علي بليلتي
أهلاً بها وبوصلها ... من بعد طول الهجرة
أدر المدام وغن لي ... أهلاً وسهلاً بالتي
ثم أفاض خلع الأنعام والكرم والاحترام على الوزير وشكر له حسن التدبير وارتفعت عنده منزلته وتضاعفت في الارتقاء مرتبته.


* كتاب: مرزبان نامه
المؤلف: اسبهبد مرزبان بن شروين بن رستم بن شهريار (المتوفى: ق 4 هـ)
ترجمه للعربية: شهاب الدين أحمد بن محمد بن عرب شاه (المتوفى: 854 هـ)


صورة مفقودة
 
أعلى