الجاحظ - الحيوان

[ذكر محاسن الخصي ومساويه]
ثم رجع بنا القول إلى ذكر محاسن الخصيّ ومساويه.
الخصيّ ينكح ويتّخذ الجواري ويشتدّ شغفه بالنساء، وشغفهنّ به، وهو وإن كان مجبوب العضو فإنّه قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجب إليهنّ. وقد يحتلم ويخرج منه عند الوطء ماء، ولكنّه قليل متغيّر الريح، رقيق ضعيف. وهو يباشر بمشقّة، ثم لا يمنعه من المعاودة الماء الذي يخرج منه إذ كان قليل المقدار لا يخرجه من القوّة إلى الضعف، مثل الذي يعتري من يخرج منه شيء يكون من إنسان، وهو أخثر، وأكثر، وأحدّ ريحا، وأصحّ جوهرا.
والخصيّ يجتمع فيه أمنيّة المرأة، وذلك أنّها تبغض كلّ سريع الإراقة، بطيء الإفاقة، كما تكره كلّ ثقيل الصدر «1» ، وخفيف العجز، والخصيّ هو السريع الإفاقة، البطيء الإراقة، المأمون الإلقاح، فتقيم المرأة معه، وهي آمنة العار الأكبر، فهذا أشدّ لتوفير لذّتها وشهوتها، وإذا ابتذلن الخيصان، وحقرن العبيد، وذهبت الهيبة من قلوبهنّ، وتعظيم البعول، والتصنّع لذوي الأقدار باجتلاب الحياء وتكلّف الخجل، ظهر كلّ شيء في قوى طبائعهنّ وشهواتهنّ، فأمكنها النّخير والصياح، وأن تكون مرّة من فوق، ومرّة من أسفل، وسمحت النفس بمكنونها، وأظهرت أقصى ما عندها.
وقد تجد في النساء من تؤثر النساء، وتجد فيهنّ من تؤثر الرجال، وتجد فيهنّ من تؤثر الخصيان، وتجد فيهنّ من تجمع ولا تفرّق، وتعمّ ولا تخصّ، وكذلك شأن الرجال في الرجال، وفي النساء والخصيان فالمرأة تنازع إلى الخصيّ لأنّ أمره أستر وعاقبته أسلم، وتحرص عليه لأنّه ممنوع منها، ولأنّ ذلك حرام عليها، فلها جاذبان:
جاذب حرص كما يحرص على الممنوع، وجاذب أمن كما يرغب في السلامة.
وقال الأصمعيّ: قال يونس بن عبيد: لو أخذنا بالجزع لصبرنا «2» . قال الشاعر: [من البسيط]
وزادها كلفا بالحبّ أن منعت ... وحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا «3»
والحرص على الممنوع باب لا يقدر على الاحتجاز منه، والاحتراس من خدعه، إلّا كلّ مبرّز في الفطنة ومتمهّل في العزيمة، طويل التجارب، فاضل العقل على قوى الشهوات. وبئس الشيء القرين السوء. وقالوا: صاحب السّوء قطعة من النار.
وباب من هذا الشكل، فبكم أعظم حاجة إلى أن تعرفوه وتقفوا عنده، وهو ما يصنع الخبر السابق إلى السمع، ولا سيّما إذا صادف من السامع قلّة تجربة، فإن قرن بين قلّة التجربة وقلّة التحفّظ، دخل ذلك الخبر السابق إلى مستقرّه دخولا سهلا، وصادف موضعا وطيئا، وطبيعة قابلة، ونفسا ساكنة؛ ومتى صادف القلب كذلك، رسخ رسوخا لا حيلة في إزالته. ومتى ألقي إلى الفتيان شيء من أمور الفتيات، في وقت الغرارة، وعند غلبة الطبيعة، وشباب الشهوة، وقلّة التشاغل؛ وكذلك متى ألقي إلى الفتيان شيء من أمورهن وأمور الغلمان، وهناك سكر الشباب، فكذلك تكون حالهم. وإنّ الشّطّار ليخلو أحدهم بالغلام الغرير فيقول له: لا يكون الغلام فتى أبدا حتّى يصادق فتى وإلّا فهو تكش، والتكش عندهم الذي لم يؤدّبه فتى ولم يخرّجه، فما الماء العذب البارد، بأسرع في طباع العطشان، من كلمته، إذا كان للغلام أدنى هوى في الفتوّة، وأدنى داعية إلى المنالة. وكذلك إذا خلت العجوز المدربة بالجارية الحدثة كيف تخلبها. وأنشدنا: [من الخفيف]
فأتتها طبّة عالمة ... تخلط الجدّ بأصناف اللعب
ترفع الصوت إذا لانت لها ... وتناهى عند سورات الغضب
وقال الشاعر فيما يشبه وقوع الخبر السابق إلى القلب: [من الكامل]
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل «1»
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل
وقال مجنون بني عامر: [من الطويل]
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا «2»

135-[ما يدعو إلى الفساد]
وباب آخر ممّا يدعو إلى الفساد، وهو طول وقوع البصر على الإنسان الذي في طبعه أدنى قابل، وأدنى حركة عند مثله. وطول التداني، وكثرة الرؤية هما أصل البلاء، كما قيل لابنة الخسّ: لم زنيت بعبدك ولم تزني بحرّ، وما أغراك به؟ قالت:
طول السّواد، وقرب الوساد «1» .
ولو أنّ أقبح الناس وجها، وأنتنهم ريحا، وأظهرهم فقرا، وأسقطهم نفسا، وأوضعهم حسبا، قال لأمرأة قد تمكّن من كلامها، ومكّنته من سمعها: والله يا مولاتي وسيّدتي، لقد أسهرت ليلى، وأرّقت عيني، وشغلتني عن مهمّ أمري، فما أعقل أهلا، ولا مالا، ولا ولدا؛ لنقض طباعها، ولفسخ عقدها، ولو كانت أبرع الخلق جمالا، وأكملهم كمالا، وأملحهم ملحا. فإن تهيّأ مع ذلك من هذا المتعشّق، أن تدمع عينه، احتاجت هذه المرأة أن يكون معها ورع أمّ الدرداء، ومعاذة العدويّة، ورابعة القيسيّة، والشجّاء الخارجيّة.

136-[زهد الناس فيما يملكونه ورغبتهم فيما ليس يملكونه]
وإنّما قال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: «اضربوهنّ بالعري» «2» لأنّ الثياب هي المدعاة إلى الخروج في الأعراس، والقيام في المناحات، والظهور في الأعياد، ومتى كثر خروجها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها. ولو كان بعلها أتمّ حسنا، والذي رأت أنقص حسنا، لكان ما لا تملكه، أطرف ممّا تملكه، ولكان ما لم تنله، ولم تستكثر منه، أشدّ لها اشتغالا وأشد لها اجتذابا. ولذلك قال الشاعر: [من الطويل]
وللعين ملهى بالتّلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الطرائف
وقال سعيد بن مسلم: لأن يرى حرمتي ألف رجل على حال تكشف منها وهي لا تراهم، أحبّ إليّ من أن ترى حرمتي رجلا واحدا غير منكشف.
وقال الأوّل: لا يضرّك حسن من لم تعرف؛ لأنّك إذا أتبعتها بصرك، وقد نقضت طبعك، فعلمت أنّك لا تصل إليها بنفسك ولا بكتابك ولا برسولك، كان الذي رأيت منها كالحلم، وكما يتصور للمتمنّي، فإذا انقضى ما هو فيه من المنى، ورجعت نفسه إلى مكانها الأوّل، لم يكن عليه من فقدها إلّا مثل فقد ما رآه في النوم، أو مثّلته له الأمانيّ.

137-[عقيل بن علفة وبناته]
وقيل لعقيل بن علّفة: لو زوّجت بناتك! فإنّ النساء لحم على وضم إذا لم يكنّ غانيات!! قال: كلا، إنّي أجيعهنّ فلا يأشرن، وأعريهنّ فلا يظهرن «1» !! فوافقت إحدى كلمتيه قول النبي صلى الله عليه وسلم ووافقت الأخرى قول عمر بن الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصّوم وجاء» «2» . وقال عمر: استعينوا عليهنّ بالعري. وقد جاء في الحديث:
«وفروا أشعارهن فإن ترك الشعر مجفرة» «3» . وقد أتينا على هذا الباب في الموضع الذي ذكرنا فيه شأن الغيرة، وأوّل الفساد، وكيف ينبت، وكيف يحصد.

138-[ميول الخصيان]
وقد رأيت غير خصيّ يتلوّط، ويطلب الغلمان في المواضع، ويخلو بهم ويأخذهم على جهة الصداقة، ويحمل في ذلك الحديد، ويقاتل دون السخول، ويتمشى مع الشطّار.
وقد كان في قطيعة الربيع خصيّ أثير عند مولاه، عظيم المنزلة عنده؛ وكان يثق به في ملك يمينه، وفي حرمه من بنت وزوجة وأخت، لا يخصّ شيئا دون شيء، فأشرف ذات يوم على مربد له، وفي المربد غنم صفايا، وقد شدّ يدي شاة وركبها من مؤخّرها يكومها، فلمّا أبصره برق وبعل «4» وسقط في يديه، وهجم عليه أمر لو يكون رآه من خصيّ لعدوّ له لما فارق ذلك الهول أبدا قلبه، فكيف وإنّما عاين الذي عاين فيمن كان يخلفه في نسائه من حرمه وملك يمينه. فبينما الرجل وهو واجم حزين، وهو ينظر إليه وقد تحرّق عليه غيظا إذ رفع الخصيّ رأسه، فلمّا أثبت مولاه مرّ مسرعا نحو باب الدار ليركب رأسه، وكان المولى أقرب إلى الباب منه، فسبقه إليه، وكان الموضع الذي رآه منه موضعا لا يصعد إليه، فحدث لشقائه أمر لم يجد مولاه معه بدّا من صعوده، فلبث الخصيّ ساعة ينتفض من حمّى ركبته ثم فاظ، ولم يمس إلّا وهو في القبر.
ولفرط إرادتهم النساء، وبالحسرة التي نالتهم، وبالأسف الذي دخلهم، أبغضوا الفحول بأشدّ من تباغض الأعداء فيما بينهم، حتّى ليس بين الحاسد الباغي وبين أصحاب النّعم المتظاهرة، ولا بين الماشي المعنّى وبين راكب الهملاج الفاره «1» ، ولا بين ملوك صاروا سوقة، صاروا ملوكا، ولا بين بني الأعمام مع وقوع التنافس، أو وقوع الحرب، ولا بين الجيران والمتشاكلين في الصناعات، من الشنف والبغضاء، بقدر ما يلتحف عليه الخصيان للفحول.
وبغض الخصيّ للفحل من شكل بغض الحاسد لذي النعمة، وليس من شكل ما يولّده التنافس وتلحقه الجنايات.

139-[نسك طوائف من الناس] «2»
ولرجال كلّ فنّ وضرب من الناس، ضرب من النسك، إذ لا بدّ لأحدهم من النزوع، ومن ترك طريقته الأولى: فنسك الخصيّ غزو الروم، لما أن كانوا هم الذين خصوهم، ولزوم أذنة والرّباط بطرسوس وأشباهها. فظنّ عند ذلك أهل الفراسة أنّ سبب ذلك إنّما كان لأنّ الرّوم لما كانوا هم الذين خصوهم، كانوا مغتاظين عليهم، وكانت متطلّبة إلى التشفّي منهم، فأخرج لهم حبّ التشفّي شدّة الاعتزام على قتلهم، وعلى الإنفاق في كلّ شيء يبلغ منهم. ونسك الخراسانيّ أن يحجّ: ونسك البنوي «3» أن يدع الديوان. ونسك المغنّي: أن يكثر التسبيح وهو يشرب النبيذ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة في جماعة. ونسك الرافضيّ: إظهار ترك النبيذ. ونسك السّواديّ ترك شرب المطبوخ فقط. ونسك اليهوديّ: إقامة السبت. ونسك المتكلّم: التسرّع إلى إكفار أهل المعاصي، وأن يرمى الناس بالجبر، أو بالتعطيل، أو بالزندقة، يريد أن يوهم أمورا:
منها أنّ ذلك ليس إلّا من تعظيمه للدّين، والإغراق فيه، ومنها أن يقال: لو كان نطفا، أو مرتابا، أو مجتنحا على بليّة، لما رمى الناس، ولرضي منهم بالسلامة، وما كان ليرميهم إلّا للعزّ الذي في قلبه، ولو كان هناك من ذلّ الرّيبة شيء لقطعه ذلك عن التعرّض لهم، أو التنبيه على ما عسى إن حرّكهم له أن يتحرّكوا. ولم نجد في المتكلّمين أنطف ولا أكثر عيوبا، ممّن يرمي خصومه بالكفر.

140-[الجماز وجارية آل جعفر]
وكان أبو عبد الله الجمّاز، وهو محمد بن عمرو، يتعشّق جارية لآل جعفر يقال لها طغيان، وكان لهم خصيّ يحفظها إذا أرادت بيوت المغنّين، وكان الخصيّ أشدّ عشقا لها من الجمّاز، وكان قد حال بينه وبين كلامها، والدنوّ منها، فقال الجماز وكان اسم الخادم سنانا: [من المجتث]
ما للمقيت سنان ... وللظّباء الملاح
لبئس زان خصيّ ... غاز بغير سلاح
وقال أيضا فيه وفيها: [من المجتث]
نفسي الفداء لظبي ... يحبّني وأحبّه
من أجل ذاك سنان ... إذا رآني يسبّه
هبه أجاب سنانا ... ينيكه أين زبّه
وقال أيضا فيهما: [من المجتث]
ظبي سنان شريكي ... فيه فبئس الشريك
فلا ينيك سنان ... ولا يدعنا ننيك

141-[شعر في الخصاء]
وقال الباخرزيّ يذكر محاسن خصال الخصيان: [من الخفيف]
ونساء لمطمئنّ مقيم ... ورجال إن كانت الأسفار
وقال حميد بن ثور يهجو امرأته: [من الطويل]
جلبّانة ورهاء تخصي حمارها ... بفي من بغى خيرا إليها الجلامد «1»
وقال مزرّد بن ضرار: [من الطويل]
فجاءت كخاصي العير لم تحل عاجة ... ولا جاجة منها تلوح على وشم «2»
وقال عمرو الخاركي: [من الهزج]
إذا لام على المرد ... نصيح زادني حرصا «1»
ولا والله ما أق ... لع ما عمّرت أو أخصى
وقال آخر: [من الوافر]
رماك الله من أير بأفعى ... ولا عافاك من جهد البلاء
جزاك الله شرّا من رفيق ... إذا بلغت بي ركب النساء
أجبنا في الكريهة حين نلقى ... وما تنفكّ تنعظ في الخلاء
فلا والله ما أمسى رفيقي ... ولولا البول عوجل بالخصاء
وقال بعض عبد القيس: [من الكامل]
ما كان قحذم ابن واهصة الخصى ... يرجو المناكح في بني الجارود
ومن انتكاس الدهر أن زوّجتها ... ولكلّ دهر عثرة بجدود
لو كان منذر إذ خطبت إليهم ... حيّا لكان خصاك بالمغمود
وقال أبو عبيدة: حدّثني أبو الخطاب قال «2» : كان عندنا رجل أحدب فسقط في بئر فذهبت حدبته وصار آدر فقيل له: كيف تجدك؟ فقال: الذي جاء شرّ من الّذي ذهب! وأبو الحسن عن بعض رجاله قال: خرج معاوية ذات يوم يمشي ومعه خصيّ له، إذ دخل على ميسون ابنة بحدل وهي أمّ يزيد، فاستترت منه فقال: أتستترين منه، وإنّما هو مثل المرأة؟ قالت: أترى أنّ المثلة به تحلّ ما حرّم الله تعالى؟!


ذكر ما جاء في خصاء الدوابّ

142-[خصاء الدواب]
ذكر آدم بن سليمان عن الشعبيّ قال: قرأت كتاب عمر رضي الله تعالى عنه إلى سعد، ينهى عن حذف أذناب الخيل وأعرافها، وعن خصائها، ويأمره أن يجري من رأس المائتين. وهو أربعة فراسخ.
وسفيان الثّوري عن عاصم بن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه كان ينهى عن خصاء البهائم ويقول: هل الإنماء إلّا في الذكور.
وشريك بن عبد الله، قال: أخبرني إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم النّخعي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه نهى عن خصاء الخيل.
وسفيان الثوري عن إبراهيم بن المهاجر قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لبعض عماله: لا تجرينّ فرسا إلّا من المائتين، ولا تخصينّ فرسا.
وقال: وسمعت نافعا يقول: كان عبد الله بن عمر يكره خصاء الذكور من الإبل، والبقر، والغنم.
وعبيد الله بن عمر عن نافع: أنّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يكره الخصاء ويقول: لا تقطعوا نامية خلق الله تعالى.
وعبد الله وأبو بكر ابنا نافع عن نافع قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن تخصى ذكور الخيل، والإبل، والبقر، والغنم، يقول: فيها نشأة الخلق، ولا تصلح الإناث إلّا بالذكور.
ومحمد بن أبي ذئب قال: سألت الزّهريّ: هل بخصاء البهائم بأس؟ قال:
أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين، نهى عن صبر الروح. قال الزّهريّ: والخصاء صبر شديد.
وأبو جعفر الرّازيّ قال: حدّثنا الرّبيع بن أنس، عن أنس بن مالك في قوله تعالى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
«1» قال: هو الخصاء.
وأبو جرير عن قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس نحوه.

أبوبكر الهذليّ قال: سألت الحسن عن خصاء الدواب فقال: تسألني عن هذا؟
لعن الله من خصى الرجال.
أبو بكر الهذليّ عن عكرمة في قوله تعالى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
قال: خصاء الدواب. قال: وقال سعيد بن جبير: أخطأ عكرمة، هو دين الله.
نصر بن طريف قال: حدّثنا قتادة عن عكرمة في قوله تعالى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
قال: خصاء البهائم. فبلغ مجاهدا فقال: كذب هو دين الله.
فمن العجب أن الذي قال عكرمة هو الصواب، ولو كان هو الخطأ لما جاز لأحد أن يقول له: كذبت. والناس لا يضعون هذه الكلمة في موضع خطأ الرأي ممّن يظنّ به الاجتهاد، وكان ممّن له أن يقول. ولو أنّ إنسانا سمع قول الله تبارك وتعالى:
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
قال: إنّما يعني الخصاء، لم يقبل ذلك منه؛ لأنّ اللفظ ليست فيه دلالة على شيء دون شيء، وإذا كان اللفظ عامّا لم يكن لأحد أن يقصد به إلى شيء بعينه إلّا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مع تلاوة الآية، أو يكون جبريل عليه السلام قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الله تبارك وتعالى لا يضمر ولا ينوي، ولا يخصّ ولا يعمّ بالقصد؛ وإنّما الدلالة في بنية الكلام نفسه، فصورة الكلام هو الإرادة وهو القصد، وليس بينه وبين الله تعالى عمل آخر كالذي يكون من الناس، تعالى الله عن قول المشبّهة علوّا كبيرا.
أبو جرير عن عمار بن أبي عمار أنّ ابن عباس قال في قوله تعالى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
قال: هو الخصاء.
وأبو جرير عن قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس مثله.
أبو داود النّخعيّ، عن محمّد بن سعيد عن عبادة بن نسيّ، عن إبراهيم بن محيريز قال: كان أحبّ الخيل إلى سلف المسلمين، في عهد عمر، وعثمان، ومعاوية، رضي الله تعالى عنهم، الخصيان؛ فإنّها أخفى للكمين والطلائع، وأبقى على الجهد.
أبو جرير قال: أخبرني ابن جريج عن عطاء أنّه لم ير بأسا بخصاء الدواب.
وأبو جرير عن أيّوب عن ابن سيرين، أنّه لم يكن يرى بأسا بالخصاء، ويقول: لو تركت الفحولة لأكل بعضها بعضا.
وعمر ويونس عن الحسن: أنّه لم يكن يرى بأسا بخصاء الدواب.
سفيان بن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه: أنّه خصى بعيرا.
وسفيان بن عيينة عن مالك بن مغول عن عطاء، أنه سئل عن خصاء البغل فقال: إذا خفت عضاضه.

143-[أقوال في النتاج المركب]
ولنصل هذا الكلام بالكلام الذي قبل هذا في الخلق المركب وفي تلاقح الأجناس المختلفة. زعموا أن العسبار ولد الضبع من الذئب، وجمعه عسابر. وقال الكميت: [من مجزوء الكامل]
وتجمّع المتفرّقو ... ن من الفراعل العسابر «1»
يرميهم بأنّهم أخلاط ومعلهجون.
وزعموا أنّ السّمع ولد الذئب من الضبع، ويزعمون أنّ السّمع كالحيّة لا تعرف العلل، ولا تموت حتف أنفها، ولا تموت إلّا بعرض يعرض لها. ويزعمون أنّه لا يعدو شيء كعدو السّمع، وأنّه أسرع من الريح والطّير.
وقال سهم بن حنظلة يصف فرسه: [من البسيط]
فاعص العواذل وارم اللّيل في عرض ... بذي شبيب يقاسي ليله خببا «2»
كالسّمع لم ينقب البيطار سرّته ... ولم يدجه ولم يغمز له عصبا
وقال ابن كناسة يصف فرسا: [من الخفيف]
كالعقاب الطلوب يضربها الطّ ... لّ وقد صوّبت على عسبار
وقال سؤر الذئب: [من الخفيف]
هو سمع إذا تمطّر شيئا ... وعقاب يحثّها عسبار
يقول: إذا اشتدّ هرب المطلوب الهارب من الطالب الجادّ، فهو أحث للطالب، وإذا صار كذلك صار المطلوب حينئذ في معنى من يحثّ الطلب، إذ صار إفراط سرعته سببا لإفراط طلب العقاب.
وقال تأبط شرّا، أو أبو محرز خلف بن حيّان الأحمر: [من المديد]
مسبل بالحيّ أحوى رفلّ ... وإذا يعدو فسمع أزلّ «3»
وإنّما قال أزلّ وجعله عاديا ووصفه بذلك، لأنّه ابن الذئب.
وقال الأصمعي: [من الرجز]
يدير عيني لمظة عسباره
وقال في موضع آخر: [من الرجز]
كأن منها طرفه استعاره
وقال آخر: [من الرجز]
تلقى بها السّمع الأزلّ الأطلسا
وزعموا أنّ ولد الذئب من الكلبة الدّيسم، ورووا لبشّار بن برد في ديسم العنزيّ أنّه قال: [من الطويل]
أديسم يا ابن الذئب من نسل زارع ... أتروي هجائي سادرا غير مقصر
وزارع: اسم الكلب، يقال للكلاب أولاد زارع.

144-[زعم لأرسطو في النتاج المركب]
وزعم صاحب المنطق أنّ أصنافا أخر من السباع المتزاوجات المتلاقحات مع اختلاف الجنس والصورة، معروفة النتاج مثل الذئاب التي تسفد الكلاب في أرض روميّة: قال: وتتولّد أيضا كلاب سلوقية من ثعالب وكلاب. قال: وبين الحيوان الذي يسمّى باليونانيّة طاغريس «1» وبين الكلب، تحدث هذه الكلاب الهندية. قال: وليس يكون ذلك من الولادة الأولى.
قال أبو عثمان: عن بعض البصريين عن أصحابه قال: وزعموا أنّ نتاج الأولى يخرج صعبا وحشيّا لا يلقّن ولا يؤلّف.

145-[تلاقح السبع والكلبة]
وزعم لي بعضهم عن رجل من أهل الكوفة من بني تميم أنّ الكلبة تعرض لهذا السبع حتّى تلقح، ثم تعرض لمثله مرارا حتى يكون جرو البطن الثالث قليل الصعوبة يقبل التلقين، وأنّهم يأخذون إناث الكلاب، ويربطونها في تلك البراريّ، فتجيء هذه السباع وتسفدها، وليس في الأرض أنثى يجتمع على حبّ سفادها، ولا ذكر يجتمع له من النزوع إلى سفاد الأجناس المختلفة، أكثر في ذلك من الكلب والكلبة.
قال: وإذا ربطوا هذه الكلاب الإناث في تلك البراري، فإن كانت هذه السباع هائجة سفدتها، وإن لم يكن السبع هائجا فالكلبة مأكولة. وقال أبو عدنان «1» : [من الطويل]
أيا باكي الأطلال في رسم دمنة ... ترود بها عين المها والجآذر
وعانات جوّال وهيق سفنّج ... وسنداوة فضفاضة وحضاجر «2»
وسمع خفيّ الرّزّ ثلب ودوبل ... وثرملة تعتادها وعسابر «3»
وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما نظنّ بمثله أن يخلّد على نفسه في الكتب شهادات لا يحقّقها الامتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء، وما عندنا في معرفة ما ادّعى إلّا هذا القول.
وأمّا الذين ذكروا في أشعارهم السّمع والعسبار، فليس في ظاهر كلامهم دليل على ما ادّعى عليهم النّاس من هذا التركيب المختلف، فأدّينا الذي قالوا وأمسكنا عن الشهادة، إذ لم نجد عليها برهانا.

146-[أولاد السعلاة]
وللنّاس في هذا الضّرب ضروب من الدعوى، وعلماء السوء يظهرون تجويزها وتحقيقها، كالذي يدّعون من أولاد السّعالي من الناس، كما ذكروا عن عمرو بن يربوع «4» ، وكما يروي أبو زيد النحويّ عن السّعلاة التي أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم، فلمّا رأت برقا يلمع من شقّ بلاد السّعالي، حنّت وطارت إليهم، فقال شاعرهم: [من الوافر]
رأى برقا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسال وما أغاما «5»
وأنشدني أن الجنّ طرقوا بعضهم فقال: [من الوافر]
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجنّ قلت عموا ظلاما «1»
فقلت إلى الطّعام فقال منهم ... زعيم نحسد الإنس الطّعاما
ولم أعب الرواية، وإنّما عبت الإيمان بها، والتوكيد لمعانيها. فما أكثر من يروي هذا الضرب على التعجّب منه، وعلى أن يجعل الرواية له سببا لتعريف النّاس حقّ ذلك من باطله، وأبو زيد وأشباهه مأمونون على النّاس؛ إلّا أنّ كلّ من لم يكن متكلّما حاذقا، وكان عند العلماء قدوة وإماما، فما أقرب إفساده لهم من إفساد المتعمّد لإفسادهم! وأنشدوا في تثبيت أولاد السعلاة: [من الرجز]
تقول جمع من بوان ووتد ... وحسن أن كلّفتني ما أجد
ولم تقل جيء بأبان أو أحد ... أو ولد السّعلاة أو جرو الأسد
أو ملك الأعجام مأسورا بقدّ
وقال آخر: [من الرجز]
يا قاتل الله بني السّعلاة ... عمرا وقابوسا شرار النات «2»

147-[ما زعموا في جرهم]
وذكروا أنّ جرهما كان من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكان الملك من الملائكة إذا عصى ربّه في السماء أهبطه إلى الأرض في صورة رجل، وفي طبيعته، كما صنع بهاروت وماروت حين كان من شأنهما وشأن الزّهرة «3» ، وهي أناهيد «4» ما كان، فلّما عصى الله تعالى بعض الملائكة وأهبطه إلى الأرض في صورة رجل، تزوّج أمّ جرهم فولدت له جرهما، ولذلك قال شاعرهم: [من الرجز]
لا همّ إنّ جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا «1»

148-[ما زعموا في بلقيس وذي القرنين]
ومن هذا النسل ومن هذا التركيب والنجل كانت بلقيس ملكة سبأ «2» ، وكذلك كان ذو القرنين كانت أمّه فيرى آدميّة وأبوه عبرى من الملائكة. ولذلك لما سمع عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه رجلا ينادي: يا ذا القرنين، فقال: أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟.
وروى المختار بن أبي عبيد أنّ عليّا كان إذا ذكر ذا القرنين قال: ذلك الملك الأمرط.

149-[زواج الإنس بالجن]
وزعموا أنّ التناكح والتلاقح قد يقع بين الجنّ والإنس «3» ، لقوله تعالى:
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ
«4» . وذلك أن الجنّيّات إنّما تعرض لصرع رجال الإنس على جهة التعشّق وطلب السّفاد، وكذلك رجال الجنّ لنساء بني آدم، ولولا ذلك لعرض الرّجال للرّجال، والنّساء للنساء، ونساؤهم للرجال والنساء.
ومن زعم أن الصّرع من المرّة، ردّ قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ
«5» وقال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ*
«6» . فلو كان الجانّ لا يفتضّ الآدميّات، ولم يكن ذلك قطّ، وليس ذلك في تركيبه، لما قال الله تعالى هذا القول.

150-[تركيب النسناس]
وزعموا أنّ النّسناس تركيب ما بين الشقّ والإنسان. ويزعمون أنّ خلقا من وراء السدّ تركيب من النّسناس، والناس، والشقّ، ويأجوج ومأجوج. وذكروا عن الواق واق والدوال باي «1» أنهم نتاج ما بين بعض النّبات والحيوان. وذكروا أنّ أمّة كانت في الأرض، فأمر الله تعالى الملائكة فأجلوهم؛ وإيّاهم عنوا بقولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
«2» . ولذلك قال الله عزّ وجلّ لآدم وحواء: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ*
«3» . فهذا يدلّ على أن ظالما وظلما قد كان في الأرض.
قال الأصمعيّ- أو خلف- في أرجوزة مشهورة، ذكر فيها طول عمر الحيّة:
[من الرجز]
أرقش إن أسبط أو تثنّى ... حسبت ورسا خالط اليرنّا «4»
خالطه من هاهنا وهنّا ... إذا تراءاه الحواة استنّا «5»
قال: وكان يقال لتلك الأمّة مهنا.



* كتاب: الحيوان
المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)


.


صورة مفقودة
 
أعلى