أحمد فارس الشدياق - الساق على الساق في ما هو الفارياق

لما حان سفر الفارياق أخذ يودع زوجته بعد أن أوعى القاموس والأشموني في صندوقه ويقول. اذكري يا زوجتي أنَّا عشنا معاً برهة طويلة من الدهر. قالت ما أذكر إلا هذا. قال فقلت أذكر ناكرٍ أم شاكر. قالت نصف من هذا أو نصف من ذاك قلت يرجعنا النحت إلى الأول قالت أو يرجع الأول إلى النحت. قلت أي أول أضمرت؟ قالت ما لك ولتأويل المضمر. قلت حسبي أن تبيِّني الحقيقة ذلك. قالت إذا فكرت في أنك لي ولغيري كنت من الناكرين وإلا فمن الشاكرين. قلت أنك كنت نهيتني عن المعاملة بالقسم وهاأنت الآن تأتينه. قالت بل هو يأتيني. قلت أما فيك لفظة لا. قالت أن لفظتها كانت نعم. قلت إن لا من المرأة إلى. قالت وأن نعم نعم. قلت أجعلت هذا دأبك. قالت ودأبت في هذا الجعل. قلت هذا لا يليق بذات ولد. قالت ولا تلد من لا تليق. قلت من مادة. قالت أن كانت المادة غير زيادة متصلة أحوجت إلى اختلاف الصور. قلت وكيف تبقى متصلة على اختلاف الأشكال. قالت لا أشكال في كيفية الأشكال فإن واحداً منها يغني عن الجميع. وغنما الكلام على رسم الكمية. قلت ما الحدّ. قالت في الجد الهزل وفي الهزل الجد. قلت أرأيتك لو أقمت نائباً عني في ذاك مدة غيابي. فضحكت وقالت على ما أحب أنا أم على ما تحب أنت. قلت بل على ما تحبين أنت. قالت لا يرضى الرجل بذلك إلا إذا كان غير ذي غيرة ولا يكون غير ذي غيرة إلا إذا كره امرأته وكلف بغيرها فأنت إذا كلف بغيري. قلت ما أنا بالكلف ولا بالطرف. لكن الرجل إذا كان شديد الحب لامرأته ودّ لو أنه يرضيها في كل شيء. على أن الغيرة لا تكون دائماً المحبة كما نصَّوا عليه. فإن بعض النساء يغرن على أزواجهن عن كراهية لهم وأعنات. مثال ذلك إذا منعت المرأة زوجها عن الخروج إلى بستان أو ملهى أو حمَّام مع عدة رجال متزوجين. وهي تعلم أنهم في هذه المواضع لا يمكنهم الاجتماع بالنساء فهي إنما تفعل ذلك تحكماً عليه ومنعاً لهمن ذكر النساء مع أصحابه والتلذذ بما لا يضيرها. وكذا إذا حضرته عن النظر من شباكه إلى شارع أو روضة حيث يكثر تردد النساء وكذا الحكم على الرجل لو فعل ذلك بامرأته. فهذا عند الناس يعد غيره لكنه في الواقع بغضة. أو ربما كان آخر الغيرة أول البغض كما أن إفراط الضحك هو أول البكاء وكيف كان فإن الرجل لا يمكن أن يحب زوجته إلا إذا أباح لها التلذذ بما شاءت وبمن أحبَّت قالت أيفعل ذلك أحد في الدنيا. قلت نعم يفعله كثير في بلاد غير بعيدة عنا. قالت بأبي هم ولكن ما شأن النساء أيفعلن ذلك أيضاً لأواجههن. قلت لا بد حتى يعتدل الميزان. قالت أما أنا فلا أرضى بهذا الاعتدال فالميل عندي أحسن. قلت وكذا عندي في بعض الأحوال. قالت ولأحوال البعض. قلت فلنعد إلى السفر إنني أسافر اليوم. قالت نعم إلى بلاد فيها البيض الحسان. قلت أتعنيهم أم تعنيهن. قالت أعني نوعاً ويعنيني آخر. قلت ولمَ يعنيك وأنتن المطلوبات في كل حال ولذلك يقال للمرأة غانية. قال في القاموس الغانية المرأة التي تطلب ولا تطلب. قالت ما أحسن كلامه هنا لولا أنه قال قبل ذلك العواني النساء لأنهن يظلمن فلا يُنتصرن. غير أن هذه النقطة شفعت في تلك. قلت حبكن التنقيط دأب قديم. قالت مثل دأب الرجال في التحريف وكيف كان فإن مطلوبيتنا هي أصل العناء. فإن المطلوبة لا تكون إلا ذات العرض والإحصان فويل لها أن خانت محصنها. وويل لها أن حرمت طالبها وباتت تلك الليلة مشغولة البال بحرمانه وخيبته وبكونها صارت سببا في أرقه وجزعه وحسرته. والطالبة تعود غير مطلوبة. قلت ليست أخلاق الرجال في ذلك سواء. قالت إنما أعني الرجال الذين يطلبون ويكلفون بمن يطلبونه لا أولئك الطَرفِين الشنقين المسافحين الذين دأبهم التذوّق والتنقل من مطلوب إلى آخر ونفع أنفسهم فقط دون مراعاة نفع سواهم. ولكن هيهات هل في الرجال من يقيم على الوداد ولا يميل عنه كل يوم. لعمري لو لكانت النساء تطلب الرجال طلب الرجال للنساء لما رأيت فيهم غير مفتون. قلت هل في النساء من تقيم على الوداد ولا تجنح عنه كل يوم ألف مرة هذه الكتب كلها تشهد للرجال بالوفاء وعلى النساء بالخيدعية. قالت من كتب هذه الكتب أليس الرجال هم الذين لفّقوها. قلت ولكن من بعد التحري والتجربة، قالت من يأت الحكم وحدة يفلج قلت بل أوردوا على ذلك شواهد وكفى بما ورد عن سيدنا سليمان برهاناً ودليلاً.
فإنه قال قد وجت بين ألف من الرجال صالحاً فأما بين النساء فسلم أجد صالحة. قالت أن سيدنا سليمان وأن يكن قد أوتي من الحكمة ما لم يؤته غيره أن بائع المسك لطول ائتلافه بالرائحة القوية تضعف منه حاسة الشم بحيث لا يعود يشم الرائحة اللطيفة. وأما إيراد الأدلة من الرجال على النساء دون إيراد أدلة النساء على الرجال فمحص ظلم وبطر. قلت نعم كان الأولى مناقصة هذا الإيراد ولكن سبحان الله أنتن تتهمن الرجال في كل شيء ثم تتهافتن عليهم. قالت لولا اضطرار الأحوال لما شغلن بذلك الأبوال. قال فضحكت وقلت أي جمع هذا قالت قسته على غيره. قلت وهل استوى المقيس بالمقيس عليه. قالت لا فرق. قلت بل كله فرق فإن اللغة لا تؤخذ بالقياس. ولو صح ذلك لم تكن مناسبة بين الذكر والأنثى ولا بين الأنثى والذكر. ولا بين تذكير حقيقة التأنيث وتأنيث ما هو غير مقابل بمثله. قالت وهذا أيضاً من بطر الرجال وتشويشهم فلا يكادون يأتون أمراً مستقيماً. قلت قد رجعت إلى لومهم. قالت والله، لقد حرت في الرجال. قلت والله لقد حرتُ في النساء.
ولكن فلنعد إلى الوداع إني أعاهدك على أن لا أخونك. قالت بل تخونني على عهد. قلت ما يحملك على سوء الظن بي. قالت إني أرى الرجال إذا كانوا في بلاد لم يُعرفوا بها أفشحوا غاية الإفحاش. ألا ترى إلى هؤلاء الغرباء الذين يأتون إلى هذه الجزيرة كيف يتهتكون في العهر والفجور. فأول ما يضع أحدهم قدمه على الأرض يسأل عن الماخور. ولا سيما هؤلاء الشاميين ولا سيما النصارى منهم ولا سيما الذين ألمّوا بعلم شيء من أحوال الإفرنج ولغاتهم فأنهم يخرجون من المراكب كالزنابير اللاسعة من هنا وهناك. قلت لعلهم كانوا في بلادهم كذلك قالت ليس عندهم أسباب الفحش هناك. قلت أو كانوا فاسدين بالطبع. قالت نعم هو عرق فساد فأول ما يستنشقون رائحة بلاد الإفرنج ينبض فيهم. ولذلك تراهم أبداً يتلمظون بذكر بلاد الإفرنج وعاداتهم وأحوالهم. مع أنك إذا سألت أحداً منهم عن طعامهم قال لا يستطيبه. أو عن ألحانهم قال لا تطربه. أو عن كرمائهم قال لم تأدبه. أو عن حمّاماتهم قال لم تعجبه. أو عن هوائهم قال لم يلائمه. أو عن مائهم قال لم يسغ له. فيكون لهجتهم بذكر بلادهم وتنويههم بمحاسنها إنما سببه الفحش. وأنت من يضمن لي طبعك عن الفساد وقد أسمعك كل يوم تُهيم بذكر الرجراجة والرضراضة والبضباضة والفضفاضة والربحلة والرعبوب والعطبول. وهي لعمري ألفاظ تسيل لعاب الحصور وتشهّي الناسك. قلت إن هو إلا كلام. قالت أول الحرب كلام. قلت أترين اعدّي عن هذه الصنعة الشائقة، والحرفة العائقة. قالت إن لم تتصور ذاتا بعينها عند الوصف فلا بأس. قلت إن لم أتصور ذاتا لم يخطر ببالي شيء. قالت إذن هو حرام. قلت ما كفارته. قالت إياي لا غير. قلت ولكن أنت خالية عن بعض الصفات التي لابد من ذكرها قالت إذا كان الرجل يحب امرأته رأى فيها الحسن كله ونظر من كل شعرة منها امرأة جميلة كما أنه إذا احب امرأة غيرها أحبّ لأجلها بلادها وهواءها وماءها ولسان قومها وعاداتهم وأطوارهم. قلت أو كذلك المرأة إذا أحبت رجلاً. قالت هو في النساء أكثر لأنهن أوفر حبا ووجداً. قلت ما سبب ذلك. قالت لأن الرجال يتشاغلون بما ليس يعنيهم. فترى واحداً منهم يطلب الولاية وآخر السيادة وآخر البحث في الأديان وفي ما غمض من السفليات والعلويات. والنساء لا شيء يشغلهن من ذلك. قلت ليتك تشاغلت مثلهم. قالت ليت لي قلبين في شغلنا. قلت أفتنظرين في الحسن كله كما زعمت. قالت أُحْسن فيك النظر: قلت فلنعد إلى الوداع لا بل فلنعد إلى التشاغل. فإني أريد أن أنهي هذه المسألة قبل أن أفصل من هنا وإلا فتكون لي شاغل الطريق وربما أفسدت شغلي عند القوم فأرجع باللوم عليك وعلى سائر النساء. قالت اعلم إن المرأة تعلم من نفسها إنها زينة هذا الكون كما أن جميع ما فيه إنما خلق لزينتها لا لزينة الرجل. لا لكونه مستغنياً عنها بذاته أو لكونها هي مفتقرة إليها لتحلو بها في عين الناظر وإذن السامع، بل لعدم جدارة الرجل بها. فإن الزينة نوع من الأخذ والتلقي والاستيعاب والزيادة وهي أحوال أنسب بالمرأة منها بالرجل. وبناء على هذا أي على أن جميع ما في الكون خُلق لها بعضه بالتخصيص وبعضه بالتفضيل والإيثار. كان من بعض اعتقادها أن نوع الرجل أيضاً مخلوق لها. لا بمعنى إنها تكون زوجة لجميع الرجال. فإن ذلك محال من وجهين. أحدهما إنها لا تطيق ذلك لأن سرية ذلك اليهودي "على ما ذكر في الفصل التاسع عشر من سفر القضاة" لم تطق أهل قرية واحدة "هي جبعة" على قلتهم ليلة واحدة. بل ماتت في الصباح وسيدها يحسبها نائمة. وهذه الحكاية ذكرت ردعاً للنساء. والثاني إنه إذا ثبت لامرأة حق في حكر الرجال والاستبداد بهم ثبت الحق الباقي. ولكن بمعنى إنها أهل لأن تعاشر جميع الرجال وتتعرف ما عندهم. فتتلهى من واحد بتملقه ومن آخر بإطراء ومن غيره بمغازلة ومن آخر بمطارحة وما أشبه ذلك. مما لا يمنعها من محبة زوجها والكلف به. لا بل -قال فقلت أتمنى هذه اللابليّة فإني أراها ترجمة لداهية من دواهي النساء وعنواناً على مكيدة من مكايدهن. فضحكت وقالت ربّما دلت على الرأي الظنون. غير إني أخشى من أن تأخذك لبيانها شفشفة ورعدة فتتأخر عن السفر. أو أن تظن إن هذا دأبي معك. معاذ الله. إني لم أخنك بضمد ولا بغيره. وإنما علمت من النساء لأن النساء لا يكتم بعضهن عن بعض شيئاً من أمور العشق وأحوال الرجال.
قلت أوجزي فقد قلقت وفرقت وعرقت. قالت أعلم إن بعض النساء لا يتحرّجن من وصال غير بعولتهن لسببين. الأول لعدم اكتفائهن بالقدر المرتب لهن منهم. فإنهم يعودونهن أولا على ما يعجزون عن أدائه إليهن آخراً. ولا يخفي أن من النساء المدقم وهي التي تلتهم كل شيء. ومنهن الشفيرة وهي القانعة من البعال بأيسره. ومنهن الضامد وهي التي تتخذ خليلين. ومنهن المطماع وهي التي تُطمع ولا تمكن. ومنهن المريم وهي التي تحب الرجال ولا تفجر وهو خلقي. قال فقلت اللهم أمين. قالت واللاعة وهي التي تغازلك ولا تمكنك. والسبب الثاني لاستطلاع أحوال الرجال واختبار الأبتع وغير الأبتع منهم لمجرد العلم كيلا يفوتهن حال من أحوالهم. ومنهن من تعتقد أن زوجها يخونها عند كل فرصة تسنح له. لما تقرر في عقول النساء إن الرجال لا شغل لهم إلا مغازلتهن ومباغمتهن. فهي على هذا لا تجد سبيلاً للشطح إلا وتزّف فيه. اعتقاداً إنها أخذت بثأرها جزماً أي قبل وقته الموقوت. ومع ذلك فلا يحلن عن محبة بعولتهن. بل ربما كان ذلك الشطح أدعى لزيادة حبّهن لهم. قلت لا متعني الله بحب ناشئ عن مد قميه ولا ضمد. ولكن كيف يكون هذا التخليط أدعى إلى زيادة الحبّ والمرأة إذا ذاقت البكبك والعجارم والعجارم والقازح والكباس لم تقتنع بعد ذلك بزوجها حالة كونه لا يحول عن الصفة التي فطر عليها. وكذا الرجل أيضاً إذا ذاق الرشوف والرصوف والحزنبل والعضوض والأكبس فإنه يرى زوجته بعد ذلك ناقصة. فضحكت وقالوا كانت هذه الصفات لازمة للمرأة وكان عدم وجودها فيها نقصاً لما كنت تراها في أفراد قليلة من النساء. فإن معظمهن على خلاف ذلك. فأما سبب زيادة المحبة فيما زعمن مع التخليط فهو أن الزوج لطول الفته بزوجته وضراوته عليها وحالة كون مسّ أحدهما الآخر لا يحدث في جسم الماسّ والممسوس هزة ولا رعشة ولا ربوخيّة. يمكن له معها المماتنة والإمعان والوقوف بخلاف الغريب فإنه لشدة نهمه ودهشته أو لفرط مرواحة المرأة إياه على العمل. أو لكون الحرام لا يسوغ دائما مساغ الحلال تفوته الصفتان المذكورتان. فاللذة معه جلّها ناشئ عن التصور. أي عن تصور كونه غير زوجها. كما أن نغصها مع زوجها جله ناشئ عن تصور كونه غير غريب. وإلا فالواقع أن اللذة في الحلال أقوى. غير أن التصور له موقع يقرب من الفعل. وبيانه لو اعتقدت رجل مثلاً أن امرأة غير امرأته تبيت معه ثم باتت معه امرأته بعينها وهو لا يعلم ذلك كما جرى لسيدنا يعقوب عم. لوجد امرأته تلك الليلة متصفة بجميع الصفات التي تصورها في غيرها. وكذا شأن المرأة. فبناء على ما تقدم من اعتقاد المرأة بأن جميع ما في الكون من الحسن والزينة والبهيجة يناسبها كان تصورها صفات الحسن وتشاغلها به مطلقا عاما. غير إنه إذا كان لها خاص قريباً منها تناولت ذلك الخاص متناول العام. حتى أنه كثيراً ما يخطئ فكرها واحدا منهم بخصوصه. فيتجاذبه اثنان أو ثلاثة حتى تذهل عن الشاغل والأشغل. وهو في الواقع تحوف من اللذة كمن يريد ان يشرب من ثلاث قلل يضعها على فيه في وقت واحد. قلت كلامك هذا ينظر إلى قول الشاعر:
إذا بت مشغول الفؤاد بما ترى ... من الغيد عيني والجمال مفرق
اركبّ في وهمي محيّا يشوقني ... على قامة أولى به ثم أشبق
ولكن قد نهيتني آنفاً في التغزل عن تصور ذات بخصوصها وقلت أنه حرام فهّلا قلت بحرميّة هذا أيضاً. قالت إنما حرميه ذاك لكونه ذاهباً في الكلام سدى وسرفا. على أن الغزل كله كيفما كان لا خير فيه ولا جدوى. فأما في الفعل من قبل النساء فإنه ينشأ عنه صاحبه الأولاد. ولذلك ترى انف بعضهم كأنف زيد وفمه كفهم عمرو وعينيه كعيني بكر. وهو أيضاً جواب لمن قال إن في رؤية الرجل نساء كثيرة مصلحة تعود على امرأته لاكتسابه منهن التشمير عند الإياب. بخلاف خروج المرأة فإن التشمير ملازم لها. فأما هؤلاء الحمقى الزاعمون أن تصوّر الرجل مؤثر في توزيع الولد فيلزمهم أن لا يروا امرأة أصلا غير نسائهم. لئلا تأتي ذريتهم كلها إناثا أو في الأقل خناثاً. وذلك لمناعفة التصوّرين من قبل الأب والأم. وألا وإن امرأة لا تستبدل زوجها إلا بالفكر والتخيل لجديرة بأن تكون قِبله كل مطرئ. وإن لا يفكر زوجها إلا فيها. قلت مقتضى كلامك إن النساء المقصورات عن رؤية العموم لا لذة لهن مع الخصوص. قالت أما بالنسبة إلى ناظرة العموم فلا.
وأما بالنسبة إلى العدم فنعم. فإن الماء مهما يكن سخنا يطفئ النار. قلت وبالعكس أي أن النار مهما تكن باردة تسخن الماء. قالت يصح العكس لكن الطرد أولى. قلت إلى كم قسم اللذة. قالت إلى خمسة أقسام. الأول تصورها قبل الوقوع. الثاني ذكرها قبله. الثالث حصولها فعلا بالركنين المذكورين. الرابع تصورها بعد الوقوع. الخامس ذكرها بعده. وكون لذة التصور قبل الوقوع أقوى أو بعده أقوال. فذهب بعض ألا أن الأولى أقوى. لأن الفعل لمّا كان غير حاصل كان الفكر فيه أجول وأمعن فلا يقف على حدّ. وزعم آخرون إن الحصول يهيّئ للفكر هيئة معلومة وصورة معينة يعتمد عليها في قياس ما يترقب من الإعادة والتكرير. وكما حصل الخلاف في وقتي التصور حصل أيضاً فيه وفي الذكر. والعبرة بحدّة التصور وذرب اللسان. فأما اصلح الأزمنة لها فالصيف عند النساء والشتاء عند الرجال. فأما الكمية فمن الناس الموحدون ومنهم المثنوية ومنهم أهل التثليث. قلت ومنهم المعتزلة والمعطلون. قالت هؤلاء لا خير فيهم. وما هم جديرون بأن يعدّوا مع الناس. قلت ما شأن من يتزوج اثنتين وثلاثا. قالت هو أمر مغاير للطبع. قلت كيف وقد كانت سنّة الأنبياء. قالت هل نحن نبحث الآن في الأديان أو نتكلم في الطبيعيات. إلا ترى أن الذكور من الحيوانات التي قُدّر لها أن تعيش مع إناث كثيرة قدر لها أن تعيش مع إناث كثيرة قُدّر لها أيضاً القدرة على كفايتهن كالديك والعصفور مثلا. وغيرها إنما يعيش مع واحدة ويكتفي بها. ولما كان الرجل غير قادر على كفاية ثلاث لم يكن أهلا لان يحوزهن. وبعد فلأي سبب حُظرت المرأة عنان تتزوج ثلاثة رجال. قلت إِن في كثرة النساء للرجل كثرة النسل التي يتوقف عليها عمران الدنيا. وذلك مفقود في كثرة الرجال للمرأة الواحدة. على أني قرأت في بعض الكتب إن هذه العادة لم تزل مستعملة عند بعض الهمج. قالت مه مه أهؤلاء هم الهمج وانتم المتمدينون الكيسّيون. فأما دعواك بتكاثر النسل في كثرة النساء فهل سكان الأرض الآن قليلون. ألم تضق بهم البسيطة وتثقل بهم بطونها ويمزق اديمها. فما الموجب إلى هذا الإكثار سوى البطر والنهم. قلت قد عدت إلى لوم الرجال فلنعد إلى الوداع. أني مسافر عنك اليوم وتارك عندك فؤادي حتى إذا زارك أحد أحسّ به. قالت كيف تحس وما فؤادك معك. والناس يخصّون القلب بالحس والشعور. والحزن والسرور. قلت أن حسي برأسي. قالت من أي جهة. قلت من الجانب الأعلى من الرأس. قالت نعم الشيء إلى جنسه أميل. ولكن أين تتركه. قلت على العتبة كيلا يخطوها أحد. قالت فإذا طفر فوقها. قلت في الفراش. قالت فإن يكن في غيره. قلت فيك. قالت ذلك أحسن مقرّا. إني أعاهدك على ما كنا عليه من الحب والوداد من أيام السطح إلى الآن. ولكن حين أحسّ واشعر من هنا بأنك تبدلت السطح بالشطح أقابلك بفعل مثل فعلك والبادي أظلم. قلت إنك كثيرة الوساوس شديدة الغيرة. فلعل شعورك يكون عن وسواس. قالت بل الأولى إن الوسواس يكون عن الشعور. قلت دار ما بينا الدور. قالت حاول إذاً فكَّه. قلت هو فرض فلابد من قضائه. قالت وقضاء لابد من فرضه. قلت أيعقد به العهد. قالت إذا عهد به العقد. قلت لا أرضى بهذه الصفة. قالت ومن لي بوصف هذا الرضى. قلت هلكان العقد في الشرط. قالت كان الشرط بلا عقد. قلت مثلنا مثل ذلك المجنون. قالت لولا الجنون ما جمعنا الزواج: قلت أكثر الناس على هذا. قالت أكثر الناس مجانين. فقلت الحمد لله رب العالمين.

استرحامات شتى
من كان من طبعه المين والافتراء أومن كان جاهلا بالنساء ارتاب في هذا الوداع ونسبه إلى ترقيش الشعراء ومبالغتهم. ولكن أي منكر على من جعلت دأبها وديدنها وشنشنتها ونشنشتها ومُهوأنها وهُذيرباها وأُهجورتها وفَعِلتها ومَطرتها المحاضرة والمفاكهة والمساقطة والمطارحة والمحازرة والمجازرة وسرعة الجواب. بل كثيراً ما كان يجتمع الفارياق اثنان أو ثلاثة من أصحابه فإذا خاضوا في حديث انتدبت لهم وجارتهم فيه وعارضتهم وما تنتهم. فكل فصيح أن تعارضه لم يُبن وكل بليغ أن تساجله يرتكّ. وقد علم بالتجربة أن جواب المرأة أسرع من جواب الرجل. وأن المشتغل بالعلم يكون أبطأ جواباً من غير المشتغل به. لأنه لا يقدم على ذلك إلا بعد الفكر والروية. على أن هذه العبارات التي نقلتها هذه المرأة المبينة من غير قراءة البيان هي دون الأصل بمراحل. فإني لم أقدر في نقل الحركات التي تبدو منها. وعلى أن أصوّر للمطالع عيوناً تغازل وحواجب تشير. وأنفا يرمع. وشفاها تزمع. وخدوداً تتورد. وجيداً يلوي. ويداً تومئ. ونفساً يربو ويخفت. وصوتاً يخفض وينبر. وزد عليه مسح المآق إشارة إلى الاستعبار. وتوالي الزفرات رمزاً إلى الحزن والانبهار. والتبلد إيذاناً بالأسف. والتنقل من جنب إلى جنب إعلاناً بالجزع واللهف. وغير ذلك مما يزيد الكلام قوة وبلاغة. وهذه ثاني مرة ندّمتني على جهلي صناعة التصوير. والمرة الأولى جمالهن. ويمكن إني أندم مرة ثالثة.
وهنا ينبغي أن أقف على قدمي منتصباً وأستميح الإجازة من ذوي الأمر والنهي لأن أقول. إنه قد جرت عادة جميع الولاة والملوك ماعدا ملك الإنكليز بان لا يدعوا أحداً يدخل بلادهم أو يخرج منها ما لم يدفع لدواوينهم أو لوكلائهم المعروفين قدراً من الدراهم بحسب خصب مما لكم. محلها. وذلك بدعوى أن المسافر إذا نزل بلادهم ساعة أو ساعتين فلابد وأن يرى قصورهم الفسيحة وعساكرهم المنصورة أو خيلهم النجية ومراكبهم الفاخرة. فيكون كمن يدخل ملهى من الملاهي. إذ ليس يدخلها أحد من دون من الملاهي. إذ ليس يدخلها أحد من دون غرامة. فإن اعتراض أحد بقوله إِنا في الملهى نسمع أصوات المغنين والمغنيات وآلات الطرب. ونرى الأنوار المزدهرة والأشكال المتنوعة ووجوه الحسان الناضرة وحركاتهن الباهرة. ونضحك حين يضحكن. ونطرب حين يرقصن. ونشغف حباً حين يغازلن فأما في رؤية إحدى مدنكم فإنا لا نرى شيئاً من ذلك. بل إنما ندخل لكي يغبننا تجاركم فتكون فائدتنا في الدخل قليلة. قالوا قد يتفق وقت قدومكم بلادنا أن تكون عساكرنا قد شرعت في العزف بآلات الطرب فهذا مقابلة في الطرب في الملهى. أما النساء فإنا نأذن لكم في التمتع بكل من أعجبتكم فاجروا وراء من شئتم بحيث يكون النقد على الحافز. ومع ذلك فلا ينبغي أن تشبه مدائننا التي تشرفت بحضرتنا ببعض الملاهي. ولاسيما أن هذه سنة قديمة قد مشت عليها أسلافنا طاب ثراهم. وتقادمت عليها السنون والأحوال حتى لم يعد ممكناً تغييرها. فإن الملك إذا أمر بشيء صار ذلك سنة وحكما ويشهد لذلك قول صاحب الزبور أن يد الرب على قلب الملك. بمعنى أن الملك لا يفكر في شيء إلا ويد الله عاصمة له فيه. هكذا شرح هذه الآية العلماء الربانيون في بلادنا ومن خالفهم فجزاؤه الصلب. وبعد فإن الملك إذا أخذ في تغيير العادات وتبديل السنن فربما أفضى ذلك إلى تغييره. فيكون مثله كالديك الذي يبحث في الأرض عن حبة قمح فيثير التراب على رأسه. وصغر ذلك تشبيها. فالأولى إذا إقرارا كل شيء في محله. ثم لا فرق بين أن يكون قاصد بلادنا غنياً أو فقيراً. صالحاً باراً أو لصاً فاجراً رجلاً كان أو امرأة. فكلهم ملتزمون بأداء الغرامة وتحمل الغبن -ولكن يا سيدي ومولاي أنا امرأة معسرة قد اضطررت إلى المرور بمدينتك السعيدة. لأن زوجي المسكين كان قد قدم إلى بلادكم الملكية ليدير مصلحة فقضى عليه الله تعالى بالوفاة. فتركت صبية لي في البيت يتضورون جوعاً وجئت لأرى زوجي الميت حالة كونه لا يراني. ومع ذلك فإني أُعدّ من الحسان اللائي يحق لهن من أمثالك العناية والإلطاف. فكيف التزم بالغرامة فضلا عن نفقة السفر وفقد زويجي الذي كان لي سنداً- ارجعي من حيث جئت فما هذا وقت الاسترحام. لأن القواعد التي تقرر في دفاتر الملوك لا تقبل التبديل ولا التحريف ولا يستثنى منها شيء- وأنا أيضاً يا مولاي رُجَيْل فقير رماني الدهر بصروفه لأمر شاءه الله. فوافيت بلادكم طمعاً في تحصيل وظيفة تقوم بأودي. وما أنا من ذوي التغاوي والفتن ولا من الباحثين في سياسات الملوك وإيالاتهم. فقصارى منيتي تحصيل المعيشة. على إني أعرف شيئاً لا يعرفه أهل بلادكم العامرة فربما كان مقامي فيها مفيداً لدولتكم السعيدة. ولو صدر الأمر العالي بامتحاني واختباري فيما ادّعيه لأكرمتم مثواي فضلاً عن الرخصة لي في دخول بغير غرامة- يا طائف يا عسس يا زبينية يا جلواز يا شرطي يا عون يا ذبي يا مسحل يا فارع يا قليع يا تورور يا ثؤرور يا أثرو يا ترتور أودع هذا السجن. إن هو إِلا جاسوس قدم يتجسس- بلادنا. وفتشوه عسى أن تجدوا معه أوراقا تكشف لنا عن خبره- وأنا كذلك يا مولاي وسيدي غليتم مسيكين قد جئت لا نظر أبي إذ بلغني إنه كان قادماً من سفره فدخل بلادكم فأصابه هواؤها الحميد بمرض شديد منعه من الحركة. فلّما علمت أمّي بمرضه أيضاً مما شملها من الحزن والكرب لطول غيابه بعثتني إليه لعلي أخدمه وأمرّضه فيطيب خاطره برؤيتي ويخف ما به. فإن رؤية الأب أبنه حال مرضه تقوم له مقام الدواء- ما نحن بمربّي الأولاد ولا بلادنا مكتب لهم حتى يأتوا إليها ويخرجوا منها من دون غرامة. أذهب وكن رجلاً بأدائها على الفور- وأنا أيضاً يا عتادي وملاذي. وثمالي ومعاذي. وملجإِي وملتحدي. وسندي ومعتمدي. وركحي وركني. وعزي وأمني. رجل من الشعراء الأدباء كنت قد مدحت بعض


* كتاب: الساق على الساق في ما هو الفارياق
المؤلف: أحمد فارس بن يوسف بن منصور الشدياق (المتوفى: 1304هـ)


صورة مفقودة
 
وأنا أقول أن مما غُرس في هذه الطينة البشرية اللثية أن الرجل متى وطّن نفسه على الزواج حبّب الله إليه زوجه على أية حالة كانت حتى يراها أحسن الناس خُلقاً وخَلقاً. لا بل يرى نفسه أنه قد ترفع عن أقرانه. وتمزّى على إخوانه، حتى يستخسّ ما كان من قبل يستعظمه. وأنه قد صار إنساناً جديداً يجدر بأن يجدد له وجه الأرض.
وبناء على ذلك لم يعد الفارياق يرضي بالأغاني والأشعار المتعارفة بل أستبدل الأولى بأخرى جديدة من نظمه. ونظم خلال ذلك قصيدتين حاول فيهما اختراع أسلوب غريب فجاءنا طيخيتين كما سترى ذلك ولو استطاع أن يخترع كلاماً جديداً يعبر به غرامه وحديث شأنه لفعل. وكان إذا رأى رجلاً متزوجاً يهيب به وينشده:
أنا في حلبة الزواج المجليّ ... إنما أنت فسّكل قاشور
أن قدمي يفوز عما قريب ... إنما قدحك السفيح يبور
أو عزباً قال له
يا أيها الأعزاب أني رافض ... دين العزوبة فاقتدوا بمثاليا
ليس الغِنى إلا البعال فبادوا ... يا قوم واستغنوا بمثل بعاليا
وتهوّس يوماً لأن ينظم ديواناً يشتمل على أبيات مفردة تهافتا على أحداث شيء غريب فنظم أربعة أبيات ثم مسك. وهي
ساعة البعد عنك شهر وعام ... الوصل يمضي كأنما هو ساعه
أتنجم الليل الطويل صبابة ... وتنجمي لنجوم ذي تفليك
ويخفق مني القلب أن هبت الصبا ... ويذكرني البدر المنير محياك
ألا ليتشعري كم يقاسي من ... النوى وأنحائه قلب يذوب تجلدا
ومن الفضول هنا أن نقول أنه كان يقول لخطيبته أنك ملأت عيني قرة. وأني أراك أحسن الخلق. وأنا ليغبطنا الناس. وأنك تغنيني عن الغنى. وأني بقربك سعيد. ويبعدك عميد. وإنّا نكون أبداً كما نحن الآن. وأنك ذات ملاحة تشغل الخليّ. وأني أغار عليك من النسيم يفيء شعرك هذا الدجيّ. وأنّا لجسمان في روح واحد أو روحان في جسم واحد. وإنك لترين مني كل يوم محّباً جديداً. وإني لأرى فيك كل وقت حسناً حديثاً.
وأنا نكون قدوة للمتزوجين والعاشقين. إلى غير ذلك من الكلام المتعارف عند أمثاله.
قال خير أيام الإنسان في حياته هي المدة التي تتقدم الزواج والتي تليه. قلت ومبلغها عند الإفرنج شهر يسمونه قمر العسل وهو بعد الزواج. ومبلغها عندنا معاشر العرب شهران يقال لهما قمرا العَسل. حتى إذا امتلأت الخلية عادت كل نحلة زنبورا ورجع كل شيء إلى أصله.

وأقول أن المحبة مما غرس في الطبيعة البشرية من يوم الوضع في المهد إلى يوم الوضع على النعش. فلا بدّ لهذا المخلوق الآدمي من أن يحب ذاتا من الذوات أو شيئاً من الأشياء أو معنى من المعاني. وكلما زاد حبه في قسيم منها نقص في قسيمه الآخر. وقد يكون إحداها سبباً في زيادة حبّه للآخر. مثال ذلك من كلف بالشعر أو الغناء أو التصوير فكلفه هذا يكون باعثاً له على حب الذات الجميلة. ومن كلف بالعلم والقتال والفخر والسيادة فلابد وان تقل رغبته في النساء بل ربما لهي عنهن بالكلية. ومن كلف بالخيل المطَّهمة والسلاح النفيس فقد يكون كلفه هذا شائقاً له إلى حب الذات أولا. وعدّ بعضهم من هذا النوع السراباتية وهم المنظّفون للمراحيض. وأسقطه غيرهم بدليل إنها حرفة يحتاج إليها الإنسان لتحصيل معاشه لا كلف من هوى النفس. فهذه ثلاث حالات متسببة عن ثلاثة أسباب. وهناك أيضاً ثلاث أحوال أخرى باعتبار القلة والكثرة وما بينهما. الأولى متعادلة وهي ان يحب المحبّ محبوبه كنفسه. فلا تطيب نفسه بشيء ولا تهنئة لذة إلا إذا كان محبوبه مشاركا له في تلك اللذة. وذلك صفة الرجل قبل زواجه وبعيده. ولا تخلو هذه الصفة عن الرشد والبصيرة. الثانية المتعدية أي المجاوزة للمتعادلة. وذلك كان يحب المحبوب حبيبه اكثر من نفسه. وذلك صفة الأب والأم في حبّ ولدهما وصفة بعض العشاق. أما الأب فإنه يفدي بروحه ويحرم نفسه من اللذات والمسرات حتى يمتّعه بها. فإذا رأى نفسه عاجزا عن الأكل والبعال ورأى ابنه يأكل ويباعل لذَّ له ذلك وهو مع هذا غير خال أيضاً عن الرشد والتمييز. فأما العاشق فإنه يؤثر معشوقه على نفسه غير أن أفعال تكون مختلة في غير محلها ووقتها. والثالثة معلومة وهي أن يحب الإنسان محبوبه مع إيثار نفسه عليه وهو الأغلب. وهناك أيضاً ثلاث أحوال أخرى مكانية وهي القرب والبعد والتوسط. ولها تأثيرات مختلفة بحسب اختلاف طباع الناس فالصادق الود يحب في حالتي القرب والبعد على حدّ سوى. بل ربما كان البعاد مهيجا له إلى زيادة الشوق والغرام. وما احسن قول من قال في هذا المعنى.
كأن الهوى شمس أبي إن يردها ... مهاة نوىً لا بل تزيد بها حرا
فأما الطرف الشنق فإنه لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا. وثلاث أخرى زمانية وهي الصبي والشباب والكهولة. فمحبة الصبي أسرع وأعلق. ومحبة الشباب أحرّ وأقوى. ومحبة الكهل أقر وأدوم. الكهل يقدر محاسن محبوبه ومنافعه أكثر. ومحبته له تكون أمرّ وأحلى. فالمرارة لعلمه إنه قد عرّض نفسه للوم اللائمين وعذل العاذلين من الأحداث والأغرار. ولإشفاقه دائما من ملل محبوبه إياه. فقلبه أبدا واجب. وهمّه بشأنه ناصب. والحلاوة لزيادة معرفته بقدر محبوبه كما تقدم. ولكون هواه والحالة هذه راهناً متمكناً فهو يعتقد بمجامع قلبه إنه ساع في أسباب سعادته وحظه. ولها أيضاً ثلاث حالات أخرى باعتبار الاستطاعة وعدمها اعني اليسر والعسر وحالة ما بينهما. أما الموسر فإن محبته أبرد وأحول. لأن غناه يحمله على استبدال محبوبه والتنقل من حال إلى حال. فلتحذر النساء المحصنات هذا الصنف من الناس وإن ماس بهن ماسه. إلا إذا كنا لا يخفن على سرّهن وعرضهن. لأن الغني يستحيل إفشاء الأسرار. كما يستحيل خزن الدينار. وعنده أن كل شيء عبد درهمه. وطوع نهمه. فأما الفقير فإن محبته أشط وأشذ وألوع. لأن فقره من حيث كان مانعاً له من إزالة الموانع التي تحول بينه وبين محبوبه لا يلبث أن يفضي به إلى اليأس أو الخبال أو الانتحار. فأما المتوسط فإن حبَّه اعدل واصَّح. ولها أيضاً ثلاث حالات أخرى وهي الذل والعزّ والمساواة فالذل غالبا صفة العاشق والعزّ صفة المعشوق. ومن أعجب أنواع المحبة الحبّ المختلط بالبغض. وذلك كأن يهوى رجل امرأة وهي تهوى غيره وتتمنع عليه. فيهيج به وجده إلى وصالها تشفياً منها. فإن فاز به غلبت محبته على كراهيته وإلا فلا ولا يزال هذا دأبه حتى يسلو عنها الغلب وان المحب لا يسلو محبوبه إذا عامله بالصد والحرمان إلا إذا ظفر بآخر شبيه له في خلقه وخلقه وهيهات ذلك فأما بواعث المحبة فقد تكون عن نظرة واحدة تقع من قلب الناظر موقعاً مكيناً فتخلج فيه من محركات الوجد والشوق ما تخلجه عشرة مدة مديدة وعندي أنه لا بد وأن يكون المحبّ قد تصوّر في عقله سابقاً صفات وكيفيات من الحسن فصبا إليها حتى إذا شاهدها حقيقة في ذات من الذوات كما كان تصورها علق بها قلبه وخاطره فكان وخاطره فكان كمن وجد ضالة ينشدها وقد تكون المحبة عن طول سماع عن شخص فيسترسل السامع إليه شيئاً فشيئاً حتى يكلف به. وأكثر أسباب المحبة النظر والعشرة. واعلم أن كثيراً من الناس قد عشقوا الصور الجميلة في الذكور والإناث لغير دعارة وفسق. وإنما هو ارتياح نفس ووجد بال. ويؤيده ما ورد في الأثر من عشق فكتم فعفّ فمات شهيداً. والعاشق في هذه الحالة يرضى من معشوقة بأدنى شيء. فالقبلة عنده وفتح وغنيمة. قال الشريف الرضي
سلوا مضجعي عني وعنها فإننا ... رضينا بما يخبرن عنا المضاجع
قلت لو كان لي تصرف في هذا البيت لقلت عنها وعني. وقال ابن الفارض رحمه:
كم لات طوع يدي والوصل يجمعنا ... في بردتيه التقى لا نعرف الدنسا
وهذا العشق يسمى عند الإفرنج العشق الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون الحكيم ولا حقيقة له عندهم وإنما هو مجرد تسمية. ويعرف عندنا بالهوى العُذري. نسبة إلى عُذرة قبيلة في اليمن لا إلى عذرة الجارية أي بكارتها وافتضاضها وشيء آخر منها. ويروي عن مجنون ليلى إنها أتته يوماً وجعلت تحدثه فقال لها إليك عني فإني مشغول بهواك. وللمتنبي في هذا المعنى
فشُغلتُ عن رد السلا ... م فكان شغلي عنك بك
وأحقّ النساء بان تُعشَق وتعزّز التي جمعت إلى حسن خلقها الأدب وحسن المنطق والصوت واسعد الناس حالاً من كان له حبيب يحبه كما جاء في بعض المواليات المصرية. فإنه والحالة هذه يقدم على اصعب الأعمال واعظم المساعي. ويباشرها دون أن يشعر بها. لا فكره أبداً مشغول بمحاسن حبيبه. فلو رفع صخرة في هذه الحالة على عاتقه بل فنداً لتوهم إنه رافع نعال محبوبه أو بالحري رجليه. ثم أنه مع ما يلحق المحبة من طوارئ التنغيص والخيبة والحرمان وخصوصاً مضض الغيرة فإن عيش الخلي لا خير فيه. لان الحب يبعث على المروءة والنخوة والشهامة والكرم ويلهم المحب المعاني اللطيفة والخواطر الدقيقة. ويكسبه الأخلاق المرضية. ويستوحيه إلى عمل شيء عظيم يذكر به اسمه ويحمد شأنه ولا سيما عند محبوبته. وقلما رأيت عاشقاً به جفاء وفظاظة أو رثاء وبلادة أو دناءة وخساسة. وقال بعض العزهين وأظنه من التيتائيين. لو لم يمنع من عشق امرأة شيء بعد التعفف والتوّرع سوى الاضطرار إلى حبها لكفى لان الإنسان متى علم إنه مسخّر لحب شيء ومكلّف به ملّه بالطبع ونفر منه. قال فيكون حب المرأة على هذا مغايراً للطبع. هذا إذا كان الرجل شهماً عزيز النفس عالي الهمة. فأما الأوباش من الناس فلا معرفة لهم بقدر أنفسهم فهم يتساقطون على حب المرأة حيثما عنّت لهم وكيفما اتفق. قلت هو كلام من لم يذق الحب أو من كان مفرّقاً ولو سمع أنثى تقول له يوما احمل يا روحي هذا الحمل من الحطب على رأسك. أو احبُ يا عيني على أستك كالولد الصغير للبّاها حاملا وزحنقفاً.
ثم أن للعشاق مذاهب مختلفة في العشق فمنهم من يهوى ذات التصنع والتمويه والعجب. ومنهم من لا يعجبه ذلك وإنما يؤثر الحسن الطبيعي. وأن يكون في محبوبته بعض الغفلة والبلاهة وإلى هذا أشار المتنبي بقوله:
حسن الحضارة مجلوب بتطرئة ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
ومثل الأول مثل من يقدم له لون من الطعام وبه قمة فيحتاج إلى التفحية والتقيت ومثل الثاني مثل من به سيْفَيَّنة وسرْطميَّة فلا يمنعه عدم التفحية والتوابل من أن يلسو ويلوس ويلثى ثم يلحس قعر الجفنة بعد فراغه منها. فأما رغبة بعض الناس في الغفول والبلاهة فإنها مبنية على أن المحبّ لا يزال يقترح من محبوبته أشياء كثيرة تبعث إليها الحاجة. فمتى كانت ذات دهاء وذكاء خشي أن تمله وتحرمه. ومنهم من يزيد في المرأة غراماً إذا كانت ذات عزة وشرّة ومعاسرة فيكون استرضاؤها ادعى إلى النشاط والسعي. وهذا يفعله في الغالب من يتفرغ للهوى ويتصدى له من كل جهة. ومنهم من يعشق المرأة لاتسامها بسمة الشرف وسيادة أو وجاهة. وذلك دأب ذوي الطموح والاستطاعة. ومن هذا الصنف من إذا رأى المرأة امرأة وضيعة تشبه امرأة شريفة عشقها لأجل حصول المشابهة فقط. ويقال لأهل هذا المذهب المشبهية. وهو في النساء اكثر فإن المرأة لا تكاد ترى رجلاً إلا وتقول لعله يشبه بعض الأمراء الغابرين أو الحاضرين أو الآتين ومنهم من يعشق من بها ذلة وانكسار وملاينة. وذلك شأن ذوي الرفق والرقة. ومنهم من يعشق من على طلعتها آثار الحزن والكآبة والفكرة. وهو مذهب ذوي الحنين والطرب. ومنهم من يعشق ذات البشر والطلاقة والأنس. وهو خلق المحزونين المبتئسين. فإن النظر إلى مثل هذه ينفي الهم. ويجلو الكرب والغم. ومنهم من يعشق من بها مرح ونزق وطيش وثرثرة وقهقهة. وهو دأب السفهاء والجهلاء. ومنهم من يعشق المرأة لأدبها وفهمها وحسن كلامها ومحاضرتها وسرعة جوابها. وهو مذهب العلماء والأدباء. ومنهم من يعشق من تكون كثيرة الحليّ والتأنق في الملبوس كثيرة الغنج والتمويه وهو طريقة ذوي السرف والشطط. ومنهم من يعشق الماجنة المتهتكة المستهترة. وهو شأن الفساق الفجار. ومنهم من يعشق الخيتعور الشهوانية المتلعجة الطفسة. وهو خلق من مبلغ منه العُهر كل مبلغ. ومنهم من يعشق اللاّعة الخريدة العفيفة ابتغاء أن يفسدها ثم يتباهى بذلك بين أقرانه. فإذا رضيت له ملها أو أرادها أن تكون على غير تلك الحال وهو عندي شرّ من عاشق المتوهجة. ومنهم من يحب اجتماع هذه الصفات المختلفة كلها في محبوبته بحسب اختلاف الأحوال. هذا في الخُلق فأما في الخَلق فالنحيف يهوى السمينة وبالعكس. والأسمر يحب البيضاء وبالعكس. والطويل يحب القصيرة وبالعكس. والأملط يحب الكثيرة الشعر وبالعكس.
أما النساء فأحب الرجال إليهن الفارس الأبتع. الشجاع الأروع. فأما الغنى والفقر فلا ضابط لهما فإن الغني يتهافت على حب الفقيرة كما يتهافت على حب الغنية. بل البخيل من الأغنياء يؤثر حب الفقيرة طمعاً في أن يرضيها بالقليل من المال. والغالب أيضاً إيثار حب الجيل الغريب للاستطلاع على ما عنده من الغرائب التي تتصور المخيلة وجودها فيه دون غيره. إلا إذا منع مانع جهل بلغته فحٍ يحصل للمخيلة انقباض في تماديها. وكما أن لطف النساء وقلفطتهن تعجب الرجال ولا سيما في الفراش كذلك كان يعجب النساء من الرجال تراتهم وشيْظميتّهم. فلا تكاد امرأة ترى رجلاً على هذه الصفة إلا وتقول في قلبها عند هذا كفايتي وغنائي. وقد لحظت العرب هذا المعنى باشتقاقهم الطول من الطول. غير أن النساء على الأعم بجنين اللذات من كل مجني ويكرعن من مواردها ما ساغ وما أغص فمثلهن كمثل النحلة تجني من الزهر وان يكن على المدمن.
فأما الغيرة فهي خلق طبيعي في كل بشر إذا كان سليم الذوق. فإن الإنسان يغار على متاعه من أن ينتهكه غيره فكيف على حرمته. وما يقال من أن الإفرنج ليس لهم غيرة على نسائهم فليس على إطلاقه. فإن منهم من يقتل زوجته ونفسه معاً إذا علم منها خيانة. نعم إنهم يتساهلون معهن في أمور كثيرة ربما تعدّ عند المشرقيين قيادة. إلا إنها في نفس الأمر وقاية من الخيانة. إذ قد تقرر عندهم أن الرجل إذا حظر امرأته عن الخروج وعن معاشرة الغير أغراها بالضَمْد. بخلاف ما إذا أرضاها بهذه اللذات الخارجية.
ثم أنه لما علم اجتماع المستعسلين أي الفرياق والبنت خلافاً للعادة المألوفة ذاقت أمها من ذلك مرارة الصاب فاستشارت بعض أمرها فقالوا لها لسنا نرضى بمصاهرة هذا الرجل لأنه من الخرجيين. وأنت من أعزّ بيت من السوقيين وهما لا يجتمعان. فقالت لهم ليس هو من جرثومة الخرجيين بل هو دخيل فيهم. قالوا لا فرق في ذلك رائحة الخرج ساطعة منه وقد ملأت خياشيمنا وحذروها منه غاية التحذير. مع أني قد حذرتهم وأمثالهم في الفصل الذي مرّ من هذا الفصول. فلما علمت البنت بذلك نبض فيها نبض الخلاف وقالت ليست وقالت ليست هذه الفروق من مصالح النساء. وإنما هي مصلحة من أتخذها وسيله للمعاش والجاه. والمقصود من الزواج إنما هو التراضي والوفاق بين الرجل والمرأة. وأن أبيتم ذلك فها أنا أنذركم إني لست من السوقيين في شيء. فرأت أمها أن تغيب بها أياماً عن ذلك المحل رجاء أن يبعثها البعد على السلوان. فهاجت ح جميع عواطف الهوى في كل من العاسل والمعسول. وإليه أشار أبو نواس بقوله: دع عنك لومي فإن اللوام أغراء.
فلما رأت الأم أن لا إشارة تمنع البنت من الاشتيارة. ولا جَزْر يكفّها عن الجزر رجعت إلى منزلها واستدعت بالفارياق وقالت له: قد علمت أن السوقيين لا يبغون مصاهرتك. فإن كان عزمك على أن تتزوج ابنتي ينبغي لك أن تتسوق ولو يوماً واحداً. قال لا بأس، فعلى هذا تسوق يوم عقد الزواج وقرت عين كل منها ومن البنت. ثم أحضرت آلات الطرب ليلاً وأديرت الكؤوس وزها مجلس الأنس والسرور. والفارياق مواظب فيه على خدمة إدارة الكأس ومعيد على العازفين الأطراء وقوله آه وأيه واوه. حتى إذا كلت يداه ولسانه ورأى أن عزم الشْرب أن يسهروا الليلة كلها إلى الصباح أنسل من بينهم وصعد إلى السطح لكي يستريح. وكانت الليلة مقمرة من ليالي الصيف. فلما أبطأ عليهم ظنوا أنه تفلت أنه من الإرْبة فأخذوا في التفتيش عليه كما يفتش على امرأة فالك أو فارك. فلما وجدوه وعلموا أن نيته مخالفة لنيتهم أخلوا له ولعروسه حجرة وهموا بالانصراف. فقالت الأم لا أو تنظروا بأعينكم البصيرة. وسبب ذلك أن عادة أهل مصر في الغالب هي أن يتزوج الرجل المرأة من دون أن يعاشرها ويعرف أخلاقها. وإنما ينظر إليها نظرة واحدة بات تناوله مثلاً فنجان قهوة أو كاس شراب بحضرة أمها. فإن أعجبته خطبها من أهلها وإلاّ كف رجله عن زيارتهم. ومنهم من يتزوج ولم يكن رأى امرأته قط. وذلك بأن يبعث إليها أمّه أو عجوزاً من أقاربه ومعارفه أو قسيساً فيصفونها له بمقتضى ذوقهم وخبرتهم. والغالب أن أمّ البنت ترشي القسيس ليجيد صفة بنتها فيرغب الرجل في التزوج بها. ومنهم من يتزوج امرأة قاطنة في بلاد بعيدة فيبعث إلى أحد معارفه في تلك الجهة ليصفها له في كتاب ثم يستخير الله ويرتبق. ومع ذلك فإن عيش هؤلاء المتزوجين على هذا النمط يكون هنيئاً. فأما في بلاد الشام فعادة أهل المدن كعادة أهل مصر وعادة أهل الجبل مغايرة. فإن الرجل هناك يتمكن من رؤية المرأة ومعرفة أخلاقها. هذا ولما كان الفارياق قد تعدّى حدود العادة بمصر في كونه اجتمع بالبنت مراراً عديدة في حضور أمها وفي غيابها. أرادت أمها أن تنفي العار بإظهار علامة البكارة. حتى يشيع خبر براءة البنت في جميع البلاد. فإن أكثر الناس لا شغل لهم إلاّ الكلام. فاجتمعت تلك الزمرة وراء الباب بعد أن جمعوا العروسين. وطفق الواحد منهم ينادي ويقول افتح الباب يا أبا مزلاج. فظن الفارياق أنه يريد الدخول عليهما ليعلمه كيف يكون العمل. ففتح له فقال له ما هذا الباب وإنما أردت باب الفَرج. فرجع إلى عروسه وإذا بآخر يقول لجِ القبَّة يا ولاّج. وآخر ثجّر الطعنة يا بجّاج. وغيره ارو الصدى يا ثجّاج. وآخر أزل الزَغَب يا حلاج وغيره أفرغ السجل يا خلاج - أسرع الوطء يا زلاج- املأ الوطب يا زمّاج- ملل الملمول يا مّعاج- اغطس في اللجة يا غاطس- افقس البيضة يا فاقس- أجلِ المسواك يا وامس- تسوّر السور يا معافس- روّض المهرة يا فارس. ومازالوا به حتى شام أبا عُمَيْر وناول أمها البصيرة. فتهللت منهم الوجوه فرحاً وحبوراً. وصفقت الأيدي استبشاراً وسروراً. ونطقت الألسن بالتبرئة. وختموها بالتهنئة. ثم انصرفوا وكأنهم قد قفلوا من غزوة غانمين. وكادت الأم تطول عن الأرض شبراً لهذا الفتح المبين.

القصيدتان الطيخيّتان

ما كنت أول عاشق بين الورى ... تبع العشيقة من أمام ومن ورا
ورأى البكاء له معينا شافيا ... يوما ويوما أضحك المستعبرا
ويكون مصروع الغرام مزبّبا ... متكسّسا مستقبلا مستدبراً
ومحنبشا ومجّمشاً ومدهفشا ... ومكنّصا ومزنجرا ومعنجرا
ومرنمّا ومغنّيا ومصفّرا ... ومشببا ومطبلا ومزمرا
وفيينة متثائباً متمّطيا ... وفيينة متقاعسا مقعنصرا
وإذا رأى رأيا رشيدا كان في ... إبرامه مترهئا متأخرا
فالعشق عقل العقل عن صيّوره ... حتى يضل عن الصواب ويبطرا
قد كنت أعْجب أن يقولوا شاعر ... ذو جِنَّة وأخال ذلك مفترى
حتى لَقِيتُ صُوَيحْبيّ كليهما ... فإذا هما من طينة قد صُوّرا
خُلِق الجمال لعين صبّ جنّة ... ولقلبه نارا تزيد تسعّرا
لا غرو أن يغدو لحمرة وجه من ... يهوى وقد حمل الغرام محمّرا
يا ليت يغني المرء يوما واحدا ... عنهن من شيء يباع ويشترى
ليت الجمال لهن مثل الملح في ... قدر الطعام مهوَّعا إن كثّرا
بل ليتهن خلقن اقبح ما يرى ... كيلا نهيم تحيّرا وتخيّرا
ليت الكواعب كن هُضْلا حبذا ... الطرطبّ مع لا يا كبادي منظرا
يا ليت ذي الهيفاء درْدحة وذي ... الدهساء فَلْحَسه فيهنئنا الكرى
ليت العيون النجل ضيقة وما ... في الثغر من در نظيم صُفَّرا
يا ليت كانت كلذ ساق فعْمة ... عود الشُكاعي بل أدق وأظمرا
يا ليت لم يَصلُت جبين فوقه ... شعر كلَيْل كل غِرٍ غررا
يا ليت ما في الجيد من عَنَط بدا ... وقصا لأعيننا وشيّاً منكرا
والحسن أن القبح أحسن ملمحا ... إذ ليس يبكي العين ما منه يُرى
فلأيّ داعٍ كان شغل عقولنا ... وقلوبنا بهوى الوثائر أكثرا
ولمَ اختُصصن بكل علق مضنّة ... وبكل حلي فاخر دون الورى
وبمَ ارتفعن على الرجال تطاولاً ... ولهنّ تحتُ تقدما وتأخرا
والى مَ تصطبر الفحول وقد طغت ... أفعالهنَّ تحيّر المتصبرا
منا خرجن وعقلنا يخرجن إذ ... يدخلن أو يخرجن سفّه من مرى
ولأي شيء لم يكن قود على ... من لحظها قلب المتيم قد فرى
ولأي شيء حل رشف الريق من ... ثغر الرشوف وكان ذلك مسكرا
وعلى مَ تعتز الشنِاط على شج ... يمسي ويصبح بالغرام محسرا
سلها هل التنور فار كما انبغى ... في كل شهر أم تأخر اشهرا
أين المعالي والمكارم أين من ... فخر الأنام بعزّه وتجبرا
يقتاده اسم الخود أن ذكرت له ... طوعاً وكرها وهو يهزم عسكرا
وإذا تجشأ ساعة في وجهه ... من أي سمّ قال أنشي عنبرا
ولربما عشق الكبير فجُنّ من ... ريح من الحسناء تفعم منخرا
ولو ان ذا القرنين جاري كيدها ... لرأى إلى قرنيه قرنا آخرا
لولا النساء لما رأيت مخطّأ ... ومسفّها ومفسقا ومفجّرا
ومفلسّا ومجبَّها ومُعنّنا ... ومكشخنا ومجرّسا ومعزّرا
ومتيما ومهيما ومسهما ... ومدّمما ومذّمما ومشّهرا
ولما تناثرت الجماجم في الوغى ... تحت السنابك وهي توري المغفرا
ولما عفت دول بهنّ لهَت فبيّتها ... الدمار فأصبحت تحت الثرى
أمْلت عليّ حوادث الأمم التي ... غبرت فقلت مقال من قد حرّرا
يا رب قد فتن النساء عقولنا ... فامسح محاسنهن قبحا يزدرى
أو فاجعلن غشاوة تغشى على ... أبصارنا أوْ لا فأعم المُبصِرا
أو فانصُنا أو فابصُنا أو فالصِنا ... أو فاخصِنا طبعا بصاء بالحرى

الثانية

لمن أشكو وقلبي الي ... وم من أكبر أعدائي
لمن أشكو وعقلي الي ... وم معقول بأهوائي
وطرفي مُبسل لبّي ... ولبي جالب دائي
ولوّامي من كانوا ... إذا غبت أودّائي
ولا وأي من الألو ... عن الألى من اللائي
وقد أفسد آرابي ... جميعا بعضها اللائي
رأى نار الهوى تذكو ... لإحراق وإصلاء
فما بالي بإصلائي ... تلظيها وأسلائي
يقول الحتف من لمج ... وكوني ميت أحياء
أحبّ إليّ من عيشي ... يوماً عيش تيتاء
حياة الصَر تكدير ... وصفوتها بأصفاء
وما ينجع نصح فيه ... لو كان بأتلاء
فهل من حكَم ما بيننا ... يقروا بإفتاء
عواديه ودعواه ... بإصباحي وإمسائي
وثورته ورثأته ... لأخزاي وأختائي
طغا خطبي فما لي الي ... وم من آس وأسوائي
فأسواي لا ينفك ... من لهج بأسواء
فلا يشغلكم هجوي ... وتقريظي وإطرائي
فراسي اليوم إمرة ... لداعي نكس أهوائي
فلا مطمع في رشد ... خليع رقّ أغوائي
إذا وقصت به عنقي ... فلا تشكوا لأذمائي
وأن شجت به رأسي ... فلا تبكوا لإدمائي
وأن هثمت به سنّي ... فلا تعموا عن المائي
وأن بُخفت به عيني ... فلا تكروا لإعمائي
جرى المقدور من قدم ... بتضليلي وأشقائي
فلو شاء لأبقاني ... معافيً أي إبقاء
ولو شاء لأعماني ... عن لقاء سوقاء
دعوا ذا الوجد يشقيني ... ويمنيني بإشفاء
وهذا العشق يضنيني ... ولا تعنوا بإشفائي
فذا عظمي وذا جلدي ... وذا شأني وإنشائي
فما يدخل ما بيني ... وبين هوى بأحشائي
سوى فظّ فضولي ... زنيمٍ شر مشاء
إذا أسمعكم عتْباً ... فعدوني من الشاء
ولا تبقوا على طوقي ... وجلبابي وأعضائي
فإن الفدْم مَن يسمع ... ذا عذْل بإغضاء
وإن الحر من يُسمع ... عَتْباً تِلو إرضاء

الأغاني

يا بدر مالك ثان ... في حسنك الفتّان
فأرحم فتى ولهان ... مبلبل البال
عذّب بما ترضاه ... إلا الجفا أخشاه
قد طال ما أصلاه ... وأنت لي سالي
يا يوسف الحسن ... حوشيت من سجن
هددت بالحزن ... أركان آمالي
من ذا الذي أغراك ... بصد من يهواك
الطرف منه باك ... وجسمه بالي
حتام ذا الهجران ... والصد والحرمان
حسن بلا إحسان ... كالريّ بالآل
محبك الواجد ... منك الرضى فاقد
يا ليتني واجد ... اتهام عذّالي
أضناني السهد ... وعزني الوجد
ما القصد ما القصد ... سواك يا غالي
يا فاتن العشاق ... باللحظ والأحداق
تبارك الخلاق ... لحسنك الكالي
أفديك بالمال ... والروح واللآلي
رضاك أشهى لي ... من طول آجالي

غيره

ما ترى عيني مثيلك ... يا رشا فأرحم قتيلك
لم يرم إلا سلامك ... ثم أن شئت جميلك
كل ما فيك مليح ... كبدي منه جريح
بليت تفدي مقامك ... والهوى فيها صحيح
أنت لي يا بدر سالي ... وأنا للهجر صالي
من يذق يوماً غرامك ... لم يذق طعم الليالي
يا رشا صد دلالا ... وجوابي منه لا لا
أسمع العبد كلامك ... وراقب المولى تعالى
فيك تعبيدي وذليّ ... وهيامي أصل ضلي
ليت من غيري رامك ... يبتلي بالهجر مثلي
ضقت بالهجران ذَرْعا ... ولشوقي كان أدْعى
لم أزل أرعى ذمامك ... وذمامي لست ترعى
أن يكن وصل فعِدْني ... فيك قد أحسنت ظني
أسأل الله دوامك ... فهو لي أشهى تمني
يا مليك الحسن طرّاً ... يعرض المملوك أمرا
أدْعُه يوماً غلامك ... أن له أجريت ذكرا
طال بالباب مثولي ... والتفات منك سولي
من رأى يوماً قوامك ... راح صبّا ذا نحول
إنما بدري غزال ... فأتني منه الدلال
يا عذولي دع ملامك ... إنما العشق حلال

غيره

اللقا طبيبي يا من لي سبيت ... والهوى نصيبي من يوم انتشيت
أن في شحوبي شكوى لو رثيت ... يا صنو القضيب ما هذا الجفا
يوسف الجمال ذا الهوى صعب ... تهت بالدلال شانك العجب
أن تسل عن حالي ينفع العتب ... أو بقيت سالي لم يفد دوا
من حمل الصدود صرفت في ذا الحال ... من مطل الوعود صار جسمي بال
أدمعي شهودي واشتغال البال ... ليس من محيد عن حكم الهوى
قد رثى لي اللاحي لما عادوني ... وعلا نواحي مما آدني
وجهك الصباحي ضلاّ زادني ... يا زين الملاح أنعم باللقا
مُرْ بما تشاه تلقني مطيعاً ... تلقني فداه جهد المستطيع
ولعي أذكاه شكلك البديع ... جسدي أضناه منك قول لا
من يجد كوجدي يدرِ قصتي ... ليس غير الوعد منك حصتي
بعض هذا الصد أصل غصتي ... أنا فيك وحدي مبتلي أنا

غيره

يا فاتر الجفون ما بدأ لك ... حتى جفوت عاشقاً جمالك
ويا قضيب البان ما أمالك ... عن مغرم مؤمل وصالك
عذب بما ترضاه يا غزالي ... إلا الجفا شماتة العذال
أنعم بوصل منك يوماً بالي ... أنعم طول العمر ربي بالك
علامَ تجفوني وما لي ذنب ... وما لقلبي عن هواك قلب
بحق من أولاك ما تحبّ ... دعني أقبل مرة أذيالك
لم يبق لي على الصدود طَوْق ... وعال صبري عنك هذا الشوق
وليس لي إلى سواك توق ... وهل لعيني أن ترى أمثالك
أحرمت طرفي في الليالي غمضا ... وقلت أرضى علَّه أن يرضى
يا هل ترى صدك عني فرضا ... فمن بقتلي يا رشا أفتى لك
ناشدتك الله أنلني سولي ... وكن رفيقاً بي يا مأمولي
يكفي الذي تراه من نحولي ... يعيذ رب العرش منه حالك

غيره

يا بدر قل لي هذا الهجران ... تغوي إليه أم أمنيّه
جُدْلي بوصل يا غصن البان ... توجر عليه أو في النيّه
ما القصد إلا يوماً مرآك ... فالصبُّ صار في بليه
لا تخش عذلاً ممن أغراك ... فهو أمار بالأذّيه
نعمت بالاً أنعم بالي ... يا ذا الجفون الهنديه
وطبت حالا طيّب حالي ... فلي شجون في الطويه
فقت الأناما بما حويت ... من الخصال الملكيه
ومنك راما عبد سبيت ... بهذا الدلال قرب الطيه
كم ذا المطال ولا وصال ... ليست ترام ذي السجيه
هذي الفعال يا ربّ الخال ... وذا الغرام لي منيّه
أنت المراد دون الأنام ... لا ندّ لك في البريه
فما سعاد بين الوسام ... أنت مَلَك أو حوريه

غيره

إلى هنا يا بدر لي أنت المنى ... كلُّ جنى منك الرضى إلاّ أنا
يا فاتني بالدّل لما تخطر ... وشاجني إذ جزت شزر أتنظر
قد شاقني منك المحيا الأزهر ... واستاقني وجدي إلى حدّ المنّا
بي كلّما ألقاك عني معرضا ... وجد نما لكن جسمي أمرضا
يا ذا اللمى حتام لا تبدي الرضى ... صل مغرماً ألبسته هذا الضنا
سبحان من آتاك ذا الحسن الفريد ... كم قد فتن صبّا به أمسى عميد
أنت الحسن والشوق في قلبي يزيد ... أن الشجن للعظم مني أوهنا
كُلّفت في ذا العشق تبريح الجوى ... حتى تفي لكن هيهات الوفا
هل منصفي مما به يقضي الهوى ... أو مسعفي خدن على نيل المنى
يا بدر لا تسمع مقال العاذل ... وأرع الولا ناهيك وجدي قاتلي
فقت الملا حسناً ففق بالنائل ... جُد بالطلا من فيك يا حلو الجنى

غيره

إذا أمر الهوى رابك ... فلا تفتح له بابك
ولا تشغل به دابك ... يسمك الحزن والهما
أتيتُ العشق من بابه ... وعللت بأكوابه
فما قد ذقت من صابه ... دعاني لم أذق طُعما
هو العشق له مبدا ... ولا تلقى له حدّا
يذيق العاشق السهدا ... ويبلي الجلد والعظما
أيا من قد كوى قلبي ... بهذا الدل والعجب
إذا لم تستمع عتبي ... فمن أشكو له السقما
تناهى بي الذي أجد ... من الشوق الذي يَقِد
فدتك الروح والجسد ... فكن يوماً معي سلما
لقد أفرطتَ في هجري ... وملكت الهوى أمري
فلا والله ما أدري ... أسحراً كان أم حلما
عسى أو علّ أن تشفى ... عليلاً منك يستشفى
ونيران الهوى تطفى ... فقل تطفا وخذ مهما
غدا مضناك يا حبّ ... له صبر ولا قلب
ودمع فيك منصب ... لأن يُسقى بفيك ألما

غيره

طيري لا غير لا أسلو عنه ساعة ... يا أهل الخير هلاّ رعتم من راعه
دمعي سكْب ونار شوقي لا تخبو ... ولي قلب للهوى يبدي الطاعه
أنا الهائم عن حبِّ السوى صائم ... ليلي قائم لا أغفى فيه ساعه
أشكو الوجدا ولم تزد إلا صداً ... فأرحم عبداً قد نوَّعت أوجاعه
مالي صبر وكيف صبري يا بدر ... وذا الهجر أشقى نفسي الطمّاعه
طغا الهجران وما يشفي الصب الولهان ... مثل السلوان لكن نفسي نزّاعه
أراني البين أنواع الضنا والحين ... وعشق الزين مني فوق الإسطاعه
دوام الصد لم يترك للمضنى جد ... ولين القد ينشي فيه أطماعه

غيره

لو لم تدم بلوايا ... لم تستمع شكوايا
ولا درى مبكايا ... من في الهوى يلحاني
أكثرت من صدودي ... يا مخلفا وعودي
لم ترعَ لي عهودي ... ولم تسل عن شأني
أعرضت عني كبرا ... وكان وصلي أحرى
لقد عدمت الصبرا ... من فرط ما دهاني
حملتني أثقالاً ... وطبت عني بالا
قل لي نعم أو لا لا ... فلمطل قد أضناني
يا مفرد الجمال ... يا بدر أحسن حالي
شمتّ بي عذّالي ... أما كفى أشجاني
سبحان من قد أبدع ... هذا المحيا الأروع
والحسن طرا أودع ... في طرفك الفتّان
أن الهوى هوان ... تضنى به الأبدان
ما أختاره إنسان ... إلا وكان العاني
مولاي يا مولانا ... يا منتهى منايا
لا تتخذ سوايا ... وتسلني بثاني
 
أعلى