أحمد بن محمد بن علي بن إبراهيم الأنصاري الشرواني - نفحة اليمن فيما يزول بذكره الشجن

الباب الأول في
الحكايات

حكاية: قيل إن عبد الملك بن مروان خطب يوماً بالكوفة فقام إليه رجل من آل سمعان فقال مهلاً يا أمير المؤمنين اقض لصاحبي هذا بحقه ثم اخطب فقال وما ذاك فقال إن الناس قالوا له ما يخلص ظلامتك من عبد الملك إلا فلان فجئت به إليك لأنظر عدلك الذي كنت تعدنا به قبل أن تتولى هذه المظالم فطال بينه وبينه الكلام فقال له الرجل يا أمير المؤمنين إنكم تأمرون ولا تأتمرون وتنهون ولا تنتهون وتعظون ولا تتعظون أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بألسنتكم فإن قلتم أطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا فكيف ينصح غيره من غش نفسه، وإن قلتم خذوا الحكمة حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فعلى ما قلدناكم أزمة أمورنا وحكّمناكم في دمائنا وأموالنا أو ما تعلمون أن منا من هو أعرف منكم بصنوف اللغات أوبلغ في العظات فإن كانت الإمامة قد عجزتم عن إقامة العدل فيها فخلوا سبيلها وأطلقوا عقالها يبتدرها أهلها الذين قاتلتموهم في البلاد وشتتّم شملهم بكل واد أما والله لئن بقيت في أيديكم إلى بلوغ الغاية واستيفاء المدة لتضمحل حقوق الله وحقوق العباد فقال له كيف ذلك فقال لأن من كلمكم في حقه زجر ومن سكت عن حقه قهر فلا قوله مسموع ولا ظلمه مرفوع ولا من جار عليه مردوع وبينك وبين رعيتك مقام تذوب فيه الجبال حيث ملكك هناك خامل وعزل زائل وناصرك خاذل والحاكم عليك عادل فأكب عبد الملك على وجهه يبكي ثم قال له فما حاجتك فقال عاملك بالسماوة ظلمني وليله لهو ونهاره لغو ونظره زهو فكتب إليه بإعطائه ظلامته ثم عزله.

حكاية: عن بعض الأدباء قال حضر رسول ملك الروم عند المتوكل فاجتمعت به فقال لما أحضر الشراب ما لكم معاشر المسلمين قد حرم عليكم في كتابكم الخمر ولحم الخنزير فعملتم بأحدهما دون الآخر فقلت له أما أنا فلا أشرب الخمر فسل من يشربها فقال إن شئت أخبرتك قلت له قل فقال لما حرم عليكم لحم الخنزير وجدتم بدله ما هو خير منه لحوم الطيور أما الخمر فلم تجدوا ما يقاربه فلم تنتهوا عنه قال فخجلت منه ولم أدر ما أقول.

حكاية: عن محمد بن ابراهيم الموصلي قال أجزنا في بعض أسفارنا لحى من العرب فإذا رجل منهم قبيح الوجه في الغابة أحول ذو لحية طويلة بيضاء يضرب زوجة له وهي
جارية حسناء كاعب كأنها البدر فقمنا إليه نمنعه عن ضربها فقالت دعوه إنه أسدى إلى الله حسنة أذنبت أنا ذنباً فجعلني الله ثوابه وجعله عقابي.

حكاية: قيل إن كريم الملك كان من أهل الظرف والأدب فعبر يوماً تحت جوسق بستان فرأى جارية ذات وجه زاهر وكمال باهر لا يستطيع احد وصفها فلما نظر إليها ذهل عقله وطار لبه فعالد إلى منزله أورسل إليها هدية نفيسة مع عجوز كانت تخدمه وكانت الجارية قارئة فكتب إليها رقعة يعرض عليها الزيارة في جوسقها فلما رات الرقعة قبلت الهدية ثم أرسلت إليه مع العجوز عنبراً على زر ذهب وربطت ذلك في المنديل وقالت هذا جواب رقعته فلما رأى كريم الملك ذلك لم يفهم معناه وتحير في أمره وكانت له ابنة صغيرة السن فراته متحيراً في ذلك فقالت يا أبت أنا فهمت معناه قال وما هو لله درك فأنشدت تقول:
أهدت لك العنبر في جوفه ... زرّ من التبر خفيّ اللحام
فالزر والعنبر معناهما ... زر هكذا مختفياً في الظلام
قال الراوي فعجب من فصاحتها وفطانتها.

حكاية: قيل إن الرشيد حصل له في بعض الليالي قلق فوقع في نفسه أن يفتح حجر الجواري ويتنزه فيهن ففتح مقصورة فوقع نظره على جارية ووجدها نائمة مغطاة بشعرها فأيقظها فلما علمت به فتحت عينها فرأت الخليفة فقالت يا أمين الله ما هذا الخبر فأجابها.
هو ضيف طارق في أرضكم ... هل تضيفوه إلى وقت السحر
فأجابت
بسرور سيدي أخدمه ... إن رضي بي وبسمعي والبصر
فأجابت
فلما أصبح قال من بالباب من الشعراء قيل أبو نواس فقال علي به فدخل فقال أجز: يا أمين الله ما هذا الخبر، فأطرق ساعة ورفع رأسه وأنشد يقول
طال ليلي حين وافا لي السهر ... فتفكرت فأحسنت الفكر
قمت أمشي في مجالي ساعة ... ثم أخرى في مقاصير الحجر
وإذا وجه جميل حسن ... زانه الرحمن من بين البشر
فلمست الرجل منها موقظاً ... فرنت نحوي ومدت للبصر
وأشارت وهي قائلة ... يا أمين الله ما هذا الخبر
قلت ضيف طارق في أرضكم ... هل تضيفوه إلى وقت السحر
فأجابت بسرور سيدي ... أخدم الضيف بسمعي والبصر
قال فنظر إليه الخليفة وقال والله كنت معنا قال لا وحياتك يا أمير المؤمنين وإنما الشعر الذي ألجأني إلى ذلك فتعجب منه وأحسن صلته.

حكاية: عن بعض الأدباء أنه قال كان خالد الكاتب مغرماً بالملاح وكان قد توسوس في آخر عمره فرأيته يخاطب غلاماً مليحاً ويقول له وهو راكب على قصبة ما آن أن يرحمني قلبك فقال له الغلام لا فقال خالد حتى متى يلعب بي حبك فقال الغلام أبداً فقال خالد وكم أقاسي فيك جهد البلاء فقال الغلام حتى الموت فقال خالد لا أعدم الله فؤادي الهوى فقال الغلام آمين فقال خالد ولا أبلى به قلبك فقال الغلام فعل الله ذلك فقال خالد إن كان ربي قد قضى بالهوى فقال الغلام ما عليّ إباء فقال خالد وشدة الحب فما ذنبك فقال الغلام سل نفسك قال فقلت للغلام أما تستحي من هذا الرجل مع جلالة قدره فقال الغلام كل من يلقاه مثلي يقول له هكذا.

حكاية: قيل إن بعض البخلاء استأذن عليه ضيف وبين يديه خبز وقدح فيه عسل فرفع الخبز وأراد أن يرفع العسل وظن البخيل أن ضيفه لا يأكل العسل بلا خبز فقال ترى أن تأكل عسلاً بلا خبز قال نعم وجعل يلعق لعقة بعد لعقة فقال له البخيل والله يا أخي إنه يحرق القلب فقال صدقت ولكن قلبك.

حكاية: أخبر أبو بكر ابن الخاضبة أنه كان ليلة من الليالي قاعداً ينسخ شيئاً من الحديث بعد أن مضى وهن من الليل قال وكنت ضيق اليد فخرجت فارة كبيرة وجعلت تعدو في البيت وإذا بعد ساعة خرجت أخرى وجعلا يلعبان بين يدي ويتقافزان إلى أن دنتا من ضوء السراج وتقدمت إحديهما وكانت بين يدي طاسة فأكببتها عليها فجاءت صاحبتها فشمت الطاسة وجعلت تدور حوالي الطاسة وتضرب بنفسها عليها وأنا ساكت أنظر مشتغل النسخ فدخلت سربها وإذا بعد ساعة خرجت وفي فيها دينار صحيح وتركته بين يدي فنظرت إليها وسكت واشتغلت بالنسخ وقعدت ساعة بين يدي تنظر إلي فرجعت وجاءت بدينار آخر وقعدت ساعة أخرى وأنا ساكت أنظر وأنسخ وكانت تمضي وتجيء إلى أن
جاءت بأربعة دنانير أو خمسة الشك مني وقعدت زماناً طويلاً أطول من كل نوبة ورجعت ودخلت سربها وخرجت وإذا في فيها جليدة كانت فيها الدنانير وتركتها فوق الدنانير فعرفت أنه ما بقي معها شيء فرفعت الطاسة فقفزتا ودخلتا البيت وأخذت الدنانير وأنفقتها في مهم وكان لي في كل دينار دينار وربع.

حكاية: عن أبي الحسن البغدادي الأديب أنه قال كان المتنبي جالساً بواسط وعنده ولده المحسد قائماً وجماعة يقرؤن فورد إليه بعض أناس فقال أريد أن تجيز لنا هذا البيت:
زارنا في الظلام يطلب ستراً ... فافتضحنا بنوره في الظلام
فرفع رأسه وقال يا محسد قد جاءك بالشمال فأته باليمين فقال:
فالتجأنا إلى حنادس شعر ... سترتنا عن أعين اللوام
قال الرئيس أبو الجوائز معنى قوله لولده جاءك بالشمال فأته باليمين أن اليسرى لا يتم بها عمل وباليمنى تتم الأعمال فأراد أن المعنى يحتمل زيادة فأوردها وقد أجاد المتنبي في الإشارة وأحسن ولده في الأخذ.

حكاية: أخبر السقطي قال دخلت المقابر فرأيت بهلول المجنون قد أدلى رجليه في قبر محفور وهو يلعب بالتراب فقلت ما تصنع ههنا قال أنا عند قوم لا يؤذون جيرانهم وإن غبت عنهم لا يغتابوني قلت أجائع أنت قال لا والله قلت له إن الخبز قد غلا فقال لا أبالي علينا أن نعبده كما أمرنا وعليه أن يرزقنا كما وعدنا.

حكاية: قيل إن أنوشروان وضع الموائد للناس في يوم نيروز وجلس ودخل وجوه مملكته الإيوان فلما فرغوا من الطعام جاؤا بالشراب وأحضرت الفواكه والمشموم في أوان من الذهب والفضة فلما رفعت آلة المجلس أخذ بعض من حضر جام ذهب وزنه ألف مثقال فخباه تحت ثيابه وأنوشيروان يراه فلما فقده الساقي قال بصوت عال لا يخرجن أحد حتى يفتش فقال كسرى ولم فأخبره بالقصة فقال فقد أخذه من لا يرده ورآه من لا ينم عليه فلا يفتش أحد فأخذه الرجل ومضى فكسره وصاغ منه منطقة وحلية لسيفه وجدد له كسوة فاخرة فلما كان في مثل جلوس الملك دخل ذلك الرجل بتلك الحلية فدعاه كسرى وقال له هذا من ذاك فقبل الأرض وقال نعم أصلحك الله تعالى.

حكاية: قيل لما هرب موسى بن عمران عليه السلام من فرعون وبلغ أرض مدين أخذته
الحمى وقد أصابه الجوع بعد ذلك فشكى إلى ربه جل شأنه فقال يا رب أنا الغريب وأنا المريض وأنا الفقير فأوحى الله تعالى إليه أما تعرف من الغريب ومن المريض ومن الفقير قال لا قال الغريب الذي ليس له مثلي حبيب والمريض الذي ليس له مثلي طبيب والفقير من ليس له مثلي وكيل.

حكاية: أخبر ابن داب عن رياح بن حبيب العامري أنه سأله عن ليلى والمجنون فقال كانت ليلى من بني الجريش وهي بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بين الجريش وكانت من أجمل النساء وأحسنهن جسماً وعقلاً وأفضلهن أدباً وأملحهن شكلاً وكان المجنون كلفاً بمحادثة النساء صباً بهن فبلغه خبر ليلى ونعتت له فصبا إليها وعزم على زيارتها فتأهب لذلك فارتحل إليها وأتاها وسلم عليها فردت عليه السلام وتخفت في المسئلة وجلس إليها فحادثته وحادثها وكل واحد منهما مقبل على صاحبه معجب به فلم يزالا كذلك حتى أمسيا فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلة شوقاً إليها حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من الليلة الأولى واجتهد أن يهجع فلم يقدر على ذلك فأنشأ يقول شعر:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
لقد نبتت في القلب منك مودة ... كما نبتت في الراحتين الأصابع

حكاية: نقل أن الرشيد كانت عنده جارية يحبها محبة شديدة وكانت سوداء واسمها خالصة جالسة عنده وعليها من الجواهر والدرر ما شاء الله تعالى وكان لا يفارقها ليلاً ونهاراً فدخل عليه أبو نواس ومدحه بأبيات بليغة فلم يلتفت إليه وبقي مشغولاً بالجارية فحصل لأبي نواس غبن في نفسه فخرج وكتب على باب الرشيد:
لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع عقد على خالصة
فقرأه بعض حاشية الملك ثم دخل وأخبره بذلك فقال علي بأبي نواس فلما دخل عليه من الباب محا تجويف العين من الموضعين من لفظ ضاع وأبقى أولهما على صورة الهمزة ثم أقبل على الملك فقال له ما كتبت على الباب قال كتبت:
لقد ضاء شعري على بابكم ... كما ضاء عقد على خالصة
فأعجب الرشيد ذلك وأجازه بألف درهم وقال بعض من حضر هذا شعر قلعت عيناه فأبصر.

حكاية: قيل إن الرشيد حلف أن يدخل على جارية له أياماً وكان يحبها فمضت الأيام ولم تسترضه فقال شعر:
صد عني أذراني مفتتن ... وأطال الصبر لما أن عطن
كان مملوكي فأضحى مالكي ... إن هذا من أعاجيب الزمن
ثم أحضر أبا العتاهية وقال له أجزها فقال:
عزة الحب أرته ذلتي ... في هواه وله وجه حسن
فلهذا صرت مملوكاً له ... ولهذا شاع ما بي وعلن

حكاية: قيل إن امرؤ القيس أودع السموأل بن عاديا قبل موته دروعاً وسلاجاً فأرسل ملك كندة يطلب الدروع والسلاح المودعة عنده فقال السموأل لا أدفعه إلا لمستحقه وأبى أن يدفع إليه شيئاً منها فعاوده فأبى وقال لا أعذر بذمتي ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء الواجب علي فقصده ذلك الملك بعسكره فدخل السموأل في حصنه وامتنع به فحاصره ذلك الملك وكان ولد السموأل خارج الحصن فظفر به ذلك الملك فأخذه أسيراً ثم طاف به حول الحصن وصاح بالسموأل فلما أشرف عليه من أعلا الحصن قال له إن ولدك قد أسرته وهاهو معي فإن سلمت إلي الدروع والسلاح التي لامرأ القيس عندك رحلت عنك وسلمت إليك ولدك وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر فاختر أيهما شئت فقال له السموأل ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فاصنع ماشئت فذبح ولده وهو ينظر ثم لما أن عجز عن الحصن رحل خائباً واحتسب السموأل ذبح ولده وصبر محافظة على وفائه فلما جاء الموسم وحضرت ورثة امرؤ القيس سلم إليهم الدروع والسلاح ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحب إليه من حياة ولده وبقائه فصارت الأمثال بالوفاء تضرب بالسموأل وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكروا السموأل في الأول.

حكاية: عن الأصمعي قال دخلت البادية وإذا أنا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وإلى جانبها جرو ذئب فقالت أتدري ما هذا فقلت لا قالت هذا جرو ذئب أخذناه صغيراً وأدخلناه بيتنا وربيناه فلما كبر فعل بشاتي ما ترى وأنشدت تقول شعر:
قتلت شويهتي وفجعت قومي ... وأنت لشاتنا ابن ربيب
غذيت بدرها وغدرت فيها ... فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء ... فلا أدب يفيد ولا أديب
وقريب من هذا قول القائل:
من يصنع المعروف في غير أهله يلاقي كما لاقى مجير أم عامر وعنه أيضاً قال كنت عند الرشيد إذ دخل علينا رجل ومعه جارية للبيع فتأملها الرشيد ثم قال خذ بيد جاريتك فلولا كلف في وجهها لاشتريناها منك فلما بلغ الستر قالت يا أمير المؤمنين ذرني أنشدك بيتين قد حضراني فردها فأنشأت تقول شعر:
ما سلم الظبي على حسنه ... كلا ولا البدر الذي يوصف
فالظبي فيه خنس بيّن ... والبدر فيه كلف يعرف
فأعجبته بلاغتها فاشتراها وقرب منزلتها وكانت أعز وصائفة عنده.
حكاية: قيل إن الهيثم بن الربيع كان فصيحاً جباناً كذاباً وكان له سيف يسمى لعاب المنية ليس بينه وبين الخشب فرق قال ظهر لي ظبي فرميته فراغ عن سهمي فعارضه السهم فعارضه السهم فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه وحدث جار له قال دخل إلى بيته كلب في بعض الليالي فظنه لصاً فانتضى سيفه ووقف في وسط الدار وقال أيها المغتر بنا والمجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك أن ادع الله لك قيساً لا تقم لها وقيس تملأ والله لك الفضا خيلا ورجالاً فخرج الكلب فقال الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً.

حكاية: عن مخارق المغنى قال تطفلت تطفيلة قامت على أمير المؤمنين المعتصم بمائة ألف درهم فقيل له كيف ذاك قال شربت مع المعتصم ليلة إلى الصبح فلما أصبحنا قلت له يا سيدي إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فأخرج فانتسم في الرصافة إلى وقت انتباه أمير المؤمنين قال نعم فأمر البوابين فتركوني قال فجعلت أمشي في الرصافة فبينما أنا أمشي إذ نظرت إلي جارية كأن الشمس تطلع من وجهها فتبعتها ومعها زنبيل فوقفت على صاحب فاكهة فاشترت منه سفرجلة بدرهم ورمانة بدرهم وكمثراة بدرهم فتبعتها فالتفتت فرأتني خلفها أتبعها فقالت لي ارجع يا ابن الفاعلة لا يراك أحد فتقتل قال ثم التفتت
فنظرت إلي وشتمتني ضعف ما شتمتني في المرة الأولى ثم جاءت إلى باب كبير فدخلت فيه وجلست بجنب الباب وذهب عقلي ونزلت الشمس وكان يوماً حاراً فلم ألبث أن جاء فتيان على حمارين فأذن لهما صاحب المنزل فدخلا ودخلت معهما فظن رب المنزل أني جئت مع صديقيه وظن الرجلان أن صاحب المنزل قد دعاني وجيء بالطعام فأكلوا وغسلوا أيديهم ثم قال لهم رب المنزل هل لكم في فلانة قالوا إن تفضلت فخرجت تلك الجارية بعينها وقدامها وصيفة تحمل عوداً لها فوضعته في حجرها فغنت فطربوا وشربوا وهي تلاحظني وتشك فيّ فقالوا لمن هذا يا ستنا فقالت لسيدي مخارق قال فلم أصبر (فقلت) لها يا جارية هات العود فناولتنيه فغنيت الصوت الذي غنته أولاً فقاموا وقبلوا رأسي قال بعض الأدباء وكان أحسن الناس صوتاً ثم غنيت الثاني والثالث فكادت عقولهم تذهب فقالوا من أنت يا سيدنا قلت أنا مخارق قالوا فما سبب مجيئك فقلت طفيلي أصلحكم الله تعالى وأخبرتهم خبري فقال صاحب البيت لصديقيه قد تعلمان أني أُعطيت بها ثلاثين ألف درهم فأبيت أن أبيعها وأردت الزيادة وقد نقصت من ثمنها عشرة آلاف درهم فقال الرجلان علينا عشرون ألفاً وملّكوني الجارية وقعد المعتصم فطلبني في الرصافة فلم أصب وتغيظ عليّ وقعدت عندهم إلى العصر وخرجت بها فكلما مررت بموضع شتمتني فيه قلت لها يا مولاتي أعيدي شتمك عليّ فتأبى وأخذت بيدها حتى جئت إلى باب أمير المؤمنين ويدي في يديها فلما رآني المعتصم سبني فقلت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فحدثته فضحك وقال لي أفأكافهم عنك يا مخارق قلت نعم فأمر لكل رجل منهم بثلاثين ألف درهم وأمر لي بعشرة آلاف درهم.

حكاية: كان بعض العباد مقيماً في بعض الجبال وكان يأتيه رزقه كل يوم من حيث لا يحتسب رغيف يسد به جوعه ويشد به صلبه فلم يأته في يوم من الأيام ذلك الرغيف فطوى ليلته ذلك فلما أصبح زاد جوعه وكان في أسفل الجبل قرية سكانها نصارى فنزل العابد من الجبل يلتمس قوتاً من القرية فوقف على باب وطلب طعاماً من أهله يسد به جوعه فدفع إليه رب المنزل ثلاثة أرغفة فأخذها وتوجه قاصد الجبل وكان لصاحب البيت كلب فاتبع العابد وجعل ينبح عليه فألقى إليه رغيفاً فأكل الكلب ذلك الرغيف ثم أتبع العابد وأخذ في النباح حتى كاد أن يعقره فألقى إليه رغيفاً آخر فتشاغل به وذهب العابد إلى أن
توسط الجبل فأكل الكلب الرغيف الآخر واقتفى أثر العابد فألقى إليه الرغيف الثالث فأكله ثم أتبع العابد وأخذ في النباح فالتفت العابد إليه وقال يا عديم الحياء أخذت من بيت صاحبك ثلاثة أرغفة وقد أطعمتك إياها فما تريد مني فأنطق الله الكلب فقال ما عديم الحياء إلا أنت اعلم أنني مقيم بباب هذا النصراني منذ سنين وربما أطوي اليومين والثلاثة بلا شيء ولم تحدثني نفسي بالذهاب عن بابه إلى باب غيره وأنت قد انقطع قوتك يوماً واحداً فلم تصبر وتوجهت من بابه إلى باب نصراني تطلب منه قوتاً فقل لي أينا أقل حياء فخجل العابد وندم على فعله ولم يعد إلى ذلك.

حكاية: أخبرني بعض المحبين أن رجلاً سنياً أرسل إلى رجلٍ شيعي شيئاً من الحنطة وكانت عتيقة فردها عليه ثم أرسل إليه عوضها جديدة ولكن فيها تراب فكتب إليه قبولها هذا.
بعثت لنا بدال البربرا ... رجاءً للجزيل من الثواب رفضناه عتيقاً وارتضينا ... به إذ جاء وهو أبو تراب

حكاية: قال الأصمعي حججت مرة فبينا أنا أسير في جماعة من العرب إذ سمعت من هودج قريب مني قائلة تقول شعر:
وحياة حاجته إليّ وفقره ... فلابد لن نعيمه بعذابه
ولأمنعنّ جفونه طيب الكرى ... ولأمزجنّ دموعه بشرابه
قال فدنوت من الهودج وقت بم استحق هذا العقاب فبرز إليّ وجه كأنه القمر وقالت شعر:
كم باح باسمي بعد ما كتم الهوى ... زمناً وكان صيانتي أولى به
وحياته لو أنه كتم الهوى ... بلغ المنى ويداه تحت ثيابه
حكاية: عن ابن مريم قال كنت حاجاً في بعض السنين فأتيت مسجد رسول الله صلى عليه وسلم فإذا أنا بأعرابي يركض على بعيره حتى أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعقل بعيره ثم دخل يؤم القبر فلما نظر إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأبي أنت وأمي لقد بعثك الله بشيراً ونذيراً وأنزل عليك كتاباً مستقيماً علمك فيه علم الأولين والآخرين فقال ولو أنَّهم إذْ ظلموا أنفسهمْ جاؤك فاستغفروا اللهَ واستغفرَ لهمُ الرسول لوجدوا اللهَ توّاباً رحيماً وإني لأعلم أن ربك منجز لك ما وعدك وها أنا قد أتيتك مقراً بالذنوب
مستشفعاً بك عند ربك عزّ وجلّ ثم أمضى وأنشأ يقول شعراً:
يا خير من دُفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والإكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ

حكاية: عن الأصمعي قال بينما أنا أتطوف حول الكعبة إذذا برجل على قفاه كارة وهو يطوف فقلت له أتطوف وعليك كارة فقال هذه والدتي التي حملتني في بطنها تسعة أشهر أريد أن أؤدي حقها فقلت له ألا أدلك على ما تؤدي به حقها قال لي وما هو قلت تزوجها فقال يا عدو الله تستقبلني في أمي بمثل هذا قال فرفعت يدها فصفعت قفا ابنها وقالت لم إذا قيل لك الحق تغضب.

حكاية: عن القاضي يحيى بن أكثم قال بت ليلة عند المأمون فعطشت في جوف الليل فقمت لأشرب ماء فرآني المأمون فقال مالك يا يحيى قلت يا أمير المؤمنين أنا والله عطشان قال ارجع إلى موضعك فقام والله إلى محل الماء فجاءني بكوز ماء وقام على رأسي فقال اشرب يا يحيى فقلت يا أمير المؤمنين هلا وصيف أو وصيفة قال إنهم نيام قلت كنت أقوم لشربي فقال لي لذم بالرجل الذي يستخدم ضيفه ثم قال يا يحيىفقلت لبيك يا أمير المؤمنين قال ألا أحدثك قلت بلى يا أمير المؤمنين قال حدثني الرشيد قال حدثني المهدي قال حدثني المنصور عن أبيه عكرمة ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد القوم خادمهم.

حكاية: قيل إن الرشيد هجر جارية له ثم لقيها في بعض الليالي في القصر سكرى وعليها رداء خزوهي تسحب أذيالها من التيه فراودها فقالت يا أمير المؤمنين هجرتني في هذه المدة وليس لي علم بموافاتك فانظرني حتى أتهيأ للقائك وآتيك بالغداة فلما أصبح قال للحاجب لا تدع أحداً يدخل عليّ وانتظرها فلم تجيء فقام ودخل عليها وسألها إنجاز الوعد فقالت يا أمير المؤمنين كلام الليل يمحوه النهار فخرج واستدعى من الباب من الشعراء فدخل عليه الرقاشي ومصعب وأبو نواس فقال أجيزوا كلام الليل يمحوه النهار.
فقال الرقاشي
أتسئلوها وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركت صبّاً مستهاما ... فتاة لا تزور ولا تزار
إذا ما زرتها وعدت وقالت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب شعرا:
أما والله لو تجدين وجدي
لما وسعتك في بغداد دار
أما يكفيك أن العين عبرى
وفي الأحشاء من ذكرك نار
وأين الوعد سيدتي
فقالت كلام الليل يمحوه النهار
فقال أبو نواس وأجاد:
وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وقد سقط الرداء عن منكبها ... من التجميش وانحل الإزار
وهز الريح اردا فاثقاً لا ... وغصناً فيه رمان صغار
فقلت لها عديني منك وعداً ... فقالت في غد منك المزار
ولما جئت مقتضياً أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار
فقال الرشيد قاتلك الله تعالى يا أبا نواس كأنك ثالثنا وأمر لكل واحد بخمسة آلاف درهم ولأبي نواس بعشرة آلاف درهم وخلعة سنية.

حكاية: عن أبي الحسن بن أدين البصير النحوي رحمه الله تعالى قال حضرت مع والدي مجلس كافور الإخشيدي وهو غاص بالناس فدخل إليه رجل وقال في دعائه أدام الله أيام سيدنا فكسر الميم من الأيام وفطن بذلك جماعة من الحاضرين أحدهم صاحب المجلس حتى شاع ذلك فقام من أوساط الناس رجل فأنشأ يقول شعرا:
لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا ... أو غصّ من دهش بالريق أو بهر
فمثل هيبته حالت جلالتها ... بين الأديب وبين القول بالحصر
إن يكن حفظ الأيام عن غلط ... في موضع النصب لا عن قلة البصر
قد تفاءلت من هذا لسيدنا ... لفأل ماثورة عن سيد البشر
أن أيامه خفض بلا نصبٍ ... إن أوقاته صفو بلا كدر

حكاية: عن عبد السلام بن الحسين البصري رحمه الله تعالى قال قصد الحسن بن سهل يوما قتنافس الناس إليه في الهدايا وكان رجلاً من أهل الأدب من الكتاب قعد به الزمان فقال لأهله قد تنافس الناس إلى هذا الرجل في الهدايا ولو جمعت جميع ما تحوي عليه يدي ما بلغ ألف دينار ولكن سأتلطف له في الهدية فعمد إلى أشنان وملح مطيب فجعلهما في جوفة وختمها وكتب إليه والله يا سيدي لو كانت الجدة على قدر الهمة لكنت أحد المتنافسين في برك المسارعين إلى ودك لكن الجدة قعدت بالهمة فقصرت عن مساواة أهل النعمة وخشيت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر فوجهت إليك أعزك الله تعالى شيئاً حقيراً وصبرت على ألم العجز والتقصير وكان المعبر عني قول الله عز وجل: (ليسَ على الضعفاءِ ولا على المرضى ولا على الذينَ لا يجدونَ ما ينفقونَ حرجٌ إذا نصحُوا للهِ ورسولِه ما على المحسنينَ من سبيلٍ واللهُ غفورٌ رحيمٌ) وكتب في أسفلها شعر:
نافس في الهدية كل قوم ... إليك غداة فصد الباسليق
لم أر كالدعاء أعم نفعاً ... بلغ في مكافأة الصديق
وجهت الدعاء وقلت ربي ... قيك شرور آفات العروق
فكتب إليه الحسن بن سهل والله يا سيدي ما وردت إلي هدية أحسن من هديتك ولا تحفة أجمل من تحفتك وقد بعثت إليك بألف دينار لتصرفها في مهماتك وأخذ الرقعة ودخل بها على المتوكل فلما قرأها عليه قال له لا أم لك كم حملت إلى هذا الرجل قال ألف دينار قال فاحمل إليه من خزانتي مائة ألف درهم.

حكاية: عن الأصمعي رحمه الله تعالى قال خرجت هارباً من البصرة من وال بها فصرت إلى البادية فأقمت بها ما شاء الله ثم قدم أعرابي من البصرة فسألته عن أخبارها فقال مات واليها فقلت بشرك الله بخير فإني كنت هارباً منه فقال لي كفيت الهم ثم أنشد شعراً:
صبّر النفس عند كل مهم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد تف ... رج غماؤها بغير احتيال
بما تجزع النفوس من الأمر ... هـ فرجة كحل العقال

حكاية: عن الجاحظ قال مر أبو علقمة ببعض طرق البصرة وهاجت به مرة فسقط فظن من رآه أن مجنون فأقبل رجل يعصر أصل أذنه ويؤذن فيها فأفاق فنظر إلى الجماعة حوله
فقال ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني قال فقال بعضهم لبعض دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية.

حكاية: قيل إن رجلاً ساقه الله تعالى إلى جزيرة النساء فأردن قتله فرحمته امرأة منهن وحملته على خشبة وسيبته في البحر فلعبت به الأمواج فرمته في بعض بلاد الصين فأخبر ملك تلك البلاد بما رأى من النساء وكثرة الذهب فوجه الملك مركباً ورجلاً معه فأقاموا زماناً طويلاً في البحر يطوفون على تلك الجزيرة فلم فلم يقفوا بها على أثر والله أعلم.

حكاية: عن ابن الخريف قال حدثني والدي قال أعطيت أحمد بن السب الدلال ثوباً وقلت بعه لي وبين هذا العيب الذي فيه لمن يشتريه وأريته خرقاً في الثوب فمضى وجاء في آخر النهار فدفع إليّ ثمنه وقال بعته على رجل أعجمي غريب بهذه الدنانير فقلت له وأريته العيب واعلمته به فقال لا والله نسيت ذلك فقلت لا جزاك الله خيراً امض معي إليه وذهبت معه وقصدنا مكانه فلم نجده فسألنا عنه فقيل إنه رحل إلى مكة مع قافلة الحاج فأخذت صفة الرجل من الدلال واكتريت دابة ولحقت بالقافلة وسألت عن الرجل فدللت عليه فقلت له الثوب الفلاني الذي اشتريته بالأمس من فلان بكذا وكذا فيه عيب فهاته فخذ ذهبك فقام وأخرج الثوب وأطاف على العيب حتى وجده فلما رآه قال يا شيخ أخرج ذهبي حتى أراه وكنت عند ما قبضته لم أميزه ولم أنتقده فلما رآه قال هذا ذهبي انتقده يا شيخ قال فنظرت فإذا هو مغشوش لا يساوي شيئاً فأخذه ورمى به وقال لي قد اشتريت منك هذا الثوب على عيبه بهذا الذهب ودفع إلي بمقدار ذلك الذهب المغشوش ذهباً جيداً وعدت به.

حكاية: عن منصور كاتب الرشيد قال حججت مع يحيى بن خالد البرمكي وانا بالمدينة إذ رفع إلينا رجلاً يسمى معبداً نخاساً عنده قيان فقلت ليحيى هل لك أن تمضي إليه قال أفعل فسرنا غليه فعرض إلينا نيفاً وستين جارية ليس فيهن واحدة تصلح فمر في آخرهن غلام لم أظن أن مثله في الأرض حسناً وجمالاً فقلت هذا للبيع فقال نعم هو كاتب حسن مغن مطرب فقلت اعرضه فنظرت إلى خلق سوي ووجه نقي وقد شهى فقلت وما ثمنه قال ثلاثمائة دينار عليّ وهو يساوي ألفاً فأمرت الغلام فغنى:
ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها الدهر يذرف
حملت جبال الحب فوقي وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف
فقلت لغلامي ادفع إليه أربعمائة دينار وكسوة بمائة دينار وطيباً وادفع إلى الغلام هبة يصلح بها شأنه واجعل مركبه قريباً من مركبي بحيث أسمع صوته وأرى شخصه ففعل فلما كان يوم رحيلنا لم أسمع منه كلمة حتى أشرفنا على المنزل الذي ننزل فيه فتنفس نفساً كاد ينزع به كبده ثم ترنم شعراً:
وما كنت أخشى معبداً أن يبيعني ... بمال ولو أضحت أنامله صفرا
أخوهم ومولاهم وصاحب سرهم ... ومن قد نشا فيهم وعاشرهم دهرا
حنين ولم يمض لي غير ساعة ... فكيف إذا سار المطي بنا شهرا
قال فلم أملك نفسي أن دعوته فقلت أتحب أن أردك إلى مولاك فقال إنك لفاعل قلت نعم قال أي والله يا مولاي قلت اذهب فأنت حر يا غلام رده وأعطه مائة دينار ووكل به من يوصله فقال لي يحيى أمثل هذا يعتق فقلت ويحك أو مثل هذا يملك فقال يحيى شعراً:
لا يوجد الجود إلا في معادنه ... والبخل حيث أردت الدهر موجود
حكاية: عن علي بن الموفق قال سمعت حاتماً وهو الأصم يقول لقينا الترك وكان بيننا جولة فرماني تركي فقلبني عن فرسي ونزل عن دابته فقعد على صدري وأخذ بلحيتي هذه الوافرة وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينه إنما كان قلبي عند سيدي أنظر ماذا ينزل بي القضاء منه فقلت سيدي إن قضيت عليّ أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين إنما أنا لك وملكك فبينا أنا أخاطب سيدي وهو قاعد على صدري أخذ بلحيتي ليذبحني إذ رماه بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه فسقط عني فقمت أنا إليه فأخذت السكين من يده فذبحته فانظروا إلى من كان قلبه عند سيده كيف ينجو من المهالك بلطفه وكرمه.

حكاية: عن بعض الأدباء قال رأيت رجلاً من بني عقيل في ظهره شرط كشرط الحجام فسألته عن سبب ذلك فقال إني كنت هويت ابنة عم لي وخطبتها فقالوا لا نزوجك إلا أن تجعل الصداق الشبكة وهي فرس سابقة لبعض بني بكر بن كلاب فتزوجتها على ذلك وخرجت أحتال في أن أسل الفرس من صاحبها لأتمكن من الدخول بابنة عمي فأتيت الحي الذي فيه الفرس بصورة جزار وما زلت أداخلهم إلى أن عرفت مبيت الفرس من الخباء الذي فيه الرجل ورأيت لها مهرة فاحتلت حتى دخلت البيت واختفيت تحت عهن كانوا قد
نفشوه ليغزل فلما جاء الليل وأتى صاحب المنزل وقد أصلحت له المرأة عشاء فجاء فجعلا يأكلان وقد استحكمت الظلمة ولا مصباح لهم وكنت ساغباً فأخرجت يدي وأهويت إلى القصعة فأكلت معهم فأحس الرجل بيدي فأنكرها وقبض عليها فقبضت على يد المرأة بيدي الأخرى فقالت له المرأة مالك ويدي فظن أنه قابض على يد امرأته فخلى يدي فخليت يد المرأة فأكلنا ثم أنكرت المرأة يدي فقبضت عليها فقبضت على يد الرجل فقال لها مالك فخلت يدي فخليت يده وانقضى الطعام واستلقى الرجل ونام فلما استلقى وأنا مراصدهم والفرس مقيدة في جانب البيت وابنتها في البيت غير مقيدة ومفتاح قيد الفرس تحت رأس المرأة فوافى عبد له أسود فنبذ حصاة فانتبهت المرأة وقامت إليه وتركت المفتاح في مكانها وخرجت من الخباء إلى ظهره ورميتها بعيني فإذا هو قد علاها فلما حصلا في شأنهما دببت فأخذت المفتاح وفتحت القفل وكان معي لجام شعر فأوجرته الفرس وركبتها وخرجت عليها من الخباء فقامت المرأة من تحت الأسود ودخلت الخباء ثم صاحت وذعرت الحي وأحسوا بي فركبوا في طلبي وأنا أكد الفرس وخلفي خلق منهم فأصبحت ولست أرى إلا فارساً واحداً برمح فلحقني وقد طلعت الشمس فأخذ يطعني فلا يصل إلى أكثر مما تراه في ظهري ولا فرسه تلحق بي فيتمكن مني ولا فرسي تبعدني حتى لا يمسني الرمح إلى أن وافينا إلى نهر فصحت بالفرس فوثبتها وصاح الفارس بفرسه فلم تثب فلما رأيت عجزها عن العبور نزلت عن فرسي أستريح وأريحها فصاح بي الرجل فقلت مالك فقال يا هذا أنا صاحب الفرس التي تحتك وهذه بنتها فإذا قد أخذتها فاحفظها فإني والله ما طلبت عليها شيئاً قد إلا أدركته وكانت كالشبكة في التعلق بها فقلت له أما إذا نصحتني فوالله لأنصحنّك ولست بكذاب إنه كان من أمري البارحة كيت وكيت حتى قصصت عليه قصة المرأة والعبد وحيلتي في الفرس فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إلي فقال لا جزاك الله من طارق خيراً فأخذت فرسي وقتلت عبدي وطلقت زوجتي.

حكاية: قيل إن قيصر ملك الشام والروم أرسل رسولاً إلى ملك فارس كسرى أنوشروان صاحب الإيوان فلما وصل ورأى عظمة الإيوان وعظمة مجلس كسرى على كرسيه والمولك في خدمته ميز الإيوان فرأى في بعض جوانبه اعوجاجاً فسأل الترجمان عن ذلك فقيل له ذلك بيت لعجوز كرهت بيعه عند عمارة الإيوان فلم ير الملك اكراهها على البيع
فأبقى بيتها في جانب الإيوان فذلك ما رأيت وسألت قال الرومي وحق دينه إن هذا الاعوجاج أحسن من الاستقامة وحق دينه إن هذا الذي فعله ملك الزمان لم يؤرخ فيما مضى لملك فأعجب كسرى كلامه فأنعم عليه ورده مسروراً محبوراً.

حكاية: عن يعقوب بن اسحق السراج قال قال لي رجل من أهل رومية ركبت بحر الزنج فألقتني الريح في جزيرة العور فوصلت إلى مدينة أهلها قامتهم كلها ذراع وأكثرهم عور فاجتمع علي منهم جمع وساقوني إلى ملكهم فأمر بحبسي في قفص فكسرته فأمنوني وتركوا الاحتجار علي فلما كان في بعض الأيام رأيتهم قد استعدوا للقتال فسألتهم عن ذلك فقالوا لنا عدوّ يأتينا في كل سنة ويحاربنا وهذا أوانه فلم ألبث إلا قليلاً حتى طلع علينا عصابة من الطيور الغرانيق وكان ما بهم من العور من نقر الغرانيق فحملت الطيور عليهم وصاحت بهم فلما رأيت ذلك شددت وسطي وأخذت عصا وشددت بها عليها وحملت فيها وصحت صيحة منكرة ورميت منهم جماعة فصاحوا وطاروا هاربين مني فلما رأى أهل الجزيرة ذلك أكرموني وأعظموني وأفادوني مالاً وسألوني الإقامة عندهم فلم أفعل فحملوني في مركب وجهزوني وذكر رسطاطاليس أن الغرانيق ينتقل من بلاد خراسان إلى بلاد مصر حيث مسيل النيل فتقاتل أولئك العور في طريقهم وهم قوم في طول ذراع والله أعلم.

حكاية: عن بعض أدباء الشام قال لقيت رجلاً في وجهه خموش كثيرة فسألته عنها فقال كنت في بحر الزنج مع جماعة فألقتنا الريح إلى جزيرة سكسار فلم نستطع أن نخرج منها لشدة الريح فأتانا قوم وجوههم وجوه الكلاب وأبدانهم أبدان الناس فسبق إلينا واحد منهم بعصا كانت معه ووقف جماعة من ورائنا فساقونا إلى منزلهم فرأينا فيها جماجم وقحوفاً وسوقاً وأذرعاً وأضلاعاً كثيرة فأدخلونا بيتاً فيه انسان ضعيف وجعلوا يأتون بأكل كثير وطعام غزير وفواكه طيبة فقال لنا ذلك الرجل إنما يطعمونكم لتسمنوا وكل من سمن أكلوه قال فجعلت أقلل أكلي دون أصحابي وصاروا كلما سمن واحد ذهبوا به واكلوه حتى بقيت وحدي وذلك الرجل الضعيف فقال لي الرجل يوماً إن هؤلاء قد حضرهم عيد يخرجون إليه ويغيبون فيه ثلاثة أيام فإن استطت أن تنجو بنفسك فانج وأما أنا فكما تراني لا أستطيع الحركة ولا أقدر على الهرب فانظر لنفسك فقلت جزاك الله الجنة وخرجت فجعلت أسير ليلاً وأختفي نهاراً فلما رجعوا من عيدهم فقدوني فتبعوني حتى يئسوا فرجعوا فلما يئست
منهم سرت في تلك الجزيرة ليلاً ونهاراً فانتهيت إلى الأشجار بها ثمر وفواكه وتحتها رجال حسان الصور إلا أن سيقانهم ليس لها عظام فقعدت لا أفهم كلامهم ولا يفقهون كلامي فلم أشعر إلا وواحد منهم قد ركب على رقبتي وطوق رجليه علي وأنهضني فنهضت به وجعلت أعالجه لأتخلص منه وأطرحه عني فلم أقدر وجعل يخمش وجهي بأظفاره المحددة فجعلت أدور به على الأشجار وهو يأكل من فواكهها وثمارها ويطعم أصحابه وهم يضحكون عليّ فبينما أنا أطوف به بين الأشجار إذ دخلت في عينه شوكة من شجرة فانحلت رجلاه عني فرميته عن رقبتي وسرت فنجاني الله بكرمه وهذه الخموش منه فلا رحم الله عظامه.

حكاية: قيل إن شاباً من عباد بني اسرائيل كان يتعبد في صومعته وكان من أجمل الناس وجهاً وكان يعمل القفاف ويبيعها في سوق بيت المقدس وكان اسمه يوحنا وكان لباسه المسوح وكان لونه كلون الياقوت في الصفاء من كثرة العبادة ويسطع من بين عينيه النور فمر ذات يوم بباب امرأة من المخدرات فنظرت إليه جارية من جواريها فقالت يا سيدتي قد مر ببابنا شاب من أجمل الناس وجهاً كأنه جوهر منظوم فقالت لها ويحك أدخليه الدار حتى ننظر إليه ونشتري منه فجعل كلما دخل باباً أغلقوا الباب من ورائه حتى بلغ المجلس فإذا فيه شابة من أجمل الخلق جالسة على سرير مرصع بالجوهر وعليها قميص كأنه ماء مسكوب فبقيت شاخصة تنظر إليه لا تقدر على منع نفسها من رؤيته فقال لها يا أمة الله إما أن تشتري وإما أن أذهب فصارت تباسطه وهو يقول لها إما أن تشتري وإما أن أذهب فقالت له إنما أدخلتك بيتي لأحكمك في نفسي قال ويحك إني قرأت كتاب الله الإنجيل ولا ينبغي لمن قرأ كتاب الله الإنجيل أن يعصيه قالت له امش معي إلى داخل هذه الخزانة فإذا هي مملوءة ذهباً وجواهر فقالت هذا كله لك إن وافقتني على ما أريد فقال ائتني بماءٍ حتى أغتسل فلما اغتسل قدمت له منديلاً مضمخاً بالطيب والمسك والعنبر رجاء أن يتنشف فيه فلما رأى منها الجد قال لها إما أن تأذني لي بالذهاب وإما أن القي بنفسي من فوق هذا السطح وكان علوه ثمانين ذراعاً في الهواء فقالت لابد وإلا ألق نفسك فألقى نفسه فأمر الله تعالى الهواء أن يحبسه فأمسكه الهواء وبقي قائماً بقدرة الله تعالى ثم قال الله جل شأنه يا جبريل أدرك عبدي يوحنا يهلك نفسه خوفاً مني فأدركه جبريل ووضعه على الأرض سليماً
فانظر يا أخي إلى شدة مراقبة هذا الفتى لربه عز وجل ولولا فضل الله عليه لوقع في الفواضح والذلل.

حكاية: أخبر القزويني أن رجلاً من أصفهان ركبته ديون كثيرة ففارق اصفهان وركب بحر عجمان مع تجار فتلاطمت بهم الأمواج حتى وصلوا إلى الدر دور المعروف ببحر فارس فقال التجار للرئيس هل تعرف لنا سبيلاً إلى الخلاص نسعى فيه فقال إن سمح أحدكم بنفسه تخلصنا فقال الرجل الأصفهاني المديون في نفسه كلنا في موقف الهلاك وأنا قد كرهت الحياة وكان في السفينة جمع من أهل موطنه فقال لهم هل تحلفون بوفاء ديوني وخلاص ذمتي وأنا أفديكم بنفسي وتحسنون إلى عيالي ما استطعتم فحلفوا له على ذلك وفوق ما شرط فقال الأصفهاني للرئيس ما تأمرني أن أفعل قد أسلمت نفسي لله طلباً لخلاصكم إن شاء الله تعالى فقال له الرئيس آمرك أن تقف ثلاثة أيام على ساحل هذا البحر وتضرب على هذا الطبل ليلاً ونهاراً لا تفتر عن الضرب قلت أفعل إن شاء الله تعالى فأعطوني من الماء والزاد ما أمكن قال الأصفهاني فأخذت الطبل والماء والزاد وتوجهوا بي نحو الجزيرة وأنزلوني بساحلها وشرعت في ضرب الطبل فتحركت المياه وجرى المركب وأنا أنظر إليهم حتى غاب المركب عن بصري فجعلت أطوف تلك الجزيرة وإذ أنا بشجرة عظيمة وعليها شبه سطح فلما كان الليل وإذا بهدة عظيمة فنظرت فإذا طائر ضخم في الخلقة قد سقط على ذلك السطح الذي في الشجرة فاختفيت خوفاً منه فلما كان الفجر انتفض الطائر بجناحيه وطار فلما كان الليل جاء أيضاً وحط على مكانه البارحة فدنوت منه فلم يتعرض لي بسوء ولا التفت إلي أصلاً وطار عند الصباح فلما كان ثالث ليلة وجاء الطائر على عادته وقعد مكانه فجئت حتى قعدت عنده من غير خوف ولا دهشة إلى أن نفض جناحيه فتعلقت بإحدى رجليه بكلتا يدي فطار بي إلى أن ارتفع النهار فنظرت إلى تحت فلم أر إلا لجة ماء البحر فكدت أن أترك رجله وأرمي بنفسي من شدة ما لقيت من التعب فصبرت زماناً ثم نظرت وإذا بالقرى والعمائر تحتي ففرحت وذهب ما كان بي من الشدة فلما دنا الطائر من الأرض رميت بنفسي على صبرة تبن في بيدر وطار الطائر فاجتمع الناس حولي وتعجبوا مني وحملوني إلى رئيسهم وحضر إلي من يفهم كلامي فأخبرتهم بقصتي فتبركوا بي وأكرموني وأمر لي بمال وأقمت عندهم أياماً فخرجت يوماً لأتفرج وإذا
أنا بالمركب الذي كنت فيه قد أرسى فلما رأوني أسرعوا إلي وسألوني عن أمري فأخبرتهم فحملوني إلى أهلي ونلت منهم فوق الشرط فعدت بخير وغنى وسلامة.

حكاية: قيل إن ملك الصين بلغه عن نقاش ماهر في النقش والتصوير في بلاد الروم فأرسل إليه وأشخصه وأمره بعمل شيء مما يقدر عليه من النقش والتصوير ليعلقه بباب القصر على العادة فنقش له في رقعة صورة سنبلة حنطة خضراء قائمة وعليها عصفور وأتقن نقشه وهيئته حتى إذا نظره أحد لا يشك في أنه عصفور على سنبلة خضراء ولا ينكر شيئاً من ذلك غير النطق والحركة، فأعجب الملك ذلك وأمره بتعليقه وبادر بإدرار الرزق عليه إلى انقضاء مدة التعليق فمضت سنة إلا بعض أيام ولم يقدر أحد على إظهار عيب أو خلل فيه، فحضر شيخ مسنّ ونظر إلى التمثال وقال هذا فيه عيب فأحضر إلى الملك وأحضر النقاش والتمثال، وقال ما الذي فيه من العيب؟ فأخرج عما وقعت فيه بوجه ظاهر ودليل وإلاّ حل بك الندم والتنكيل، فقال الشيخ أسعد الله الملك وألهمه السداد مثال أيّ شيء هذا الموضوع؟ فقال الملك مثال سنبلة من حنطة قائمة على ساقها وفوقها عصفور، فقال الشيخ أصلح الله الملك أما العصفور فليس به خلل وإنما الخلل في وضع السنبلة. قال الملك: وما الخلل؟ وقد امتزج غضباً على الشيخ، فقال الخلل في استقامة السنبلة لأن في العرف أن العصفور إذا حط على سنبلة أمالها لثقل العصفور وضعف ساق السنبلة ولو كانت السنبلة معوجا مائلة لكان ذلك نهاية في الوضع والحكمة فوافق الملك على ذلك وسلم.

حكى: عن الشريف المرتضى رضي الله عنه: أنه كان جالساً في علية له تشرف على الطريق فمرّ به ابن المطرز الشاعر يجرّ نعلاً له بالية وهي تثير الغبار فأمر بإحضاره، وقال له أنشد أبياتك التي تقول فيها:
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
فأنشده إياها فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال:
أهذه كانت من ركائبك؟ فأطرق ابن المطرز ساعة، ثم قالك لما عادت هبات سيدنا الشريف إلى مثل قوله:
وخذ النوم من جفوني ... قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملكه على من لا يقبل فخجل الشريف
منه وأمر له بجائزة فأعطوه.

حكاية: قيل إن الحجاج خرج يوماً متنزهاً، فلما فرغ من نزهته صرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه فإذا هو بشيخ من عجل، فقال له من أين أيها الشيخ؟ قال من هذه القرية، قال كيف ترون عمالكم؟ قال شرّ عمال يظلمون الناس ويستحلون أموالهم. قال فكيف قولك في الحجاج؟ قال ذلك ما ولي العراق أشر من قبحه الله تعالى وقبح من استعمله. قال أتعرف من أنا؟ قال لا، قال أنا الحجاج فقال أتعرف من أنا؟ قال: لا. قال أنا مجنون بني عجل أصرع كل يوم مرتين. قال فضحك الحجاج وأمر له بصلة جليلة.

حكاية: قال بعض الأدباء كنت بمجلس لبعض أمراء بغداد وبين يديه طبق لوزينج إذ دخل عليه مجنون كان حلو الكلام فقال: أيها الأمير ما هذا؟ فرمى إليه بواحدة، فقال ثاني اثنين إذ هما في الغار فرمى إليه بأخرى، فقال فعززناهما بثالث فأعطاه ثالثة، فقال فخذ أربعة من الطير فألقى إليه رابعة، فقال خمسة سادسهم كلبهم فدفع إليه خامسة، فقال في ستة أيام فجعلها ستة، فقال سبع سماوات طباقا فصيرها سبعة، فقال ثمانية أزواج فرمى إليه بالثامنة، فقال وكان في المدينة تسعة رهط فرمى بها إليه، فقال إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً فأكمل له اثني عشر، فقال إن يكن منكم عشرون فدفع إليه عشرين، فقال يغلبوا مائتين فأمر برفع الطبق إليه وقال كل يا ابن الفاعلة لا أشبع الله بطنك، فقال والله لو لم تفعل ذلك لقرأت لك وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون.

حكاية: قيل إن الهادي العباسي كان مغرماً بجارية تسمى غادر وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكثرهن أدباً وألطفهن طبعاً وأطيبهن غناء، فبينما هي تنادمه ذات ليلة وتغنيه إذ تغير لونه وظهر أثر الحزن عليه، فقالت ما بال أمير المؤمنين لا أراه الله ما يكره؟ فقال وقع في فكري الساعة أني أموت وإن أخي هارون يلي الخلافة بعدي وإنك تكونين معه كما أنت معي الآن، فقالت لا أبقاني الله بعدك أبداً وأخذت تلاطفه وتزيل هذا الخيال من خاطره، فقال لابد أن تحلفي لي أيماناً مغلظة أن لا تقربي إليه بعدي فحلفت على ذلك وأخذ عليها العهود والمواثيق الغليظة، ثم خرج وأرسل إلى أخيه هارون وحلفه أن لا يخلو بغادر بعده وأخذ عليه من المواثيق والعهود ما أخذ عليها، فلم يمض إلا شهر حتى مات الهادي وانتقلت الخلافة إلى هارون فطلب الجارية فحضرت فأمرها بالأخذ في المنادمة، فقالت
وكيف يصنع أمير المؤمنين بتلك الأيمان والعهود، فقال قد كفرت عنك وعن نفسي، ثم خلا بها ووقعت من قلبه موقعاً عظيماً بحيث لم يكن يصبر ساعة عنها. فبينما هي ذات ليلة نائمة في حجره إذ استيقظت مذعورة، فقال ما بالك فدتك نفسي؟ قالت رأيت أخاك ينشد هذه الأبيات:
أخلفت عهدي بعدما ... جاورت سكان المقابر
ونسيتني وحنثت في ... أيمانك الزور الفواجر
ونحكت غادرة أخي ... صدق الذي سماك غادر
لا يهنك الألف الحد ... يد ولا تدر عنك الدوائر
ولحقتني قبل الصبا ... ح وصرت حيث غدوت صائر
وأظن أني لاحقة به في هذه الليلة فقال فدتك نفسي إنما هذه أضغاث أحلام فقالت كلا، ثم ارتعدت واضطربت بين يديه حتى ماتت، أقول لقد صدق القائل كل له من اسمه نصيب، وأما نقض العهود وعدم المروءة والوفاء فمن شأن أكثر النساء ولله در القائل:
إن النساء شياطين خلقن لنا ... نعوذ بالله من شرّ الشيطان وقد أخطأ من قال:
إن النساء رياحين خلقن لكم ... وكلكم يشتهي شم الرياحين

حكاية: قيل لما استوزر المنصور الربيع بن يونس وكان ذا عقل وأدب جعل الربيع لا يسأله حاجة أبداً، فاستظرف المنصور ذلك فأحضره يوماً وقال يا ربيع تنقبض عن مثلي بحوائجك، فقال يا أمير المؤمنين ما تركت ذلك أني وجدت لها موضعاً غيرك ولكنني ملت إلى التخفيف فقال له اعرض عليّ ما تحب، فقال له يا أمير المؤمنين حاجتي أن تحب ابني الفضل، فقال له ويحك إن المحبة لا تقع ابتداء ولكن تقع بأسباب، فقال أوجدك الله السبيل إليها. قال وما ذاك؟ قال تنعم عليه فإذا أنعمت عليه أحبك فإذا أحبك أحببته. قال فتبسم المنصور وقال له ويحك لقد حببته إليه قبل أن يقع من هذا شيء بل أخبرني كيف اخترت المحبة دون غيرها؟ فقال يا أمير المؤمنين لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه وصغر عندك كبير إساءته وكانت حاجته لديك مقضية وذنوبه لديك مغفورة.

حكاية: رأيت في بعض التواريخ أن بعض الأعراب في البادية أصابته حمى في أيام القيظ
فأتى الأبطح وقت الظهيرة فتعرى في شديد الحرّ وطلى بدنه بزيت وجعل يتقلب في الشمس على الحصى، وقال سوف تعلمين يا حمى ما نزل بك وبمن ابتليت عدلت عن الأمراء وأهل الثراء ونزلت بي وما زال يتمرغ حتى عرق وذهبت حماه وقام وسمع في اليوم الثاني قائلاً قد حمّ الأمير بالمس، فقال الأعرابي أنا والله بعثتها إليه، ثم ولى هارباً.

حكاية: قيل إن بعض العلماء تخاصم مع زوجته فعوم على طلاقها، فقالت له اذكر طول الصحبة، فقال والله مالك عندي ذنب سوى ذلك.

حكاية: قيل إن امرأة كانت في المدينة شديدة الإصابة بالعين لا تنظر إلى شيء إلا دمرته فدخلت على أشعب تعوده وهو محتضر يكلم ابنته بصوت ضعيف ويقول يا ابنتي إذا مت فلا تنوحي عليّ وتندبيني والناس يسمعونك تقولين واأبتاه أندبك للصلاة والصيام والفقه والقرآن فيكذبونك ويلعنوني والتفت أشعب فرأى المرأة فغطى وجهه بكمه، فقال لها يا فلانة سألتك بالله إن كنت قد استحسنت شيئاً مما أنا فيه فصلي على النبي وآله، فقالت سخنت عينك وفي أيّ شيء أنت حتى أستحسنه إنما أنت في آخر رمق، فقال أشعب قد علمت ذلك ولكن قلت لئلا تكوني قد استحسنت خفة الموت عليّ وسهولة النزع فيشتد ما أنا فيه فخرجت من عنده وهي تشتمه فضحك من كان حوله حتى أولاده ونساؤه، ثم مات رحمه الله تعالى.

حكاية: قيل إن ضبة بن أدّ كان له ابنان سعد وسعيد فخرجا إلى سفر فهلك سعد ورجع سعيد، ثم خرج والدهما ضبة بعد ذلك في الأشهر الحرم يسير ويتفحص عن ابنه وكان معه الحرث بن كعب، فبينما هما ذات يوم يتحدثان سائرين إذ مرابمكان، فقال الحرث لقيت بهذا المكان شاباً صفته كذا وكذا فقتلته وهذا سيفه، فقال له ضبة أرني السيف فأعطاه إياه وإذا هو سيف ابنه سعد، فقال له ضبة (الحديث ذو شجون) ثم إن ضبة قتل الحرث فلامه الناس على استحلال الشهر الحرام، فقال (سبق السيف العذل) فصار مثلاً.

حكاية: أتى مكفوف نخاساً، فقال له اطلب لي حماراً ليس بالصغير المحتثر ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق وإن كثر الزحام ترفق لا يصادم في السواري ولا يدخلني تحت البواري، إن أقللت علفه صبر وإن كثرته شكر وإن ركبته هام وإن تركته نام، فقال له اصبر إن مسخ الله القاضي حماراً قضيت حاجيتك.

حكاية: أخبر الكلبي عن رجل من بني أمية قال حضرت معاوية وقد أذن للناس إذناً عاماً فدخلت امرأة فرفعت لثامها عن وجه كالقمر ومعها جاريتان لها فخطبت للقوم خطبة بهت لها كل من كان هناك، ثم قالت وكان من قدر الله تعالى أنك قربت زياداً واتخذته أخاً وجعلت له في آل أبي سفيان نسباً، ثم وليته على رقاب العباد يسفك الدماء بغير حلها ولا حقها وينتهك المحارم بغير مراقبة فيها ويرتكب من المعاصي أعظمها لا يرجو لله وقاراً ولا يظن أنه له معادا وغداً يعرض عمله في صحيفتك وتقف على ما اجترأ به بين يدي ربك، فماذا تقول لربك يا ابن أبي سفيان غداً وقد مضى من عمرك أكثره وأسرّه وبقي لك شره، فقال لها من أنت فقالت امرأة من بني ذكوان وثب زياد المدعي أنه من بني أبي سفيان على وراثتي من أبي وأمي فقبضها ظلماً واستولى على ضيعتي وممسكة رمقي، فإن أنصفت وعدلت فهو المراد وإلا وكلتك وزياداً إلى الله تعالى وإن أبقيت ظلامتي عنده وعندك فالمنصف لي منكما الحكم العدل فبهت معاوية منها وصار يتعجب من فصاحتها، ثم قال ما لزياد لعنه الله تعالى مع من ينشر مساوينا، ثم قال لكاتبه اكتب إلى زياد أن يرد لها ضيعتها ويؤدي لها حقها.

حكاية: قيل إن جارية مليحة الوجه حسنة الأدب كانت لفتى من قريش وكان يحبها حباً شديداً فأصابته ضيقة وفاقة فاحتاج إلى ثمنها فحملها إلى العراق وكان ذلك في زمن الحجاج فابتاعها منه فوقعت عنده بمنزلة فقدم عليه فتى من أقاربه فأنزله قريباً منه وأحسن إليه فدخل على الحجاج يوماً والجارية تكبسه وكان للفتى جمال فجعلت الجارية تسارقه النظر ففطن الحجاج بها فوهبها له فدعا له وانصرف بها فباتت معه ليلتها وهربت بغلس فأصبح لا يدري أين هي وبلغ الحجاج ذلك فأمر منادياً ينادي برئت ذمة من رأى وصيفة صفتها كذا وكذا فلم يلبث أن أُتي له بها، فقال لها الحجاج يا عدوة الله كنت عندي من أحب الناس إليّ فاخترت لك ابن عمي وهو شاب حسن الوجه ورأيتك تسارقيه النظر فعلمت أنك شغفت به وبحبه فوهبتك له فهربت في ليلتك، فقالت يا سيدي اسمع قصتي ثم اصنع ما أحببت، قال هات، قالت كنت للفتى القرشي فاحتاج إلى ثمني فحملني إلى الكوفة، فلما دنونا منها دنا مني فوقع عليّ فسمع زئير الأسد فوثب وسلّ سيفه وحمل عليه وضربه فقتله وأتى برأسه، ثم أقبل عليّ وما برد ما عنده ثم قضى حاجته وإن ابن عملك هذا الذي
اخترته لي لما أظلم الليل قام إليّ وإنه لعلى بطني إذ وقعت فأرة من السقف فضرط ثم غشي عليه فمكث زماناً طويلاً وأنا أرش عليه الماء وهو لا يفيق فخفت أن يموت فتتهمني فيه فهربت فزعاً منك فما ملك الحجاج نفسه من شدة الضحك وقال: ويحك لا تعلمي بهذا أحداً، قالت شرط أن لا تردني إليه، قال لك ذلك.


26* كتاب: نفحة اليمن فيما يزول بذكره الشجن
المؤلف: أحمد بن محمد بن علي بن إبراهيم الأنصاري الشرواني (المتوفى: 1253هـ)

صورة مفقودة
 
أعلى