أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسن الفهري المعروف بالبونسي - كنز الكتاب ومنتخب الآداب

الباب الرابع: في الحُبِّ
قال أبو إسحاق:
وقد أثبتُّ في هذا الباب السَّابغ الأطناب؛ المتصل الأسباب، من الأحاديث، وأقوال العلماء،
والحكماء، جملا تعيد سامعها ثملا، دون تعاطي أكواس العقار؛ وإصاخة إلى تحنين المزاميز
والأوتار.
والحبُّ نقيض البُغْض، وخِلاَفه. وأصل الحب: الإِرَادَة. بدليل قولهم: أحببت أن أفعل كذا؛ بمعنى:
أردت أن أفعل. يقال منه: أحبه يحبه إحباباً. وحبَّه حباً. وتحبب تحببا. وحببه تحبيبا.
وقال صاحب العين: المحبَّةُ: الحُبُّ. وقد استعاروا لفظ الحب، لميل الطباع. كقولهم: فلان يحب ولده
أن يميل طبعه إليه، والحُبُّ أيضا، الجَرَّةُ الضخمة. سميت بذلك لأنها تضم ما يُحَبّ. فأما الحَبّ بفتح
الحاء، فجمع حَبَّة؛ من بُرٍّ، أو شعير، أو زبيب، ونحو ذلك. وحَبَّةُ القلب؛ ثمرته. والحِبّ بكسر الحاء؛
القُرطُ؛ من حبّة واحدة.
وقد تنازع الناس في ابتداء وقوع الحب، وكيفيته. وهل كون وقوع عن نظر، وسماع، واختيار، أم عن اضطرار.

وسئل حماد الراوية عن الحب فقال: الحب شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذكر، وأغصانها السهر، وأوراقها السقم، وثمرها المنية.
وسئل بعض الحكماء عن الحب فقال: هو أغمض مسلكاً في القلب، من الروح في الجسد. وليس أمر الهوى إلى الرأي فيملكه، ولا إلى العقل فيدبره. بل قدرته أغلب، وجانبه أعزّ من أن تنفذ فيه حيلة حازم أو لطف محتال

وقال معاذ بن جبل: الحُبُّ أَصْعَبُ ما رُكِب، وأَسْكَر ما شُرب، وأفظع ما لُقِي، وأَحلَى ما اشْتُهِي،
وأوجع ما بَطَن، وأشهر ما عَلَن. وأنه لكما قال الشاعر:
وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ إِذَا هِيَ صَرَّحَتْ ... تَبَدَّتْ عَلاَمَاتٌ لَهَا غُرَرٌ صُفْرُ
فَبَاطِنُهُ سُقْمٌ وَظَاهِرُهُ جَوَى ... وَأَوَّلُهُ ذِكرٌ وَآخِرُهُ فِكْرٌ
والهوى آمرٌ مطاع، وقائد متبع. يفتن الأذهان، ويشجع الجبان. وعلامته نحول الجسم، واصفرار
اللون، وخشوع البصر، وتواتر التنفس، وسرعة الدمع.
وقال علي رضي الله عنه: (آفَةُ العَقْل الهَوَى). وقال عبد الله بن عباس: (الهَوَى إِلهٌ مَعْبُود). وتلا قول امره تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ).
وقال بعض الحكماء: - الهَوَى جَلِيسُ مُمْتع، واَلِيفٌ مونس، ومالك قاهر. يملك الأبدان وأرواحها،
وامقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والنفوس واراها. توارى على الأبصار مدخله؛ وخفي عن القُلُوبِ مسلكُه.
وسئل أبو نوفل المدني: هَلْ سَلِمَ أحدٌ من الحب والهوى؟ فقال: نعم، الجِلْفُ الجافي الذي ليس له
فَضْلُ ولاَفَهْمٌ. فأمَّا من في طبعه أدنى ظَرْف، أو أقل لُطْف، أو معه دماثة أهل (الحجاز) وحلاوتهم، ورقة أهل (العراق) وأدبهم؛ فهيهات هيهات. وما رأيت فاضلا يسلم من الهه؛ لكن في الناس من يملك نفسه، ويغلب هواه، ولا يظهر ما كمن في قلبه.
قوله: (الجِلْف الجافي) يريد الأعرابي الجافي في خلقته وأخلاقه.
وقال أبو حاتم عن أبي عبيدة: الجِلْفُ هو الجافي، الخالي الجوف مثل الدن الفارغ. ويقال للشاة
المسلوخة بلا رأس، ولا بطن: جِلْف. وإِنما يقال للرجل: جِلْف؛ إذا وصف بالجَفَاء، وقلة العقل. يراد أن جوفه هواء خال من العقل. وأنشد يعقوب، لقيس بن الخطيم:
كَأَنَّ لَباتِهَا تَبَدَّدَهَا ... هَزْلَى جَرَادٍ، أَجْوَازُهُ جُلُفُ
يَعْني بِلاَ رُؤُوس، ولاَ قَوَائم. فشبَّه ما على لَبَّات هذه المرأة من صنعة الذهب بالجراد. والجِلْفُ من كل شيء: ما كان غير نَظِيف، ولا مُحْكَم.
أنشد ابن الأعرابي، عن أبي صالح الفزاري:
الْوَحْشُ خَيرٌ مِنْ مَبِيتٍ بِتُّهُ ... بِجَنُوبِ زَخَّةَ عِنْدَآلِ مُعَارِكِ
جَاؤُوا بِجِلْفٍ مِنْ شَعيرٍ يَابِسٍ ... بَيْنِي وَبَيْنَ غُلاَمِهِمْ ذِي الحَارِكِ
والوَحْشُ؛ أن يبيتَ الرجل طاوياً. ومنه قول حميد يصف الذئب:
وإِنْ بَاتَ وَحْشاً طَاوياً لم يَضِقْ بِهَا ... ذِراعاً ولم يُصْبِحْ لها وَهْوَ خاشِعُ
ويقال: بَاتَ القوم أو حاشاً، وقد أَوْحَشُوا مُذْليلتين، أو ثلاث: أي ذهب زاَدُهم، والرَّجلُ مُوحِشٌ بَيِّنُ
الإِيحاش، ويقولون: تَوَحَّش للدواء: أي أَخْلِ جوفَكَ من الطعام.
وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيما روى نعيم بن حماد عن سفيان، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أبي عثمان بن شبة، قال: سمعت علياً يقول في صلاة المغرب اللَّهم العن
فلاناً الجلف الجافي. وقيل لأعرابي: صفْ لنا الحب، فانتحب ثم قال بِالقَلْبِ وَثْبَتُه، وبالفُؤاادِ وَجْبَتُه، وبالأحشاء نارُه،
وسائر الأعضاء خُدَّامُه، العَقْلُ من الحبِّ ذَاهل، والجِسْمُ نَاحِل، وَالدُّمُوعُ هَوَامِل. مُرُورُ الأَيَّامِ
المُخْلِقَات تُجَدِّدُه؛ والإساءة من المحبوب لاتفسده. ثم أومأ بيده إلى قلبه وأنشأ يقول:
أَلاَ فَتَخَلَّصْ إِنَمَا أَنْتَ شَامِتُ ... لمَا لم يكن يَا قلبِ يَنْفَعُكَ الزَّجْرُ
كَأن دُمُوعي غصنُ طَرْفَاءَ حَركت ... أَعَاليه أَرْيَاحٌ وَأهطله قَطْرُ
قال أبو إسحاق:
وهو يَتَوَلَّد، ويَتَسَبَّبُ من النَّظَرِ، وتَكَرُّرِ اللَّمْحِ بالبصر. والدَّلِيلُ على هذا، قول الرسول عليه السلام:
"النَّظَرُ سَهْمٌ مسمومٌ من سِهَامِ إِبليس. فمن تَرَكَهُ خَوفاً من الله، أثابه الله إيماناً يجد حَلاَوَتَه في قلبه".
وقال عليه السلام: "لاتُتْبِع النظرة النظرة. فإِنَّما لَكَ الأولى وليست لك الآخرة". ولهذا المعنى، دخلت
(من) في قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ).
لأن النظرة الأولى لاتَمْلك، فوجب التبغيض لذلك. ولم يقل ذلك في الفروج؛ لأنها تملك. وغَضُّ
البَصَرِ عن جميع المحرمات؛ عن كل ما يُخْشَى الفتنة من أجله واجب.
ولما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس؛ كان فيهم غلامٌ أَمْرَد، ظاهر الوضاءة؛ فأجلسه النبي عليه السلام وراءه. وقال: "كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوود النَّظر".
وفي الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لاتُجَالِسُوا أَوْلاَدَ الملوك، فَإِنَّ لَهُم فِتْنة كفتنة العذارى".
وجاء عنه عليه السلام أنه قال: "غضُّوا أَبْصَارَكم عن الغلمان المُرْد فإن لهم فِتَناً كَفِتَن النساء".
وقال سعيد بن حميد الكاتب:
نظرتُ وقَادَتني إلى الحَتْفِ نَظْرَةٌ ... إِلَيكِ بِمَكْنونِ الضَّمِير تُشِيرُ
فَلا تَصْرِفَنَّ الطَّرْفَ فِي كُلِّ مَنْظَرٍ ... فَإِنَّ مَعَارِيضَ البَلاَءِ كَثِيرُ
وقال مهيار في المعنى:
نَظرةٌ عَادَتْ فعادت حَسْرَةً ... قتل الرَّامِى بِهَا مَنْ جَرَحَا
وقال الآخر في المعنى:
نَظرَةٌ كَانَتْ لِحَيْنِي سَبَباً ... جَلَبَ الْحَيْنُ لَهَا مَا جَلَبَا
وقال ابن الرومي فيه:
أورثت قلبي سقاماً ... نظرة فيها سقامُ
وقال الأديب الكامل، أبو العباس أحمد بن عبد ربه:
نَظَرْتُك نَظْرة بِالخِيف كانَتْ ... جَلاءَ العَيْن بَلْ كَانَتْ قَذَاها
فآهاً كَيْف تَجْمَعُنا الليالي ... وآهاً من تَفَرُّقِنا وآها
وقال المُؤَمِّلُ بن أميل:
شَفَّ المُؤَمِّلَ يوم الحيرة النظر ... ليت المؤملَ لم يُخْلَقْ لَهُ بَصَرُ
وقال غيره:
الحُبُّ دَاءُ رجالٍ يُقتلُون به ... ظلماً وأولُ أسبابِ الهوى النَّظَرُ
قد كنتُ أحْذَره حتى ابْتُليتُ به ... لو كان ينفعني الإشْفَاقُ والحَذَرُ
وقال ادريس بن اليماني:
عَن الهوى إِنْ تَسَلْ: أصلُ الهوى النظر ... وَرُبَّمَا قَادَ حَتْفَ المُهْجَة البَصَر
وقال فيه أبو محمد بن عبد البر:
لاَ تُكْثِرَنَّ تَأَملا ... وَاحْبِسْ عَلَيكَ عِنَانَ طَرْفِكْ
فَلَرُبَّما أَرْسَلْتَه ... فَرَمَاكَ في مَيْدَانِ حَتْفِكْ
وقال أبو محمد الجزيري:
واغْضُضِ الطَّرْفَ تَسْتَرِحْ من غرامٍ ... تكتَسِي فيه ثوبَ ذُلٍّ وَشيْنِ
فبلاءُ الفتَى اتِّباعُ هَوَى النف ... س وبَدْءُ الهوى طُمُوحٌ بعَيْنِ
وجاء عن ابن عباس أنه قال: كُنَّا عند رسول الله صلى الله عليه، فمرَّبنا غلامٌ من الأَنْصَار، جميل الوجه، فَحَدَّ إليه نظرهُ، فقال له (جبريل) عليه السلام "لِمَ فَعَلْتَ ذلك يا رسول الله"؟ فقال: "رأيت وجهاً جميلا فسبحت الله أحسن الخالقين".
وقال سفيان بن عيينة: كنت عند بكر بن عبد الواحد بن زيد، فمرّ به غلام من (ثقيف) حسن
الصورة، فحدّق إليه بصره، ثم قال: (أَتُرَانَا لاَ نشتهي الذّكران من الرِّجال، وَشُرْب الخمر في
البساتين؛ ولكن خوف الله تبارك وتعالى يَمْنَعُنا).
وفي كتاب الشيخ أبي حامد رحمه الله، أن أهل مصر مكثوا أربعة أشْهُرٍ، لم يكن لهم غذاء إلاّ النظر إلى وجه يوسف الصديق عليه السلام. كانوا إذا جاعوا، نظروا إلى وجهه، فيشغلهم جماله عن ذلك. ألا ترى أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: (مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، لأنهن أبلغن في ملاحظة جماله، حتى ما أَحْسَسْنَ بذلك.
وسئل أعرابي عن الهوى، فقال: هو داء تداوى به النفوس الصحاح، وتسيل منه الأرواح، وهو سُقْمٌ مُكْتَتِم، وَجَمْرٌ مُضْطَرِم، وأنشد:
الحبُّ دَاءٌ عَيَاء لاَدواءَ له ... يَضِلُّ فيه الأطباءُ النحارِيرُ
قد كُنتُ أحسِبُ أن الوَاصِفِين غَلَوْا ... في وصفه فإذا بالقوم تقصيرُ
وكان عامر الشعبي رحمه الله يقول: إِنَّمَا سمى الهوى هوى، لأنه يهوي بصاحبه.
وحقيقة الحُبِّ أنه أَرْيَحِيَّة؛ تحدث في النفس داعية إلى مالايجوز في العقل. وذلك أن اتباع الهوى
مذموم. قال الله تبارك وتعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
وقال الطبيب إبقراط: الهَوَى بين المُتَصَافِيَيْن؛ هُوَ اْمْتِزَاجُ النَّفْسِ بالنفس، كما المَاءُ إذا امتزج بالماء، عَسُرَ تَخْلِيصُهُ عَلَى مَنْ رَامه. والنُّفُوسُ أَرَقُّ من الماء، وألطفُ مَسْلَكاً.
فلذلك لاتُزيله مرور الأيام، ولا يُخْلِقه تصرف الدهر، ولاَيَدْفَعُه دافع دَقَّ عن الأوهام مَسْلكُه، وَخَفِيَ عن الأبصار مَوْضِعُه، وحارت العقولُ في كيفية تَمَكُّنه، غير أنَّ ابتداء حركته، وعظيم سلطانه هما من القلب. ثم ينقسم على سائر الأعضاء؛ فيبدي الرعدة في الأطراف، والصفرة في الألوان، والثقل في اللسان، والزلل، والعثار في المنطق، حتى ينسب صاحبه إلى النقص مما يلحقه من الإضطراب، والتغيير في جميع أحواله. وألمه أشد الآلام. وعلاج صاحبه، يعزب عن الأطباء وذوي الأفهام. ولذلك قال أبو تمام:
أَمَّا الهَوَى فَهُوَ العذابُ فَإِنْ جَرتْ ... فِيهِ النَّوَى فَأَلِيمُ كُل أَليمِ
قال: وأحبت امرأة رجلا؛ فما فرطت في حبه، فجاءت أختها، فقالت لها: كيف أنت من حُبِّ فلان؟
فقالت: حَرَّكَ، وَاللَّهِ، حُبُّه السَّاكِن، وَسَكَّن المُتَحَرِّك. ثم أنشأت تقول:
قد كنت أَسْمَعُ بالمُحبِّ وَشَجّْوِهِ ... فَأظَل منه معَجَّباً أَتَفَكَّرُ
حَتّى ابْتُلِيتُ من الهوى فَعُظْيمَةٌ ... كادَ الفُؤاد من أَجْلها يَتَفَطَّرُ
فقالت: واللَّهِ، لا أذهب حتى أسأله؛ كيف هُو مِنْ حبك. فجاءته، فسألته: كيف أنت من حب فلانة؟
فقال لها: (الهوى هوانٌ)، ولكن خولف باسمه، وإنما يعرف ذلك من استبْكته المعارف والطلول مثلي.
وأنشد:
للحُبِّ نارٌ على قلبي مُضَرَّمَةٌ ... لم يَبْلُغِ النارُ منها غَيْرَ مِعْشَارِ
الماءُ يَنْبُعُ منها في محاجرنا ... ياللَرجاَلِ لماءٍ فَاضَ من نار
وهذا كقول أبي بكر بن دريد من أبيات أربعة قرأتها في (النوادر) لأبي علي:
عجباً لنار ضُرِّمَتْ في صدره ... فاستَنْبَطَتْ مِنْ جَفْنِهِ يَنْبُوعَا
لَهَبٌ يَكون إذَا تلبَّسَ في الحَشَا ... قيظاً فيظهرُ في الجفونِ ربيعاَ
وقال مزروع البصري: بينما أنا أسير في أزقة (البصرة)؛ إذ سمعت صوت رجل؛ فوقفت عليه،
وهو ينشد، فقلت له: ما تقول؟ فأنشد:
قلبي إلى مَاضَرَّنِي داعي ... يُكثر أشواقي وأَوْجَاعِي
لعَلَ ما أبقَى على ماأرى ... يوشك أن ينعاني النَّاعِي
كيفَ احْتِرَاسِي منْ عَدُوي إِذاَ ... كانَ عُدِّوي بَيْنَ أَضْلاَعِي
قال: فقلت له: مَا العِشْقُ؟ فقال هو ارْتِيَاحٌ في الخِلْقَة، وفَرَحٌ يَجُولُ في الرُّوح، وسُرُورٌ تُسَبِّبُه
الخواطر، في مُسْتَقَرِّ غَامض، ومَحَلٍّ لَطِيفِ المَسَالِك، يتصل بأجزاء القُوَى، وَيَنْسَابُ في الحركات.
وهو أُنْسُ العَقْل، وَبَشَاشَةُ الخواطر. وأنشد:
كُلُّ النفوس لها في قَتْلها قَوَدٌ ... إلاَّ نُفُوسٌ أَبادتها الدُّمَى القُتْلُ
وكُلُّ جرحٍ له شيءٌ يُلائمه ... إلا جروحاً جَنَتْهَا الأعينُ النُّجْلُ
وقال الضحاك: بينما أنا أطوف بالبيت؛ إذ سمعتُ جارية تقول: اللهمَّ مالكَ يوم القضاء، وخالقَ
الأرضِ والسماء، فارحَمْ أَهْلَ الهوى، واستنقذهم من البلاء، واعطف عليهم قلوبَ أَوِدَّائِهمْ بالصَّفاء،
إنك سميعُ الدعاء، فقلت: يا هذه، أما تَتَّقِينَ اللَّه، وأَنْتِ في الطواف، فأَقْبَلَتْ عَلَيَّ بوجه، كأنه فَلْقَةُ
قمر. وقالت: إِليكَ عَنِّي! لاَيُرْهِقُكَ الحُبُّ؟ فقلت: وما الحُبُّ؟ قالت: جَلَّ، واللَّهِ، أنْ يَخْفى، وخَفِيَ أن
يُرَى، له كُمونٌ ككمون النار في الحجَر إِنْ قَدَحْتَه أَوْرَى؛ وَإنْ تَرَكْتَهُ تَوَارَى.
وأنشدني بعض الأدباء لسعيد بن حميد:
ولم أَرَ مثلَ الحبِّ أسْقمَ ذا هوى ... ولا مثل حُكْمِ الحُبِّ كيف يَجُورُ
لَقَدْ صُنتُ نفسي في الضمير لَوَانَّهُ ... يُصَانُ لدى الطَّرف النَّمُوم ضميرُ
وأنشدني غيره في المعنى:
ليس خَطبُ الهوى بِخَطِبٍ يَسِيرِ ... لا يُنَبِّيكَ عَنْهُ مِثْلُ خبيرِ
ليسَ أَمرُ الهَوَى يُدَبَّرُ بالرَّأ ... ي وَلاَ بالقِياسِ والتَّفْكِيرِ
إِنَّمَا الأَمْرُ في الهوى خَطَراتٌ ... مُحْدَثَاتُ الأُمُور بَعْدَ الأُمُورِ
وأنشد أبو نصر في (القلائد) قول الأديب أبي جعفر الأعمى التطيلي:
هُوَ الهَوَى وَقديماً كنتُ أَحْذَرُهُ ... السُّقْمُ مَوْرِدُهُ والموتُ مَصْدَرُهُ
يالوعةً وجلا من نظرة آمل ... الآن أعرف رشداً كنت أنكره
جِدٌّ من الشوق كان الهَزْلَ أَوَّلُهُ ... أقَلُّ شيءٍ إذا فكرت أكْثَرُهُ
وَلي حبيبٌ دَنَا لولا تَمنُّعه ... وقد أقولُ نَأَى لولا تَذكُّرُه
وقال الآخر في المعنى:
يَا عَاذِلي قَدْ كُنْتُ قَبْلَكَ عَاذِلاً ... حَتَّى ابْتُليتُ فَصِرْتُ صَبّاً ذاهلا
الحُبُّ أول ما يَكُونُ لجاجة ... فإذا تَمَكَّنَ صَارَ شُغْلاً شَاغِلا
هذا من لفظ العبّاس بن الأحنف حيث يقول:
الحُبُّ أَوَّلُ مَا يَكُونُ لجَاجَةً ... تَاْتِي بِهِ وَتَسُوقُهُ الأَقْدَارُ
حَتَّى إِذَا اقْتَحَمَ الفَتَى لُجَجَ الهَوَى ... جَاءَتْ أُمُورٌ لاَ تُطَاقُ كِبَارُ
وَسُئِل أحد البلغاء عن الحب، فقال:
مَنْ كَانَ لَمْ يَدْرِ مَاحبٌّ أَحَسَّ بِهِ ... أَوْ كَانَ في غَفْلَةٍ أَوْ كَانَ لَمْ يَجِد
فَالحُبُّ أَوَّلُهُ رَوعٌ وآخِرُهُ ... مِثْلَ الحَرَارَةِ بينَ الخِلْبِ والكَبِد
وأنشد أبو نصر في قلائده، قول أبي القاسم بن العطار:
الحبُّ تَسْبَحُ في أَمْوَاجِه المُهَج ... لَوْ مَدَّ كَفّاً إلى الغَرْقَى بِهِ الفَرَجُ
بَحْرُ الهَوَى غرَّقت فيه سَواحِله ... فَهَلْ سَمِعْتُمْ بِبَحْر كُلُّه لجج
بين الهوى والردى في لحظه سبب ... هذي القلوب وهذي الأعين الدُّعْجُ
دين الهوى شرعة غفلٌ بلا كتب ... كما مسائله ليست لها حجج
لا العَذْلُ يدخل في سمع المشُوقِ ولا ... شخص السلو على باب الهوى يلج
كأن عيني وقد سَالَتْ مدامعها ... بحر يفيض على آفاقه خُلجُ
وقالت علية أخت ابراهيم بن المهدي:
وُضع الحُبُّ على الجَوْرِ فَلَوْ ... أنْصف المعْشوقُ فيه لَسَمجْ
لَيْسَ يُسْتَحْسَنُ في أَمْرِ الهَوَى ... عَاشِقٌ يُحْسِنُ تأليفَ الحُجَجْ
وقليلُ الحبِّ صِرْفاً خالصاً ... لك خيرٌ من كثيرٍ قد مُزِجْ
وقال الآخر، وقرأته في (النوادر) لأبي علي البغدادي:
مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنْ سَيَكْتُمُ حُبَّهُ ... حتى يُشَكِّك فيهِ فَهْوَ كَذُوبُ
الحبُّ أَغُلَبُ للفؤَاد بِقَهْرِه ... من أن يُرى للسَّتْر فيه نَصيبُ
وإذا بَدَا سرّ الفؤاد فإنه ... لم يبدُ إلاَّ والفَتَى مَغْلُوبُ
إِني لأَبْغَضُ عاشقا مُتَسَتِّراً ... لم تَتَّهِمْهُ أَعْيُنٌ وقُلوبُ
وقال العتبي سمعت أعرابيا يقول: مِسْكِين العاَشِق، الرِّيحُ يُقْلِقُه، وَلَمَعَانُ البَرْق يُؤَرِّقه، وَرُسُومُ الدِّيَار تُحْرِقه، والعَذلُ يُؤلمه، والتَّذْكير يسلمه، والبُعْدُ يجرحه، والقُرْبُ يُهَيِّجُه، واللَّيْلُ يُضَاعف بَلاَءه، والنَّوْمُ لايوجد حذاءه، ولقد تداويت بالبُعْدِ وَالقُرْب فَمَا نَجَحَ فيه دَوَاء، ولا عَزَّاني عَنْهُ عَزَاء. ولقد أحسن الذي يقول:
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا دَنَا ... يَمَلُّ وَأَنَّ النَّأْيَ يَشْفِي مِنَ الوَجْدِ
بِكُلِّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يَشْفِ مَابِنَا ... عَلَى أَنَّ قُرْب الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ البُعْدِ
القُرْبُ نَقِيضُ البُعْدِ، ونَظِيرُه الدُّنُوُّ والمجاورة. وأصل القُرْبِ، والبعد، والدنوّ؛ أن توصف بها
الأجسام؛ كما أن الحركة والسكون، إنما هما في الأصل للأجسام، وقد يقال: هذا المعنى قريب من
ذاك، على معنى المشاكلة، كمقاربة معنى الدلالة، لمعنى الحجة، ومعنى الإشتباه لمعنى الإلتباس،
ومعنى العمل لمعني اليقين، ومعنى الدوام لمعنى الخلود، ومعنى اللزوم لمعنى البقاء، وقالوا: كلُّ قُرْبٍ
كَوْن، وليس كل كون قُرباً. ومسافة القُرْب معقولة، كما أن مسافة البُعْد معقولة أيضا. وهما أصلان يُسْتَدَلُّ بهما على الكون، لأن الشيئين، أو الجزءين في أول حال وجودهما، لا يخلوان من أن يكونا متلاصقين، أو متباينين. فما تلاصق كنى عنه بالبعد والتقارب والتباين، على مراتب معقولة. والقُرْبُ أيضا؛ قُرْبُ الفرس؛ وهو كَشْحُه: وهو من لدن الشاكلة إلى مَرَاقِّ البَطْن، وكذلك من لدن الرُّفْعِ إلى الإبط: قُرُبٌ من كل جانب.
ويقولون: فَرَسٌ لاَحِقُ الأَقْرَابِ فيجمعون. وإنما له قُرْبَانٌ؛ ولكن لِسَعَته جمعوه. كما يقولون: شاةٌ
عظيمة الخَوَاصر. وإِنَّما لها خاصرتان. وقد بيّنا هذا في داخل الكتاب.
ويقولون: فَرَسٌ مُقْرِبٌ؛ وهو الذي قد قَربَ مَرْبِطُه، ومَعْلَفُه لكرامته. والجميع المُقْرَبَات، والمَقَارِيب.
ويقول: قَرَّبَ الفرس تَقْريبا. وتقريبه دون الجَرْي ويقال: قد حَيّاً فلان وَقَرَّبَ؛ إذا قال: حَيَّاكَ اللَّهُ،
وقَرَّبَ دَارَك.
والقُربَان: ما تَقَرَّبْتَ به إلى الله تعالى، تبتغي قُرْبة، وتقرِّباً ووسيلة. قال الله تعالى (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ). ذكر أهل العلم، أن القُرْبَان الذي تقبله الله عز وجل؛ قربان هابيل؛ وكان كبشاً حبسه الله عنده، حتى أخرجه لإبراهيم عليه السلام فداء لابنه، والقُرْبَان الذي لم يتقبله الله، قربان قابيل، وكان زرعاً. وكان علامة تقبل القربان، أن تأتي نار من السماء فتأكله.
وقُرْبَانُ المَلِكِ قَرَابِينُه، ووزراؤه. يقال: هذا قُرْبَانٌ من قرابين الملك. مجموع بالنون. وهم الذين
يستشفع بهم إلى الملوك. وأنشد أبو بكر بن دريد في قرابين الملك:
وَمَالِي لاَ أُحِبُّهُمُ وَمِنْهُمْ ... قَرَابِينُ الإِلَهِ بَنُو قُصَيِّ
وقال صاحب العين: القَرَبُ: طلب الماء ليلاً. تقول: قَرَبَ الماء يَقْرُبُهُ، وقد قَرَّبَهُ قَرَباً؛ إذا طلبه ليلا، قال الشاعر:
عَسَلاَنَ الذّيبِ أَمْسَى قاَرِباً ... بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ
ولا يقال لطالب الماء نهاراً قَارِبٌ، وقال الكميت:
هَاجَ الصَّوادي والحِرَّانُ فانْدَلَقَتْ ... وَانْقَضَّ سَائِقُهَا الحادي لَهَا القَرِبُ
والقَارِبُ: سفينة صغيرة تكون مع أصحاب السفن البحرية، تستخف لحوائجهم. والجمع: القَوَارِب.
والقِرَابُ للسَّيف والسِّكين، والفعل منه: قَرَّبْتُ قِرَاباً بالتشديد. ولغة أخرى: قَرَبْت قِرَابا. ويقال: قَرَبَ فلانٌ أهله قُرْبَاناً، كناية عن الغِشْيَان. وَمَا قَرَبْتُ هذا الأمر، ولا قربت فلاناً قُربَاناً ولا قُرْباً.
وَيُقَال: أَقْرَبَت الشاة فهي مُقْرِبٌ؛ إذا دنا ولادها. وكذلك الأتان. ولا يقال للناقة إلاَّ أَدْنَتْ فهي مُدْنِ.
رجع وقرأت في كتاب (النوادر) لأبي علي أخبرنا أبو بكر. قال: أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي. قال:
كان بشر بن أبي مروان شديداً على العصاة، فكان إذا ظفر بالعاصي أقامه على كُرسي، وسمّر كفه في الحائط بمسمار، ونزع الكرسي من تحته، فيضطرب حتى يموت معلقا. وكان فتى من بني عِجْل مع المهلب، وهو يحارب الأزارقة، وكان عاشقا لابنة عم له.
فكتبت إليه تستزيره، فكتب إليها:
لَوْلاَ مَخَافَةُ بِشْرٍ أَوْ عُقُوبَتُهُ ... أَوْ أَنْ يَشُدَّ عَلَى كَفِّيَ مِسْمَارُ
إِذاً لعطلتُ ثَغري ثم زُرْتُكُمُ ... إِنَّ المحبَّ إِذَا ما اشتاقَ زَوَّارُ
فكتبت إليه:
لَيْسَ المحبَّ الذي يخشَى العقابَ وَلَوْ ... كَانَتْ عُقُوبَتَهُ فِي إِلْفِهِ النَّارُ
بَلِ المُحِبُّ الَّذِي لاَ شَيءَ ينفعُهُ ... أَوْ يَسْتَقِرُّ وَمَنْ يَهْوَى بِهِ الدَّارُ
قال: فلما قرأ كتابها، عطَّلَ ثغره، وانصرف إليها، وهو يقول:
أستغفرُ اللهَ إِذ خفتُ الأمير وَلَمْ ... أَخْشَ الذي أنا فيه غيرُ مُنْتَصِرِ
فشأنُ بِشْرٍ بِلَحْمِي فَلْيُعَذِّبُهُ ... أو يَعفُ عَفْوَ أمير خيرِ مقتدرِ
فَمَا أُبَالِي إِذا أَمسيتِ راضيةً ... يا هندُ مانِيلَ من شَعرِي وَمِنْ بَشَرِي
ثم قدم (البصرة)؛ فما أقام إلا يومين، حتى وشي به واش إلى بشر. فقال: علي به، فأتيَ به فقال:
يافاسق، عطلت ثغرك! هلموا الكرسيَّ. فقال: أعز الله الأمير إن لي عذراً، فقال: وما عذرك؟ فأنشد الأبيات، فرق له وكتب إلى المُهَلَّب، فأثبته في أصحابه.
وحكى أبو العباس أحمد بن عبد ربه في كتاب (العقد). قال: قال رجل من الأدباء: لقد جلت في
مشارق الأرض، ومغاربها، حتى وصلت إلى حقائقها، فوجدت الإنسان إنما فضل الحيوان بالنطق
المعبر عن النفس، المخبر بما يَهْجُسُ في الحس، ويتصور في الضمير. ورأيت اللسان خادم الجنان، بتصرفه يتصرف، ومع توقفه يتوقف. ووجدت العقل إِمَام الخَواطر؛ وَزِمَام النَّوَاظرِ، وجَلاَء البَصَائر. ومالك الأفهام، وسُلْطَان الأوهام. وَشهِدْت الهَوَى يَخْدَعُ العقل ويَسْحَرُه؛ وَيَمْلِك اللب وَيَقْهَرُه، ويغلب اللبيب ويَبْهَرُه، حتى يَرْتبط بملكه؛ وَيَنْخَرِط في سِلكه. وَعَهِدْتُه لاَ يَعْلَق إِلاَّ بذوي الأَفْهَام اللَّطِيفة، وَالأَوْهَامِ الشَّرِيفَة. فمن اتَّسَعَ بالأَدَبِ بَاعُه؛ واشتدَّ في الظرْف ذِرَاعُه، وزكا أصله وفرعه، وكرم ذهنه وطبعه، وشق بحره وسمعه. وألف من الحلاوة جوا غذيا؛ وصادف من النظافة ثرى ثريا.
ولذلك قال عُبَيْد الريحاني: لاَ يَخْلُو أحدُ من صَبْوةٍ إلاَّ أن يكونَ وَحْشِيَّ الخِلْقَةِ، مَنْقُوضَ البِنْية، خلاف تركيب الاعتدال. وقال الرسول عليه السلام: "عجب ربنا سبحانه من شابٍّ ليست له صبوة".
وقال الأعمش: (كانوا يَسْتَحِبُّون أن تكون للشاب صبوة).
وروى عن ابراهيم بن يزيد النَّخعي، إنه كان يعجبه أن تكون للصبي إذا نشأ صبوة. وإِنَّمَا كان
يعجبهم ذلك منه، وإن كان تَرْكُ الصَّبا أسلم له، لأنه إذا تاب وارعوى، كان أشدَّ لاجتهاده في الطاعة، وأبعد له من أن يعجب بعمله، وذكر للأعمش هذا الكلام، عن ابراهيم، فقال: يخاف، ويحذر، ويجتهد.
وقال أبو حازم: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ السيئَة؛ إن عمل حسنة قط، أنفع له منها. وإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الحَسَنَة؛ إن عمل سيئة قط، أضر عليه منها.
قال ابن الأعرابي: معناه؛ أن يعمل الذَّنْب؛ فلا يزال منه مشفقاً وَجِلاً أن يعاوده فينفعه ذلك. ويعمل الحسنة فيحتسبها على ربه، ويعجب بها، ويَنْسَى فضل الله عليه فيها فتهلكه.
وقال الحسن: إِنَّ الرَّجُلَ لَيذنب الذَّنب، فما يزال كئيبا حتى يَلْقَى ربه؛ وإذا مال الرجل إلى الهوى
قبل: صَبَا يَصْبُو صَباً وَصَبْوَةً. قال الشاعر:
وَمَا يَسْتَوي الصَّابي ومَنْ ترَكَ الصَّبَا ... وَان الصَّبَا لَلْعَيْشُ لَوْلاَ العَوَاقِبُ
وكانوا يقولون (الغَريبُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَبيب).
وحكى يحي بن الفضيل، عن الأصمعي أنه قال: كنت في بعض البوادي، فقال لي أعرابي: يا
أصمعي! أنت بهذه البلدة غريب. فقلت له: نعم. فقال: هيهات هيهات! (إنما الغريب من جفاه
الحبيب). وقال الشاعر:
وفي الجِيرةِ الغَادِينَ مِنْ بطن وَجْرَةَ ... غَزالٌ كحيلُ المُقْلَتَينِ رَبِيبُ
فلا تحسَبِي أن الغريبَ الذي نأى ... ولكنَّ مَنْ تَنْأَيْنَ عنه غَريبُ
وشكا مؤدب أولاد سعد بن سليمان إلى سعد بعض أولاده. فقال له سعد: ومَا يُرِيبُكَ منه؟ قال:
إِنَّه يَتَعَشَّقُ، وَيَشْغَلُ بَالَه. فقال له سعد: دَعْهُ يَتَعَشَّق، فإِنه يَظْرُفُ، وَيَنْظُفُ، وَيَلْطُفُ.
قال أبو إسحاق:
والفرقُ بين الحبِّ والعِشْق: أن الحُبَّ في غالب الأمر عَارٍ من الشهوة؛ بَلْ في كل الأمر. لأن الله
تعالى قال في كتابه العزيز (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).
وقال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).
وفي حديث أبي هريرة فيما روى حفص بن عاصم عنه: إن من السبعة الذين يُظِلُّهم الله - عز وجل - في ظِلِّه، يوم لاظِلَّ إِلاَّ ظِلُّه رجلا لقى آخر فقال له: وَاللهِ إِنِي لأُحِبُّكَ في اللَّهِ عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك.
وفي كتاب (الشهاب):
"حَبَّذَا المُتَحَابُّونَ مِنْ أُمَّتِي" وفي الحديث الصحيح: "لايَزَالُ العَبْدُ يتقرب إِلَيَّ بالنوافل حتى أحبه". ومحبة الباري سبحانه للعبد؛ رحمته إياه، وتوفيقه للعمل بطاعته. ومَحَبَّةُ العبد لله تعالى إِنَابَتُه إليه، وَعَمَلُه بطاعته، وانْتِهَاؤُه عن مَعْصِيَّته. فَكَنَّى عن هذا كله بالمحبة. وليس في هذا كله شهوة. إنما هو إِرَادة ورغبة في حَمْد الله، والثَّنَاء عليه. وحُبُّ المؤمن للمؤمن هو إِرَادَتُه مَدْحَه، والثَّنَاء عليه قضاءً لحقه. فإذا قيل: المُومِنُ يحب المومن؛ فمعناه أنه يريد مدحه، وَيَلْهَج بالثناء عليه.
ولا يقال: المومن يريد المومن؛ لأن المحبَّة لما كانت تستعمل على مَيْل الطباع، أخرجت ذلك المخرج في الكلام، للمبالغة فيما يراد من التعظيم في الصفة. وليس العِشْقُ كما ذكرنا، لأنه مَمْزُوجٌ بالشهوة، وهو لَذَاذَاةٌ تَصْدُرُ عن فُرُط. اللَّحْظ، وكثرة الإستحسان بمناسبة روحانية ومجاذبة فلكية، وهو مخصوص بالشَّباب؛ فإن صادف مسنا، فذلك فتنة مُضّلَّة، نعوذ بالله منها.
وقال بعض الحكماء: العِشقُ ضرورة شغل نفس فارغة. وقال أرسطوطاليس: العِشقُ ضرورةٌ داخلة على النفوس.
وقال بعض الحكماء: العِشْقُ طَمَعٌ يتولد في القلب، ويَنمى، وتسري إليه موادُ الحركة، فكلما قَوِيَ،
ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج، والتمادي في الفِكر والهيمان، وضيق الصدر. فإذا فَسَد الفكر،
أدى ذلك إلى الجنون؛ فربما قَتَل العاشقُ نفسه، وربما مات غَمّاً وحُزناً، وربما نظر إلى معشوقه،
فمات فرحاً، وربما شَهقَ الشهقة، فَخَفِيَ روحه أربعة وعشرين ساعة، فَيُظَنُّ أنه قد مات فيدفن حيَّا.
وربما تنفس الصعداء، فخفيَ روحه في تَامُورِ قلبه، وينضم القلب عليه فلا ينفرج حتى يموت. وقد
ترى العاشق إذا سمع بذكر محبوبه تستحيل لونه، ويموت دمه، ويخفق قلبه. وهذا كله صحيح موجود عند أهل العشق.
وقال الشاعر، وقيل هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي:
سقيمٌ لايموتُ ولا يَفِيقُ ... قد أَقْرَحَ جَفْنَه الدَّمْعُ الطَّلِيقُ
شَدِيدُ الحزنِ يحزنُ مَنْ رَءَاهُ ... أَسِير الصّبو نَاظِرُه أريقُ
ضَجِيعُ صَبَابَة وَحليفُ هَوْنٍ ... تَحمَّل قلبُه ما لا يُطيق
يَظَل كأنه ممَّا اجتواه ... يَسْعرُ في جوانبه الحَرِيق
قال: ولمَّا ارتحلت ليلى عن قيس، جعل يقبل موضع رجليها من الأرض، وحول خبائها. فلما رأى ذلك قومه، أقبلوا على أبيه بالعذل واللَّوم. فقال ذريح، لما رأى حاله تلك: قد جنيت عليك يابني! فقال له قيس: قد كنتُ أخبرك أَنِّي مَجْنون بها، فلم تَرْضَ إلا بقتلي.
فاللَّهُ حسيبك، وحسيب أمي. وأقبل قومه يَعْذِلُونَه في تقبيل التراب، فأنشأ يقول:
فما حُبِّي لِطِيب تُرَاب أرضٍ ... ولكنْ حُبُّ مَنْ وَطِئَ التُّرَابَا
فهذا فعلُ شَيْخَيْنَا جميعاً ... أَرَادَا لِي البليَّةَ والعَذَابَا
وكان من أمره بعد ذلك ماعلم، وشهر. نعوذ بالله من آفة العشق، وفتنته.
وقال حامد البلْخي: سمعت أعرابيا ينشد:
أَهَاجَ سرورُ القَلب مِنِّي حرارةً ... فَأَوْرَثَه سُقماً على آخر الدَّهرِ
فقلت له: هَل للسُّقْم من الحُبِّ دواءٌ؟ فقال: إِلْتِقَاءُ الشَّفَتَيْنَ، بِضَمِّ البَدنَيْنِ. وقيل لهند بنت الحسن: مَا
أَلَذَّ شَئً في الدُّنْيَا؟ فقالت: قُبْلَةُ فَتَاة فتىً ضَمَّهُمَا هوىً. وَعَيْشِكَ مَا ذُقْتُهَا.
وقال جالينوس: مُحَادَثَةُ الرَّجل من يهوى، تَسُلُّ التَّعَب والنَّصَب من مَفَاصِله سَلاّ.
وقال بعض الحكماء: صَفْوُ العِيش؛ الخُلْوةُ بِمَنْ تُحب. وسُئلَ بعضُ الظُّرفاء فقيل له: مَا أَحَبُّ شيٍ
إليكَ في الدُّنْيَا؟ فقال: خُلوةٌ بِمَنْ أحب، لايرانا إِلاَّ الموت.
وقال أبو صخر الهذلي في هذا المعنى، من قصيدة قرأتها في (النوادر) لأبي علي:
تمنيتُ من حُبِّي عُلَيّةَ أَنَّنَا ... على رَمَثٍ في البحر ليس لنا وَفْرُ
على دائمٍ لايَعْبُرُ الفُلْكُ مَوْجَهُ ... ومن دونِنَا الأهوالُ واللُّجَجُ الخُضْرُ
فَنَقْضِي هَمَّ النَّفْسِ في غير رِقْبَةٍٍ ... وَيُغْرِقُ مَنْ نَخْشَى نَمِيمَتَهُ البَحْرُ
فالرَّمَثُ أعواد يضم بعضها إلى بَعض، فيركب عليها في البحر.
وَيُرْوَى: (على رمث في الشرم). والشَّرْمُ: البَحْرُ من قولهم: شَرَمْتُ الشيء إذا شَقَقْتَه. والبحر؛ من قولهم بحرت الشيء؛ إذا شققته أيضا شقّاً واسعا. وقيل: الشّرْمُ لُجَّة البحر، ومنه البحيرة، وهي الناقة المشقوقة الأذن، والناقة بَحِيرَةٌ وَهَجُورَةٌ. ويقال للبحر أيضا: البَضِيعُ من قولهم: بَضَعْتُ الشيء إذا شَقَقْتُهُ.
قوله: (ويغرق من نَخْشَى نميمته) أي: أفشاه للحديث. قال أبو زيد:



* كتاب: كنز الكتاب ومنتخب الآداب (السفر الأول من النسخة الكبرى)
المؤلف: أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسن الفهري المعروف بالبونسي (651هـ)



07.jpg
 
أعلى