أبو على أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني - الأمالي

غزلية جران العود النميري
قالوا: ومن الغزليات المختارة المقدمة قصيدة جران العود النميري، وإنما لقب بجران العود لقوله لامرأتيه:
خذا حذرا يا جارتيَّ فإنَّني ... رأيتُ جرانَ العودِ قد كادَ يصلحُ
يعني سوطاً قده من جران جمل مسن، وكان جران العود غزلا وصافا، يصف ويفرط في نسيبه، ومما كذب فيه قوله:
فأصبحَ من حيثُ التقينا غنيمةً ... سوارٌ وخلخالٌ ومرطٌ ومُطرفُ
ومنقطعاتٌ من عقودٍ تركنها ... كجمرِ الغضا في بعضِ ما يُتخطرفُ
والقصيدة
ذكرتُ الصِّبا فانهلَّتْ العينُ تذرفُ ... وراجعكَ الشَّوقُ الذي كنتَ تعرفُ
وكانَ فؤادي قد صحا ثمَّ حاجهُ ... حمائمُ ورقٌ بالمدينةِ هتَّفُ
كأنَّ الهديلَ الظالعَ الرِّجلِ وسطَها ... من البغي شرِّيبٌ يغرِّدُ منزفُ
يذكِّرننا أيامنا بسويقةٍ ... وهضبيْ قساسٍ والتَّذكُّرُ يشعفُ
وبيضاً يُصلصلنَ الحجولَ كأنَّها ... ربائبُ أبكارِ المها المتألِّفُ
فبتُّ كأنَّ العينَ أفنانُ سدْرةٍ ... عليها سقيطٌ من ندى اللَّيلِ ينطفُ
أراقبُ لمحاً من سهيلٍ كأنَّهُ ... إذا ما بدا من آخرِ اللَّيلِ يطرفُ
بدا لجرانِ العودِ والبحرُ دونهُ ... وذو حدبٍ من سروِ حميرَ مشرفُ
ولا مثلَ وجدٍ إلاّ مثلَ يومٍ تلاحقتْ ... بنا العيسُ والحادي يشلُّ ويعنفُ
لحقنَ وقد كانَ اللُّغامُ كأنَّهُ ... بأيدي المهارى والخراطيمِ كرسفُ
وما لحقتنا العيسُ حتَّى تناسلتْ ... بنا وتلانا الأخرُ المتخلِّفُ
وكانَ الهجانُ الأرحبيُّ كأنهُ ... براكبهِ جونٌ من الجهدِ أكلفُ
وفي الحيِّ ميلاءُ الخمارِ كأنَّها ... مهاةٌ بهجلٍ من أديمَ تعطَّفُ
شموسُ الصِّبا والأنسِ محطوطةُ الحشا ... قتولُ الهوى لو كانتِ الدَّارُ تسعفُ
كأنَّ ثناياها العذابَ وريقها ... ونشوةَ فيها خالطتْهنَّ قرْقفُ
تهيمُ جليدَ القومِ حتَّى كأنّهُ ... دوٍ يئستْ منهُ العوايلُ مدنفُ
وليستْ بأدنى من صبيرٍ غمامةٌ ... بنجدٍ عليها لامعٌ يتكشَّفُ
يشبِّهها الرَّائي المشبِّهُ بيضةً ... غدا في النَّدى عنها الظَّليمُ الهِجنَّفُ
بوعساءَ من ذاتِ السلاسلِ يلتقي ... عليها من العلقى نباتٌ مؤنَّفُ
وقالت لنا والعيسُ صغرٌ من البرى ... وأخفافها بالجندلِ الصُّمِّ تقذفُ
وهنَّ جنوحٌ مصغياتٍ كأنَّما ... براهنَّ من جذبِ الأزمَّةِ علَّفُ
حُمدتَ لنا حتَّى تمنَّاكَ بعضنا ... وأنتَ امرؤٌ يعروكَ حمدٌ وتُعرفُ
رفيعُ العلا في كلِّ شرقٍ ومغربٍ ... وقولكَ ذاكَ الآبدُ المتلقَّفُ
وفيكَ إذا لاقيتنا عجرفيَّةٌ ... مراراً ولا تسْتيعُ من يتعجرفُ
تميلُ بكَ الدنيا ويغلبكَ الهوى ... كما مالَ خوَّارُ النَّقا المتقصِّفُِ
ونُلقى كأنَّا مغنمٌ قد حويتهُ ... وترغبُ عن جزلِ العطاءِ فتُسرفُ
فموعدكَ الشَّطُّ الذي بينَ أهلنا ... وأهلك حتَّى تسمع الديك يهتف
وتكفيكَ آثاراً لنا حيثُ نلتقي ... ذيولٌ نُعفِّيها بهنَّ ومطرفُ
ومسحبُ ريطٍ فوقَ ذاكَ ويُمنةٍ ... يسوقُ الحصا منها حواشٍ ورفرفُ
فنصبحُ لم يُشعرْ بنا غيرَ أنَّهم ... على كلِّ ظنٍّ يحلفونَ ونحلفُ
وقالت لهم أمُّ التي أدلجتْ بنا ... لهنَّ على الإدلاجِ آنى وأضعفُ
ولو شهدتْنا أمُّنا ليلةَ النَّقا ... وليلةَ رمحٍ أرجفتْ حين نرجفُ
فلمَّا علانا اللَّيلُ أقبلتُ خفيةً ... لموعدها أعلو الأكامَ وأخلفُ
فجئتُ من الشِّقِّ الذي لم يخفنهُ ... وجانبيَ الأقصى من الخوفِ أجنفُ
وأقبلنَ يمشينَ الهُوينا تهادياً ... قصارَ الخطا منهنَّ رابٍ ومُزحفُ
فلمَّا التقينا قلنَ أمسى مسلَّطاً ... فلا يسرفنْ ذا الزائرُ المتلطِّفُ
وقلنَ تمتَّعْ ليلةَ الله هذه ... فإنَّك مرجومٌ غدا أو مسيَّفُ
وأحرزنَ منِّي كلُّ حجزةِ مئزرٍ ... لهنَّ وطاحَ النَّوفليُّ المزخرفُ
فبتنا قعوداً والقلوبُ كأنَّها ... قطا شُرَّع الأشراكِ مما تخوَّفُ
علينا النَّدى طوراً وطوراً يرشُّنا ... رذاذٌ سرى من آخرِ اللَّيلِ أوطفُ
وبتنا كأنَّا بيَّتتْنا لطيمةٌ ... من المسكِ أو خوَّارةُ الرِّيحِ قرقفُ
يُنازعننا لذَّاً رخيما كأنَّهُ ... عوائرُ من قطرٍ حداهنَّ صيِّفُ
رقيقُ النَّواحي لو تسمَّعَ راهبٌ ... ببُطنانَ قولاً مثلهُ ظلَّ يرجفُ
حديثاً لو أنَّ البقلَ يولى بمثلهِ ... ربا البقلُ واخضرَّ العضاهُ المنصِّفُ
هو الخلدُ في الدنيا لمنْ يستطيعهُ ... وقتلٌ لأصحابِ الصَّبابةِ مذعفُ
ولمَّا رأينَ الصُّبحَ بادرنَ ضوءهُ ... رسيمَ قطا البطحاءِ أو هنَّ أقطفُ
فأدركنَ أعجازاً من اللَّيلِ بعدما ... أقامَ الصَّلاةِ العابدُ المتحرِّفُ
وما ابنَ حتَّى قلنَ يا ليتَ أنَّنا ... ترابٌ وليتَ الأرضَ بالناسِ تخسفُ
فإن ننجُ من هذي ولم يشعروا بنا ... فقد كانَ بعضُ الخيرِ يدنو فيُصرفُ
فأصبحْنَ صرعى في الحجالِ وبيننا ... رماحُ العدا والجانبُ المتخوَّفُ
يبلِّغهنَّ الحاجَ كلُّ مكاتبٍ ... طويلُ العصا أو مُقعدٌ يتزحَّفُ
ومكنونةٌ رمداءُ لا يَحدرونها ... مكاتبةٌ ترمي الكلابَ وتحذفُ
رأتْ ورقاً بيضاً فشدَّتْ حزيمها ... لها فهي أمضى من سُليكٍ وألطفُ
ولن يستهيمَ الخُرَّدَ البيضَ كالدُّمى ... هدانٌ وهلْباجةُ الليلِ مقرفُ
ولا جَبلٌ ترعيَّةٌ أحبنُ النَّسا ... أغمُّ القفا ضخمُ الهِراوةِ أغضفُ
حليفٌ لوَطبيْ علبةٍ بقريَّةٍ ... عظيمُ سوادِ الشَّخصِ والعودُ أجوفُ
ولكن رفيقٌ بالصِّبا متبطرقٌ ... خفيفٌ ذفيفٌ سابغُ الذَّيلِ أهيفُ
فتى الحيِّ والأضيافِ إن نزلوا به ... حذورُ الضُّحى تِلْعابةٌ متغطرفُ
يرى الليلَ في حاجاتهنَّ غنيمةً ... إذا نامَ عنهنَّ الهِدانُ المزيَّفُ
يلمُّ كإلمامِ القُطاميِّ بالقطا ... وأسرعُ منه خطفةً حينَ يخطفُ
وأصبحَ في حيثُ التقينا غُديَّةً ... سوارٌ وخلخالٌ وبردٌ مفوَّفُ
ومنقطعاتٌ من عقودٍ تركنها ... كجمرِ الغضا في بعض ما يُتخطرفُ
وأصبحتُ غرِّيدَ الضُّحى قد ومقْنني ... بشوقٍ ولمَّاتُ المحبِّينَ تشعفُ
خبر الكميت بن زيد ونُصيب القرشي
وحدثوا أن الكميت بن زيد أنشد نصيباً القرشي يوماً وهو يستمع له، حتَّى أنشده:
وقد رأينا بها حوراً منعَّمةً ... بيضا تكامل فيها الدَّلُّ والشَّنبُ
فثنى نصيب خنصره، فقال له الكميت: ما تصنع؟ فقال: أحصي عليك خطأك، أما ترى كيف تباعدت في قولك: تكامل فيها الدل والشنب، هلا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياءُ في شفتيها حوَّةٌ لَعسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أنيابها شنبُ
ثمَّ أنشد في قصيدة أخرى:
كأنَّ الغطامطُ من جريها ... أراجيزُ أسلمَ تهجو غفارا
فقال نصيب: ما هجت أسلم غفارا قط، فاستحيا الكميت وسكت.

قصيدة ذي الرمة
وهو غيلان بن عقبة بن بهيش
ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكبُ ... كأنَّهُ من كُلىً مفريَّةٍ سربُ
وفراءَ غرفيَّةٍ أثأى خوارزها ... مشلشلٌ ضيَّعتهُ بينها الكتبُ
أستحدث الركبُ عن أشياعهم خبراً ... أم راجعَ القلبَ من أطرابهِ طربُ
من دمنةٍ نسفتْ عنها الصَّبا سعفا ... كما تنشَّرُ بعد الطَّيَّةِ الكتبُ
سيلاً من الدِّعصِ أغشتهُ معارفها ... نكباءَ تسحبُ أعلاهُ فينسحبُ
لا بل هو الشَّوقُ من دارٍ تخوَّنها ... مرَّا سحابٌ ومرَّا بارحٍ تربُ
يبدو لعينيكَ منها وهي مزمنةٌ ... نُؤُيٌ ومستوقدٌ بالٍ ومحتطبُ
إلى لوائحَ من أطلالِ أحويةٍ ... كأنَّها خللٌ موشيَّةٌ قشبُ
بجانب الزُّرقِ لم يطمسْ معالمها ... دوارجُ المورِ والأمطارِ والحقبُ
ديارُ ميَّةَ إذ ميٌّ تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجمٌ ولا عربُ
برَّاقةُ الجيدِ واللَّباتِ واضحةٌ ... كأنَّها ظبيةٌ أفضى بها لببُ
بينَ النهارِ وبينَ الليلِ من عقدٍ ... على جوانبهِ الأسباطُ والهدبُ
عجزاءُ ممكورةٌ خمْصانةٌ قلقٌ ... عنها الوشاحُ وتمَّ الحسنُ والقصبُ
زينُ الثيابِ وإن أثوابها استُلبتْ ... فوقَ الحشيةِ يوماً زانها السَّلبُ
تريكَ سنَّةَ وجهٍ غيرَ مقرفةٍ ... ملساءَ ليس بها خالٌ ولا ندبُ
إذا أخو لذَّةِ الدنيا تبطَّنها ... والبيتُ فوقهما باللَّيلِ محتجبُ
سافتْ بطيِّبةِ العرنينِ مارنُها ... بالمسلكِ والعنبر الهنديِّ مختضبُ
تزدادُ للعينِ إبهاجا إذا سفرتْ ... وتحرجُ العينُ فيها حينَ تنتقبُ
لمياءُ في شفتيْها حوَّةٌ لعسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أنيابها شنبُ
كحلاءُ في برجٍ صفراءُ في نعجٍ ... كأنَّها فضَّةٌ قد مسَّها ذهبُ
والقرطُ في حرَّةِ الذِّفْرى معلَّقةٌ ... تباعدَ الحبلُ منه فهو يضطربُ
تلك الفتاة التي علِّقتها عرضا ... إنَّ الكريمَ وذا الإسلامِ يختلبُ
لياليَ اللَّهوُ يطبيني فأتبعهُ ... كأنَّني ضاربٌ في غمرةٍ لعبُ
لا أحسبُ الدَّهرَ يبلي جدَّةً أبداً ... ولا تقسِّمُ شعباً واحداً شُعبُ
زارَ الخيالُ لميٍّ هاجعا لعبتْ ... به التَّنائفُ والمُهريَّةُ النُّجبُ
معرِّساً في بياض الصُّبحِ وقعتهُ ... وسائرُ السَّيرِ إلاّ ذاكَ منجذبُ
أخا تنائفَ أغفى عندَ ساهمةٍ ... بأخلقِ الدَّفِّ من تصديرها جلبُ
تشكو الخشاشَ ومجرى النِّسعتينِ كما ... أنَّ المريضُ عوَّادهِ الوصبُ
كأنَّها جملٌ وهمٌ وما بقيتْ ... إلاّ النَّحيزةُ والألواحُ والعصبُ
لا تشتكي سقطةً منها وقد رقصتْ ... بها المفاوزُ حتَّى ظهرُها حدِبُ
تخدي بمُنخرقِ السِّربالِ منصلتٍ ... مثلِ الحسامِ إذا أصحابهُ شحبوا
والعيسُ من عاسجٍ أو واسجٍ خببا ... يُنحزنَ من جانبيها وهيَ تنسلبُ
تصغي إذا شدَّها بالكورِ جانحةً ... حتَّى إذا استوى في غرزها تثبُ
وثبَ المسحَّجِ من عاناتِ معلُقةٍ ... كأنَّهُ مستبانُ الشَّكِّ أو جنبُ
يحدو نحائصَ أشباهاً محملجةً ... ورْقَ السَّراويلِ في ألوانها خطبُ
لهُ عليهنَّ بالخلصاءِ مربعةٌ ... فالفودجاتِ فجنبيْ واحفٍ صخبُ
حتَّى إذا معمعانُ الصَّيفِ هبَّ له ... بأجَّةٍ نشَّ الماءُ والرُّطبُ
وصوَّحَ البقلَ نأَّاجٌ تجيء به ... هيفٌ يمانيةٌ في مرِّها نكبُ
وأدركَ المتبقَّى من ثميلتهِ ... ومن ثمائلها واستنشيء الغربُ
تنصَّبتْ حولهُ يوماً تراقبهُ ... صحرٌ سماحيجُ في أحشائها قببُ
حتَّى إذا اصفرَّ قرنُ الشَّمسِ أو كربت ... أمسى وقد جدَّ في حوبائه القربُ
فراحَ منصلتاً يحدو حلائلهُ ... أدنى تقاذفهِ التَّقريبُ والخببُ
يعلو الحزونَ بها طوراً ليتعبها ... شبهَ الضَّرارِ فما يزري به التَّعبُ
كأنَّهُ كلَّما ارفضَّتْ حزيقتها ... بالصُّلبِ من نهسه أكفالها كلبُ
كأنها إبلٌ ينجو بها نفرٌ ... من آخرينَ أغاروا غارةً جلبُ
والهمُّ عينُ أُثالٍ ما ينازعهُ ... من نفسهِ لسواها مورداً أربُ
فغلَّستْ وعمودُ الصبح منصدعٌ ... عنها وسائرهُ بالليلِ محتجبُ
عيناً مطحلبةَ الأرجاءِ طاميةً ... فيها الضَّفادعُ والحيتانُ تصطخبُ
يستهلُّها جدولٌ كالسَّيفِ منصلتٌ ... بين الأشاءِ تسامى حولهُ العسبُ
وبالشمائلِ من جلاَّنَ مُقتنصٌ ... رذلُ الثِّيابِ خفيُّ الشخصِ منزربُ
معدُّ زرقٍ هدتْ قضباً مصدَّرةً ... ملسَ المتونِ حداها الريشُ والعقبُ
كانتْ إذا وذقتْ أمثالهنّ له ... فبعضهنَّ عن الألاَّفِ مشتعبُ
حتَّى إذا الوحشُ في أهضامِ موردها ... تغيَّبتْ رابها من خيفةٍ ريبُ
فعرَّضتْ طلقا أعناقها فرقاً ... ثمَّ اطَّباها خريرُ الماء ينسكبُ
فأقبلَ الحقبُ والأكبادُ ناشزةً ... فوقَ الشَّراسيفِ من أحشائها تجبُ
حتَّى إذا أزلَجتْ عن كل حُنجرةٍ ... إلى الغليلِ ولم يقصعْنهُ نُغبُ
رمى فأخطأ والأقدارُ غالبةٌ ... فانصعنَ والويلُ هجِّيراهُ والحربُ
يقعنَ بالسَّفحِ مما قد رأينَ به ... وقعاً يكادُ حصى المعزاءِ يلتهبُ
كأنَّهنَّ خوافي أجدلٍ قرمٍ ... ولَّى ليسبقهُ بالأمعزِ الخربُ
أذاكَ أم نمشٌ بالوشي أكرعهُ ... مسفَّعُ الخدِّ غادٍ ناشطٍ شببُ
تقيَّظَ الرَّملَ حتَّى هزَّ خِلفتهُ ... تروُّحُ البرد ما في عيشهِ رتبُ
ربلاً وأرطى نفتْ عنهُ ذوائبهُ ... كواكبَ الحرِّ حتَّى ماتتِ الشُّهبُ
أمسى بوهبينِ مجتازاً لمرتعه ... من ذي الفوارسِ تدعو أنفهُ الرِّببُ
حتَّى إذا جعلتْهُ بينَ أظهُرها ... من عجمةِ الرَّملِ أثباجٌ لها حببُ
ضمَّ الظلامُ على الوحشيِّ شملتهُ ... ورائحٌ من نشاصِ الدَّلوِ منسكبُ
فباتَ ضيفاً إلى أرطاةِ مرتَكمٍ ... من الكثيبِ لها دفءٌ ومحتجبُ
ميلاءَ من معدنِ الصِّيرانِ قاصية ... أبعارهنَّ على أهدافها كثبُ
وحائلٌ من سفير الحولِ جائلهُ ... حولَ الجراثيمِ في ألوانهِ شهبُ
كأنَّما نفضَ الأحمال داويةً ... على جوانبهِ الفرْصادُ والعنبُ
كأنَّهُ بيت عطَّارٍ يُضمِّنهُ ... لطائمَ المسكِ يحويها وتنتهبُ
إذا استهلَّتْ عليه غبْيةٌ أرجتْ ... مرابضَ العينِ حتَّى يأرجَ الخشبُ
تجلو البوارقُ من مجرَنمزٍ لهقٍ ... كأنَّهُ متقبِّي يلمقٍ عزبُ
والودقُ يستنُّ عن أعلى طريقته ... جولَ الجمانِ جرى في سلكهِ الثُّقبُ
يغشى الكناسَ بروْقيْهِ ويهدمهُ ... من هائلِ الرَّملِ منقاضٌ ومنكثبُ
إذا أرادَ انكراساً فيه عنَّ له ... دون الأُرومةِ من أطنابها طنبُ
وقد توجَّسَ ركزاً مقفرٌ ندسٌ ... بنبأةِ الصوتِ ما في سمعه كذبُ
فباتَ يُشئزهُ ثأدٌ ويُسهرهُ ... تذؤبُ الرِّيحِ والوسواسُ والهضبُ
حتَّى إذا ما انجلى عن وجهه فلقٌ ... هاديهِ في أخرياتِ اللَّيلِ منتصبُ
أغباشَ ليلٍ تمامٍ كان طارقهُ ... تطخطخُ الغيمِ حتَّى مالهُ جوبُ
غدا كأنَّ به جِنَّاً تذأبهُ ... من كلِّ أقطارهِ يخشى ويرتقبُ
حتَّى إذا ما لها في الجدرِ واتَّخذت ... شمسُ النَّهارِ شعاعا بينهُ طِببُ
ولاحَ أزهرُ مشهورٌ بنقبته ... كأنه حين يعلو عاقراً لهبُ
هاجتْ له جوَّعٌ زرقٌ مخضرَّةٌ ... شوازبٌ لاحها التَّغريثُ والجنبُ
غضفٌ مُهرَّتهُ الأشداقِ ضاريةٌ ... مثلُ السَّراحينِ في أعناقها العذبُ
ومطعمُ الصَّيدِ هبَّالٌ لبغيته ... ألفى أباهُ بذاك الكسبِ يكتسبُ
مقزَّعٌ أطلسُ الأطمارِ ليس لهُ ... إلاّ الضِّراء وإلا صيدها نشبُ
فانصاعَ جانبهُ الوحشيَّ وانكدرتْ ... يلحبنَ لا يأتلي المطلوبُ والطَّلبُ
حتَّى إذا دوَّمتْ في الأرضُ راجعهُ ... كبرٌ ولو شاءَ نجَّى نفسهُ الهربُ
خزايةً أدركتهُ بعد جولتهِ ... من جانبِ الحبلِ مخلوطاً بها غضبُ
فكفَّ من غربهِ والغضفُ يسمعها ... خلفَ السَّبيبِ من الإجهادِ تنتحبُ
بلَّتْ به غيرَ طياشٍ ولا رعشٍ ... إذ جلنَ في معركٍ يُخشى به العطبُ
فكرَّ يمشقُ طعناً في جواشنها ... كأنه الأجرَ في الأقبالِ يحتسبُ
فتارةً يخضُ الأعناقَ عن عرضٍ ... وخضاً وتُتنظمُ الأسحارُ والحببُ
يُنحي لها حدَّ مدريٍّ يجوفُ به ... حالاً ويصردُ حالاً لهْذمٌ سلبُ
حتَّى إذا كنَّ محجوزاً بنافذةٍ ... وزاهقاً وكلا روقيهِ مختضبُ
ولَّى يهزُّ انهزاماً وسطها زعلاً ... جذلانَ قد أفرختْ عن روعهِ الكربُ
كأنه كوكبٌ في إثرِ عفريةٍ ... مسوَّمٌ في سوادِ الليل منقضبُ
وهنَّ من واطيء يثني حويَّته ... وناشجٍ وعواصي الجوفِ تنشخبُ
أذاكَ أم خاضبٌ بالسيِّ مرتعهُ ... أبو ثلاثينَ أمسى وهو منقلبُ
شختُ الجُزازةِ مثلُ البيتِ سائره ... من المسوح خدبٌّ شوْقبٌ خشبُ
كأنَّ رجليهِ مسماكانِ من عشرٍ ... صقبانِ لم يتقشَّرْ عنهما النَّجبُ
ألهاهُ آءٌ وتنُّومٌ وعقبتهُ ... من لائحِ المروِ والمرعى له عقبُ
فظلَّ مختضعاً يبدو فتنكرْهُ ... حالا ويسطعُ أحيانا فينتسبُ
كأنه حبشيُّ يبتغي أثراً ... أو من معاشرَ في آذانها الخُربُ
هجنَّعٌ راحَ في سوداءَ مُخملةٍ ... من القطائفِ أعلى ثوبهِ الهدبُ
أو مقحمٌ أضعفَ الأبطانِ حادجهُ ... بالأمسِ فاستأخرَ العدلانِ والقتبُ
أضلَّهُ راعيا كلبيَّةٍ صدرا ... من مُطلبٍ وطلى الأعناقِ تضطربُ
فأصبحَ البكرُ فرداً من صواحبه ... مرتادَ أحليةٍ أعجازها شذبُ
عليه زادٌ وأهدامٌ وأخفيةٌ ... قد كاد يجتزُّها عن ظهرهِ الحقبُ
كلٌّ من المنظر الأعلى له شبهٌ ... هذا وهذان قدُّ الجسمِ والنُّقبُ
حتَّى إذا الهيقُ أمسى شامَ أفرخهُ ... وهنَّ لا مؤيسٌ نأيا ولا كثبُ
يرقدُّ في ظلِّ عرَّاصٍ ويطردهُ ... حفيفُ نافجةٍ عثْنونها حصبُ
تبري له صلعةٌ خرُجاءُ خاضعةٌ ... فالخرقُ دونَ بناتِ البيضِ منتهبُ
كأنَّها دلو بئرٍ جدَّ ماتحها ... حتَّى إذا ما رآها خانها الكربُ
ويلمَّها روحةً والريحُ معصفةٌ ... والغيثُ مرتجزٌ والليلُ مقتربُ
لا يذخرانِ من الإيغالِ باقيةً ... حتَّى تكادُ تفرَّى عنهما الأهبُ
فكلما هبطا من شأوٍ شوطهما ... من الأماكنِ مفعولٌ به العجبُ
لا يأمنانِ سباعَ الأرضِ أو بردا ... إن أظلما دون أطفالِ لها لجبُ
جاءت من البيضِ زعراً لا لباسَ لها ... إلاّ الدَّهاسُ وأمٌّ برَّةٌ وأبُ
فكأنَّما فلقتْ عنها ببلقعةٍ ... جماجمٌ يبَّسٌ أو حنُظلٌ خربُ
مما تقيِّضَ عن عوجٍ معطَّفةٍ ... كأنَّها شاملٌ أبشارها جربُ
أشداقها كصدوعِ النَّبعِ في قللٍ ... مثل الدَّحاريج لم ينبتْ بها الزَّغبُ
كأنَّ أعناقها كرَّاثُ سائفةٍ ... طارتْ لفائفهُ أو هيشرٌ سلبُ


* كتاب: الأمالي
المؤلف: أبو على أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني (المتوفى: 421هـ)




66b774912dfe708f85a56888a57fa47a.jpg
 
أعلى