أحمد إبراهيم خضر - الحب الذي لا نظير له

بسم الله الرحمن الرحيم، والصَّلاة والسَّلام على رسوله وعلى آله وصحبه أجمعين.

اختصم فريقان في الحب؛ فريقٌ مدح الحب وتمنَّاه وغبط صاحبه عليه، وفريقٌ كرهه وذمَّه وتبرَّم منه، ولكلِّ فريق حججه وأدلَّته التي عرضها الشيخ ابن القيم - رحمه الله - ثم فصل النِّزاع بين الفريقين، فقال:

إنَّ العشق لا يُحمَد مطلقًا ولا يذمُّ مطلقًا، وإنما يُحمَد ويُذمُّ بالنظر إلى المحبوب؛ لأنَّ الحب تابع للمحبوب، ثم حدَّد ما هو هذا الحب الذي لا نظيرَ له ولا مثيلَ لمن تعلَّق به؛ إنَّه الحب الذي يقتضي كمالَ الذلِّ والخضوع والتعظيم والانقياد ظاهرًا وباطنًا، إنَّه الحبُّ الذي يصرف فيه المحبُّ كلَّ قوى حبِّه لله تعالى، يحبُّ الله بكل قلبه وجوارحه.

هذا هو موضوع إصدارنا الخامس عشر في سلسلة "مختارات من كتب التراث الإسلامي" الذي نُواصل به رحلتنا مع الشيخ ابن القيم في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"؛ تحقيق الدكتور السيد الجميلي.

• • •

انقسم الناس في نظرتهم للحبِّ إلى قسمين: قسم مدحوا الحبَّ وتمنَّوه ورغبوا فيه، وقسم ذمَّه وتبرَّم به.

القسم الأول: مَن مدح الحب وتمنَّاه وغبط صاحبه عليه:

زعَم هؤلاء الناس أنَّ مَن لم يذق طعم الحب، لم يذق طعم العيش، وقدَّموا العديد من الأدلَّة لتأييد وجهة نظرهم، منها ما يلي:

1- أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حبَّب إلى رسلِه وأنبيائه نساءَهم وسراريهم، هذا آدم أبو البشر كان شديدَ المحبَّة لحواء، وقد أخبر الله - سبحانه وتعالى - أنَّه خلق زوجته منه ليسكن إليها، وأنَّ حبَّه لها هو الذي حملَه على موافقتها في الأكل من الشجرة، وأنَّ أوَّل حب كان في هذا العالم هو حب آدم لحواء، وصار ذلك سنَّة في ولده في المحبَّة بين الزوجين، وهذا داود - عليه السلام - جَمَعَ بين مائة امرأة من محبَّته للنساء، وكذلك ابنه سليمان.

وقد عاب اليهود - عليهم لعائن الله - على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - محبَّةَ النساء وكثرة تزوُّجه؛ فأنزل الله - سبحانه وتعالى - دفاعًا عنه وإخبارًا بأنَّ ذلك من فضله وإنعامه عليه؛ فقال: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54]، كما كان عند إبراهيم خليل الرحمن "سارة" أجمل النساء، ثم تسرَّى بهاجر، وكان يحبُّها حبًّا شديدًا.

وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: بعثني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على جيشٍ وفيهم أبو بكر وعمر - رضِي الله عنهما - فلمَّا رجعت، قلت: يا رسول الله، مَن أحبُّ الناس إليك؟ قال: ((وما تريد؟)) قلت: أحب أنْ أعلم، قال: ((عائشة))، قلت: إنما أعني من الرجال، قال: ((أبوها))[1].

ذكرتْ فاطمةُ - رضي الله عنها - عائشةَ - رضي الله عنها - عند النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال لها: ((يا بنية، إنها حبيبة أبيك))، وأرسل أزواج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاطمة - رضِي الله عنها - إليه، فدخلت وهو مضطجع معها في رداءٍ لها، فقالت: يا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنَّ أزواجك يسألْنَك العدلَ في ابنة أبي قحافة، وكانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - ساكتةً - فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لابنته: ((ألست تحبين ما أحبُّ؟)) قالت: بلى، قال: ((فأحبِّي هذه))[2].

وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقسمُ بين نسائه فيعدل، ويقول: ((اللهمَّ هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك))[3]، يريد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه يطبقُ العدلَ بينهنَّ في النفقة عليهن، والقسم بينهن، وأمَّا التسوية بينهنَّ في المحبَّة، فليست إليه ولا يملكها.

وفُسِّر قوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ [النساء: 129] بالحب والجماع.

وفرض عمر - رضِي الله عنه - لأمَّهات المؤمنين - رضي الله عنهن - عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين وقال: إنها حبيبة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وكان مسروق إذا حدَّث عن عائشة - رضي الله عنها - يقول: "حدثتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، حبيبة رسول الله، المبرَّأة من فوق سبع سموات".

2- أحبَّ من الخلفاء الراشدين والأئمَّة المهديين كثيرٌ.

3- اشترى عبدالله بن عمر جاريةً رومية وكان يحبُّها حبًّا شديدًا، فوقعت ذات يومٍ عن بغلة له، فكان يمسح التراب عن وجهها ويفديها، وكانت تقول له: أنت قالون؛ تعني: جيدًا، ثم هربت منه فحزن عليها حزنًا شديدًا وقال:
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي قَالُونَ فَانْصَرَفَتْ
فَالْيَوْمَ أَعْلَمُ أَنِّي غَيْرُ قَالُونِ

4- قصة مُغيث وعشقه بَرِيرَةَ، حتى إنَّه كان يطوف وراءها ودموعه تسيل على خدَّيْه.

5- قال ابن مسعود: بينما نحن عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قريبٍ من ثمانين رجلاً ليس فيهم إلا قرشي، والله ما رأيت صفحة وجوه قطُّ أحسن من وجوههم يومئذٍ، فذكروا النساء فتحدَّثوا فيهن وتحدَّثت معهم، حتى أحببت أنْ نسكت، قالوا: ولولا لطافة الحب ولذَّته، ما تمنَّاه المتمنون.

6- العشق المباح يُؤجَر عليه العاشق؛ كما قال شريك بن عبدالله وقد سُئِلَ عن العشاق، فقال: أشدُّهم حبًّا أعظمهم أجرًا.

7- المرأة التي تبيتُ مهاجرة لفراش عاشقها الذي هو بعلها تلعَنُها الملائكة حتى تصبح.

8- العشق يُصفِّي العقل، ويُذهب الهمَّ، ويبعث على حسن اللباس، وطيب المطعم، ومكارم الأخلاق، ويعلي الهمة، ويحمل على طيب الرائحة، وكرم العشرة، وحفظ الأدب والمروءة، وهو بلاء الصالحين، ومحنة العابدين، وأرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم رقيقة ضعيفة، وأزواجهم بطيئة الانقياد لمن قادَها، حاشا سكنها الذي سكنت إليه وعقدت حبها عليه، والعشق أنيس النفس، ومحادث العقل، يشجع الجبان، ويسخي البخيل، ويصفي ذهن البليد، ويفصح لسان العييِّ، ويبعث حزم العاجز، إنَّه داعية الأدب، وأوَّل باب تفتقُ به الأذهان والفطن، وتستخرج به دقائق المكايد والحيل، وإذا عشق الإنسان لطف ورقَّ وظرف، وحسنت عباراته، وجادت رسائله، وحلت شمائله، فواظَبَ على المليح، واجتنب القبيح.

وسُئِلَ البعضُ: هل يسلم أحدٌ من العشق؟ فقال: نعم؛ الجلف الجافي الذي ليس له فضلٌ، ولا عنده فهم.

وقيل: لا يكمل أحد قطُّ إلا مَن عشق أهل الكمال وتشبَّه بهم، فالعالم يبلغ في العلم بحسَب عشقه له، وكذلك صاحب كلِّ صناعة وحرفة، ويكفي أنَّ العاشق يرتاحُ لكريم الأخلاق والأفعال والشيم؛ لتحمد شمائله عند معشوقه.

9- يكفي أنْ يكون الأعرابي الذي لا يذكر مع الملوك ولا مع الشجعان الأبطال يعشقُ ويسهرُ بالعشق، فيُذكَر في مجالس الملوك والخلفاء ومَن دونهم، وتُدوَّن أخبارُه، وتروى أشعارُه، ويبقى له العشق ذكرًا مخلدًا، ولولا العشقُ لم يُذكَر له اسم، ولم يُرفَع له رأس.

10- قالوا في العشق:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى
فَقُمْ فَاعْتَلِفْ تِبْنًا فَأَنْتَ حِمَارُ
إِذَا لَمْ تَذُقْ فِي هَذِهِ الدَّارِ صَبْوَةً
فَمَوْتُكَ فِيهَا وَالْحَيَاةُ سَوَاءُ
وَلاَ خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزُرْ
حَبِيبًا وَلاَ وَافَى إِلَيْكَ حَبِيبُ
وَمَا ذَاقَ طَعْمَ الْعَيْشِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
حَبِيبٌ إِلَيْهِ يَطْمَئِنُّ وَيَسْكُنُ
وَلاَ خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ صَبَابَةٍ
وَلَا فِي نَعِيمٍ لَيْسَ فِيهِ حَبِيبُ

10- قد قال سويد بن سعيد الحدثاني: حدثنا علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من عشق فكتم، وعف وصبر فمات، فهو شهيد))[4].

وقد أنكر حفَّاظ الإسلام هذا الحديثَ على سويد، وقد تكلم الناس فيه، فقال ابن المديني: "ليس بشيء، والضرير إذا كان عنده كتب، فهو عيب شديد"، وقال يعقوب بن شيبة: "صَدوق مضطرب الحفظ، ولا سيَّما بعدما عمِي"، وقال البخاري: "كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه"، وقال الجرجاني: "هذا الحديث أحدُ ما أُنكِر على سويد"، وأنكره البيهقي وأبو الفضل بن طاهر، وأبو الفرج بن الجوزي وأدخله في كتابه "الموضوعات".

القسم الثاني: مَن ذمَّ العشق وتبرَّم به:

استند أصحاب هذا الرأي إلى ما يأتي:

1- قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا ينبغي للمرء أنْ يذلَّ نفسه))[5]، قال الإمام أحمد: تفسيره: أنْ يتعرَّض من البلاء لما لا يطيقُ، وهذا مطابقٌ لحال العاشق، فإنه أذلُّ الناس لمعشوقه، ولما يجلب به رضاه، والحب مبنيٌّ على الذل والخضوع.

قال الشاعر:
مَسَاكِينُ أَهْلُ العِشْقِ حَتَّى قُبُورُهُمْ
عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ المَقَابِرِ

2- إذا اقتحم العبد بحرَ العشق ولعبتْ به أمواجه، فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة، والحبُّ أمرٌ يمنع القرار، ويسلب المنام، ويُوله العقل، ويحدثُ الجنون، وهو نفسه جنون، وكم من عاشقٍ أتلف في معشوقه مالَه وعرضَه ونفسه، وضيَّع أهله ومصالح دينه ودنياه.

وقال البعض في الهوى: إنَّه هوان، ولكنَّه خُولف في اسمه.

وكم أكبَّت فتنة العشق رؤوسًا على مَناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مُقاساة العذاب الأليم، وجرَّعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم، وكم أخرجتْ مَن شاء الله من العلم والدِّين، كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالت من نعمة، وأحلَّتْ من نقمة، وكم أنزلت من معقل عزِّه عزيزًا فإذا هو من الأذلِّين، ووضعت من شريفٍ رفيع القدر والمنصب فإذا هو من أسفل السافلين، وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلَّت من ندم، وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد، وأذهبت قدرًا كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت من بلاء وشقاء، وسوء قضاء، وشماتة أعداء، وقلَّ أنْ يُفارق العشق زوال نعمة، أو فُجاءة نقمة، أو تحويل عافية، أو طروق بليَّة، أو حدوث رزيَّة، فلو سألت النِّعَمَ: ما الذي أزالك؟ والنِّقَمَ: ما الذي أتى بك؟ والهمومَ والأحزان: ما الذي جلبك؟ والعافيةَ: ما الذي أبعدك وجنبك؟ والسترَ: ما الذي كشفك؟ والوجهَ: ما الذي أذهب نورَك وكسفك؟ والحياةَ: ما الذي كدَّرك؟ وشمسَ الإيمان: ما الذي أفلك؟ وعزَّةَ النفس: ما الذي أذلَّك؟ وبالهوان بعد الإكرام بدَّلك؟ لأجابتكَ بلسان الحال اعتبارًا: هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون.

3- العشق يترُك الملِك مملوكًا، والسلطان عبدًا، كما قال الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل - وكان ملك الأندلس -:
ظَلَّ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِ مَمْلُوكَا
وَلَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَاكَ مَلِيكَا

وقال أحد الملوك في جاريةٍ له عشقها، وكانت كثيرة التجنِّي عليه:
أَمَا يَكْفِيكِ أَنَّكِ تَمْلِكِينِي
وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهَمُ عَبِيدِي

وقال ابن الأحمر ملك الأندلس:
أَيَا رَبَّةَ الخِدْرِ الَّتِي أَذْهَبَتْ نُسْكِي
عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْتِ لا بُدَّ لِي مِنْكِ
فَإِمَّا بِذُلٍّ وَهْوَ أَلْيَقُ بِالهَوَى
وَإِمَّا بِعِزٍّ وَهْوَ أَلْيَقُ بِالمُلْكِ

4- هناك مَن يهرب من الحبِّ إلى التلف؛ أي: من تلفٍ إلى تلفٍ، قال أحد الشعراء: كنت بالثغر فنودي بالنفير، فخرجت مع الناس، فإذا بفتى يجرُّ رمحه بين يدي، فالتفت فنظر إليَّ ثم قال اسمع منِّي:
أَنَا فِي أَمْرِي رَشَاد
بَيْنَ غَزْوٍ وَجِهَادِ
بَدَنِي يَغْزُو عَدُوِّي
وَالهَوَى يَغْزُو فُؤَادِي

ثم قال: كيف ترى؟ قلت: جيِّد والله، قال: فوالله ما خرجت إلا هاربًا من الحب، ثم قاتَل حتى قُتِلَ.

5- الداخل في الحب يتمنَّى الخلاص منه، وقال أحد الشعراء:
إِنِ اللهُ نَجَّانِي مِنَ الحُبِّ لَمْ أَعُدْ
إِلَيْهِ وَلَمْ أَقْبَلْ مَقَالَةَ عَاذِلِي
وَمَنْ لِي بِمَنْجَاةٍ مِنَ الحُبِّ بَعْدَمَا
رَمَتْنِي دَوَاعِي الحُبِّ بَيْنَ الحَبَائِلِ

6- وقيل في ذم الحب:
وَيْحَ المُحِبِّينَ مَا أَشْقَى نُفُوسَهُمُ
إِنْ كَانَ مِثْلُ الَّذِي بِي بِالمُحِبِّينَا
يَشْقَوْنَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِعِشْقِهِمُ
لا يُرْزَقُونَ بِهِ دُنْيَا وَلا دِينَا

وقال آخَر:
العِشْقُ مَشْغَلَةٌ عَنْ كُلِّ صَالِحَةٍ
وَسَكْرَةُ العِشْقِ تَنْفِي لَذَّةَ الوَسَنِ

وقال آخر:
وَالعِشْقُ يَجْتَذِبُ النُّفُوسَ إِلَى الرَّدَى
بِالطَّبْعِ وَا حَسَدِي لِمَنْ لَمْ يَعْشَقِ

وقال أعرابي:
أَلا مَا الهَوَى وَالحُبُّ بِالشَّيْءِ هَكَذَا
يَذِلُّ بِهِ طَوْعُ اللِّسَانِ فَيُوصَفُ
وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ قَضَى اللهُ أَنَّهُ
هُوَ المَوْتُ أَوْ شَيْءٌ مِنَ المَوْتِ أَعْنَفُ
فَأَوَّلُهُ سُقْمٌ وَآخِرُهُ ضَنًى
وَأَوْسَطُهُ شَوْقٌ يَشِفُّ وَيُتْلِفُ
وَرَوْعٌ وَتَسْهِيدٌ وَهَمٌّ وَحَسْرَةٌ
وَوَجْدٌ عَلَى وَجْدٍ يَزِيدُ وَيَضْعُفُ

7- قصَّ الله - سبحانه وتعالى - في سورة الأعراف في شأن أصحاب الهوى المذموم ما يُوجب الحذرَ والاعتبار والاستبصار، فبدأ الله بهوى إبليس الذي أدَّى به إلى التكبُّر عن طاعة الله - عزَّ وجلَّ - في أمره بالسجود لآدم.

ثم ذكَر سبحانه هوى آدم حين رغب في الخلود في الجنة، وأدَّى به هواه إلى أنْ أكل من الشجرة التي نُهِي عنها، وقِيلَ: إنَّه أكل منها طاعةً لحواء، فحمله حبُّه لها أنْ أطاعها، ودخل في هواها، وتوصَّل إليه عدوُّه من طريقها، ودخل عليه من بابها، فأوَّل فتنةٍ في هذا العالم كانت بسبب النساء.

ثم ذكر تعالى قصَّة قوم نوح، وكيف أدَّى بهم الهوى إلى الغرق في الدنيا ودخول النار في الآخرة، ثم قصَّة عاد وقوم صالح، ثم قصة قوم لوط الذين أخذهم الله وهم في خوضهم يلعبون، وقطع دابرَهم وهم في سُكر عشقهم يعمَهون.

وكذلك قوم شعيب الذين أدَّى بهم حبُّ المال إلى بخس المكيال والميزان، وغَلَبَهم الهوى على طاعة نبيِّهم حتى أصابهم العذاب، وكذلك قوم فرعون الذين حَمَلَهم الهوى والشهوةُ وعشق الرئاسة على تكذيب موسى - عليه السلام.

وكذلك أهل السبت الذين مُسِخوا قردةً بسبب محبَّتهم للحيتان، وشهوة أكلها والحرص عليها، والمقصود أنَّ هذه السورة (سورة الأعراف) من أوَّلها إلى آخِرها كانت في ذِكر حال أهل الهوى والشهوات وما آل إليه أمرُهم، فالعشق والهوى أصل كل بليَّة.

8- روى شعبة عن عبدالملك بن عمير قال: سمعت مصعب بن سعدٍ يقول: كان سعد يُعلِّمنا هذا الدعاء ويذكره عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم أعوذُ بك من فتنة النساء، وأعوذُ بك من عذاب القبر))[6].

فصل النِّزاع بين الفريقين:

"إذا أردت أنْ تعرف قيمة العبد وقدره، فانظُر إلى محبوبه ومراده".
"والعشق المحمود لا يعرض فيه شيءٌ من الآفات المذكورة".

العشق لا يُحمد مطلقًا ولا يُذمُّ مطلقًا، وإنما يُحمد ويُذم بالنظر إلى المحبوب؛ لأنَّ الحبَّ تابعٌ للمحبوب، فمتى كان المحبوب ممَّا يُحَبُّ لذاته أو وسيلة تُوصله إلى ما يحبُّ لذاته، لم تذمَّ المبالغة في محبَّته، بل تُحمد، وصلاح حال المحبِّ يتوقَّف على قوَّة محبَّته؛ ولهذا كان أعظم صلاح الإنسان هو أنْ يصرف قوى حبِّه كلها لله تعالى؛ بحيث يحبُّ الله بكلِّ قلبه وجوارحه، فيوحد محبوبه ويوحد حبه؛ لأنَّ المحبة لا تصحُّ إلا بذلك، ويعني توحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقيَّة حبٍّ حتى يبذلها له، فهذا الحب هو غاية صلاح الإنسان ونعيمه وقرَّة عينه، وليس لقلبه صلاحٌ ولا نعيم إلا بأنْ يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأنْ تكون محبَّته لغير الله تابعةً لمحبَّة الله؛ فلا يحب إلا الله، كما في الحديث الصحيح: ((ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان؛ مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، ومَن كان يحبُّ المرء لا يحبُّه إلا لله، ومَن كان يكره أنْ يرجع في الكفر بعد إذ أنقذَه الله منه كما يكره أنْ يُلقى في النار))[7]، فأخبر أنَّ العبد لا يجدُ حلاوةَ الإيمان إلا بأنْ يكون الله أحبَّ إليه ممَّا سواه، ومحبة رسوله هي من محبَّته، ومحبَّة المرء إن كانت لله، فهي من محبَّة الله، وإن كانت لغير الله، فهي محبَّة مُنقصة لمحبَّة الله مُضعِفة لها، وتَصْدُق هذه المحبَّة إذا كانت كراهته لأبغض الأشياء إلى الله وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد، وهذا من أعظم المحبَّة؛ لأنَّ الإنسان لا يقدِّم على محبة نفسه وحياته شيئًا، فإذا قدَّم محبَّة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خُيِّرَ بين الكفرِ وإلقائه في النار، لاختار أنْ يُلقى في النار ولا يكفر، كان الله أحبَّ إليه من نفسه، إنَّ هذه المحبَّة تعلو فوق ما يجدُه سائر العشاق والمحبين من محبَّة محبوبهم، بل لا نظيرَ لهذه المحبَّة، كما لا مثيلَ لِمَن تعلَّقت به، وهي محبَّة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذلِّ والخضوع، والتعظيم والإجلال، والطاعة والانقياد ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا نظيرَ له في محبَّة مخلوق أيًّا كان.

هذه المحبَّة (محبة خاصة)، مَن أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصَّة كان مشركًا شركًا لا يغفرُه الله، كما قال: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، ومعنى الآية أنَّ الذين آمَنوا أشدُّ حبًّا لله من أهل الأنداد لأندادهم؛ أي: إنَّ محبَّة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبَّة مخلوق أصلاً، كما لا يُماثل محبوبهم غيره، وقد نهى الله تعالى أنْ يضرب عبادُه له الأمثال؛ لأنَّه لا يُقاس بخلقه؛ ولهذا فإنَّه يخطئ أهل الكلام المُحْدَث المبتدَع وأصحاب الإرادة المنحرفة حينما يضربون لله الأمثال الباطلة في الخبر عنه وما يُوصف به، والتي يشبهونها بمحبة المخلوق للمخلوق؛ كالوصل والهجر والتجنِّي بلا سببٍ من المحب، وأمثال ذلك ممَّا يتعالى الله عنه علوًّا كبيرًا، وهذا من أقبح الخطأ وأفحشه.

وإذا تعلَّق بما يحبُّه الله، كان عشقًا ممدوحًا مثابًا عليه، مثل:

1- محبة القُرآن بحيث يُغني بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في مَعانيه ومراد المتكلِّم سبحانه منه، وعلى قدر محبَّة الله تكون محبَّة كلامه، فمَن أحبَّ محبوبًا، أحبَّ حديثه والحديث عنه، كما قيل:
إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ حُبِّي
فَلِمَ هَجَرْتَ كِتَابِي
أَمَا تَأَمَّلْتَ مَا فِي
هِ مِنْ لَذِيذِ خِطَابِي

2- محبَّة ذِكره - سبحانه وتعالى - من علامة محبَّته؛ فإنَّ المحبَّ لا يشبعُ من ذكر محبوبه، بل يَنساه فيحتاج إلى مَن يُذكِّره به، ويحبُّ كذلك سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه، وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود، والعفة والشجاعة، والصبر ومكارم الأخلاق، إنَّ هذه الصفات لو صورت صورًا، لكانت من أجمل الصور وأبهاها، ولو صور العلم صورة، لكانت أجمل من صورة الشمس والقمر، ولكنَّ عشق هذه الصفات إنما يُناسب النفوس الشريفة الزكيَّة، كما أنَّ محبَّة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسبُ الأرواح العالية السماويَّة الزكيَّة، لا الأرواح الأرضيَّة الدنيَّة.

ولكن ماذا لو عشق الإنسان امرأته، ثم فارقها بموت أو غيره، فذهب المعشوق ويبقى العشق كما هو؟

هذا نوعٌ من الابتلاء، إنْ صبر صاحبُه واحتسب، نال ثوابَ الصابرين، وإن سخط وجزع، خسرَ المعشوق والثواب، وإنْ قابل هذه البلوى بالرضا والتسليم، كانت درجته فوق درجة الصبر، ولو قابَلَها بالشكر، كان ذلك أعلى من الصبر؛ نظرًا إلى حسن اختيار الله له، ما يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له؛ فإذا علم أنَّ هذا القضاء خيرًا له، اقتضى ذلك منه أنْ يشكُر الله على ذلك الخير، وإنْ لم يعلم كونه خيرًا له، فليسلم بما قال به الصادق المصدوق في خبره المؤكد باليمين، حيث يقول: ((والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن من قضاءٍ إلا كان خيرًا له؛ إن أصابَتْه سرَّاء شكَر، فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن))[8]، وإيمان العبد يأمره بأنْ يعتقد بأنَّ ذلك القضاء خير له، وذلك يقتضي شكر مَن قضاه وقدَّره.

هكذا فصل ابن القيم - رحمه الله - النِّزاع بين الفريق الذي مدَح العشق وتمنَّاه وغبط صاحبه على ما أُوتِيه، والفريق الذي ذمَّ العشق وتبرَّم به وحدَّد ما هو الحب الذي هو غاية صلاح الإنسان ونعيمه وقرَّة عينه.

والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] رواه الشيخان بنحوه، (المحقق).
[2] الحديث رواه الإمام مسلم، والنسائي، (المحقق).
[3] الحديث رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، (المحقق).
[4] يقول ابن القيم - رحمه الله -: "هذا حديث باطل على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قطعًا لا يُشبه كلامه، وقد صحَّ عنه أنَّه عدَّ الشهداء ستًّا، فلم يذكر فيهم قتيلَ العشق شهيدًا، ولا يمكن أنْ يكون قتيل العشق شهيدًا، فإنَّه قد يعشق عشقًا يستحقُّ عليه العقوبة".
[5] ورد بلفظ: ((لا ينبغي لمسلم...)) في "مسند الإمام أحمد"، (المحقق).
[6] رواه الخرائطي، (المحقق).
[7] رواه الشيخان والترمذي والنسائي، (المحقق).
[8] رواه الإمام مسلم وأحمد بدون قسم، (المحقق).


* د. أحمد إبراهيم خضر - الحب الذي لا نظير له
 
أعلى