محمد بن شاكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن شاكر بن هارون بن شاكر الملقب بصلاح الدين - فوات الوفيات

جمال الدين بن النجار
إبراهيم بن سليمان بن حمزة بن خليفة، جمال الدين بن النجار الدمشقي المجود. ولد بدمشق سنة تسع وخمسمائة وتوفي سنة إحدى وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى. وحدث وكتب في الإجازات، وكتب عليه أبناء البلد، وله نظم وأدب، وسافر إلى حلب وبغداد، وكتب للأمجد صاحب بعلبك، وسافر إلى الاسكندرية وتولى نقابة الأشراف بها، وسمع بدمشق من التاج الكندي وغيره.
ومن شعره ما قاله في أسود شائب:
يا ربّ أسود شائب أبصرته ... وكأنّ عينيه لظىً وقّاد
فحسبته فحماً بدت في بعضه ... نارٌ وباقيه عليه رماد
وله أيضاً:
ما لهذي العيون قاتلها الل؟ ... ؟ هـ تسمّى لواحظاً وهي نبل
ولهذا الذي يسمونه العش؟ ... ق مجازاً وفي الحقيقة قتل؟؟
ولقلبي يقول أسلو فإن قل؟ ... ت نعم قال لست والله أسلو
وله أيضاً:
ومغرمٍ بالبدال قلت له ... يا ولدي قد وقعت في التعب
طوراً على الرّاحتين منبطحاً ... وتارة جاثياً على الركب
دخلٌ وخرجٌ وليس بينهما ... في اليد من فضة ولا ذهبِ (1)
أيسر ما فيه أن مسلكه ... تأمن فيه من عين مرتقب
وعندنا قهوةٌ معتّقةٌ ... كأنّ في كأسها سنا لهب
ومن بنات القيان مخطفةٌ ... تغار منها الأغصان في الكثب
ومطربٌ يحسن الغناء لنا ... إن كنت ممن يقول بالطرب
ولست تخلو مع كل ذلك من ... عمود أير كالزّند منتصب
ينطح نطح الكباش متصلاً ... بطول رهزٍ كالخرز في القربِ
وله أيضاً:
لقد نبتت في صحن خدّك لحية ... تأنّق فيها صانع الإنس والجنّ
وما كنت محتاجاً إلى حسن نبتها ... ولكنها زادتك حسناً إلى حسن


***


ابن سهل الإسلامي
إبراهيم بن سهل الإسرائيلي؛ قال ابن الأبار في تحفة القادم (2) : كان من الأدباء الأذكياء الشعراء، مات غريقاً مع ابن خلاص (3) والي سبتة سنة تسع وأربعين وستمائة، وكان سنه نحو الأربعين أو ما فوقها، وكان قد أسلم وقرأ القرآن، وكتب لابن خلاص بسبتة فكان من أمره ما كان.
قال أثير الدين أبو حيان: هو إبراهيم بن سهل الإشبيلي الإسلامي، أديب ماهر، دون شعره في مجلد، وكان يهودياً فأسلم، وله قصيدة مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، وأكثر شعره في صبي يهودي كان يهواه، وكان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم.
قلت: والقصيدة النبوية على حرف العين، ذكرها ابن الأبار في ترجمة المذكور.
وكان يهوى يهودياً اسمه موسى فتركه، وهو شاباً اسمه محمد، فقيل له في ذلك
فقال:
تركت هوى موسى لحبّ محمّد ... ولولا هدى الرحمن ما كنت أهتدي
وما عن قلىً منّي تركت وإنما ... شريعة موسى عطّلت بمحمّدٍ
قال الشيخ أثير الدين: أخبرنا قاضي الجماعة قال: نظم الهيثم (1) قصيدة يمدح بها المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود ملك الأندلس، وكانت أعلامه سوداء لأنه كان بايع الخليفة ببغداد، فوقف إبراهيم بن سهل على قصيدة الهيثم وهو ينشدها لبعض أصحابه، وكان إبراهيم إذ ذاك صغيراً، فقال إبراهيم للهيثم: زد بين البيت الفلاني والبيت الفلاني:
أعلامه السود إعلاماً بسؤدده ... كأنهنّ بخدّ الملك خيلانُ فقال له الهيثم: هذا البيت ترويه أم نظمته؟ قال: بل نظمته الساعة، فقال الهيثم: إن عاش هذا ليكونن (2) أشعر أهل الأندلس.
والقصيدة التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم (3) :
وركبٍ دعتهم نحو طيبة نية ... فما وجدت إلاّ مطيعاً وسامعا
يسابق وخد العيس ماء شؤونهم ... فيقفون بالسوق المدى والمدامعا
إذا انعطفوا أو رجّعوا الذكر خلتهم ... غصوناً لداناً أو حماماً (4) سواجعا
تضيء من التقوى حنايا صدورهم ... وقد لبسوا اللّيل البهيم مدارعا
تكاد مناجاة النبيّ محمّدٍ ... تنمّ بهم مسكاّ على الشم ذائعا
تلاقى على ورد اليقين قلوبهم ... خوافق يذكرن القطا والمشارعا
قلوبٌ عرفن الحقّ فهي قد انطوت ... عليها جنوبٌ ما عرفن المضاجعا
سقوا دمعهم غرس الأسى في ثرى الجوى ... فأنبت أزهار الشحوب الفواقعا
تساقوا لبان الصدق محضاً بعزمهم ... وحرّم تفريطي عليّ المراضعا
وهي طويلة؛ ومن شعره (1) :
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري ... تدري النجوم كما تدري الورى خبري
أبيت أسجع بالشكوى وأشرب من ... دمعي وأنشق ريّا ذكرك العطر
حتى أخيّل أني شاربٌ ثملٌ ... بين الرياض وبين الكأس والوتر
بعض المحاسن يهوى بعضها عجباً ... تأملوا كيف هام الغنج بالخفر
إن تقصني فنفارٌ جاء من رشإٍ ... أو تضنني (2) فمحاقٌ جاء من قمر
وله أيضاً (3) :
ردّوا على طرفي النوم الذي سلبا ... وخبروني بقلبي أيّةً ذهبا
علمت لما رضيت الحبّ منزلة ... أن المنام على عينيّ قد غضبا
فقلت (4) واحربا والصمت أجدر بي ... قد يغضب الحبّ إن ناديت واحربا
إني له عن دمي المسفوك معتذرٌ ... قول حملته في سفكه تعبا
نفسي تلذّ الأسى فيه وتألفه ... هل تعملون لنفسي في الجوى نسبا
قالوا عهدناك من أهل الرشاد فما ... أغواك؟ قلت اطلبوا في لحظه السببا
من صاغه الله من ماء الحياة وقد ... جرت بقيّته في ثغره شنبا
يا غائباً مقلتي تهمي لفرقته ... والقطر إن حجبت شمس الضحى انسكبا
كم ليلةٍ بتّها والنجم يشهد لي ... رهين شوقٍ إذا غالبته غلبا
مردداً في الدجى لهفاً ولو نطقت ... نجومها ردّدت من حالتي عجبا
ماذا ترى في محبّ ما ذكرت له ... إلاّ بكى أو شكا أو حنّ أو طربا
يرى خيالك في الماء الزلال وما ... ذاق الشراب فيروى وهو ما شربا
وله أيضاً (1) :
ولما عزمنا ولم يبق من ... مصانعة الشوق غير اليسير (2)
بكيت على النهر أخفي الدموع ... فعرّضها لونها للظّهور
ولو عرف السّفر حالي إذن ... لما صحبوني عند المسير
إذا ما سرى نفسي في الشراع ... أعادهم نحو حمصٍ زفيري
وقفت سحيراً وغالبت شوقي ... ونادى الأسى حسنه من مجيري
أنار وقد لفحت زفرتي ... فصار الغدوّ كوقت الهجير
ومنّ الفراق بتوديعه ... فشبهت ناعي النوى بالبشير
وقبّلت وجنته في الدّموع ... كما التقطت وردةٌ من غدير
وقبلت في الترب منه خطاً ... أميّزها بشميم العبير
تغرّب نومي عن مقلتي ... وأما حديث المنى في ضميري
أموسى تهنّ (3) نعيم الكرى ... فليلي بعدك ليل الضرير
وله أيضاً (4) :
كأن الخال في وجنات موسى ... سواد العتب في نور الوداد
أخطّ لصدغه في الحسن واو ... فنقطة خاله بعض المداد
لواحظه محيّرة ولكن ... بها اهتدت الشجون إلى فؤادي
وله مخمس (5) :
غريب الحسن عنّ لنا فعنّى ... ووسنانٌ طريق الهجر سنّا
ثنى أعطافه فاستعطفتنا ... أغنّ عن الرشا والبدر أغنى فهمنا سرّ مقلته فهمنا ...
شكوت له من الحرق التهابا ... فأسداها مراشفه العذابا
فكانت رحمة لقيت عذابا ... ومال وقد تطارحنا العتابا كأني طائرٌ ناجيت غصنا ...
أمولىً حاز حتى الحسن عبدا ... حكيت الورد لي عهداً وخدّا
ونجم الأفق إشراقاً وبعدا ... وسوّى الله بدر التمّ فردا فإذ سوّاك قال الناس: ثنّى ...
أخاف على مكانك من فؤادي ... فلا تضرمه ناراً بالبعاد
ودع حظاً لطيفك من رقادي ... تنازعني الكواكب في سهاد وتعجز عن دموع سح معنا ...
أحوريّ الطّهارة والجمال ... هجرت الخلد هجراً عن دلال
أول تركت الحور بعدك في ضلال ... فمن للناس عندك بالوصال وقد فارقت رضواناً وعدنا ...
وسيم الحسن قيّض لي لأشقى ... فليت ابن البقاء عليّ أبقى
أيوسف إنني يعقوب حقّا ... كملت ملاحةً وكملت عشقا فمن ذا مثلنا حسناً وحزنا ...
وله أيضاً موشح (1) :
يا لحظاتٍ للفتن ... في كرها أوفى نصيب
ترمي وكلّي مقتل ... وكلها سهمٌ مصيب
اللوم (1) للأحي مباح ... أما قبوله فلا
علّقته وجه صباح ... ريق طلاً عنق (2) طلا
كالظبي ثغره أقاح ... وما ارتعى شيح الفلا (3)
يا ظبي خذ قلبي وطن ... فأنت في الإنس غريب
وارتع فدمعي سلسل ... ومهجتي مرعىً خصيب
بين اللّمى والحور ... منه الحياة والأجل
سقت مياه الخفر ... في خده ورد الخجل
زرعته (4) بالنّظر ... وأجتنيه بالأمل
في طرفه (5) الساجي وسن ... سهّد أجفان الكئيب
والردف فيه ثقل ... خفّ له عقل اللبيب
أهدى إلى حرّ العتاب ... برد اللّمى وقد وقد
فلو (6) لثمته لذاب ... من زفرتي ذاك البردْ
ثم لوى جيد كعاب ... ما حليه (1) إلاّ الغيد
في نزعة الظبي الأغن ... وهزة الغصن الرطيب
يجري لدمعي جدول ... فينثني منه قضيب
أأنت حورا أرسلك ... رضوان صدقاً للخبر
قطّعت القلوب لك ... وقيل ما هذا بشر
أمّ الصفا مضنىً هلك ... من النوى أم الكدر
حتى تزكيه المحن ... أمر الهوى أمر غريب
كأنّ عشقي مندل ... زاد (2) بنار الهجر طيب
أغربت في الحسن البديع ... فصار دمعي مغربا
شمل الهوى عندي جميع ... وأدمعي أيدي سبا
فإستمع عبداً مطيع ... غنى لبعض الرقبا
هذا الرقيب ما أسواه يظن ... ايش لو كان لانسان مريب
مولاي قم تا نعملو (3) ... ذاك الذي ظن الرقيب
وله أيضاً موشح (1) :
روض نضير وشادن وطلا ... فاجتن زهر الربيع والقبلا
واشرب يا ساقياً ما وقيت فتنته ... حكت رحيق الكؤس صورته ... فمثّلت ثغره ووجنته ...
هذا حباب كالسلك (2) معتدلا ... وذا رحيق لدى الزجاج علا
كوكب أقمت حرب الهوى على ساق ... وبعت عقلي بالخمر من ساقي ... أسهر جفني بنوم أحداق ...
تمثّل السحر وسطها كحلا ... معتلةٌ وهي تبرىء العللا
فاعجب قلبك صخر والجسم من ذهب ... أيا سميّ النبيّ يا ذهبي (3) ... جاورت من مهجتي أبا لهب ...
يا باخلاً لا أذمّ ما فعلا ... صيرت عندي محبة البخلا
مذهب يا منيتي المنى من الخدع ... ما نلت سؤلي ولا الفؤاد معي ... هل عنك (4) صبر أو فيك من طمع ...
أفنيت فيك الدموع والحيلا ... فلا سلوّاً في الحب نلت ولا مأرب
أتيت أشكوه لوعتي عجبا ... فصدّ عنّي بوجهه غضبا ... فعند هذا ناديت واحربا ...
تصدّ عني يا منيتي مللا ... وأشتكي من صدودك العللا تغضب (1)
وله من قصيدة في محبوبه موسى (2) :
وإني لثوب الحزن أجدر لابسٍ ... وموسى لثوب الحسن أحسن مرتد (3)
تأمّل لظى شوقي وموسى يشبّها ... تجد خير نار عندها خير موقد
إذا ما رنا شزراً فقل لحظ أحورٍ ... وإن يلو إعراضاً فصفحة أغيد
وعذّب بالي أنعم الله باله ... وسهّدني لا ذاق طعم التسهد
شكوت فجاءوا بالطبيب، وإنّما ... طبيب سقامي في لواحظ مبعدي
فقال على التأنيس طبّك حاضرٌ ... فقلت نعم لو أنه بعض عوّدي
بكيت فقال الحبّ هزواً أتشتري ... بماء جفونٍ ماء ثغر منضد
فأنشدته شعراً به أستميله ... فأبدى ازدراء بابن حجرٍ ومعبد
كأنّي بصرف البين حان فجاد لي ... بأحلى سلامٍ منه أفظع مشهد
تغنمت منه السير خلفي مشيّعاً ... فأقبلت أمشي مثل مشي المقيد
وجاء لتوديعي فقلت له اتئد ... مشت لك روحي في الزفير المصعد
جعلت يميني كالنّطاق لخصره ... وصاغت جفوني حلي ذاك المقلّد
وجدت بذوب التبر فوق مورّسٍ ... وضنّ بذوب الدرّ فوق مورد
ومسّح أجفاني ببرد بنانه ... فألّف بين المزن والسوسن الندي
فيا آفة العقل الحصيف وصبوة ال ... عفيف وغيّ النّاسك المتعبّد
رعيت لحاظي في جمالك آمناً ... فأذهلني عن مصدري حسن مورد
أظلّ ويومي فيك هجرٌ ووحشةٌ ... ويومي بحمد الله أحسن من غدي
وصالك أشهى من معاودة الصبا ... وأطيب من عيش الزمان الممهد
عليك فطمت العين من لذة الكرى ... وأخرجت قلبي طيّب النفس من يدي
وله أيضاً (1) :
ضمانٌ على عينيك أني عاني ... صرفت إلى أيدي العناء عناني
وقد كنت أرجو الوصل منك غنيمة ... فحسبي منك اليوم نيل أماني
ومن لي بجسم أشتكي منه بالضنا ... وقلبٍ فأشكو منه بالخفقان
وما عشت حتى اليوم إلاّ لأنّني ... خفيت فما يدري الحمام مكاني
ولو أنّ عمري عمر نوح وبعته (2) ... بساعة وصلٍ منك قلت: كفاني
وما ماء ذاك الريق عندي غالياً ... بماء شبابي واقتبال زماني
خليليّ عندي في السّلوّ بلادة ... فإن شئتما علم الهوى فسلاني
خذا عدداً من مات من ألم الهوى ... فإن كان فرداً فاحسباني ثاني
وله أيضاً (3) :
يقولون لو قبّلته لاشتفى الجوى ... أيطمع في التقبيل من يعشق البدرا
ولو غفل الواشي لقبلت نعله ... أنزّهه أن أذكر الجيد والثغرا
وما أنا من يستحمل الريح سرّه ... أغار حفاظاً أن أذيع له سرّا
إذا فئة العذّال جاءت بسحرها ... ففي وجه موسى آية تبطل السحرا
وله من أبيات (4) :
غضّ الصبا يسفر عن منظرٍ ... أحسن من عصر الصبا المقبل
صوّر من نور ومن فتنةٍ ... والناس من ماء ومن صلصل
أحلت أشواقي على ذكره ... أسلّط النار على المندل
أخشى عليك العار من قولهم: ... معتدل القمامة لم يعدل
وقال أيضاً (1) :
أموسى ولم أهجرك والله إنّما ... هجرت الكرى والأنس واللب والصبرا
تركتك لا غدراً بعهدك بل أرى ... حياتي ذنباً بعد بعدك أو غدرا
قنعت على رغمي بذكرك وحده ... أدير عليه الخمر والأدمع الحمرا
أقبل من كاس المدير حبابها ... إذا مثلت عندي المنى ذلك الثغرا
وله أيضاً (2) :
لاموا فلما لاح موضع صبوتي ... قالوا لقد جئت الهوى من بابه
شرقت بدمعي وجنتي شوقاً إلى ... ذي وجنة شرقت بماء شبابه
حلو الكلام كأنّما ألفاظه ... يشربن عند النطق شهد رضابه
بالله يا موسى وقد لذّ الردى ... اجبر ولا تبق الجريح بما به
هاروت أودع في لحاظك سحره ... فأصاب قلبي منك مثل عذابه
وديوانه كله من هذا النوع، رحمه الله تعالى وسامحه.


* فوات الوفيات
المؤلف: محمد بن شاكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن شاكر بن هارون بن شاكر الملقب بصلاح الدين (المتوفى: 764هـ)
المحقق: إحسان عباس



.../...


صورة مفقودة
 
تابع2

ابن هرمة
إبراهيم بن علي بن سلمة الفهري المدني الشاعر المعروف بابن هرمة، من شعراء الدولتين؛ كان شيخ الشعراء في زمانه، وكان منقطعاً إلى الطالبيين، وكان منهوماً في الشراب لا يكاد يصبر عنه، فقال للمنصور: يا أمير المؤمنين، إني مغرم بالشراب، وكلما أمسكني والي المدينة حدَّني، وقد طال هذا، فاكتب لي إليه، فقال: ويحك! كيف أكتب في حدّ من حدود الله تعالى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، احتلْ لي في ذلك؛ فكتب إلى عامله بالمدينة: " أما بعد، فمن أتاك بابن هرمة سكراناً، فحد ابن هرمة ثمانين واجلد الذي يأتيك به مائة "؛ فكان يمر به العسسُ وهو سكران ملقى على قارعة الطريق فيقولون: من يشتري ثمانين بمائة؟
ومرّ يوماً على جيرانه وهو ميت سكراً حتى دخل منزله، فلما كان من الغد عاتبوه (2) في الحالة التي أوه فيها: أنا في طلب مثلها منذ دهر، أما سمعتم قولي (3) :
أسأل الله سكرة قبل موتي ... وصياح الصبيان يا سكرانُ
فنهضوا من عنده، ونفضوا ثيابهم وقالوا: ما يفلح هذا أبداً.
ويقال إنه ولد سنة سبعين، ونادم المنصور سنة أربعين ومائة، وعمّر بعد ذلك دهراً؛ وهو القائل (1) :
ما أظنّ الزمان يا أمَّ عمروٍ ... تاركاً إن هلكتُ من يبكيني وكان كذلك، لقد مات وما يحمل جنازته إلا أربعة نفر لا يتبعهم (2) أحد، حتى دُفن بالبقيع. وكانت وفاته سنة خمسين ومائة. وكان الأصمعي يقول: ختم الشعر بابن ميادة وابن هرمة، رحمه الله تعالى.


***

إبراهيم بن علي بن خليل الحراني،
شيخ حائك، كان عامياً أمياً أناف على الثمانين، وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبعمائة؛ قصده قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله تعالى واستنشده من شعره فقال: أما القديم فما يليق، وأما نظم الوقت الحاضر فنعم، وأنشده:
وما كلَّ وقتٍ فيه يسمح خاطري ... بنظم قريض لائق اللفظ والمعنى
وهل يقتضي الشرع الشريف تيمماً ... بتربٍ وهذا البحر يا صاحبي معنا (4)
وله أيضاً:
وقائلٍ قال إبراهيم عينُ بصل ... أضحى يبيعُ قَباً في الناس بعد قبا
فقلت: مَهْ يا عذولي لا (1) تعنفني ... لو جعتَ قدتَ ولو أفلست بعت قبا
وله أيضاً في الشبكة والسمك:
كم كسبنا بيتاً لكي نمسكَ السكانَ منه في سائرِ الأوقاتِ ... فمسكنا السكانَ وانهزم البيتُ لدينا خوفاً من الطاقاتِ ...
وله أيضاً:
جسمي بسُقم جفونه قد أسقما ... ريمٌ بسهمِ لحاظه قلبي رمى
كالرمح معتدل القوام مهفهفٌ ... مرّ الجفا لكنه حلو اللّمى
رشأ أحلّ دمي الحرام وقد رأى ... في شرعه وصلي الحلال محرّما
ربّ الجمال بوصله وبهجره ... لقّى (2) وأصلى جنّةً وجهنّما
عن ورد وجنته بآس عذاره ... وبسيف نرجس طرفه الساجي حمى
عاتبته فقسا وفيت فخانني ... قربته فنأى بكيت تبسّما
حكّمته في مهجتي وحشاشتي ... فجنى وجار عليّ حين تحكّما
يا ذا الذي فاق الغصون بقدّه ... وسما بطلعته على قمر السّما
رفقاً بمن لولا جمالك لم يكن ... حلف الصبابة والغرام متيّما
أنسيت أيّاماً مضت ولياليا ... سلفت وعيشاً بالصّريم تصرّما
إذ نحن لم نخش الرقيب ولم نخف ... صرف الزمان ولا نطيع اللوما
والعيش غضٌّ والحواسد نوّمٌ ... عنا وعين البين قد كحلت عمى
في روضةٍ أبدت ثغور زهورها ... لمّا بكى فيها الغمام تبسّما
مدّ الربيع على الخمائل نوره ... فيها فأصبح كالخيام مخيّما
تبدو الأقاحي مثل ثغر مهفهفٍ ... أضحى المحبّ به كئيباً مغرما
وعيون نرجسها كأعين غادة ... ترنو فترمي باللواحظ أسهما
والطير يصدح في فروع غصونها ... صدحاً فيوقظ بالهديل النوما
والراح في راح الحبيب يديرها ... في فتيةٍ نظروا المسرة مغنما
فسقاتنا تحكي البدور وراحنا ... تحكي الشموس ونحن نحكي الأنجما
وله أيضاً رحمه الله تعالى.
ربوع جلّق للأوطار أوطان ... وليس فيها من النّدمان ندمان
كم لي مع الحبّ في أقطارها أرباً ... إذ نحن في ساحتي جيرون جيران
أيام تجرير أذيالي بها طرباً ... ولي مكان له في السعد إمكان
إذ بت أنشد في غزلانها غزلاً ... لما غزت كبدي باللحظ غزلان
سقياً لجامعها كم قد جمعن لنا ... فيه من الغيد أقمارٌ وأغصان
وكم حوى الحسن في باب البريد لنا ... فهل ترى عند ذاك الحسن إحسان
أغنت عن السمر فيه السمر إذ خطرت ... وسود أجفانها للبيض أجفان
أهلّةٌ تحت ليل الشعر تحملها ... لفتنة الصبّ قضبان وكثبان
جمالها وأخو الأشواق حين بدت ... إليه في الحبّ مفتونٌ وفتان
وبعدها ليس يحلو في الهوى أبداً ... يوماً لإنسانه في الخلق إنسان
نواحه في نواحي جلّق وله ... بالحسن لا بالنقا والحزن أحزان
فجلق جنةٌ تبدو جواسقها ... مثل القصور بها حورٌ وولدان
والسبت كالعيد تلقى الغيد سانحةً ... وقد حوى الغيد ميدانٌ وبستان
أنزه الطرف في الميدان من فرح ... والقلب مني لطفل اللهو ميدان
قم يا نديمي إلى شرب المدام بها ... من قبل يدرك بدر السّعد نقصان
فأنت في جنّة منها مزخرفةٍ ... وقد تلقّاك بالرضوان رضوان
وأنت فيها عن اللذات في كسلٍ ... انهض فما بلغ اللذات كسلان
أما ترى الأرض إذ أبكي السحاب بها ... آذارها ضحكت إذ جاء نيسان
والزهر كالزهر حياه الحيا فبدت ... في الروض منه إلى الأبصار ألوان
زمرد قضبٌ فيها مركبة ... جواهرٌ ويواقيت ومرجان
كأنما الورد خدّ الحبّ حين غدا ... له العذار سياجاً وهو ريحان
كأن منثورها إذ لاح مبتسماً ... جيش من الروم بانت فيه صلبان
كأنما البان أهدى المسك حين بدا ... فعطر الكون لما أورق البان
كأن ريح الصبا طافت بخمر هوىً ... من الرياض فكل الكون نشوان
كأنما حمرة التفاح خدّ رشاً ... لي في هواه عن السلوان سلوان
كأن نارنجها نارٌ وباطنه ... ثلجٌ وفيه لجين وهو عقيان
والطير تطرب بالعيدان نغمتها ... ما ليس يطرب بالأوتار عيدان
أبدت فنوناً فأفنت صبر سامعها ... بالنوح إذ حملتها فيه أفنان
بلابلٌ هيّجت منّا بلابلنا ... وهاج منّا صباباتٌ وأشجان
وهزنا الشوق إذ غنّى الهزار بها ... فلا تجفّ لنا بالدمع أجفان
وربّ صافية في الكأس مشرقةٍ ... كانت وما كان في العلياء كيوان
راحٌ أراحت لمن حلّت براحته ... روحاً لها القار والفخار جثمان
صبّت لنا فهي ماء في زجاجتها ... وأشرقت فهي في الكاسات نيران
يسعى بها رشأ بالسحر مكتحلٌ ... حلو الدلال لجند الحسن سلطان
عذب اللمى ناعس الأجفان منتبه ... مهفهف القدّ صاحٍ وهو نشوان
كأنما وجهه فيه لعاشقه ... بستان والخال في البستان جنّان
كأنما خاله لما بدا كرةٌ ... والصدغ جوكانها والخد ميدان
وشعره مقبول، غير أنه لا يخلو من اللحن، رحمه الله تعالى وإيانا.


***


ابن كيغلغ
إبراهيم بن كيغلغ، أبو إسحاق، أديب فاضل. قال ابن النجار: ذكره الوزير أبو سعد محمد بن الحسين ابن عبد الرحيم في كتاب طبقات الشعراء وقال: من شعره:
لاعبت بالخاتم إنسانةً ... كالبدر في تاج دجىً عاتم
حتى إذا واليت أخذي (4) له ... من البنان الترف النّاعم
خبّته في فيها، فقلت انظروا ... قد خبت الخاتم في الخاتم
وله أيضاً:

بالله ممّا هجرتني قل لي ... وأنت مما جنيت في حلّ
من لي بيوم أراك فيه وقد ... قررت عيني بزورةٍ من لي؟
وله أيضاً:
قم يا غلام أدر مدامك ... واحثث على الندمان جامك
تدعى غلامي ظاهراً ... وأظلّ في سرٍّ غلامك
الله يعلم أنّني ... أهوى عناقك التزامك كان المقتدر بالله قد قلده مدناً على ساحل الشام: السويدية واللاذقية وجبلة وصيدا وما يتعلق بهما، وكانت وفاته في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.


***


فخر الدين ابن لقمان
إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الوزير الكاتب، فخر الدين الشيباني؛ قال الشيخ شمس الدين: رأيته بعمامة صغيرة، وقد حدث عن ابن رواج (2) وكتب عنه البرزالي والطلبة، وتوفي بمصر سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وصلي عليه بدمشق؛ ولي وزارة الصحبة للملك السعيد، ثم وزر مرتين للملك المنصور قلاوون، وأصله من إسعرد.
وكان قليل الظلم، فيه إحسان إلى الرعية، وكان إذا عزل من الوزارة يأخذ غلامه الحرمدان (1) خلفه، ويبكر من الغد إلى ديوان الإنشاء.
ولما فتح الكامل آمد كان ابن لقمان شاباً يكتب على عرصة القمح، وينوب عن الناظر، وكان البهازهير كاتب الإنشاء للملك الكامل، فاستدعى من ناظر آمد حوائج، فكانت الرسالة ترد إليه بخط ابن لقمان، فأعجب البها زهير خطه وعبارته، فاستحضره ونوه به، وناب عنه في ديوان الإنشاء، ثم إنه خدم في ديوان الإنشاء في الدولة الصالحية وهلم جرا إلى أوائل الدولة الناصرية.
قال الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس: كان فخر الدين ابن لقمان وتاج الدين ابن الأثير صحبة السلطان على تل العجول، ولفخر الدين مملوك اسمه الطنبا، فاتفق أنه دعا بمملوكه المذكور، يا الطنبا، فقال: نعم، ولم يأته، فتكرر طلبه له وهو يقول نعم، ولا يأتيه، وكانت ليلة مظلمة، فأخرج فخر الدين رأسه إلى الخيمة وقال: تقول نعم وما أراك؟ فقال تاج الدين:
في ليلةٍ من جمادى ذات أنديةٍ لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
قلت: وهذا من جملة أبيات في الحماسة لمرة بن محكان (2) ، وما استشهد أحد في واقعة بأحسن من هذا أبداً.
ومن شعر فخر الدين ابن لقمان في غلامه غلمش:
لو وشى فيه من وشى ... ما تسلّيت غلمشا
أنا قد بحت باسمه ... يفعل الله ما يشا وله أيضاً:
كن كيف شئت فإنني بك مغرم ... راضٍ بما فعل الهوى المتحكم
ولئن كتمت عن الوشاة صبابتي ... بك فالجوانح بالهوى تتكلم
أشتاق من أهوى وأعلم أنّني ... أشتاق من هو في الفؤاد مخيّم
يا من يصدّ عن المحبّ تدلّلاً ... وإذا بكى وجداً (1) غدا يتبسّم
أسكنتك القلب الذي أحرقته ... فحذار من نارٍ به تتضرّم 15 (2)


***

ابن المدبر
إبراهيم بن محمد بن عبيد الله المعروف بابن المدبر الكاتب؛ كان كاتباً بليغاً شاعراً فاضلاً مترسلاً، خدم المتوكل مدة طويلة، وكان في رتبة الوزارة، وكان قد غضب عليه المعتمد وحبسه، وله في الحبس أبيات كثيرة، منها:
أدموعها أم لؤلؤ متناثر ... يندى به الورد الجنيّ الزاهر
لا يؤيسنّك من كريم نبوةٌ ... فالسيف ينبو وهو عضبٌ باتر
هذا الزمان تسومني أيامه ... خسفاً وها أنا ذا عليه صابر
إن طال ليلي في الإسار فطالما ... أفنيت دهراً ليله متقاصر
والسجن يحجبني وفي أكنافه ... مني على الضرّاء ليث خادر
عجباً له كيف التقت أبوابه ... والجود فيه والربيع الباكر
هلا تقطّع أو تصدّع أو هوى ... فعذرته لكنه بي فاخر
وله في المعنى:
ألا طرقت سلمى لدى وقفة الساري ... وحيداً فريداً (1) موثقاً نازح الدار
هو الحبس ما فيه عليّ غضاضةٌ ... وهل كان في حبس الخليفة من عار
ألست ترين الخمر يظهر حسنها ... وبهجتها بالحبس في الطين والقار
وما أنا إلاّ كالجواد يصونه ... مقوّمه للسبق في طيّ مضمار
أو الدرة الزهراء في قعر لجّةٍ ... فلا تجتلى إلاّ بهولٍ وأخطار
وهل هو إلاّ منزلٌ مثل منزلي ... وبيتٌ ودار مثل بيتي أو داري
فلا تنكرن طول المدى وأذى العدا ... فإنّ نهايات الأمور لإقصار
لعلّ وراء الغيب أمراً يسرّنا ... يقدّره في علمه الخالق الباري
ولما عزل من الأهواز جاء الناس يودعونه، فجاء أبو شراعة فأمسك الحراقة، وأنشد رافعاً صوته:
ليت شعري أيّ قومٍ أجدبوا ... فأُغيثوا بك من بعد العجف
نزل اليمن من الله بهم ... وحرمناك لذنبٍ قد سلف
يا أبا إسحاق سر في دعةٍ ... وامض مصحوباً فما عنك خلف
فضحك ووصله:
وقال العطوي (2) الشاعر: استأذنت على ابن المدبر فحجبني، فكتبت إليه:
أتيتك مشتاقاً فلم أر جالساً ... ولا ناظراً إلاّ بعين قطوب
كأني غريمٌ مقتضٍ أو كأنني ... نهوض حبيبٍ أو جلوس (3) رقيب
فأدخلني وهو يقول: هي بالله، نهوض حبيب أو حضور رقيب.
ومن شعر ابن المدبر:
يا كاشف الكرب بعد شدّته ... ومنزل الغيث بعدما قنطوا
لا تبل قلي بشحط بينهم ... فالموت دانٍ إذا هم شحطوا
وله أيضاً:
قالوا أضرّ بنا السحاب بوكفه ... لمّا رأوه لمقلتي يحكي
لا تعجبوا ممّا ترون فإنّما ... هذه السماء لرحمتي تبكي توفي إبراهيم ببغداد سنة تسع وسبعين ومائتين، وولد سنة إحدى عشرة (1) ومائتين.


***


المعمار
إبراهيم الحائك، وقيل المعمار، وقيل الحجار، غلام النوري المصري: عامي مطبوع تقع له التوريات المليحة المتمكنة، لا سيما في الأزجال والبلاليق، فمن مقاطيعه اللائقة قوله:
وصاحب أنزل بي صفعةً ... فاغتظت إذ ضيّع لي حرمتي
وقال في ظهرك جاءت يدي ... فقلت: لا والعهد في رقبتي
وله أيضاً:
شطر أولومفنّنٍ يهوى الصفا ... ع ولم يكن إذ ذاك فنّي
سلّمته عنقي الدقي؟ ... ق فراح ينخله بغبن
ما كان منّي بالرضى ... لكنه من خلف أذني
لولا بدٌ سبقت له ... لأمرته بالكفّ عنّي
وله أيضاً:
أيري إذا ندبته ... لحاجة تعرض بي
قام لها بنفسه ... ما هو إلاّ عصبي
وله أيضاً:
عاتبت أيري إذ جاء ملتثماً ... بالخرء من علقه فما اكترثا
بل قال لي حين لمته: قسما ... ما جزت حمام قعره عبثا
كيف وفيها طهارتي (1) وبها ... أقلب ماءً وأرفع الحدثا
وقال أيضاً:
لما جلوا لي عروساً لست أطلبها ... قالوا ليهنك هذا العرس والزينه
فقلت لما رأيت النّهد منتفشاً ... رمانة كتبت يا ليتها تينه
وقال أيضاً:
قال لي العاذلون أنحلك الح؟ ... بّ وأصبحت في السقام فريدا
أإذا صرت من جفاهم عظاماً ... أبوصلٍ تعود خلقاً جديدا؟
ما رأينا ولا سمعنا بهذا ... قلت: كونوا حجارة أو حديدا
وقال أيضاً:
لثمت عذار محبوبي الشرابي ... فقال: تركت لثم الخد عجبا
حفظت اليانسون كما يقولوا ... ورحت تضيّع الورد المربّى
وقال أيضاً:
قلت له هل لك من حرفةٍ ... تعش بها بين الورى أو سبب
فقال: يغنيني ردفي الذي ... أسموه عشاقي تليل الذهب
وقال أيضاً:
لمّا جلوا عرسي وعاينتها ... وجدت فيها كلّ عيبٍ يقال
فقلت للدلاّل ماذا ترى؟ ... فقال ما أضمن إلاّ الحلال
وقال أيضاً:
لج العذول ولامني ... فيمن أحبّ وعنّفا
فهممت ألطم رأسه ... ممّا ملئت تأسّفا
لكنها زلقت يدي ... وقعت (1) على أصل القفا
وقال أيضاً:
هويت طبّاخاً سلاني وقد ... قلا فؤادي بعد ما رده
محترقاً إذ لم يزل بالجفا ... يغرف لي أحمض ما عنده
وقال أيضاً:
شكوت للحبّ منتهى حرقي ... وما ألاقيه من ضنى جسدي
قال: تداوى بريقتي سحراً ... فقلت: يا بردها على كبدي
وقال:
يا قلب صبراً على الفراق ولو ... روّعت ممّن تحب بالبين
وأنت يا دمع إن ظهرت بما ... يخفيه قلبي سقطت من عيني
وله غير ذلك. بلغنا وفاته في شهور سنة تسع وأربعين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.


***


ظهير الدين البارزي
إبراهيم بن " ... " (2) البارزي الحموي، ظهير الدين؛ قال الشيخ أثير الدين أبو حيان: رأيت المذكور، شيخ صوفي من أولاد الرؤساء بحماة، له أدب، وأنشدني:
لئن فتكت ألحاظه بحشاشتي ... وساعدها بالهجر واعتزّ بالحسن
فلا بد أن تقتصّ لي منه ذقنه ... وتذبحه قهراً من الأذن للأذن
وأنشدني أيضاً:
غدا أسوداً بالشّعر أبيض خدّه ... فأصبح من بعد التنعم في ضنك
على حظه أضحى يخطّ عذاره ... فنادتهما عيناه حزناً: قفا نبك (3)
وأنشدني أيضاً:
أراك فأستحيي وأُطرق هيبةً ... وأُخفي الذي بي من هواك وأكتم
وهيهات أن يخفى وأنت جعلتني ... جميعي لسان بالهوى يتكلّم
وله أيضاً:
يذكرني وجدي الحمام إذا غنّى ... لأنا كلانا في الهوى نعشق الغصنا
ولكن إذا غنّى أجبت بأنّةٍ ... وكم بين من غنّى طروباً ومن أنّا
تجول عيوني في الرياض لتجتلي ... محاسنكم منها إذا غبتم عنّا
وما وردها والنرجس الغض نايباً ... عن الوجنة الحمراء والمقلة الوسنى
فأعرب دمعي بالذي أنا كاتمٌ ... وقد رجّعت في الروض أطيارها اللحنا
ولو أن بيض الهند ممّا تردّني ... وسمر القنا عنه تمانعني طعنا
لقبلت حدّ السّيف حبّاً لطرفه ... وعانقت من شوقي له الأسمر اللّدنا
وخضت عجاج الموت والموت طيبٌ ... إذا كان ما يرضي أحبتنا منّا
حفظنا على حكم الوفاء وضيعوا ... وحالوا بحكم الغدر عنّا وما حلنا
وضنّوا على المضنى ببذل تحية ... ولو سألوا بذل الحياة لما ضنا
وكتب إلى رزق توم (1) ذكر وأنثى من جارية سوداء:
وخصّك ربّ العرش منها بتوأمٍ ... ومن ظلمات البحر يستخرج الدّرر
وأيرك أضحى وارثاً علم جابر ... فأعطاك من ألقابه الشمس والقمر
وقال في مليح شوّاءٍ:
وشواءٍ بديع الحسن يزهى ... بطلعته على كلّ البرايا
فواشوقاه للأفخاذ منه ... يشمّرها ويقطع لي اللّوايا
وله أيضاً:
يا لحية الحبّ الذي (2) ... زال لها تثبتي
هل أنت فوق خدّه ال؟ ... وردي مسك تبّت (1)
توفي بعد الثمانين وستمائة، رحمه الله وإيانا.



.../...
 
تابع/3


ابن نفادة
أحمد بن عبد الرحمن بن علي بن نفادة السلمي الأديب البارع بدر الدين نشو الدولة، الشاعر المحسن؛ روى عنه الشهاب القوصي. كان رئيساً وديوانه مشهور. توفي سنة إحدى وستمائة وقد ناهز الستين. وله مدائح كثيرة في السلطان صلاح الدين الكبير وفي أولاده وأخيه العادل وجماعته، وفي الوزير صفي الدين ابن القابض، وفي القاضي الفاضل والقاضي ابن الشهرزوري ومحيي الدين ابن الزكي؛ وهو من المشهورين بحسن النظم، فمن شعره لغز في يوسف:
يا سائلي ما اسم الذي أحببته ... إنّي بسرّ هواه غير مصرّح
لكن إذا فكرت فيه وجدته ... معكوس سابع لفظةٍ في سبح (2)
ومن شعره:
إن أعوز الحاذق فاستبدلوا ... مكانه آخر لم يحذق
فلاعب الشطرنج من شأنه ... وضع حصاةٍ موضع البيذق وقال:
أفدي التي سفرت فقابل ناظري ... مرآة وجهٍ بالجمال صقيل
أبكي فأبصر أدمعي في خدّها ... لصقاله فأظنها تبكي لي
أخذه من قول الأرجاني (3) :

قابلني حتى بدت أدمعي ... في خده المصقول مثل المراه
يوهم صحبي أنه مسعدي ... بأدمعٍ لم تذرها مقلتاه
وإنّما قلّدني منّةً ... بدمع عينٍ من جفوني مراه
ولم يقع من دمعه قطرةٌ ... إلاّ خيالات دموع البكاه وقال ابن نفادة:
حتام إن أمر الغرام وإن نهى ... طاوعته وعصيت في الحبّ النّهى
أرضيت جفني للدموع موهلاً ... أبداً وقلبي بالولوع مولها
قد كنت معتمداً على صبري إذا ... ما الخطب فاجاني وها صبري وهى
ومدلّلٍ ما زلت من هجرانه ... أبداً على مرّ الزمان مدلّها
متأوّد الأعطاف، قلب محبّه ... ما زال من إعراضه متأوّها
تجني على عشّاقه وجناته ... بالصدّ فهو (1) المشتكى والمشتهى
فيه إذا عدّ الملاح المبتدا ... وإلى غرامي في هواه المنتهى
يا مطلعين لنا بدوراً أوجها ... لم يدر غزلاناً تغازل أم مها
فحذار من تلك العيون خديعة ... فبمكرها سلبت فؤادي مكرها
وله أيضاً:
دعه مثلي يبكي الصبا وزمانه ... إن ذكراه هيّجت أحزانه
ناح شجواً على ليالٍ وأيّا ... مٍ تقضت لم يقض منها لبانه
كيف يرجو في الأربعين وفاءً ... من شبابٍ قبل الثلاثين خانه
أو ينال اللذات في أخريات (2) العم؟ ... ر من لم يفز بها ريعانه
وقال:
قد حجبوا البيض ببيض الصفاح ... ومنعوا السّمر بسمر الرماح
وأطبقوا أصداف أجفانهم ... فما ترى شمس الصباح الصباح
منها:
يثبت تأليف الهوى حسنها ... وقدها للصبر إن ماح ماح
وطرفها مسكرةٌ خمره ... إذا أديرت وهو يا صاح صاح
أمدّ قلبي نحو كاساتها ... رشفاً إذا مدّت إلى الراح راح
واضحها موضح عذري فما ... يلومني فيها إذا لاح لاح
وقوله أيضاً:
وامتدّ ليلي إذ سهرت وكلّما ... قصرت جفوني زاد ليلي طولا
وكأن مرآة الصباح تنفسي ال؟ ... صعداء أصدأ وجهها المصقولا
وله غير ذلك كل معنى حسن، وديوانه موجود، رحمه الله تعالى وإيانا.

***


الاعيمى الاندلسي
أحمد بن عبد الله بن هريرة أبو العباس الأعيمى الاشبيلي، توفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. من شعره (3) :
بحياة عصياني عليك عواذلي ... إن كانت القربات عندك تنفع
هل تذكرين ليالياً سلفت لنا ... لا أنت باخلةٌ ولا أنا أقنع
وله أيضاً (4) :
أعد نظراً في روضتي ذلك الخدّ ... فإني أخاف الياسمين على الورد
وخذ لهما دمعي وعلّلهما به ... فإنّ دموعي لا تعيد ولا تبدي
وإلاّ ففي كأس المدامة بلغة ... تقوم مقام الدنّ عندك أو عندي
وفي ريقك المعسول لو أن روضة ... تعلّل بالكافور والمسك والشهد
وماء شبابي كان أعذب مورداً ... لو أن الليالي لم تزاحمك في الورد
أمنك الخيال الطارقي كلّ ليلةٍ ... على مثل حدّ السيف أو طرّة البرد
منىً لا أبالي أن تكون كواذباً ... فتفنى ولكن المدار على وجدي
وليلة وافاني وقد ملت ميلةً ... وكنت أنا والنجم بتنا على وعد
ألّم فحيا بين رقبا ورقبةٍ ... ولا شيء أحلى من دنوٍّ على بعد
وقد زانه لمحٌ من البدر في الدجى ... كما لاح وسم الشيب في الشعر الجعد
رأى أدمعي حمراً وشيبي ناصعاً ... وفرط نحولي واصفراري على خدي
فودّ لو أني عقده أو وشاحه ... وإن لم يطق حمل الوشاح ولا العقد
ألمّ فأعداني ضناه وسهده ... وقد كان هذا الشوق أولى بأن يعدي
وولّى فلا تسأل بحالي بعده ... ولكن سل الأيّام عن حاله بعدي
تفاوت قومي (1) في الحظوظ وسبلها ... فمكدٍ على حرصٍ ومثرٍ على زهد
وأمّا أنا والحضرميّ فإنّنا ... قسمنا المعالي بين (2) غور إلى نجد
فأبت أنا بالشعر أحمي لواءه ... وآب ابن عيسى بالسيادة والمجد
فتىً لا يبالي فوز من فاز بالعلا ... إذا امتلأت كفا يديه من الحمد
وله أيضاً (3) :
وبديع الأوصاف كالشمس كالد ... مية كالغصن كالقنا كالريم
سكريّ اللمى وضيء المحيّا ... يستخفّ النفوس قبل الجسوم
متهدّ (4) إلى الحلوم بلحظ ... ربّما كان ضلّةً للحلوم
ما (1) يبالي من بات يلهو به إن ... لم ينل ملك فارس والروم
قمت أسقيه من لمى ثغره العذ ... ب على صحن خدّه المرقوم
بين ليلٍ كخضرة الروض في اللو ... ن وصبحٍ كعرفه في الشميم
وكأن النجوم في غبش الصب؟ ... ح وقد لفها فرادى (2) بتوم
أعين العاشقين أدهشها البي؟ ... ن فأغضت بين الضنى والوجوم (3)
وله أيضاً (4) :
أما والهوى وهو إحدى الملل ... لقد مال قدّك حتى اعتدل
وأشرق وجهك للعاذلات ... حتى رأت كيف يعصى العذل
ولم أر أفتك من مقلتيه ... على أن لي خبرةً بالمقل
كحلتهما يهوىً قاتل ... وقلت الردى حيلة في الكحل
وانّي وإن كنت ذا غفلةٍ (5) ... لأعلم كيف تكون الحيل
ولست أسائل عينيك بي ... ولكن بعهد الرضى ما فعل
وقد كنت جاريت تلك الجفون ... إلى الموت بين المنى والعلل
وقال يرثي شاباً قتل غيلة (6) :
خذا حدثاني عن فل وفلان ... لعلتي أرى باق على الحدثان
وعن دول حسن الديار وأهلها ... فنين وصرف الدهر ليس بفان
وعن هرمي مصر الغداة أمتّعا ... بشرخ شباب أم هما هرمان
وعن نخلتي حلوان كيف تناءتا ... ولم يطويا كشحاً على شنآن
وطال ثواء (1) الفرقدين بغبطةٍ ... وما علما أن سوف يفترقان
وزايل بين الشعريين تصرف ... من الدهر لا وانٍ ولا متواني
فإن تذهب الشعرى العبور لشانها ... فإن الغميصا في بقية شان
وجن سهيل (2) بالثريا جنونه ... ولكن سلاه كيف يلتقيان
وهيهات من جور القضاء وعدله ... شآمية ألوت بدين يماني
فأزمع عنها آخر الدهر سلوةً ... على طمعٍ خلاه للدبران
وأعلن صرف الدهر لابني نويرة ... بيوم تناءٍ غال كلّ تدان
وكانا كندماني جذيمة حقبة ... من الدّهر لو لم ينصرم لأوان
فهان دم بين الدكادك فاللوى ... وما كان في أمثالها بمهان
وضاعت دموع بات يبعثها الأسى ... يهيّجها قبرٌ بكلّ مكان
ومال على عبس وذبيان ميلةً ... فأودى بمجنيٍّ عليه وجان
فعوجا على جفر الهباءة فاعجبا ... بضيعة أعلاق هناك ثمان
دماء جرت منها التلاع بمثلها ... ولا ذحل إلاّ أن جرت فرسان
وأيّام حرب لا ينادى وليدها ... أهاب بها في الحيّ يوم رهان
فآب الربيع والبلاد تهزه ... ولا مثل مودٍ (3) من وراء عمان
وأنحى على ابني وائل فتهاصرا ... غصون الردى من كزة ولدان
تعاطى كليب فاستمرّ بطعنة ... أقامت لها الأبطال سوق طعان
وبات عديٌّ بالذنائب يصطلي ... بنار وغىً ليست بذات دخان
فذلّت رقابٌ من رجال أعزّةٍ ... إليهم تناهي عزّ كلّ زمان
وهبوا يلاقون الصوارم والقنا ... بكلّ جبينٍ واضحٍ ولسان
فلا خدّ إلاّ فيه حدّ مهنّدٍ ... ولا صدر إلاّ فيه صدر سنان
وصال على الجونين بالشّعب فانثنى ... بأسلاب مطلولٍ وربقة عان
وأمضى على أبناء قيلة حكمه ... على شرسٍ (1) أدلوا به وليان
ولو شاء عدوان الزمان ولو يشا ... لكان عذير (2) الحيّ من عدوان
وأي قبيل لم يصدع جميعهم ... ببكر من الأرزاء أو بعوان
خليليّ أبصرت الرّدى وسمعته ... فإن كنتما في مريةٍ فسلاني
ولا تعداني أن أعيش إلى غدٍ ... لعلّ المنايا دون ما تعداني
ونبهني ناعٍ مع الصبح كلّما ... تشاغلت عنه عنّ لي وعناني
أُغمّض أجفاني كأنّي نائمٌ ... وقد لجت الأحشاء في الخفقان
أبا حسنٍ أما أخوك فقد مضى ... فوالهف نفسي ما التقى أخوان
أبا حسن إحدى يديك رزئتها ... فهل لك بالصبر الجميل يدان
أبا حسنٍ ألق (3) السلاح فإنّها ... منايا وإن قال الجهول أماني
أبا حسن هل يدفع الموت حينه ... بأيد شجاع أبو بكيد جبان
توقوه شيئاً ثمّ كروا فجعجعوا (4) ... بأروع فضفاض الرداءٍ هجان
قليل حديث النّفس عمّا يروعه ... وإن لم يزل من ظنّه بمكان
أبيّ وإن تتبع رضاه فمصحب ... بعيد وإن تطلب جداه فداني
بنفسي وأهلي أي بدر دجنّةٍ ... لستّ خلت من شهره وثمان
يقولون لا يبعد ولله درّه ... وقد حيل بين العير والنّزوان
ويأبون إلاّ ليته ولعلّه ... ومن أين للمقصوص بالطيران
ليشعركما السلوان أنّ محمّداً ... مجاور حورٍ في الجنان حسان
وأن النّجوم الزهر في كل مطلع ... يجدن به مثل الذي تجدان
سفاك كدمعي أو كجودك واكفٌ ... من المزن بين السحّ والهملان


***


الشهاب العزازي
أحمد بن عبد الملك العزازي التاجر بقيسارية جركس (2) ، الشاعر المشهور؛ كان كيساً ظريفاً، جيد النظم في الشعر والموشحات، فمن شعره يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
دمي بأطلال ذات الخال مطلول ... وجيش صبري مهزوم ومفلول
ومن يلاق (3) العيون الفاتكات بلا ... صبر يدافع عنه فهو مخذول
لم يدر من سلب العشاق أنفسهم ... بأنّه عن دم العشّاق مسئول
وبي أغنّ غضيض الطرف معتدل ... القوام لدن مهزّ العطف مجدول
كأنّه في تثنّيه وخطرته ... غصن من البان مطلول ومشمول
سلافة منه تسبيني وسالفة ... وعاسل منه يصبيني ومعسول
وكلّما مرضت أجفان مقلته ... يصحّ إلاّ غرامي فهو منحول
يا برق كيف الثنايا الغرّ من إضمٍ ... يا برق أم كيف لي منهنّ تقبيل
ويا نسيم الصّبا كرر على أذني ... حديثهنّ فما التكرار مملول
ويا حداة المطايا دون ذي سلم ... عوجوا وشرقيّ بانات اللّوى قيلوا
منها:
منازل لأكف الغيث توشيةٌ ... بها وللنّور توشيع وتكليل
كأنّما طيب ريّاها ونفحتها ... بطيب ترب رسول الله مجبول
أوفى النبيّين برهاناً ومعجزةً ... وخير من جاءه بالوحي جبريل
له يد وله باع يزينهما ... في السلم طولٌ وفي يوم الوغى طول
سلّ الإله به سيفاً لملّته ... وذلك السيف حتى الحشر مسلول
وشاد ركناً أثيلاً من نبوّته ... والكفر واهٍ وعرش الشرك مثلول
ويلٌ لمن جحدوا برهانه وثنى ... عنان رشدهم غيٌّ وتضليل
أولئك الخاسرون الخاسئون ومن ... لهم من الله تعذيبٌ وتنكيل
نمته من هاشم أسدٌ ضراغمة ... لها السيوف بيوتٌ والقنا غيل
إذا تفاخر أرباب العلى فهم ال؟ ... غرّ المغاوير والصّيد البهاليل
لهم على العرب العرباء قاطبةً ... به افتخارٌ وترجيح وتفضيل
قومٌ عمائمهم ذلّت لعزّتها ال؟ ... قعساء تيجان كسرى والأكاليل
وله أيضاً رحمه الله:
منذ عشقت الشارعيّ الذي ... بالحسن يختال ويغتال
لم يبق في ظهري ولا راحتي ... تالله لا ماء ولا مال
وله أيضاً (1) :
ما عذر مثلك والركاب تساق ... ألا تفيض بدمعك الآماق
فأذل مصونات الدموع فإنّما ... هي سنةٌ قد سنّها العشّاق
ولربّ دمعٍ خان بعد وفائه ... مذ حان من ذاك الفريق فراق
ووراء ذيّاك العذيب منيزلٌ ... لعبت بقلبك نحوه الأشراق
خذ أيمن الوادي فكم من عاشقٍ ... فتكت به من أهله (2) الأحداق
واحفظ (1) فؤادك إن هفا برق الحمى ... أو هبّ منه نسيمه الخفّاق
وقال أيضاً:
تعشّقته ساحر المقلتين ... كبدر يلوح وغصن يميل
إذا احمرّ من وجنتيه الأسيل ... واحورّ من مقلتيه الكحيل
فقل للشقائق ماذا ترين ... وللنّرجس الغضّ ماذا تقول
وقالوا: ذبول بأعطافه ... فقلت: يزين القناة الذبول
وعابوا تمرض أجفانه ... فقلت: أصحّ النّسيم العليل وكتب شهاب الدين العزازي إلى ناصر الدين ابن النقيب ملغزا في شبابة وأحسن:
وما صفراء شاحبة ولكن ... يزيّنها النّضارة والشباب
مكتّبةٌ وليس لها بنان ... منقبةٌ وليس لها نقاب
تصيخ لها إذا قبّلت فاها ... أحاديثاً تلذّ وتستطاب
ويحلو المدح والتشبيب فيها ... وما هي لا سعاد ولا الرّباب
فأجابه ناصر الدين ابن النقيب:
أتت عجمية أعربت عنها ... لسلمانٍ يكون لها انتساب
ويفهم ما تقول ولا سؤال ... إذا حققت ذاك ولا جواب
يكاد لها الجماد يهزّ عطفاً ... ويرقص في زجاجته الحباب
وقال الشهاب العزازي ملغزاً في القوس والنشاب:
ما عجوزٌ كبيرةٌ بلغت عم؟ ... راً طويلاً وتتّقيها الرجال
قد علا جسمها صفارٌ ولم تش؟ ... ك سقاماً ولا عراها هزال
ولها في البنين سهمٌ وقسم ... وبنوها كبار قدرٍ نبال
وبنوها لم يشبهوها ففي الأ ... مّ اعوجاجٌ وفي البنين اعتدال
وقال أيضاً:
قال لي من أحبه عند لثمي ... وجنات تحدّث الورد عنها
خلّ عني أما شبعت فنادي ... ت رأيت الحياة يشبع منها؟ ووقفت على ديوان الاعزازي، وهو في مجلدين: شعر وموشح، فمن موشحاته:
يا ليلة الوصل وكاس العقار ... دون استتار علّمتماني كيف خلع العذار
اغتنم اللذات قبل الذهاب ... وجرّ أذيال الصّبا والشباب ... واشرب فقد طابت كؤوس الشراب ...
على خدودٍ تنبت الجلّنار ... ذات احمرار طرّزها الحسن بآس العذار
الراح لا شك حياة النفوس ... فحلّ منها عاطلات الكؤوس ... واستجلها بين الندامى عروس ...
تجلى على خطّابها في إزار ... من النّضار حبابها قسام مقام النثار
أما ترى وجه الهنا قد بدا ... وطائر الأشجار قد غرّدا ... والروض قد وشّاه قطر النّدى ...
فكمّل اللهو بكأس تدار ... على افترار مباسم النّوّار غبّ القطار
اجن من الوصل ثمار المنى ... وواصل الكأس بما أمكنا ... مع طيّب الريقة حلو الجنى ...
بمقلة أفتك من ذي (1) الفقار ... ذات احورار منصورة الأجفان بالانكسار
زار وقد حلّ عقود الجفا ... وافترّ عن ثغر الرضى والوفا ... فقلت والوقت لنا قد صفا ...
يا ليلةً أنعم فيها وزار ... شمس النهار حيّيت من دون (2) الليالي القصار
وقال أيضاً:
ما سلّت الأعين الفواتر ... من غمد أجفانها الصفاح
إلاّ أسالت دم المحاجر ... من غير حرب ولا كفاح
تالله ما حرّك السّواكن ... غير الظباء الجآذر
لما استجابت بكل طاعن ... من القدود النّواضر
وفوّقت أسهم الكنائن ... من كلّ جفنٍ وناظر
عربٌ إذا صحن يال عامر ... بين سرايا من الملاح
طلّت علينا من المحاجر ... طلائعٌ تحمل السلاح
أحبب بما تطلع الجنوب ... منها وما تبرز (3) الكلل
من أقمرٍ ما لها مغيب ... وأغصنٍ زانها الميل
هيهات أن تعدل القلوب ... عنها ولو جارت المقل
لمّا توشّحن بالغدائر ... سفرن عن أوجهٍ صباح
فانهزم اللّيل وهو عاثر ... بذيله واختفى الصّباح
وأهيفٍ ناعم الشّمائل ... تهزه نسمة الشّمال
فينثني كالقضيب مائل ... كما انثنى شاربٌ ومال
له عذار كالند سائل ... لله كم من دم أسال
شقّت على نبته المرائر ... من داخل الأنفس الصحاح
تكلّ في وصفه الخواطر ... وتخرس الألسن الفصاح
ظبيٌ إلى الإنس لا يميل ... الشمس والبدر من حلاه
والحسن قالوا ولم يقولوا ... مبداه منه ومنتهاه
وطرفه الناعس الكحيل ... هيهات من صنعه النجاه
أذلّ بالسّحر كلّ ساحر ... فهو له خافض الجناح
يجول في باطن الضّمائر ... كما يجول القضا المتاح
أما ترى الصبح قد تطلع ... مذ غمّضت أعين الغسق
والبدر نحو الغروب أسرع ... كهاربٍ ناله فرق
والبرق بين السّحاب يلمع ... كصارم حين يمتشق
وتحسب الأنجم الزواهر ... أسنةً ألقت الرّماح
فانهزم النّهر وهو سائر ... فدرّعته يد الرّياح وقال أيضاً:
كأس رويّه ... جلا علينا النّديم أم سنا مصباح
أم شمس حسن ... قد توجتها النجوم في سما الأفراح
هات الكؤوسا ... ممزوجة بالرضاب من ثناياكا
واخطب عروسا ... تروق تحت الحباب كسجاياكا
وادع الجليسا ... لمجلسٍ وشراب مثل ريّاكا
واشرب سبيّه ... بها النفوس تهيم ولها ترتاح
من بنت دنِّ ... أليس نحن الجسوم وهي الأرواح
خذها مداما ... وجرّ ذيل المجون أيّما جرّ
وافضض فداما ... لها من الزرجون طيب النّشر
حيّا النّدامى ... بها سقيم الجفون ناحل الخصر
حرّ السّجيّه ... حلو الدلال رخيم خنثٌ مزّاح
لدن التّثنّي ... له قوامٌ قويم للقنا فضّاح
مدّ الربيع ... للورد أيّ بساط حفّ بالآس
قم يا خليع ... إلى الصّبوح بشاطي نهر باناس
فما الهجوع ... وقد دعاك معاطي جذوة الكاس
في سندسيّه ... أجرت عليها الغيوم مدمعاً سحاح
من ماء مزن ... وصال منها النّسيم أرجا نفاح
لنا خليل ... نراه منذ ليالي غائب عنّا
وما الشّمول ... لذيذة وهو سالي أليس منّا
قل يا رسول ... بأنّنا في ظلال روضة غنّا
زبرجديه ... وثمّ شادٍ وريم وبقايا راح
ويوم دجن ... وقد دعاك النديم أجب يا صاح
سقياً لدهر ... مضى بعلّ ونهل وبغزلان
وطيب عمر ... قضى بليلة وصل ما لها ثاني
خلعت عذري ... فيها وقلت لخلي ولندماني
في البابليّة ... لا تسمعن من يلوم واهجر النصاح
واشرب وغنّي ... يا ليلةً لو تدوم دامت الأفراح وقال موشح ذوبيتي:
أقسمت عليك بالأسيل القاني ... أن تنظر في حال الكئيب العاني
أو تقصر عن إطالة الهجران ... يا من سلب المنام من أجفاني ما أليق هذا الحسن بالإحسان ...
والله لقد ضاعفت عندي الكمدا ... مذ جزت من الهجر الطويل الأمدا
أدرك رمقي أوهب فؤادي جلدا ... يا من أخذ الرّوح وأبقى الجسدا ما أصنع بعد الروح بالجثمان؟ ...
بالله إذا قضيت وجداً وغرام ... فابسط عذري يوم عتابٍ وملام
قد كنت خلياً من عذار وقوام ... لا أعطي لصبوةٍ قياداً وزمام حتى علقت بي أعين الغزلان ...
من لي بسقيم الجفن واهي الخصر ... يرنو بعيون كحّلت بالسحر
كم أوضح لي عذاره من عذر ... ما مال به الدلال ميل السكر إلاّ سجدت معاطف الغزلان ...
في مرشفه مواردٌ للقبل ... تحمى بفتور لحظه والكحل
كم قلت لمن كثّر فيه عذلي ... ما دام سواد طرفه لم يحل لا تطمع يا عذول في سلواني ...
بدريّ محيا غصنيّ القدّ ... يسبيك بجلنارة في الخدّ
ذو مبتسم عذب وخد وردي ... مذ عاينت العين نظام العقد منه نثرت قلائد العقيان ...
سالم لحظات طرفه الرشاق ... واستكف سهاماً ما لها من واق
أو خذ لك موثقاً من الأحداق ... واستخبر عن مصارع العشّاق تنبيك وعن مقاتل الفرسان ...
وقال أيضاً:
وقفت مذ سارت المحامل ... واقتربت ساعة الفراق
أكفكف الدمع بالأنامل ... والدمع يأبى إلاّ اندفاق
أم هل لطيف الكرى مزار
هيهات والصبر مستحيل ... والقلب لا يملك القرار
إن أوحشت منهم الطلول ... فطالما آنسوا الدّيار
ساروا وقد زمّت المحامل ... بهم وأظعانهم تساق
وخلّفوا أضلعاً نواحل ... ترقّ مع أدمعٍ تراق
قف باللّوى نندب الرّبوعا ... على فراق الحبايب
واسفح بأطلالها الدموعا ... إن كنت خلّي وصاحبي
ملاعب تنبت الولوعا ... سقياً لها من ملاعب
ما بال أقمارها أوافل ... وقد محا نورها المحاق
وما لباناتها ذوابل ... وكنّ مهزوزةً رشاق
بكيت من لوعتي ووجدي ... حتى فني كنز أدمعي
وكان يوم الفراق ودّي ... تبكي عيون الحيا معي
إن لم أف (1) بعدهم بعهدي ... فكنت في الحبّ مدّعي
فإن جفا النوم وهو واصل ... فكلّ شملٍ له افتراق
أو غاض دمعي وكان سائل ... فالنيل يعتاده احتراق
من لفتىً ساهر المآقي ... قد ذلّ في طاعة الهوى
يشكو إلى الله ما يلاقي ... من التّباريح والجوى
قد بلغت روحه التراقي ... مذ بعدت شقّة النوى
صبٌّ لثقل الغرام حامل ... وحمل ذيّاك لا يطاق
راح لكأس الفراق ناهل ... وكاسه مرة المذاق
وقال أيضاً:
زمان شبابي كنت خير زمان ... فلا زلت مشكوراً بكلّ لسان
فلله كم جرّرت ذيل بطالتي ... وأطلقت للّذّات فيك عناني
وقد كنت سباقاً إلى غاية الصّبا ... مجيباً إذا داعي المجون دعاني
أقبل ثغر الكأس أبيض واضحاً ... وألثم خدّ الراح أحمر قاني
ألا خلياني والتصابي فإنني ... أرى في التّصابي غير ما تريان
سأملأ من طيب العذار مفارقي ... وأخضب من صرف الكؤوس بناني
وقال أيضاً:
أرامة للآرام كنت مراتعا ... فمالك للعشاق صرت مصارعا
فأين غصونٌ كنّ فيك موائساً ... وأين بدور كنّ فيك طوالعا
وقفنا لتوديع الحمول عشيةً ... نبث صباباتٍ ونذري مدامعا
وعدنا وما بلّ الوداع غليلنا ... ولا بردت منّا الدموع الأضالعا
سألتكما ما ضرّ حادي ركابهم ... لو احتبس الأظعان أو كرّ راجعا
وماذا على المستودعين قلوبنا ... بحبلي زرود لو رددن الودائعا
تعرضن لي يوم الكثيب كأنما ... تعرض لي سربٌ من الرمل راتعا
وما كنت أدري أن بين ستورهم ... شموس الضحى حتى رفعن البراقعا
وقال أيضاً:
أدرك بقية نفسٍ فات أكثرها ... أصبحت بالهجر تطويها وتنشرها
يا من إذا نظرت عيني محاسنه ... ألومها في هواه ثمّ أعذرها
حسبي علاقة حب قد برت جسدي ... حتّام أكتمها والدمع يظهرها
ومهجة يتحاماها تجلّدها ... إذا هجرت ويغشاها تذكرها
يا للرجال أما في الحبّ من حكمٍ ... ينهى العيون إذا جارت ويزجرها
ويا ولاة الهوى قوموا بنصر فتىً ... حقوقه بيّناتٌ وهي تنكرها
لا تطلبنّ من الأعطاف عاطفة ... فإن أعدلها في الحبّ أجورها
وقال أيضاً:
يا راشق القلب منّي ... أصبت فاكفف سهامك
ويا كثير التجنّي ... منعت عنّي سلامك
وخنت ذمّة صبٍّ ... ما خان قط ذمامك
فاردد عليّ منامي ... فلا عدمت منامك
فمن رأى سوء حالي ... بكى عليّ ولامك
فلو أردت حياتي ... لما هززت قوامك
بمن أحلّك قلبي ... ارفع قليلاً لثامك
وابسم لعلّي أحيا ... إذا رأيت ابتسامك
يا خدّه ما أحبلى ... للعاشقين التثامك
بكيت دالاً وميماً ... لمّا تأمّلت لامك


.../...
 
تابع/4


ابن خلكان
أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلكان قاضي القضاة شمس الدين الإربلي الشافعي؛ ولد باربل سنة ثمان وستمائة، وسمع بها صحيح البخاري من ابن مكرم الصوفي، وأجاز له المؤيد الطوسي، وروى عنه البرزالي والمزي. وكان فاضلاً بارعاً متقناً عارفاً بالمذهب، حسن الفتاوي، بصيراً (2) بالعربية، علامة في الأدب والشعر وأيام الناس، كثير الاطلاع حلو المذاكرة، وافر الحرمة، وصنف كتاب وفيات الأعيان وقد اشتهر كثيراً. وله مجاميع أدبية.
قدم الشام في شبيبته، وتفقه بالموصل على كمال الدين ابن يونس، وبحلب على بهاء الدين ابن شداد وغيرهما، ودخل مصر وسكنها وتأهل بها، وناب بها في القضاء عن بدر الدين السنجاري، ثم قدم الشام على القضاء في ذي الحجة سنة تسع وخمسين منفرداً بالأمر، ثم أقيم معه في القضاء سنة أربع وستين شمس الدين ابن عطا الحنفي وزين الدين عبد السلام الزواوي المالكي وشمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر الحنبلي، وكان الحنفي قبل ذلك نائباً للشافعي (3) . ثم عزل عن القضاء سنة تسع وستين بالقاضي عز الدين ابن الصايغ، ثم عزل ابن
__________
(1) قد قمت بدراسته في مقدمة الجزء السابع من وفيات الأعيان (ط. بيروت 1968 - 1972) وذكرت هنالك مصادر دراسته ومنها عقود الجمان لابن الشعار 1: 454 وذيل الروضتين وذيل مرآة الزمان والوافي 7: 308 وعيون التواريخ لابن شاكر ومرآة الجنان 4: 193 وطبقات الشافعية 5: 14 وطبقات الأسنوي 1: 496 والبداية والنهاية 13: 301 والزركشي: 52 وفي كتابه معلومات كثيرة عنه، وكذلك ما قيده ابنه في " المختار من وفيات الأعيان ". الصايغ بعد سبع سنين به، وقدم من مصر، فدخل دخولاً لم يدخله غيره مثله من الحكام، وكان يوماً مشهوداً، وجلس في منصب حكمه، وتكلم الشعراء، فقال الشيخ رشيد الدين الفارقي:
أنت في الشام مثل يوسف في مص؟ ... ر وعندي أن الكرام جناس
ولكلٍّ سبعٌ شداد وبعد الس؟ ... بع عام فيه يغاث الناس ثاني
وقال سعد الدين الفارقي:
أذقت الشام سبع سنين جدباً ... غداة هجرته هجراً جميلاً
فلمّا زرته من أرض مصرٍ ... مددت عليه من كفيك نيلا
وقال نور الدين ابن مصعب:
رأيت أهل الشآم طرّاً ... ما فيهم قطّ غير راض
نالهم الخير بعد شرٍّ ... فالوقت بسطٌ بلا انقباض
وعوّضوا فرحةً بحزن ... مذ أنصف الدهر في التقاضي
وسرهم بعد طول غم ... قدوم قاض وعزل قاضي
فكلهم شاكرٌ وشاكٍ ... بحال مستقبلٍ وماض وكان كريماً ممدحاً فيه ستر وعفو وحلم، وحكاياته في ذلك مشهورة؛ ثم عزل بابن الصايغ، وبقي في يده الأمينية والنجيبية إلى أن مات رحمه الله، سادس رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة بالنجيبية جوار النورية، وشيعه الخلايق، ودفن بسفح قاسيون.
وكان وجيه الدين ابن سويد صاحبه وكان يسومه قضاء أشغال كثيرة، ويقضيها فحضر في بعض الأيام ورام منه أمراً متعذراً فاعتذر، فقال وجيه الدين: ما يكون الصاحب صاحباً حتى يعرق جبينه مع صاحبه في جهنم، فقال له ابن خلكان: يا وجيه الدين، صرنا معك قشل مشل (1) وما ترضى.
ويقال إنه عمل سيرة (1) للملك الظاهر، وأوصل نسبه بجنكزخان، فلما وقف عليه قال: هذا يصلح أن يكون وزيراً، اطلبوه، فطلبوه فبلغ الخبر الصاحب بهاء الدين ابن حنا، فسعى في القضية إلى أن أبطل ذلك، وناسى السلطان عليه، فبقي في القاهرة يركب كل يوم، ويقف في باب القرافة، ويمشي قدام الصاحب إلى أن يوصله إلى بيته، وافتقر حتى لم يبق له غير البغلة لركوبه، وكان له عبد يعمل بابا (2) ويطعمه. وكان الشيخ بهاء الدين ابن النحاس يؤثره، والصاحب بهاء الدين لا يحنو عليه، حتى فاوضه الدوادار وقال له: إلى متى يبقى هذا على هذه الحالة؟ فجهز إلى دمشق على القضاء.
ولما كان بطالاً أمر له بدر الدين الخازن دار بألفي درهم ومائة إردب قمح فأبى من قبولها وقال: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، ولم يقبل وأصر على الامتناع مع الفاقة الشديدة (3) .
وكان له ميل إلى بعض أولاد الملوك، وله فيه أشعار رائقة، يقال، إنه أول يوم زاره بسط له الطرحة، وقال له: ما عندي أعز من هذه، طأ عليها، ولما فشا أمرهما وعلم به أهله منعوه الركوب، فقال ابن خلكان:
يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبّكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتهم هجري وفرط تجنّبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من كمدٍ إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البليّة والرزيّة أنني ... أقضي وما تدري الذي قد حل بي
قسماً بوجهك وهو بدرٌ طالعٌ ... وبليل طرتك التي كالغيهب
وبقامة لك كالقضيب ركبت من ... أخطارها في الحب أعظم مركب
وبطيب مبسمك الشهيّ البارد ال ... عذب النمير اللؤلؤيّ الأشنب
لو لم أكن في رتبة أرعى لها ال ... عهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذّ لي ... خلع العذار ولجّ فيك مؤنبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جنّ هذا الشيخ في هذا الصبي
فارحم فديتك حرقةً قد قاربت ... كشف القناع بحق ذيّاك النبي
لا تفضحنّ بحبّك الصبّ الذي ... جرعته في الحبّ أكدر مشرب قال القاضي جمال الدين عبد القاهر التبريزي وسيأتي ذكره إن شاء الله: كان الذي يهواه القاضي شمس الدين ابن خلكان الملك المسعود ابن الزاهر صاحب حماة، وكان قد تيمه حبه، وكنت أنا عنده في العادلية، فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن راح الناس من عنده، فقال: نم أنت ها هنا، وألقى عليّ فروة (1) قرض وقام يدور حول البركة في بيت العادلية، ويكرر هذين البيتين، إلى أن أصبح، وتوضينا وصلينا، والبيتان المذكوران:
أنا والله هالكٌ ... آيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي ويقال: إنه سأل بعض أصحابه عما يقولوه (2) أهل دمشق فيه فاستعفاه، فألح عليه فقال: يقولون: إنك تكذب في نسبك، وتأكل الحشيشة، وتحب الصبيان، فقال: أما النسب والكذب فيه فإذا كان لا بد منه كنت أنتسب إلى العباس، أو إلى علي بن أبي طالب، أو إلى أحد الصحابة، وأما النسب إلى قوم لم يبق لهم بقية، وأصلهم قوم مجوس، فما فيه فايدة، وأما الحشيشة فالكل ارتكاب محرم، وإذا كان ولا بد فكنت أشرب الخمر لأنه ألذ، وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن هذه المسألة.
وذكره الصاحب كمال الدين ابن العديم، ونسبه إلى البرامكة.
ومن شعره أيضاً:
وسرب ظباء في غدير تخالهم ... بدوراً بأفق الماء تبدو وتغرب
يقول عذولي والغرام مصاحبي ... أما لك عن هذي الصبابة مذهب
وفي دمك المطلول خاضوا كما ترى ... فقلت له: دعهم يخوضوا ويلعبوا
وقال أيضاً:
كم قلت لما أطلعت وجناته ... حول الشقيق الغضّ روضة آس
أعذاره الساري العجول بخدّه ... ما في وقوفك ساعة من باس
وقال أيضاً:
لمّا بدا العارض في خدّه ... بشّرت قلبي بالسلو المقيم
وقلت: هذا عارضٌ ممطر ... فجاءني فيه العذاب الأليم
وقال أيضاً:
وما سرّ قلبي منذ شطّت بك النوى ... نعيمٌ ولا لهوٌ ولا متصرّف
ولا ذقت طعم الماء إلاّ وجدته ... سوى ذلك الماء الذي كنت أعرف
ولم أشهد اللذّات إلاّ تكلفا ... وأيّ سرور يقتضيه التكلّف
وقال:
أحبابنا لو لقيتم في إقامتكم ... من الصبابة ما لاقيت في ظعني
لأصبح البحر من أنفاسكم يبساً ... والبر من أدمعي ينشق بالسفن
وقال:
تمثّلتم لي والديار بعيدةٌ ... فخيل لي أن الفؤاد لكم مغنى
وناجاكم قلبي على البعد والنوى ... فأوحشتم لفظا وآنستم معنى
وقال أيضاً:
انظر إلى عارضه فوقه ... لحاظه يرسل منها الحتوف
تعاين الجنّة في خدّه ... لكنها تحت ظلال السيوف
وقال في ملاح أربعة يلقب أحدهم بالسيف:
ملاّك بلدتنا بالحسن أربعة ... بحسنهم في جميع الخلق قد فتكوا
تملكوا مهج العشّاق وافتتحوا ... بالسيف قلبي ولولا السيف ما ملكوا
وقال:
ألا يا سائراً في قفر عمرٍ ... يقاسي في السّرى حزناً وسهلا
قطعت نقا المشيب وجزت عنه ... وما بعد النّقا إلاّ المصلى
وقال:
أيّ ليلٍ على المحبّ أطاله ... سائق الظّعن يوم زمّ جماله
يزجر العيس طاوياً يقطع المه؟ ... مه عسفاً سهوله ورماله
أيها السّائق المجدّ ترفّق ... بالمطايا فقد سئمن الرحاله
وأنخها هنيهةً وأرحها ... قد براها فرط السرى والكلاله
لا تطل سيرها العنيف فقد برّ ... ح بالصّبّ في سراها الإطاله
قد تركتم وراءكم حلف وجدٍ ... بادياً في محلّكم إطلاله
يسأل الربع عن ظباء المصلّى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله
ومحالٌ من المحيل جوابٌ ... غير أن الوقوف فيها علاله
هذه سنة المحبّين يبكو ... ن على كلّ منزل لا محاله
يا ديار الأحباب لا زالت الأد ... مع في ترب ساحتيك مُذاله
وتمشى النّسيم وهو عليلٌ ... في مغانيك ساحباً أذياله
أين عيش مضى لنا فيك ما أس؟ ... رع عنّا ذهابه وزواله
حيث وجه الشباب طلقٌ نضيرٌ ... والتصابي غضونه ميّاله
ولنا فيك طيب أوقات أنس ... ليتنا في المنام نلقى مثاله
وبأرجاء جوّك الرحب سربٌ ... كلّ عينٍ تراه تهوى جماله
من فتاةٍ بديعة الحسن ترنو ... من جفون لحاظها مغتاله
ورخيم الدّلال حلو المعاني ... تتثنّى أعطافه مختاله
ذو قوام تودّ كلّ غصون الب ... ان لو أنها تحاكي اعتداله
وجهه في الظلام بدر تمامٍ ... وعذاراه (1) حوله كالهاله
ظبية تبهر العيون جمالاً ... وغزال تغار منه الغزالة
يا خليلي إذا أتيت ربى الجز ... ع وعاينت روضه وظلاله
قف به ناشداً فؤادي فلي ثمّ ... فؤادٌ أخشى عليه ضلاله
وبأعلى الكثيب بيت أغضّ ... الطّرف عنه مهابةً وجلاله
كلّ من جئته لأسأل عنه ... أظهر العيّ غيرةً وتباله
أنا أدري به ولكنّ صوناً ... أتعامى عنه وأبدي جهاله
منزلٌ حبّه عليّ قديمٌ ... في زمان الصّبا وعصر البطاله
يا عريب الحمى اعذروني فإني ... ما تجنبت أرضكم عن ملاله
حاش لله غير أنّي أخشى ... من عدوّ يسيء فينا المقاله
فتأخرت عنكم قانعاً من ... طيفكم في المنام يهدي خياله
أتمنّى في النّوم زور خيالٍ ... والأماني أطماعها قتّاله
يا أهيل النّقا وحق ليالي الوص؟ ... ل ما صبوتي عليكم ضلاله
لي مذ غبتم عن العين نارٌ ... ليس تخبو وأدمعٌ هطّاله
فصلونا إن شئتم أو فصدّوا ... لا عدمناكم على كل حاله
وقال:
يا ربّ إن العبد يخفي عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه
ولقد أتاك وما له من شافعٍ ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه وقال:
أعديتني بالجوى يا فاتر المقل ... فصحّ وجدي على ما بي من العلل
وملت عني إلى الواشي فلا عجبٌ ... والغصن ما زال مطبوعاً على الميل
يا واحد الحسن عدني زورةً حلماً ... وها يدي إن نومي قد جفا مقلي
يا جيرةً بأعالي الخيف من إضمٍ ... خيّبتم بجفاكم في الهوى أملي
وملتم بجميل الصبر عن دنفٍ ... أجلّ ما يتمنى سرعة الأجل
تجري على الخد (1) مذ غبتم مدامعه ... وما عسى ينفع الباكي على طلل
وقال أيضاً رحمه الله:
أيا غادراً خانت مواثيق عهده ... لقد جرت في حكم الغرام على الصبّ
وأقصيته من بعد أنسٍ وصحبةٍ ... وما هكذا فعل الأحبّة والصحب
فلله أيّامٌ تقضّت حميدةً ... بقربك واللّذات في المنزل الرحب
وإذ أنت في عيني ألذّ من الكرى ... وأشهى إلى قلبي من البارد العذب
فلهفي على ذاك الزمان الذي غدت ... عليه دموع العين دائمة السّكب
ومذ صرت ترضيني بقولٍ منمّقٍ ... وتظهر لي سلماً أشدّ من الحرب
ثنيت عناني عن هواك زهادةً ... وإن كنت في أعلى المراتب من قلبي
لأني رأيت القلب عندك ضائعاً ... تعذبه كيف اشتهيت بلا ذنب
ولم تحفظ الودّ الذي هو بيننا ... ولم ترع أسباب المودّة والحب
ولا أنت في قيد المحبّ إذا غدا ... تقلبه الأشواق جنباً إلى جنب
ولا أنت ممّن يرعوي لمقالتي ... فأشفي قلبي بالشّكيّة والعتب
ولا رمت منك القرب إلاّ جفوتني ... وأبعدتني حتى يئست من القرب
وأصغيت للواشي وصدقت قوله ... وضيّعت ما بيني وبينك بالكذب
فلم يبق لي والله فيك إرادةٌ ... كفاني الذي قاسيته فيك من عجب
ولا لي في حبيك ما عشت رغبةٌ ... أبى الله أن تسبي فؤادي أو تصبي
ومن ذا الذي يقوى على حمل بعض ما ... تجرعته بالذلّ من خلقك الصعب
فلا ترج منّي بعد ذا حسن صحبة ... فحسبي سلواً بعض ما قلته حسبي
فلا تعتبنّي قد قطعت مطامعي ... وخففت حتى في الرسائل والكتب
وقال في المعنى:
أيا معرضاً عنّي بغير جنايةٍ ... أما تستحي من فرط تيهك والعجب
سلوتك فاصنع ما تشاء فإنّه ... محا كثرة التقبيح حبك من قلبي
وقال أيضاً ذوبيت:
هذا الصلف الزائد في معناه ... قد حيرني فلست أدري ما هو
كم يحمل قلبي من تجنيك ولا ... يدري أحدٌ بذاك إلاّ الله
وقال أيضاً:
في هامش خدك البديع القاني ... تصحيح غرام كلّ صبٍّ عاني
قد خرجها الباري فما ألطفها ... من حاشيةٍ بالقلم الريحاني
وقال أيضاً:
يا سعد عساك تطرق الحي عساك ... قصداً فإذا رأيت من حلّ هناك
قل صبك ما زال به الوجد إلى ... أن مات غراماً أحسن الله عزاك


***


الزين كتاكت
أحمد بن محمد بن أحمد، أبو العباس الأندلسي الإشبيلي المعروف بزين الدين كتاكت المصري الواعظ؛ مولده سنة خمسة وستمائة، وتوفي بالقاهرة سنة أربع وثمانين وستمائة، وكان له معرفة بالأدب رحمه الله (2) ،
فمن شعره:
حضروا فمذ نظروا جمالك غابوا ... والكلّ مذ سمعوا خطابك طابوا
فكأنّهم في جنّةٍ وعليهم ... من خمر حبك طافت الأكواب
يا سالب الألباب يا من حسنه ... لقلوبنا الوهّاب والنهاب
القرب منك لمن يحبك جنّة ... قد زخرفت والبعد منك عذاب
يا عامراً منّي الفؤاد بحبّه ... بيت العذول على هواك خراب
أنت الذي ناولتني كأس الهوى ... فإذا سكرت فما عليّ عتاب
وعلى النّقا حرمٌ لعلوة آمنٌ ... من حوله تتخطّف الألباب
لغريقها كيف الوصول ودونه ... نار لها بحشاشتي إلهاب
قال أيضاً:
يا بارق الحيّ كرّر في حديثك لي ... تذكارهم وأعد روحي إلى بدني
وأنت يا دمع ما هذا الوقوف وقد ... جرى حديث الحمى النجديّ في أذني
قال:
أحن ولكن نحو ضمّ قوامه ... وأصبو ولكن نحو لثم لثامه
وأعشق ما لي نغمة (1) من حديثه ... تفرّج إلاّ من هموم غرامه
وقال:
حلوتم أهل نعمان بقلبي ... فكلّ عذاب حبكم نعيم
وقد أصبحتم كنز الأماني ... فواجد غيركم عندي عديم
وقال:
جواز الصبر (2) في أذني محال ... وما للصبر في قلبي مجال
شغلتم كلّ جارحةٍ بحسن ... فليس لها بغيركم اشتغال
سقى الهضبات من نجدٍ سحابٌ ... ملثّ الغيث تحدوه الشمال
ولا برحت أثيلات المصلى ... ترف (3) على منابتها الظلال
منازل جبرة ما كان أهنا ... بهم لي العيش لو جام الوصال
يهبّ نسيمها فأميل سكراً ... فهل هبّت شمول أم شمال 47 (4)


***


سيف الدين السامري
أحمد بن محمد بن علي بن جعفر، الصدر الأديب الرئيس سيف الدين

السامري - بفتح الميم وتشديد الراء - نسبة إلى سامرا، نزيل دمشق؛ شيخ متميز متمول ظريف حلو المجالسة مطبوع النادرة جيد الشعر، طويل الباع في الهجو، من سروات الناس ببغداد، قدم الشام بأمواله وحظي عند الملك الناصر صاحب الشام وامتدحه، وعمل تلك الأرجوزة المشهورة بالسامرية التي أولها:
يا سائق العيس إلى الشّآم ... وقاطع الوهاد والآكام
حط فيها على الكتاب وأغرى الناصر بمصادرتهم.
وكان مزاحاً كثير الهزل، لا يكاد يتحمل، مع أن الصاحب بهاء الدين ابن حنا صادره وأخذ منه نحو ثلاثين ألف دينار عندما قدم أخوه نور الدولة السامري من اليمن، ونكب في دولة المنصور، وطلبه الشجاعي إلى مصر، وأخذت منه حزرما وغيرها ومائتا (1) ألف درهم، وكان يسكن داره المليحة التي وقفها خانقاه ووقف عليها باقي أملاكه. وكانت وفاته سنة ست وتسعين وستمائة.
وقال:
قبّح الله كلّ من بدمشقٍ ... من أصيحابنا سوى ابن سعيد
فهو مع شحّه وما يتعاطا ... هـ من اللُّؤم أصلح الموجود
وقال يهجو خاله وخال أبيه:
إذا ما قيل من بالكرخ نذلٌ ... لئيم الأصل مذموم الفعال
أجبتهم إجابة لوذعيٍّ ... هما النّذلان خال أبي وخالي
وكتب إلى نور الدين الإسعردي مع غلام حسن الصورة يأخذ له ورقة برواحه إلى مصر من والي دمشق، وكان النور كاتباً عنده:
أمولاي نور الدين عارض هذه ... بغير كلامٍ إن أردت ينام
فلا تخش أمراً إن خلوت ولطبه ... حلالاً فتأخير اللّياط حرام
وقد رام إطلاقاً إلى مصر فانهه ... فلي فيه وجدٌ زائد وغرام
ونجل الخطيب التاج نصر ينيكه ... إذا حلّ مصراً ليس فيه كلام
أغار على تلك الروادف أنها ... تذال لغيري لائط وتسام
وليس على المملوك إن غاب شخصه ... عن العين في أرض الشآم مقام
ومولاي من عهد التفقه شيخنا ... به نهتدي في الفسق وهو إمام
سقى الله أيام النظامية التي ... فسقنا بها والمنكرون نيام
نغازل فيها كلّ أحوى مهفهف ... يدار علينا من لماه مدام
من الغيد يحكي الخيزرانة قامةً ... على مثلها عذر المحبّ يقام
وإن علم المولى الوجيه محمد ... وعاتبني فيه فأنت تلام
وليس على المملوك بعد وصوله ... إليك وإيصال الجواب ملام
فأجابه نور الدين الإسعردي يقول:
عجبت لسيف الدين كيف يجود لي ... بظبي له فيه هوىً وغرام
يميناً لقد بالغت فهي مروءة ... كعادتك الحسنى ولست تلام
فلا تخش من نصر فليس بضائر ... إذا ما تراضوا ما عليك أثام
وذكرتني عهد النظاميّة الذي ... أفاد المنى والمنكرون نيام
ولم أنس بالمستنصريّة أنسنا ... على الأنس في دار السلام سلام
سقى نهر عيسى والمحول والحمى ال؟ ... رصافيّ والكرخ المنيع غمام
وعيشك ما ذكري لعيشي بها أسىً ... ووجد ولا بي لوعة وغرام
ولكنّ لي قلباً له أريحيّة ... وذكر لمن فارقته وذمام
ومن شعر سيف الدين السامري:
أترى وميض البارق الخفاق ... يهدي إلى أهل الحمى أشواقي
ولعلّ أنفاس النسيم إذا سرى ... يحكي تحيّة مغرم مشتاق
أحبابنا ما آن بعد فراقكم ... أن تسمحوا لمحبكم بتلاق
بنتم فضنّت بالرقاد نواظري ... أسفاً وجادت بالدّموع مآقي
أجريت من جفني على أطلالكم ... دمعاً غدا وقفاً على الإطلاق
أتراكم ترعون صبّاً رعتم ... أحشاءه بقطيعةٍ وفراق
بين الدّموع وحرّ نار جوانحي ... عذّبت بالإغراق والإحراق
بالله يا ريح الشّمال تحمّلي ... واقري سلام الواله المشتاق
وإذا مررت على الدّيار فبلّغي ... أهل الكثيب بكلّ ما أنا لاقي
فهناك لي رشأ أغنّ مهفهفٌ ... يصمي القلوب بأسهم الأحداق
متمنّعٌ من قدّه بمثقّف ... ومن الجفون بأسهمٍ ورقاق
فإذا انثنى فضح القنا وإذا رنا ... سفكت لواحظه دما العشاق
ويزين غصن القدّ منه شعره ... وكذا الغصون تزان بالأوراق
ومن شعره في ابن المقدسي لما حبس بالعذراوية (1) :
ورد البشير بما أقرّ الأعينا ... فشفى الصدور وبلّغ الناس المنى
واستبشروا وتزايدت أفراحهم ... فالخلق مشتركون في هذا الهنا
ثبتت مخازي ابن القتيلة عند من ... وجدت لديه في الخيانة والخنا
بشهادة الستر الرفيع وقولها ... من غير واسطة لسلطان الدنا
وبنى البناء بلا أساسٍ ثابتٍ ... فانهار ما شاد النكيح وما بنى
وتقدّم الأمر الشريف بأخذ ما ... نهب اللعين من البلاد وما اقتنى
يا سيد الأمراء يا شمس الهدى ... يا ماضي العزمات يا رحب الفنا
يا من له عزمٌ وجأشٌ ثابتٌ ... يغنيه عن حمل الصوارم والقنا
عجّل بذبح العلق وادفنه وما ... من حقّ علقٍ مثله أن يدفنا
واغلظ عليه ولا ترقّ، وكل ما ... يلقى بما كسبت يداه وما جنى
فلكم يتيم مدقع ويتيمة ... من جوره ماتا على فرش الضنى
ولكم غنيّ ظلّ في أيامه ... مسترفداً (1) للناس من بعد الغنى
إن أنكر العلق القطيم فعاله ... بالمسلمين فأوّل القتلى أنا
ولما عدل القاضي صدر الدين ابن سني الدولة جمال الدين ابن اليزدي، وخلع عليه خلعة بطيلسان، وأحضره مجلسه مع العدول وأشهد (2) عليه، قال السامري:
طاب شرب المدام في رمضان ... واصطفاق العيدان عند الأذان
والزنا واللواط في حرم الل؟ ... هـ وترك الصلاة بالقرآن
منذ صار اليزديّ في سكك الشا ... م يطوف الحانات بالطيلسان
وإذا صارت العدالة في الفس؟ ... اق واللاّئطين بالمردان
فجديرٌ بأن أكون نبياً ... ويكون الصديق لي التلمساني
يا عدول الشآم قد سمح القا ... ضي لأصحابه بنيل الأماني
قامروا واشربوا وقودوا ولوطوا ... وافسقوا والحدوا إذن بأمان
وارفعوا عنكم التستر بالفس؟ ... ق فلا حاجةٌ إلى كتمان
قال: فلما بلغت الأبيات القاضي صدر الدين عز عليه، وأعرض عن اليزدي ومنعه من الشهادة، فحضر اليزدي إلى سيف الدين السامري، ودخل عليه. ولا زال به إلى أن عمل:
قل لقاضي القضاة أيده الل؟ ... هـ ولا زال للجماعة ظلاّ
قد تصدّقت بالعدالة حوشي؟ ... ت بقول الأغراض إن يقض عدلا
ولئن أجمعوا على فسق ذاك الشي؟ ... خ والبائس الذي قلّ عقلا
عدلوا عن طرائق العدل فيه ... ورموه بالزور والإفك نقلا
نبزوه بقلّة الدين والخي؟ ... ر وترك الصلاة ظلماً وجهلا
وإذا لاط أو زنى وهو شاب ... ما عليه عارٌ إذا صار كهلا
وجهه في مجالس الحكم يجزي ... من رآه بشراً وكيساً وفضلا
إن تحلّى بالطّيلسان فبالح ... قّ جدير بمثله يتحلّى
كل من كان شاهداً بمحال ... أو بزور لما تولّى تولّى
وكذا لم يزل لكلّ اجتماع ... بين خلين بالتجمع أهلا
وكتب إلى طوغان وأسندمر، ولكل منهما أستادار يسمى العلم سنجر ونائب البر يسمى الشجاع همام:
اسم الولاية للأمير وما له ... فيها سوى الأوزار والآثام
وجباية (1) القتلى وكل مصيبةٍ ... تجبى منافعها إلى همام
سيفان قد وليا وكلٌّ منهما ... ماضي العزائم دائم الإقدام (2)
وبباب كلٍّ منهما علم ينكِّ؟ ... ل ما يجود به من الإنعام (1)
ما الناس عندهما بناسٍ لا ولا ... يريان هاذ الناس كالأنعام
وقد استحلاّ منهم ما لم يزل ... من مالهم ودمائهم بحرام
فمتى أرى الدنيا بغير سناجرٍ ... والقطع والتنكيس للأعلام 53 (2)


***


ابن الحلاوي الشاعر
أحمد بن محمد بن أبي الوفا بن الخطاب بن الهزبر، الأديب الكبير شرف الدين أبو الطيب بن الحلاوي الربعي، الشاعر الموصلي؛ ولد سنة ثلاث وستمائة، وقال الشعر الجيد الفائق ومدح الخلفاء والملوك، وكان في خدمة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان من ملاح الموصل، وفيه لطف وظرف وحسن عشرة وخفة روح، وله القصائد الطنانة التي رواها الدمياطي عنه في معجمه؛ توفي سنة ست وخمسين وستمائة؛ فمما رواه الشيخ شرف الدمياطي له رحمه الله تعالى:
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلاّ وجنتاه وريقه
هلالٌ ولكن أفق قلبي محلّه ... غزالٌ ولكن سفح عيني عقيقه
وأسمر يحكي الأسمر اللّدن قدّه ... غدا راشقاً قلب المحب رشيقه
على خدّه جمر من الحسن مضرمٌ ... يشبّ ولكن في فؤادي حريقه
أقرّ له من كلّ حسنٍ جليله ... ووافقه من كلّ معنىً دقيقه
بديع التثنّي راح قلبي أسيره ... على أنّ دمعي في الغرام طليقه
على سالفيه للعذار جديده (2) ... وفي شفتيه للسّلاف عتيقه
يهدد منه الطرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الريق من لا يذيقه
على مثله يستحسن الصبّ هتكه ... وفي حبه يجفو الصديق صديقه
من الترك لا يصبيه وجدٌ إلى الحمى ... ولا ذكر بانات الغوير تشوقه
ولا حلّ في حيّ تلوح قبابه ... ولا سار في ركب يساق وسوقه (1)
ولا بات صبّاً بالفريق وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه
له مبسمٌ ينسي المدام بريقه ... ويخجل نوار الأقاحي بريقه
تداويت من حرّ الغرام ببرده ... فأضرم من حرّ الحريق رحيقه
إذا خفق البرق اليمانيّ موهناً ... تذكره قلبي فزاد خفوقه
حكى وجهه بدر السّماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس: هذا شقيقه
رآني خيالاً حين وافى خياله ... فأطرق من فرط الحياء طروقه
وأشبهت منه الخصر سقماً فقد غدا ... يحمّلني كالخصر ما لا أطيقه
فما بال قلبي كلّ حب يهيجه ... وحتّام طرفي كلّ حسن يشوقه
فهذا ليوم البين لم تطف ناره ... وهذا فبعد البعد ما جفّ موقه
ولله قلبي ما أشدّ عفافه ... وإن كان طرفي مستمراً (2) فسوقه
أرى الناس أضحوا جاهلية حبّه ... فما باله عن كلّ صبّ يعوقه
فما فاز إلاّ من يبيت صبوحه ... مدام ثناياه ومنها غبوقه
وقال أيضاً:
أأُلقى من صدودك (3) في جحيم ... وثغرك كالصّراط المستقيم
وأسهرني لديك رقيم خدّ ... فواعجبا أأسهر بالرقيم
منها:
وحتّام البكاء بكلّ رسم ... كأنّ عليّ رسماً للرسوم
واجتمعوا في بعض الأيام عند شخص يلقب بالشمس، فقالوا له: أطعمنا شي فامتنع، فقال بعضهم:
الطامع في منال قرص الشمس ...
فقال ابن الحلاوي:
كالطامع في منال قرص الشمس ...
وأنشده بعض الأفاضل لغزاً في شبابة:
وناطقة خرساء بادٍ شحوبها ... تكنفها عشرٌ وعنهنّ تخبر
يلذّ إلى الأسماع رجع حديثها ... " إذا سدّ منها منخرٌ جاش منخر " (1)
فأجابه في الوقت:
نهاني والنهى والشيب عن وصل مثلها ... " وكم مثلها فارقتها وهي تصفر " (2)
وسئل أن ينظم أبياتاً تكتب على مشط للملك العزيز محمد صاحب حلب، فقال:
حللت من الملك العزيز براحةٍ ... غدا لثمها عندي أجلّ الفرائض
وأصبحت مفترّ الثنايا لأنّني ... حللت بكفّ بحرها غير غائض
وقبلت سامي كفه بعد خده ... فلم أخل في الحالين من لثم عارض
وقال، وهو مشهور عنه:
جاء غلامي وشكا ... أمر كميتي وبكى
وقال لي لا ش؟ ... ك برذونك قد تشبكا
قد سقته اليوم فما ... مشى ولا تحركا
فقلت من غيظي له ... مجاوباً لما حكى
تريد أن تخدعني ... وأنت أصل المشتكى
ابن الحلاويّ أنا ... خلّ الرياء والبكا
ولا تخادعني ودع ... حديثك المعلّكا
لو أنّه مسيّرٌ ... لما غدا مشبكا
فمذ رأى حلاوة ال؟ ... ألفاظ منّي ضحكا
وكتب إلى القاضي محيي الدين ابن الزكي يصف خطه:
كتبت فلولا أنّ هذا محلّلٌ ... وذاك حرامٌ قست خطك بالسّحر
فوالله ما أدري أزهر خميلةٍ ... بطرسك أم درٌّ يلوح على نحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابةٍ ... وإن كان درّاً فهو من لجّة البحر
وقال يمدح الملك الناصر داود صاحب الكرك:
أحيا بموعده قتيل وعيده ... رشأ يشوب وصاله بصدوده
قمرٌ يفوق على الغزالة وجهه ... وعلى الغزال بمقلتيه وجيده
يا ليته يعد الصدود فإنّه ... ما زال ذا لهج بخلف وعوده
يفترّ عن عذب الرضاب، حياتنا ... في ورده والموت دون وروده
بردٌ يذيب ولا يذوب وإنّما ... أدنى زفير الوجد عذب بروده
لم أنسه إذ جاء يسحب برده ... والليل يخطر في فضول بروده
والصبح مأسورٌ أجدّ لأسره ... جنح الظلام تأسفاً لفقيده
واللّيل يرفل في ثياب حداده ... والصبح يرسف في فضول حديده
ولذاك لم تنم الجفون مخافةً ... من أن يعاني الصبح فكّ قيوده
بمدامة صفراء يحمل شمسها ... بدر يغير البدر عند سعوده
كأسٌ كأن مدامها من ريقه ... وحبابها من ثغره وعقوده
ما زال يرشفنا شقيقة ريقه ... طيباً ويلثمنا شقيق خدوده
حتى تحكم في النجوم نعاسها ... والتذّ كلّ مسهدٍ بهجوده
ورأى الصباح تخلصاً من أسره ... فأتى يكرّ على الدجى بعموده
قمرٌ أطاع الحسن سنّة وجهه ... حتى كأن الحسن بعض عبيده
أنا في الغرام شهيده ما ضرّه ... لو أنّ جنّة وصله لشهيده
وقال أيضاً:
تبدى له في الخد من تبّتٍ خطّ ... وأخجل منه القدّ ما ينبت الخط
ولم ندر لما هزّ عامل قده ... وصارم جفنيه بأيهما يسطو
رحيقيّ ثغر بابليّ لواحظٍ ... له سالف كالورد بالمسك مختط
من الترك لا وادي الأراك محلّه ... ولا داره رمل المصلّى ولا السقط
كليث الشّرى في الحرب بأساً وسطوةً ... وفي السّلم كالظبي الغرير إذا يعطو
يخفّ به لين المعاطف مائساً ... فيمنعه ثقل الروادف أن يخطو
حمى ثغره من مشرف القد عاملٌ ... له ناظرٌ ما العدل في شرعه شرط
له حاجبٌ كالنون خطّ ابن مقلةٍ ... يزيّنها للخال في خده نقط
فللبدر ما يثني عليه لثامه ... وللغصن منه ما حرى ذلك المرط
يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن منحط
كما شبّهوا غصن النقا بقوامه ... لقد بالغوا بالمدح للغصن واشتطوا
ولما توجه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى العجم للاجتماع بهولاكو كان ابن الحلاوي معه، فمرض بتبريز، وتوفي بها، وقيل بسلماس، وهو في حدود الستين من عمره.
ومن شعره أيضاً:
لحاظ عينيك فاتنات ... جفونها الوطف فاترات
فرّق بيني وبين صبري ... منك ثنايا مفرقات
يا حسناً صدّه قبيح ... فجمع شملي به شتات
قد كنت لي واحداً ولكن ... عداك عن وصلي العداة
إن لم يكن منك لي وفاءٌ ... دنت بهجرانك الوفاة
حيّات صدغيك قاتلاتٌ ... فما لملسوعها حياة
والثغر كالثغر في امتناعٍ ... تحميه من لحظك الرماة
يا بدر تمٍّ له عذارٌ ... بحسنه تمّت الصفات
منمنم الوشي في هواه ... يا طالما نمت الوشاة
نبات صدغ حلاّك حسناً ... والحلو في السكر النّبات وكان السلطان بدر الدين لؤلؤ لا ينادمه ولا يحضره مجلسه، وإنما كان ينشده أيام المواسم والأعياد المدائح التي يعملها فيه، فلما كان في بعض الأيام رآه في الصحراء في روضة معشبة وبين يديه برذون له مريض يرعى، فجاء إليه ووقف عنده وقال: ما لي أرى هذا البرذون ضعيفاً؟ فقام وقبل الأرض وقال: يا مولانا السلطان، حاله مثل حالي، وما تخلفت عنه في شيء، يدي بيده في كل رزق رزقنا الله تعالى، هل عملت في برذونك هذا شيئاً؟ قال: نعم، وأنشده بديهاً:
أصبح برذوني المرقّع بالل؟ ... زقات في حسرةٍ يكابدها
رأى حمير الشعير عابرة ... عليه يوماً فظل ينشدها
" قفا قليلاً بها عليّ فلا ... أقلّ من نظرةٍ أُزوّدها " (1)
فأعجبت السلطان بديهته. وأمر له بخمسين ديناراً (2) وخمسين مكوكاً من الشعير وقال له: هذه الدنانير لك، وهذا الشعير لبرذونك، ثم أمره بملازمة مجلسه كسائر الندماء، وأقطعه إقطاعاً، ولم يزل يترقى عنده إلى أن صار لا يصبر عنه، رحمهما الله تعالى.


***


.../...
 
تابع/4


ابن خلكان
أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلكان قاضي القضاة شمس الدين الإربلي الشافعي؛ ولد باربل سنة ثمان وستمائة، وسمع بها صحيح البخاري من ابن مكرم الصوفي، وأجاز له المؤيد الطوسي، وروى عنه البرزالي والمزي. وكان فاضلاً بارعاً متقناً عارفاً بالمذهب، حسن الفتاوي، بصيراً (2) بالعربية، علامة في الأدب والشعر وأيام الناس، كثير الاطلاع حلو المذاكرة، وافر الحرمة، وصنف كتاب وفيات الأعيان وقد اشتهر كثيراً. وله مجاميع أدبية.
قدم الشام في شبيبته، وتفقه بالموصل على كمال الدين ابن يونس، وبحلب على بهاء الدين ابن شداد وغيرهما، ودخل مصر وسكنها وتأهل بها، وناب بها في القضاء عن بدر الدين السنجاري، ثم قدم الشام على القضاء في ذي الحجة سنة تسع وخمسين منفرداً بالأمر، ثم أقيم معه في القضاء سنة أربع وستين شمس الدين ابن عطا الحنفي وزين الدين عبد السلام الزواوي المالكي وشمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر الحنبلي، وكان الحنفي قبل ذلك نائباً للشافعي (3) . ثم عزل عن القضاء سنة تسع وستين بالقاضي عز الدين ابن الصايغ، ثم عزل ابن
__________
(1) قد قمت بدراسته في مقدمة الجزء السابع من وفيات الأعيان (ط. بيروت 1968 - 1972) وذكرت هنالك مصادر دراسته ومنها عقود الجمان لابن الشعار 1: 454 وذيل الروضتين وذيل مرآة الزمان والوافي 7: 308 وعيون التواريخ لابن شاكر ومرآة الجنان 4: 193 وطبقات الشافعية 5: 14 وطبقات الأسنوي 1: 496 والبداية والنهاية 13: 301 والزركشي: 52 وفي كتابه معلومات كثيرة عنه، وكذلك ما قيده ابنه في " المختار من وفيات الأعيان ". الصايغ بعد سبع سنين به، وقدم من مصر، فدخل دخولاً لم يدخله غيره مثله من الحكام، وكان يوماً مشهوداً، وجلس في منصب حكمه، وتكلم الشعراء، فقال الشيخ رشيد الدين الفارقي:
أنت في الشام مثل يوسف في مص؟ ... ر وعندي أن الكرام جناس
ولكلٍّ سبعٌ شداد وبعد الس؟ ... بع عام فيه يغاث الناس ثاني
وقال سعد الدين الفارقي:
أذقت الشام سبع سنين جدباً ... غداة هجرته هجراً جميلاً
فلمّا زرته من أرض مصرٍ ... مددت عليه من كفيك نيلا
وقال نور الدين ابن مصعب:
رأيت أهل الشآم طرّاً ... ما فيهم قطّ غير راض
نالهم الخير بعد شرٍّ ... فالوقت بسطٌ بلا انقباض
وعوّضوا فرحةً بحزن ... مذ أنصف الدهر في التقاضي
وسرهم بعد طول غم ... قدوم قاض وعزل قاضي
فكلهم شاكرٌ وشاكٍ ... بحال مستقبلٍ وماض وكان كريماً ممدحاً فيه ستر وعفو وحلم، وحكاياته في ذلك مشهورة؛ ثم عزل بابن الصايغ، وبقي في يده الأمينية والنجيبية إلى أن مات رحمه الله، سادس رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة بالنجيبية جوار النورية، وشيعه الخلايق، ودفن بسفح قاسيون.
وكان وجيه الدين ابن سويد صاحبه وكان يسومه قضاء أشغال كثيرة، ويقضيها فحضر في بعض الأيام ورام منه أمراً متعذراً فاعتذر، فقال وجيه الدين: ما يكون الصاحب صاحباً حتى يعرق جبينه مع صاحبه في جهنم، فقال له ابن خلكان: يا وجيه الدين، صرنا معك قشل مشل (1) وما ترضى.
ويقال إنه عمل سيرة (1) للملك الظاهر، وأوصل نسبه بجنكزخان، فلما وقف عليه قال: هذا يصلح أن يكون وزيراً، اطلبوه، فطلبوه فبلغ الخبر الصاحب بهاء الدين ابن حنا، فسعى في القضية إلى أن أبطل ذلك، وناسى السلطان عليه، فبقي في القاهرة يركب كل يوم، ويقف في باب القرافة، ويمشي قدام الصاحب إلى أن يوصله إلى بيته، وافتقر حتى لم يبق له غير البغلة لركوبه، وكان له عبد يعمل بابا (2) ويطعمه. وكان الشيخ بهاء الدين ابن النحاس يؤثره، والصاحب بهاء الدين لا يحنو عليه، حتى فاوضه الدوادار وقال له: إلى متى يبقى هذا على هذه الحالة؟ فجهز إلى دمشق على القضاء.
ولما كان بطالاً أمر له بدر الدين الخازن دار بألفي درهم ومائة إردب قمح فأبى من قبولها وقال: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، ولم يقبل وأصر على الامتناع مع الفاقة الشديدة (3) .
وكان له ميل إلى بعض أولاد الملوك، وله فيه أشعار رائقة، يقال، إنه أول يوم زاره بسط له الطرحة، وقال له: ما عندي أعز من هذه، طأ عليها، ولما فشا أمرهما وعلم به أهله منعوه الركوب، فقال ابن خلكان:
يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبّكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتهم هجري وفرط تجنّبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من كمدٍ إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البليّة والرزيّة أنني ... أقضي وما تدري الذي قد حل بي
قسماً بوجهك وهو بدرٌ طالعٌ ... وبليل طرتك التي كالغيهب
وبقامة لك كالقضيب ركبت من ... أخطارها في الحب أعظم مركب
وبطيب مبسمك الشهيّ البارد ال ... عذب النمير اللؤلؤيّ الأشنب
لو لم أكن في رتبة أرعى لها ال ... عهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذّ لي ... خلع العذار ولجّ فيك مؤنبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جنّ هذا الشيخ في هذا الصبي
فارحم فديتك حرقةً قد قاربت ... كشف القناع بحق ذيّاك النبي
لا تفضحنّ بحبّك الصبّ الذي ... جرعته في الحبّ أكدر مشرب قال القاضي جمال الدين عبد القاهر التبريزي وسيأتي ذكره إن شاء الله: كان الذي يهواه القاضي شمس الدين ابن خلكان الملك المسعود ابن الزاهر صاحب حماة، وكان قد تيمه حبه، وكنت أنا عنده في العادلية، فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن راح الناس من عنده، فقال: نم أنت ها هنا، وألقى عليّ فروة (1) قرض وقام يدور حول البركة في بيت العادلية، ويكرر هذين البيتين، إلى أن أصبح، وتوضينا وصلينا، والبيتان المذكوران:
أنا والله هالكٌ ... آيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي ويقال: إنه سأل بعض أصحابه عما يقولوه (2) أهل دمشق فيه فاستعفاه، فألح عليه فقال: يقولون: إنك تكذب في نسبك، وتأكل الحشيشة، وتحب الصبيان، فقال: أما النسب والكذب فيه فإذا كان لا بد منه كنت أنتسب إلى العباس، أو إلى علي بن أبي طالب، أو إلى أحد الصحابة، وأما النسب إلى قوم لم يبق لهم بقية، وأصلهم قوم مجوس، فما فيه فايدة، وأما الحشيشة فالكل ارتكاب محرم، وإذا كان ولا بد فكنت أشرب الخمر لأنه ألذ، وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن هذه المسألة.
وذكره الصاحب كمال الدين ابن العديم، ونسبه إلى البرامكة.
ومن شعره أيضاً:
وسرب ظباء في غدير تخالهم ... بدوراً بأفق الماء تبدو وتغرب
يقول عذولي والغرام مصاحبي ... أما لك عن هذي الصبابة مذهب
وفي دمك المطلول خاضوا كما ترى ... فقلت له: دعهم يخوضوا ويلعبوا
وقال أيضاً:
كم قلت لما أطلعت وجناته ... حول الشقيق الغضّ روضة آس
أعذاره الساري العجول بخدّه ... ما في وقوفك ساعة من باس
وقال أيضاً:
لمّا بدا العارض في خدّه ... بشّرت قلبي بالسلو المقيم
وقلت: هذا عارضٌ ممطر ... فجاءني فيه العذاب الأليم
وقال أيضاً:
وما سرّ قلبي منذ شطّت بك النوى ... نعيمٌ ولا لهوٌ ولا متصرّف
ولا ذقت طعم الماء إلاّ وجدته ... سوى ذلك الماء الذي كنت أعرف
ولم أشهد اللذّات إلاّ تكلفا ... وأيّ سرور يقتضيه التكلّف
وقال:
أحبابنا لو لقيتم في إقامتكم ... من الصبابة ما لاقيت في ظعني
لأصبح البحر من أنفاسكم يبساً ... والبر من أدمعي ينشق بالسفن
وقال:
تمثّلتم لي والديار بعيدةٌ ... فخيل لي أن الفؤاد لكم مغنى
وناجاكم قلبي على البعد والنوى ... فأوحشتم لفظا وآنستم معنى
وقال أيضاً:
انظر إلى عارضه فوقه ... لحاظه يرسل منها الحتوف
تعاين الجنّة في خدّه ... لكنها تحت ظلال السيوف
وقال في ملاح أربعة يلقب أحدهم بالسيف:
ملاّك بلدتنا بالحسن أربعة ... بحسنهم في جميع الخلق قد فتكوا
تملكوا مهج العشّاق وافتتحوا ... بالسيف قلبي ولولا السيف ما ملكوا
وقال:
ألا يا سائراً في قفر عمرٍ ... يقاسي في السّرى حزناً وسهلا
قطعت نقا المشيب وجزت عنه ... وما بعد النّقا إلاّ المصلى
وقال:
أيّ ليلٍ على المحبّ أطاله ... سائق الظّعن يوم زمّ جماله
يزجر العيس طاوياً يقطع المه؟ ... مه عسفاً سهوله ورماله
أيها السّائق المجدّ ترفّق ... بالمطايا فقد سئمن الرحاله
وأنخها هنيهةً وأرحها ... قد براها فرط السرى والكلاله
لا تطل سيرها العنيف فقد برّ ... ح بالصّبّ في سراها الإطاله
قد تركتم وراءكم حلف وجدٍ ... بادياً في محلّكم إطلاله
يسأل الربع عن ظباء المصلّى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله
ومحالٌ من المحيل جوابٌ ... غير أن الوقوف فيها علاله
هذه سنة المحبّين يبكو ... ن على كلّ منزل لا محاله
يا ديار الأحباب لا زالت الأد ... مع في ترب ساحتيك مُذاله
وتمشى النّسيم وهو عليلٌ ... في مغانيك ساحباً أذياله
أين عيش مضى لنا فيك ما أس؟ ... رع عنّا ذهابه وزواله
حيث وجه الشباب طلقٌ نضيرٌ ... والتصابي غضونه ميّاله
ولنا فيك طيب أوقات أنس ... ليتنا في المنام نلقى مثاله
وبأرجاء جوّك الرحب سربٌ ... كلّ عينٍ تراه تهوى جماله
من فتاةٍ بديعة الحسن ترنو ... من جفون لحاظها مغتاله
ورخيم الدّلال حلو المعاني ... تتثنّى أعطافه مختاله
ذو قوام تودّ كلّ غصون الب ... ان لو أنها تحاكي اعتداله
وجهه في الظلام بدر تمامٍ ... وعذاراه (1) حوله كالهاله
ظبية تبهر العيون جمالاً ... وغزال تغار منه الغزالة
يا خليلي إذا أتيت ربى الجز ... ع وعاينت روضه وظلاله
قف به ناشداً فؤادي فلي ثمّ ... فؤادٌ أخشى عليه ضلاله
وبأعلى الكثيب بيت أغضّ ... الطّرف عنه مهابةً وجلاله
كلّ من جئته لأسأل عنه ... أظهر العيّ غيرةً وتباله
أنا أدري به ولكنّ صوناً ... أتعامى عنه وأبدي جهاله
منزلٌ حبّه عليّ قديمٌ ... في زمان الصّبا وعصر البطاله
يا عريب الحمى اعذروني فإني ... ما تجنبت أرضكم عن ملاله
حاش لله غير أنّي أخشى ... من عدوّ يسيء فينا المقاله
فتأخرت عنكم قانعاً من ... طيفكم في المنام يهدي خياله
أتمنّى في النّوم زور خيالٍ ... والأماني أطماعها قتّاله
يا أهيل النّقا وحق ليالي الوص؟ ... ل ما صبوتي عليكم ضلاله
لي مذ غبتم عن العين نارٌ ... ليس تخبو وأدمعٌ هطّاله
فصلونا إن شئتم أو فصدّوا ... لا عدمناكم على كل حاله
وقال:
يا ربّ إن العبد يخفي عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه
ولقد أتاك وما له من شافعٍ ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه وقال:
أعديتني بالجوى يا فاتر المقل ... فصحّ وجدي على ما بي من العلل
وملت عني إلى الواشي فلا عجبٌ ... والغصن ما زال مطبوعاً على الميل
يا واحد الحسن عدني زورةً حلماً ... وها يدي إن نومي قد جفا مقلي
يا جيرةً بأعالي الخيف من إضمٍ ... خيّبتم بجفاكم في الهوى أملي
وملتم بجميل الصبر عن دنفٍ ... أجلّ ما يتمنى سرعة الأجل
تجري على الخد (1) مذ غبتم مدامعه ... وما عسى ينفع الباكي على طلل
وقال أيضاً رحمه الله:
أيا غادراً خانت مواثيق عهده ... لقد جرت في حكم الغرام على الصبّ
وأقصيته من بعد أنسٍ وصحبةٍ ... وما هكذا فعل الأحبّة والصحب
فلله أيّامٌ تقضّت حميدةً ... بقربك واللّذات في المنزل الرحب
وإذ أنت في عيني ألذّ من الكرى ... وأشهى إلى قلبي من البارد العذب
فلهفي على ذاك الزمان الذي غدت ... عليه دموع العين دائمة السّكب
ومذ صرت ترضيني بقولٍ منمّقٍ ... وتظهر لي سلماً أشدّ من الحرب
ثنيت عناني عن هواك زهادةً ... وإن كنت في أعلى المراتب من قلبي
لأني رأيت القلب عندك ضائعاً ... تعذبه كيف اشتهيت بلا ذنب
ولم تحفظ الودّ الذي هو بيننا ... ولم ترع أسباب المودّة والحب
ولا أنت في قيد المحبّ إذا غدا ... تقلبه الأشواق جنباً إلى جنب
ولا أنت ممّن يرعوي لمقالتي ... فأشفي قلبي بالشّكيّة والعتب
ولا رمت منك القرب إلاّ جفوتني ... وأبعدتني حتى يئست من القرب
وأصغيت للواشي وصدقت قوله ... وضيّعت ما بيني وبينك بالكذب
فلم يبق لي والله فيك إرادةٌ ... كفاني الذي قاسيته فيك من عجب
ولا لي في حبيك ما عشت رغبةٌ ... أبى الله أن تسبي فؤادي أو تصبي
ومن ذا الذي يقوى على حمل بعض ما ... تجرعته بالذلّ من خلقك الصعب
فلا ترج منّي بعد ذا حسن صحبة ... فحسبي سلواً بعض ما قلته حسبي
فلا تعتبنّي قد قطعت مطامعي ... وخففت حتى في الرسائل والكتب
وقال في المعنى:
أيا معرضاً عنّي بغير جنايةٍ ... أما تستحي من فرط تيهك والعجب
سلوتك فاصنع ما تشاء فإنّه ... محا كثرة التقبيح حبك من قلبي
وقال أيضاً ذوبيت:
هذا الصلف الزائد في معناه ... قد حيرني فلست أدري ما هو
كم يحمل قلبي من تجنيك ولا ... يدري أحدٌ بذاك إلاّ الله
وقال أيضاً:
في هامش خدك البديع القاني ... تصحيح غرام كلّ صبٍّ عاني
قد خرجها الباري فما ألطفها ... من حاشيةٍ بالقلم الريحاني
وقال أيضاً:
يا سعد عساك تطرق الحي عساك ... قصداً فإذا رأيت من حلّ هناك
قل صبك ما زال به الوجد إلى ... أن مات غراماً أحسن الله عزاك


***


الزين كتاكت
أحمد بن محمد بن أحمد، أبو العباس الأندلسي الإشبيلي المعروف بزين الدين كتاكت المصري الواعظ؛ مولده سنة خمسة وستمائة، وتوفي بالقاهرة سنة أربع وثمانين وستمائة، وكان له معرفة بالأدب رحمه الله (2) ،
فمن شعره:
حضروا فمذ نظروا جمالك غابوا ... والكلّ مذ سمعوا خطابك طابوا
فكأنّهم في جنّةٍ وعليهم ... من خمر حبك طافت الأكواب
يا سالب الألباب يا من حسنه ... لقلوبنا الوهّاب والنهاب
القرب منك لمن يحبك جنّة ... قد زخرفت والبعد منك عذاب
يا عامراً منّي الفؤاد بحبّه ... بيت العذول على هواك خراب
أنت الذي ناولتني كأس الهوى ... فإذا سكرت فما عليّ عتاب
وعلى النّقا حرمٌ لعلوة آمنٌ ... من حوله تتخطّف الألباب
لغريقها كيف الوصول ودونه ... نار لها بحشاشتي إلهاب
قال أيضاً:
يا بارق الحيّ كرّر في حديثك لي ... تذكارهم وأعد روحي إلى بدني
وأنت يا دمع ما هذا الوقوف وقد ... جرى حديث الحمى النجديّ في أذني
قال:
أحن ولكن نحو ضمّ قوامه ... وأصبو ولكن نحو لثم لثامه
وأعشق ما لي نغمة (1) من حديثه ... تفرّج إلاّ من هموم غرامه
وقال:
حلوتم أهل نعمان بقلبي ... فكلّ عذاب حبكم نعيم
وقد أصبحتم كنز الأماني ... فواجد غيركم عندي عديم
وقال:
جواز الصبر (2) في أذني محال ... وما للصبر في قلبي مجال
شغلتم كلّ جارحةٍ بحسن ... فليس لها بغيركم اشتغال
سقى الهضبات من نجدٍ سحابٌ ... ملثّ الغيث تحدوه الشمال
ولا برحت أثيلات المصلى ... ترف (3) على منابتها الظلال
منازل جبرة ما كان أهنا ... بهم لي العيش لو جام الوصال
يهبّ نسيمها فأميل سكراً ... فهل هبّت شمول أم شمال 47 (4)


***


سيف الدين السامري
أحمد بن محمد بن علي بن جعفر، الصدر الأديب الرئيس سيف الدين

السامري - بفتح الميم وتشديد الراء - نسبة إلى سامرا، نزيل دمشق؛ شيخ متميز متمول ظريف حلو المجالسة مطبوع النادرة جيد الشعر، طويل الباع في الهجو، من سروات الناس ببغداد، قدم الشام بأمواله وحظي عند الملك الناصر صاحب الشام وامتدحه، وعمل تلك الأرجوزة المشهورة بالسامرية التي أولها:
يا سائق العيس إلى الشّآم ... وقاطع الوهاد والآكام
حط فيها على الكتاب وأغرى الناصر بمصادرتهم.
وكان مزاحاً كثير الهزل، لا يكاد يتحمل، مع أن الصاحب بهاء الدين ابن حنا صادره وأخذ منه نحو ثلاثين ألف دينار عندما قدم أخوه نور الدولة السامري من اليمن، ونكب في دولة المنصور، وطلبه الشجاعي إلى مصر، وأخذت منه حزرما وغيرها ومائتا (1) ألف درهم، وكان يسكن داره المليحة التي وقفها خانقاه ووقف عليها باقي أملاكه. وكانت وفاته سنة ست وتسعين وستمائة.
وقال:
قبّح الله كلّ من بدمشقٍ ... من أصيحابنا سوى ابن سعيد
فهو مع شحّه وما يتعاطا ... هـ من اللُّؤم أصلح الموجود
وقال يهجو خاله وخال أبيه:
إذا ما قيل من بالكرخ نذلٌ ... لئيم الأصل مذموم الفعال
أجبتهم إجابة لوذعيٍّ ... هما النّذلان خال أبي وخالي
وكتب إلى نور الدين الإسعردي مع غلام حسن الصورة يأخذ له ورقة برواحه إلى مصر من والي دمشق، وكان النور كاتباً عنده:
أمولاي نور الدين عارض هذه ... بغير كلامٍ إن أردت ينام
فلا تخش أمراً إن خلوت ولطبه ... حلالاً فتأخير اللّياط حرام
وقد رام إطلاقاً إلى مصر فانهه ... فلي فيه وجدٌ زائد وغرام
ونجل الخطيب التاج نصر ينيكه ... إذا حلّ مصراً ليس فيه كلام
أغار على تلك الروادف أنها ... تذال لغيري لائط وتسام
وليس على المملوك إن غاب شخصه ... عن العين في أرض الشآم مقام
ومولاي من عهد التفقه شيخنا ... به نهتدي في الفسق وهو إمام
سقى الله أيام النظامية التي ... فسقنا بها والمنكرون نيام
نغازل فيها كلّ أحوى مهفهف ... يدار علينا من لماه مدام
من الغيد يحكي الخيزرانة قامةً ... على مثلها عذر المحبّ يقام
وإن علم المولى الوجيه محمد ... وعاتبني فيه فأنت تلام
وليس على المملوك بعد وصوله ... إليك وإيصال الجواب ملام
فأجابه نور الدين الإسعردي يقول:
عجبت لسيف الدين كيف يجود لي ... بظبي له فيه هوىً وغرام
يميناً لقد بالغت فهي مروءة ... كعادتك الحسنى ولست تلام
فلا تخش من نصر فليس بضائر ... إذا ما تراضوا ما عليك أثام
وذكرتني عهد النظاميّة الذي ... أفاد المنى والمنكرون نيام
ولم أنس بالمستنصريّة أنسنا ... على الأنس في دار السلام سلام
سقى نهر عيسى والمحول والحمى ال؟ ... رصافيّ والكرخ المنيع غمام
وعيشك ما ذكري لعيشي بها أسىً ... ووجد ولا بي لوعة وغرام
ولكنّ لي قلباً له أريحيّة ... وذكر لمن فارقته وذمام
ومن شعر سيف الدين السامري:
أترى وميض البارق الخفاق ... يهدي إلى أهل الحمى أشواقي
ولعلّ أنفاس النسيم إذا سرى ... يحكي تحيّة مغرم مشتاق
أحبابنا ما آن بعد فراقكم ... أن تسمحوا لمحبكم بتلاق
بنتم فضنّت بالرقاد نواظري ... أسفاً وجادت بالدّموع مآقي
أجريت من جفني على أطلالكم ... دمعاً غدا وقفاً على الإطلاق
أتراكم ترعون صبّاً رعتم ... أحشاءه بقطيعةٍ وفراق
بين الدّموع وحرّ نار جوانحي ... عذّبت بالإغراق والإحراق
بالله يا ريح الشّمال تحمّلي ... واقري سلام الواله المشتاق
وإذا مررت على الدّيار فبلّغي ... أهل الكثيب بكلّ ما أنا لاقي
فهناك لي رشأ أغنّ مهفهفٌ ... يصمي القلوب بأسهم الأحداق
متمنّعٌ من قدّه بمثقّف ... ومن الجفون بأسهمٍ ورقاق
فإذا انثنى فضح القنا وإذا رنا ... سفكت لواحظه دما العشاق
ويزين غصن القدّ منه شعره ... وكذا الغصون تزان بالأوراق
ومن شعره في ابن المقدسي لما حبس بالعذراوية (1) :
ورد البشير بما أقرّ الأعينا ... فشفى الصدور وبلّغ الناس المنى
واستبشروا وتزايدت أفراحهم ... فالخلق مشتركون في هذا الهنا
ثبتت مخازي ابن القتيلة عند من ... وجدت لديه في الخيانة والخنا
بشهادة الستر الرفيع وقولها ... من غير واسطة لسلطان الدنا
وبنى البناء بلا أساسٍ ثابتٍ ... فانهار ما شاد النكيح وما بنى
وتقدّم الأمر الشريف بأخذ ما ... نهب اللعين من البلاد وما اقتنى
يا سيد الأمراء يا شمس الهدى ... يا ماضي العزمات يا رحب الفنا
يا من له عزمٌ وجأشٌ ثابتٌ ... يغنيه عن حمل الصوارم والقنا
عجّل بذبح العلق وادفنه وما ... من حقّ علقٍ مثله أن يدفنا
واغلظ عليه ولا ترقّ، وكل ما ... يلقى بما كسبت يداه وما جنى
فلكم يتيم مدقع ويتيمة ... من جوره ماتا على فرش الضنى
ولكم غنيّ ظلّ في أيامه ... مسترفداً (1) للناس من بعد الغنى
إن أنكر العلق القطيم فعاله ... بالمسلمين فأوّل القتلى أنا
ولما عدل القاضي صدر الدين ابن سني الدولة جمال الدين ابن اليزدي، وخلع عليه خلعة بطيلسان، وأحضره مجلسه مع العدول وأشهد (2) عليه، قال السامري:
طاب شرب المدام في رمضان ... واصطفاق العيدان عند الأذان
والزنا واللواط في حرم الل؟ ... هـ وترك الصلاة بالقرآن
منذ صار اليزديّ في سكك الشا ... م يطوف الحانات بالطيلسان
وإذا صارت العدالة في الفس؟ ... اق واللاّئطين بالمردان
فجديرٌ بأن أكون نبياً ... ويكون الصديق لي التلمساني
يا عدول الشآم قد سمح القا ... ضي لأصحابه بنيل الأماني
قامروا واشربوا وقودوا ولوطوا ... وافسقوا والحدوا إذن بأمان
وارفعوا عنكم التستر بالفس؟ ... ق فلا حاجةٌ إلى كتمان
قال: فلما بلغت الأبيات القاضي صدر الدين عز عليه، وأعرض عن اليزدي ومنعه من الشهادة، فحضر اليزدي إلى سيف الدين السامري، ودخل عليه. ولا زال به إلى أن عمل:
قل لقاضي القضاة أيده الل؟ ... هـ ولا زال للجماعة ظلاّ
قد تصدّقت بالعدالة حوشي؟ ... ت بقول الأغراض إن يقض عدلا
ولئن أجمعوا على فسق ذاك الشي؟ ... خ والبائس الذي قلّ عقلا
عدلوا عن طرائق العدل فيه ... ورموه بالزور والإفك نقلا
نبزوه بقلّة الدين والخي؟ ... ر وترك الصلاة ظلماً وجهلا
وإذا لاط أو زنى وهو شاب ... ما عليه عارٌ إذا صار كهلا
وجهه في مجالس الحكم يجزي ... من رآه بشراً وكيساً وفضلا
إن تحلّى بالطّيلسان فبالح ... قّ جدير بمثله يتحلّى
كل من كان شاهداً بمحال ... أو بزور لما تولّى تولّى
وكذا لم يزل لكلّ اجتماع ... بين خلين بالتجمع أهلا
وكتب إلى طوغان وأسندمر، ولكل منهما أستادار يسمى العلم سنجر ونائب البر يسمى الشجاع همام:
اسم الولاية للأمير وما له ... فيها سوى الأوزار والآثام
وجباية (1) القتلى وكل مصيبةٍ ... تجبى منافعها إلى همام
سيفان قد وليا وكلٌّ منهما ... ماضي العزائم دائم الإقدام (2)
وبباب كلٍّ منهما علم ينكِّ؟ ... ل ما يجود به من الإنعام (1)
ما الناس عندهما بناسٍ لا ولا ... يريان هاذ الناس كالأنعام
وقد استحلاّ منهم ما لم يزل ... من مالهم ودمائهم بحرام
فمتى أرى الدنيا بغير سناجرٍ ... والقطع والتنكيس للأعلام 53 (2)


***


ابن الحلاوي الشاعر
أحمد بن محمد بن أبي الوفا بن الخطاب بن الهزبر، الأديب الكبير شرف الدين أبو الطيب بن الحلاوي الربعي، الشاعر الموصلي؛ ولد سنة ثلاث وستمائة، وقال الشعر الجيد الفائق ومدح الخلفاء والملوك، وكان في خدمة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان من ملاح الموصل، وفيه لطف وظرف وحسن عشرة وخفة روح، وله القصائد الطنانة التي رواها الدمياطي عنه في معجمه؛ توفي سنة ست وخمسين وستمائة؛ فمما رواه الشيخ شرف الدمياطي له رحمه الله تعالى:
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلاّ وجنتاه وريقه
هلالٌ ولكن أفق قلبي محلّه ... غزالٌ ولكن سفح عيني عقيقه
وأسمر يحكي الأسمر اللّدن قدّه ... غدا راشقاً قلب المحب رشيقه
على خدّه جمر من الحسن مضرمٌ ... يشبّ ولكن في فؤادي حريقه
أقرّ له من كلّ حسنٍ جليله ... ووافقه من كلّ معنىً دقيقه
بديع التثنّي راح قلبي أسيره ... على أنّ دمعي في الغرام طليقه
على سالفيه للعذار جديده (2) ... وفي شفتيه للسّلاف عتيقه
يهدد منه الطرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الريق من لا يذيقه
على مثله يستحسن الصبّ هتكه ... وفي حبه يجفو الصديق صديقه
من الترك لا يصبيه وجدٌ إلى الحمى ... ولا ذكر بانات الغوير تشوقه
ولا حلّ في حيّ تلوح قبابه ... ولا سار في ركب يساق وسوقه (1)
ولا بات صبّاً بالفريق وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه
له مبسمٌ ينسي المدام بريقه ... ويخجل نوار الأقاحي بريقه
تداويت من حرّ الغرام ببرده ... فأضرم من حرّ الحريق رحيقه
إذا خفق البرق اليمانيّ موهناً ... تذكره قلبي فزاد خفوقه
حكى وجهه بدر السّماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس: هذا شقيقه
رآني خيالاً حين وافى خياله ... فأطرق من فرط الحياء طروقه
وأشبهت منه الخصر سقماً فقد غدا ... يحمّلني كالخصر ما لا أطيقه
فما بال قلبي كلّ حب يهيجه ... وحتّام طرفي كلّ حسن يشوقه
فهذا ليوم البين لم تطف ناره ... وهذا فبعد البعد ما جفّ موقه
ولله قلبي ما أشدّ عفافه ... وإن كان طرفي مستمراً (2) فسوقه
أرى الناس أضحوا جاهلية حبّه ... فما باله عن كلّ صبّ يعوقه
فما فاز إلاّ من يبيت صبوحه ... مدام ثناياه ومنها غبوقه
وقال أيضاً:
أأُلقى من صدودك (3) في جحيم ... وثغرك كالصّراط المستقيم
وأسهرني لديك رقيم خدّ ... فواعجبا أأسهر بالرقيم
منها:
وحتّام البكاء بكلّ رسم ... كأنّ عليّ رسماً للرسوم
واجتمعوا في بعض الأيام عند شخص يلقب بالشمس، فقالوا له: أطعمنا شي فامتنع، فقال بعضهم:
الطامع في منال قرص الشمس ...
فقال ابن الحلاوي:
كالطامع في منال قرص الشمس ...
وأنشده بعض الأفاضل لغزاً في شبابة:
وناطقة خرساء بادٍ شحوبها ... تكنفها عشرٌ وعنهنّ تخبر
يلذّ إلى الأسماع رجع حديثها ... " إذا سدّ منها منخرٌ جاش منخر " (1)
فأجابه في الوقت:
نهاني والنهى والشيب عن وصل مثلها ... " وكم مثلها فارقتها وهي تصفر " (2)
وسئل أن ينظم أبياتاً تكتب على مشط للملك العزيز محمد صاحب حلب، فقال:
حللت من الملك العزيز براحةٍ ... غدا لثمها عندي أجلّ الفرائض
وأصبحت مفترّ الثنايا لأنّني ... حللت بكفّ بحرها غير غائض
وقبلت سامي كفه بعد خده ... فلم أخل في الحالين من لثم عارض
وقال، وهو مشهور عنه:
جاء غلامي وشكا ... أمر كميتي وبكى
وقال لي لا ش؟ ... ك برذونك قد تشبكا
قد سقته اليوم فما ... مشى ولا تحركا
فقلت من غيظي له ... مجاوباً لما حكى
تريد أن تخدعني ... وأنت أصل المشتكى
ابن الحلاويّ أنا ... خلّ الرياء والبكا
ولا تخادعني ودع ... حديثك المعلّكا
لو أنّه مسيّرٌ ... لما غدا مشبكا
فمذ رأى حلاوة ال؟ ... ألفاظ منّي ضحكا
وكتب إلى القاضي محيي الدين ابن الزكي يصف خطه:
كتبت فلولا أنّ هذا محلّلٌ ... وذاك حرامٌ قست خطك بالسّحر
فوالله ما أدري أزهر خميلةٍ ... بطرسك أم درٌّ يلوح على نحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابةٍ ... وإن كان درّاً فهو من لجّة البحر
وقال يمدح الملك الناصر داود صاحب الكرك:
أحيا بموعده قتيل وعيده ... رشأ يشوب وصاله بصدوده
قمرٌ يفوق على الغزالة وجهه ... وعلى الغزال بمقلتيه وجيده
يا ليته يعد الصدود فإنّه ... ما زال ذا لهج بخلف وعوده
يفترّ عن عذب الرضاب، حياتنا ... في ورده والموت دون وروده
بردٌ يذيب ولا يذوب وإنّما ... أدنى زفير الوجد عذب بروده
لم أنسه إذ جاء يسحب برده ... والليل يخطر في فضول بروده
والصبح مأسورٌ أجدّ لأسره ... جنح الظلام تأسفاً لفقيده
واللّيل يرفل في ثياب حداده ... والصبح يرسف في فضول حديده
ولذاك لم تنم الجفون مخافةً ... من أن يعاني الصبح فكّ قيوده
بمدامة صفراء يحمل شمسها ... بدر يغير البدر عند سعوده
كأسٌ كأن مدامها من ريقه ... وحبابها من ثغره وعقوده
ما زال يرشفنا شقيقة ريقه ... طيباً ويلثمنا شقيق خدوده
حتى تحكم في النجوم نعاسها ... والتذّ كلّ مسهدٍ بهجوده
ورأى الصباح تخلصاً من أسره ... فأتى يكرّ على الدجى بعموده
قمرٌ أطاع الحسن سنّة وجهه ... حتى كأن الحسن بعض عبيده
أنا في الغرام شهيده ما ضرّه ... لو أنّ جنّة وصله لشهيده
وقال أيضاً:
تبدى له في الخد من تبّتٍ خطّ ... وأخجل منه القدّ ما ينبت الخط
ولم ندر لما هزّ عامل قده ... وصارم جفنيه بأيهما يسطو
رحيقيّ ثغر بابليّ لواحظٍ ... له سالف كالورد بالمسك مختط
من الترك لا وادي الأراك محلّه ... ولا داره رمل المصلّى ولا السقط
كليث الشّرى في الحرب بأساً وسطوةً ... وفي السّلم كالظبي الغرير إذا يعطو
يخفّ به لين المعاطف مائساً ... فيمنعه ثقل الروادف أن يخطو
حمى ثغره من مشرف القد عاملٌ ... له ناظرٌ ما العدل في شرعه شرط
له حاجبٌ كالنون خطّ ابن مقلةٍ ... يزيّنها للخال في خده نقط
فللبدر ما يثني عليه لثامه ... وللغصن منه ما حرى ذلك المرط
يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن منحط
كما شبّهوا غصن النقا بقوامه ... لقد بالغوا بالمدح للغصن واشتطوا
ولما توجه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى العجم للاجتماع بهولاكو كان ابن الحلاوي معه، فمرض بتبريز، وتوفي بها، وقيل بسلماس، وهو في حدود الستين من عمره.
ومن شعره أيضاً:
لحاظ عينيك فاتنات ... جفونها الوطف فاترات
فرّق بيني وبين صبري ... منك ثنايا مفرقات
يا حسناً صدّه قبيح ... فجمع شملي به شتات
قد كنت لي واحداً ولكن ... عداك عن وصلي العداة
إن لم يكن منك لي وفاءٌ ... دنت بهجرانك الوفاة
حيّات صدغيك قاتلاتٌ ... فما لملسوعها حياة
والثغر كالثغر في امتناعٍ ... تحميه من لحظك الرماة
يا بدر تمٍّ له عذارٌ ... بحسنه تمّت الصفات
منمنم الوشي في هواه ... يا طالما نمت الوشاة
نبات صدغ حلاّك حسناً ... والحلو في السكر النّبات وكان السلطان بدر الدين لؤلؤ لا ينادمه ولا يحضره مجلسه، وإنما كان ينشده أيام المواسم والأعياد المدائح التي يعملها فيه، فلما كان في بعض الأيام رآه في الصحراء في روضة معشبة وبين يديه برذون له مريض يرعى، فجاء إليه ووقف عنده وقال: ما لي أرى هذا البرذون ضعيفاً؟ فقام وقبل الأرض وقال: يا مولانا السلطان، حاله مثل حالي، وما تخلفت عنه في شيء، يدي بيده في كل رزق رزقنا الله تعالى، هل عملت في برذونك هذا شيئاً؟ قال: نعم، وأنشده بديهاً:
أصبح برذوني المرقّع بالل؟ ... زقات في حسرةٍ يكابدها
رأى حمير الشعير عابرة ... عليه يوماً فظل ينشدها
" قفا قليلاً بها عليّ فلا ... أقلّ من نظرةٍ أُزوّدها " (1)
فأعجبت السلطان بديهته. وأمر له بخمسين ديناراً (2) وخمسين مكوكاً من الشعير وقال له: هذه الدنانير لك، وهذا الشعير لبرذونك، ثم أمره بملازمة مجلسه كسائر الندماء، وأقطعه إقطاعاً، ولم يزل يترقى عنده إلى أن صار لا يصبر عنه، رحمهما الله تعالى.


***


.../...
 
علاء الدين الجاولي
ألطنبغا، علاء الدين الجاولي، مملوك ابن باخل؛ كان عند الأمير علم الدين سنجر الجاولي دوادار لما كان بغزة. وكان حسن الصورة تام القامة، وكان الجاولي يحسن إليه ويبالغ في الإنعام عليه؛ وكان إقطاعه يعمل عنده عشرين ألف درهم، فلما شنع على الجاولي أن إقطاعات مماليكه تعمل من العشرين إلى الثلاثين راك الأجناد، وأعطى لعلاء الدين المذكور إقطاع دون الذي كان بيده، فتركه ومضى إلى مصر بغير علم الأمير علم الدين، فراعى الناس خاطر مخدومه ولم يستخدمه أحد، فأقام يأكل من حاصله بمصر زماناً، ثم حضر إلى صفد فأكرم نزله الأمير سيف الدين أرقطاي النائب بها، وكتب له مربعه بإقطاع، وتوجه إلى مصر، فخرج عنه فأتى إلى دمشق، فأكرمه الأمير سيف الدين تنكز، وأعطاه إقطاع بحلقة دمشق، ووقع بينه وبين الأمير علم الدين بسببه، وبقي بدمشق إلى أن أمسك الجاولي وحبس، فلما فرج عنه فتوجه (2) إليه وخدمه مدة، ثم سيره إلى دمشق شاداً على أوقاف المنصور الذي يختص بالبيمارستان المنصوري (3) .

وكان نادر في أبناء جنسه: في الشكل المليح ولعب الرمح، والفروسية والذكاء ولعب الشطرنج والنرد، ونظم الشعر الجيد، لا سيما في المقطعات فإنه يجيدها، وله القصائد المطولة، ويعرف فقه على مذهب الشافعي، ويعف أصولاً، ويبحث جيداً، ولكنه سال ذهنه لما اجتمع بالشيخ تقي الدين ابن تيمية، ومال إلى رأيه، ثم تراجع عن ذلك إلا بقايا، وكان حسن العشرة لطيف الأخلاقي فيه سماحة.
ومن شعره:
سبّح فقد لاح برق الثغر بالبرد ... واستسق كأس الطلا من كفّ ذي ميد
مستعرب اللّفظ للأتراك نسبته ... له على كلّ صبٍّ صولة الأسد
يا عاذلي خلّني فالحسن قلّده ... عقداً من الدر لا حبلاً من المسد
ويلٌ لمن لامني فيه ومقلته ... نفاثة النّبل لا نفاثة العقد وله أيضاً:
خودٌ زها فوق المراشف خالها ... لئن فتنت به فلست ألام
فكأنّ مبسمها وأسود خالها ... مسكٌ على كأس الرحيق ختام وله أيضاً:
وبارد الثغر حلو ... بمرشف فيه حوّه
وخصره في انتحالٍ ... يبدي من الضعف قوه وله أيضاً:
ردفه زاد في الثّقالة حتى ... أقعد الخصر والقوام السويّا
نهض الخصر والقوام وقاما ... وضعيفان يغلبان قويّا وله أيضاً:
تخاطبني خود فأبدى تصامماً ... فتكثر تكرار الخطاب وتجهر
فأصغي لها أذناً وأظهر عجمةً ... لكيما أرى دراً من الدر ينثر وله أيضاً:
وصالك والثريّا في قران ... وهجرك والجفا فرسا رهان
فديتك ما حفظت لشؤم بختي ... من القرآن إلاّ لن تراني وله أيضاً:
سل وميض البروق عن خفقاني ... وعليل النّسيم عن جثماني
ولهيب الهجير عن نار قلبي ... وخفيّ الخيال عن أجفاني وله أيضاً:
إن عاد لمع البرق يخبر عنكم ... وأتى القبول مبشراً بقبولي
فلأقدحنّ البرق من نار الحشا ... ولأخلعنّ على النّجوم نحولي وله أيضاً:
انهلّ أدمعها درّاً وفي فمها ... درٌّ وبينهما فرقٌ وتمثال
لأن ذا جامدٌ في الثّغر منتظم ... وذاك منتثرٌ في الخدّ سيّال وله أيضاً:
جاءني الورد في بديع زمان ... فقطعناه في منىً وأمان
ونهبنا فيه لذيذ وصالٍ ... وهتكنا فيه عروس الدنان
وغلطنا فيه ببعض ليال ... شطر فخلطنا شعبان في رمضان وتوفي (1) بدمشق في ثامن ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبعمائة بعلة الاستسقاء، رحمه الله تعالى.

***

أيدمر المحيوي
أيدمر المحيوي، فخر الترك عتيق محيي الدين محمد بن محمد بن سعيد بن ندى. قال ابن سعيد المغربي في كتاب المشرق في ترجمة هذا: بأي لفظ أصفه، ولو حشدت جيوش البلاغة لفضله لم أكن أنصفه؟ نشأ في الدوحة السعيدية فنمت أزاهره، وطلع بالسماء الندوية (2) فتمت زواهره، جمعت لإقرائه (3) أعلام الفنون، حتى خرج آية في كل فن، وبرع في المنثور والموزون، مع الطبع الفاضل الذي عضده، وبلغه من رياسة هذا الشأن ما قصده، لا سيما حين سمعت قوله الذي أتى فيه بالإغراب، وترك مهيار معلقاً منه بالأهداب:
بالله إن جزت الغوير فلا تغر ... باللين منك معاطف الأغصان
واستر شقائق وجنتيك هناك لا ... ينشقّ قلب شقائق النعمان
وأورد له أيضاً (4)
الروض مقتبل الشبيبة مونق ... خضلٌ يكاد غضارةً يتدفق
نثر النّدى فيه لآلىء عقده ... فالزهر منه متوّج وممنطق
وارتاع من مرّ النّسيم به ضحىً ... فغدت كمائم نوره تتفتّق
وسرى شعاع الشمس فيه فالتقى ... منها ومنه سنا شموس تشرق
والغصن ميّاس القوام كأنّه ... نشوان يصبح بالنّسيم ويغبق
والطير ينطق معرباً عن شجوه ... فيكاد يفهم عنه ذاك المنطق
غرداً يغني للغصون فتنثني ... طرباً جيوب الظل (1) منه تشقق
والنهر لمّا راح وهو مسلسلٌ ... لا يستطيع الرقص ظلّ يصفق
وسلافة باكرتها في فتيةٍ ... من مثلها خلق لهم وتخلّق
شربت كثافتها الدهور فما ترى ... في الكأس إلاّ جذوةً تتألّق
يسعى بها ساق يهيج إلى (2) الهوى ... ويري سبيل العشق من لا يعشق
تتنادم الألحاظ منه على سنا ... خدٍّ تكاد العين فيه تغرق
راق العيون غضاضةً ونضارةً ... فهو الجديد ورقّ فهو معتق
ورنا كما لمع الحسام المنتضى ... ومشى كما اهتز القضيب المورق
وأظلّنا (3) من فرعه وجبينه ... ليلٌ تألق فيه صبحٌ مشرق
وكأنّ مقلته تردّد لفظة ... لتقولها لكنّها لا تنطق
فإذا العيون تجمعت في وجهه ... فاعلم بأنّ قلوبها تتفرق
وله أيضاً (4) :
وافاك شهر الصوم يخبر أنه ... جارٍ بأيمن طائرٍ ميمون
ما زال يمحق بدره شوقاً إلى ... لقياك حتى عاد كالعرجون
وله أيضاً:
حللنا مقاماً كلنا عبد ربّه ... فلا غرو أن نهدي له درر العقد (5)
وله أيضاً:
رعى الله ليلاّ ما تبدّى عشاؤه ... لأعيننا حتى تطلّع صبحه
كأنّ تغشّيه لنا وانفراجه ... لقربهما إطباق جفنٍ وفتحه
وله أيضاً (1) :
وأغرّ مصقول الأديم تخاله ... زرت عليه جلابب من عسجد
ذي منخرٍ كفم المزادة زانه ... خدٌّ قليل اللحم غير مخدّد
وكأنه نال المجرة وثبه ... فرمته وسط جبينه بالفرقد
صناه عن رسم الحديد فوسمه ... بالشكر من نعم الوزير محمد
وله أيضاً:
حبّذا الفسطاط من والدة ... جنبت أولادها درّ الجفا
يرد النيل إليها كدراً ... فإذا مازج (2) أهليها صفا
وله أيضاً:
كأنّما الهالة حول بدرها ... كمامةٌ تفتقت عن زهرها
وله أيضاً:
كم لدينا همانياً ... قد حوت محكم العمل
فارغاتٌ من الدّنا ... نير ملأى من الأمل
وقال يرثي سهماً انكسر:
يا سهم هاج رداك لي بلبالاً ... وأطار نومي والهموم أطالا
لولاك ما راع الحمام حمامةً ... يوماً ولا علق المنون غزالا
ولطالما شوشت من سرب المها ... ألفاً ومن سطر (3) الكراكي دالا
قد كنت أعجب للقسيّ سقيمةً ... صفرا تئنّ كأنهنّ ثكالى
فإذا بها علماً بيومك في الردى ... كانت عليك تكابد الأهوالا
عجباً من الآجال كيف تقسمت ... فيه وكان يقسّم الآجالا
وله أيضاً:
وكأن نرجسها المضاعف خائضٌ ... في الماء لفّ ثيابه في راسه
وقال أيضاً:
ذو قصرٍ بين طوي ... لين قد اجتاز بنا
كأنّه بينهما ... دمامةً نون لنا
وقال أيضاً، وقد ركب مولاه في البحر فانكسر المركب:
غضب البحر من حجابٍ منيع ... حائلٍ بينه وبين أخيه
نزّقته حمية الشّوق حتى ... خرق الحجب علّه يلتقيه
وقال موشحة (1) :
بات وسماره النجوم ... ساهر فمن ترى علمك السهد يا جفون
صب (2) إلى مذهب التصابي ... صابي لا يعدل
فجنبه خافق الجناب ... نابي مبلبل
والطرف من دائم انسكاب ... كابي مخبل
لسانه للهوى كتوم ... ساتر لما جرى والشأن أن تكتم (3) الشؤون
سباه مستملح المعاني ... عاني به البصر
يذكره عن شدا الأغاني ... غاني إذا اذّكر
يقول ما ناظر رآني ... راني إلاّ القمر
يرنو إلى وجهه (1) الحليم ... حائر لما يرى مرأى به تفتن العيون
من أين للبدر في الكمال ... ما لي فيوصف
والغصن هل عطفه بحالي ... حالي مزخرف
وعارض النّقص للهلال ... لالي والكلف
ولا فم الشمس منه ميم ... ظاهر لمن قرا ولا من الحاجبين نون
ما كنت لولا درى بشاني ... شاني أخشى افتضاح
أفدي الذي راح للمثاني ... ثاني عطف المراح
أنا لئن (2) صدّ أو جفاني ... فاني فلا جناح
لما لوى الجيد قلت (3) ريم ... نافر ثم انبرى يمشي كما تنثني الغصون
أيا نداماي إن بالي ... بالي فغردوا
صوتاً أنا عنه لانتقالي ... قالي فرددوا
في رتب المجد والمعالي ... عالي محمّد
دام له العز والنعيم ... قاهر مقتدرا يعزّ من شاء أو يهين وقد عارض هذا الموشح السراج المحار الحلبي بقوله:
ما ناحت الورق في الغصون ... إلا هاجت على تغريدها لوعة الحزين
هل ما مضى لي مع الحبايب ... آيب بعد الصدود
أم هل لأيّامنا الذواهب ... واهب بأن تعود
مع كل مصقولة الترائب ... كاعب هيفاء رود
تفترّ عن جوهر ثمين ... جلاّ أن يجتلى يحمى بقضب من الجفون
وأهيفٍ ناعم الشّمايل ... مايل في برده
في أنفس العاشقين عامل ... عامل من قده
يرنو بطرف إلى المقاتل ... قاتل في غمده
أسطى من الأسد في العرين ... فعلا وأقتلا لعاشقيه من المنون
قاسوه بالبدر وهو أحلى ... شكلا من القمر
فراش هدب الجفون نبلا ... أبلى بها البشر
وقال لي وهو قد تجلّى ... جلا باري الصور
ينتصف البدر من جبيني ... أصلا فقلت لا قال: ولا السحر من عيوني
علّقته كامل المعاني ... عاني قلبه به
مبلبل البال مذ جفاني ... فاني في حبّه
كم بتّ من حيث لا يراني ... راني لقربه
وبات من صدغه يريني ... نملا يسعى إلى رضابه العاطر المصون
بتنا وما نال ما تمنّى ... منا طيب الوسن
نفض من خمره لدنّا ... دنا يشفي الحزن
وكلّما مال أو تثنّى ... غنى صوتاً (1) حسن
لا تستمع في هوى المجون ... عذلا وانهض إلى راح تقي سورة الشجون وكانت وفاة أيدمر المحيوي في شهور سنة...... (2)

***

أيدمر النسائي
هو عز الدين أيدمر بن عبد الله، كان جندياً وله معرفة بتعبير الرؤيا والأدب، وكانت وفاته في ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة (2) ؛ فمن شعره:
تخذ النسيم إلى الحبيب رسولا ... دنفٌ حكاه رقّةً ونحولا فتسيل في أثر الفريق سيولا
ويقول من حسدٍ له يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا وله أيضاً:
سفر فخلت الصبح حين تبلجا ... في جنح فودٍ كالظلام إذا سجا
فتانة فتاكةٌ من طرفها ... كم حاول القلب النجاة فما نجا
نحت نضير الغصن قامة قدها ... وحبت مهاة الجزع طرفاً أدعجا
تفترّ عن بردٍ نقيٍّ برده (3) ... بالرشف حرّ حشاشتي قد أثلجا
ما إن دخلت رياض جنة خدها ... فرأت عنها الدهر يوماً مخرجا
ولما رشفت رحيق فيها ظامياً ... فازددت إلاّ حرقةً وتوهجا
تعطو برخصٍ طرّفته بعندمٍ ... وتريك ثغراً كالأقاح مفلجا
أنّى نظرت إلى رياض جمالها ... عاينت ثمّ مفوفاً ومدبّجا
زارت وعمر الليل في غلوائه ... فغدا من الشمس المنيرة أبهجا
وسرى نسيم الروض ينكر إثرها ... فتعرفت آثاره وتأرّجا

ومن شعره أيضاً:
ورد الورد فأوردنا المداما ... وأرح بالراح أرواحاً هيامى
واجلها بكراً على خطّابها ... بنت كرم قد أبت إلاّ الكراما
ذات ثغر جوهريٍّ وصفه ... في رحيق رشفه يشفي الأواما
برقعت باللؤلؤ الرطب على ... وجنةٍ كالنار لا تألو اضطراما
أقبلت تسعى بها شمس الضحى ... تخجل البدر إذا يبدو تماما
بجفونٍ بابلي سحرها ... سقمها أهدى إلى جسمي السّقاما
ونضير الورد في وجنتها ... نبته أنبت في قلبي الغراما
ودّت الأغصان لما خطرت ... لو حكت منها التثني والقواما
قال لي خالٌ على وجنتها ... حين ناديت أما تخشى الضراما
منذ ألقيت بنفسي في لظى ... خدها ألفيت برداً وسلاما

***

الملك الأمجد
بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، السلطان الملك الأمجد مجد الدين أبو المظفر، صاحب بعلبك؛ ولي بعلبك بعد أبيه، وكان أديباً فاضلاً شاعراً، له ديوان شعر موجود بأيدي الناس. أخذت منه بعلبك سنة سبع وعشرين وستمائة، أخذها منه الأشرف موسى، وسلمها إلى أخيه الصالح إسماعيل، فقدم الأمجد إلى دمشق، وأقام بها قليلاً، وقتله مملوك له مليح في أوائل سنة ثمان وعشرين وستمائة، ودفن بتربة والده على الشرف الشمالي، وكان سبب قتله أنه كان له غلام محبوس في خزانة الدار، فجلس ليلة يلهو بالنرد، فولع الغلام برزة الباب فقلعها، وهجم على الأمجد وهو غافل مشتغل باللعب فقتله وهرب، ورمى بنفسه من السطح فمات، وقيل لحقه المماليك عند وقعته فقطعوه بالسيوف. وقيل رآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال:
كنت من ذنبي على وجلٍ ... زال عنّي ذلك الوجل
أمنت نفسي بوائقها ... عشت لما متّ يا رجل ومن شعره:
دعوت بماء في إناء فجاءني ... غلامٌ بها صرفاً فأوسعته زجرا
فقال: هو الماء القراح وإنما ... تجلّى لها خدّي فأوهمك الخمرا
وكتب إليه الشيخ تاج الدين الكندي:

لا تضجرنكم كتبي وإن كثرت ... فإن شوقي أضعاف الذي فيها
والله لو ملكت كفّي مسالمة ... من اللّيالي التي حظّي يحاكيها
لما تصرّم لي في غير داركم ... عمرٌ ولا متّ إلاّ في نواحيها فأجابه الأمجد:
إنا لتتحفنا بالأُنس كتبكم ... وإن بعدتم فإن الشوق يدنيها
وكيف نضجر منها وهي مذهبة ... من وحشة البين لوعاٍ نعانيها
فإن وصفتم لنا فيها اشتياقكم ... فعندنا منكم أضعاف ما فيها
سلو نسيم الصبا يهدي تحيتنا ... إليكم فهو يدري كيف يهديها ومن شعره:
طوبى لقيّمنا أحنى على قمرٍ ... يجلو براحته عن وجهه الكلفا
أو درة كمنت في خدرها فغدا ... يفض باللطف عن أنوارها الصّدفا وأورد له القوصي في معجمه:
أمّا هواك وإن تقادم عهده ... فشفيع وجهك ما يزال يجدّه
لا تحسبنّ على التقاطع والنّوى ... ينساك مشتاقٌ تعاظم وجده
يهواك ما هبّ النسيم وحبّذا ... نفح النسيم الحاجريّ وبرده
ما كان يكلف بالرياح صبابةً ... لولا تجنّيه ولولا بعده
تسري إليه بنفحةٍ من عقده ... إنّ المنى يما تضمن عقده
ماذا الملام مع الغرام وفي الحشا ... منه لهيب هوىً تضرم وقده؟
أيروم عاذله المضلّل ردّه ... عن رأيه؟ هيهات خيّب قصده
ماذا عليه إذا تضاعف ما به ... حتى يعود وقد تناهى حده
إنّ الهوى طمع يولد داءه ... أملٌ يقوّيه الهوى ويمده
فلكم تملك رقّ حر عنوة ... أمسى وأصبح وهو فيه عبده
وبأيمن الوادي غزال أراكةٍ ... أصبو إليه وإن تزايد صده
يختال والأغصان تعطفها الصبا ... فيغار منه إذا تمايل قدّه
والأقحوان إذا تبسّم ثغره ... والورد مطلول الجوانب خدّه
قد كان شوّفني الوصال وليته ... من بعد مطل أن ينجّز وعده وله أيضاً:
قولوا لجيران العقيق والنّقا ... حتّام تهدون إلينا القلقا
يا ساكني قلبي عسى مبشرٌ ... يخبرني متى يكون الملتقى
ما لبقائي بعد بعدي عنكم ... معنىً، فإن لقيتكم طاب البقا
أشقاني الدّهر فإن أسعدني ... بجمع شملي بكم زال الشقا
أهواكم أتّقي، وقلّما ... يجمع ما بين الغرام والتّقى
حبكم سفينة ركبتها ... مأمونة فكيف أخشى الغرقا
حاشا لمن أصبح يرجو الوصل أن ... يمسي بنار هجركم محترقا وله أيضاً:
يميناً لقد بالغت يا خلّ في العذل ... وما هكذا فعل الأخلاء بالخلّ
إذا أنت لم تسعد خليلك في الهوى ... فذره لقد أمسى عن العذل في شغل
ولا تحسبنّ اللوم يذهب وجده ... فلومك بالمحبوب يغري ولا يسلي
وما كنت ممن يذهب الوجد حزمه ... لعمرك لولا أسه الأعين النجل

***





__________
 
أبو البحر صفوان
صفوان بن إدريس أبو بحر الكاتب البليغ؛ كان من جلة الأدباء وأعيان الرؤساء، فصيحاً جليل القدر، له رسائل بليغة، وكان من الفضل والدين بمكان، توفي وله سبع وثلاثون سنة، رحمه الله تعالى.
ومن تصانيفه كتاب بداهة المتحفز وعجالة المتوفز وكتاب زاد المسافر الذي عارضه ابن الأبار بكتاب تحفة القادم ومات معتبطاً ولم يبلغ الأربعين، وتولى أبوه الصلاة عليه (1) .
ومن شعره:
يا حسنه والحسن بعض صفاته ... والسحر مقصور على حركاته
بدر لو أن البدر قيل له اقترح ... أملاً لقال أكون من هالاته
والخال ينقط في صحيفة خده ... ما خط حبر الصدغ من نوناته
وإذا هلال الأفق قابل وجهه ... أبصرته كالشكلفي مرآته
عبثت بقلب محبه لحظاته ... يا رب لا تعتب على لحظاته
ركب المآثم في انتهاب نفوسنا ... فالله يجعلهن من حسناته
ما زلت أخطب للزمان وصاله ... حتى دنا والبعد من عاداته
فغفرت ذنب الدهر منه بليلةٍ ... غطت على ما كان من زلاته
غفل الرقيب فنلت منه نظرةً ... يا ليته لو دام في غفلاته
ضاجعته والليل يذكي تحته ... نارين من نفسي ومن وجناته
بتنا نشعشع والعفاف نديمنا ... خمرين من غزلي ومن كلماته
حتى إذا ولع الكرى بجفونه ... وامتد في عضدي طوع سناته
أوثقته في ساعدي لأنه ... ظبي خشيت عليه من فلتاته
فضممته ضم البخيل لماله ... يحنو عليه من جميع جهاته
عزم الغرام علي في تقبيله ... فنقضت أيدي الطوع في عزماته
وأبى عفافي أن يقبل (2) ثغره ... والقلب مطوي على جمراته
فاعجب لملتهب الجوانح غلةً ... يشكو الظما والماء في لهواته
وقال من قصيدة:
حكمتم (1) زمناً لولا اعتدالكم ... في حكمكم لم يكن في الحكم يعتدل
فإنما أنتم في أنفه شمم ... وإنما أنتم في طرفه كحل منها:
يرى اعتناق العوالي في الوغى غزلاً ... لأن خرصانها من فوقها مقل
وقال أيضاً:
أحمى الهوى قلبه وأوقد ... فهو على أن يموت أو قد
وقال عنه العزول سالٍ ... قلده الله ما تقلد
وباللوى شادن عليه ... جيد غزالٍ ووجه فرقد
علله ريقه بخمر ... حتى انثنى (2) طرفه وعربد
لا تعجبوا لانهزام صبري ... فجيش أجفانه مؤيد
أنا له كالذي تمنى ... عبد، نعم عبده وأزيد
له علي امتثال أمرٍ ... ولي عليه الجفاء والصد
إن بسملت عينه لقتلي ... صلى فؤادي على محمد
وعارضها شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري - الآتي ذكره في حرف العين إن شاء الله تعالى - بقصيدة بديعة وهي:
ويلاه من غمضي المشرد ... فيك ومن دمعي المردد
يا كامل الحسن ليس يطفي ... ناري سوى ريقك المبرد
يا بدر تم إذا تجلى ... لم يبق عذراً لمن تجلد
أبديت من حالي المورى ... لما بدا خدك المورد
رفقاً بولهان مستهامٍ ... أقامه وجده وأقعد
مجتهداً في رضاك عنه ... وأنت في إثمه المقلد
ليس له منزل بأرضٍ ... عنك ولا في السماء مصعد
قيدته في الهوى فتمم ... واكتب على قيده مخلد
بان الصبا عنه فالتصابي ... أنشأ أطرابه فأنشد
من لي بطفل حديث سحر ... بابل عن ناظريه يسند
شتت عني نظام عقلي ... تشتيت ثغرٍ له منضد
لو اهتدى لائمي عليه ... ناح على نفسه وعدد
أكسبني نشوةً بطرفٍ ... سكرت من خمره فعربد
لا سهم لي في سديد رأي ... يحرس من سهمه المسدد
غصن نقاً حل عقد صبري ... بلين خصرٍ يكاد يعقد
فمن رأى ذلك الوشاح الص ... ائم صلى على محمد
خير نبي نبيه قدر ... عودي إلى المدح فيه أحمد
ومن ها هنا خلص إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن شعر صفوان:
والسرحة الغناء قد قبضت بها ... كف النسيم على لواء أخضر
وكأن شكل الغيم منجل فضةٍ ... يرمي على الآفاق رطب الجوهر
وقال:
وكأنما أغصانها أجيادها ... قد قلدت بلآلئ الأنوار
ما جاءها نفس الصبا مستجدياً ... إلا رمت بدارهم الأزهار
وقال في مليح يرمي نارنجاً في بركة:
وشادنٍ ذي غنجٍ دله ... يروقنا طوراً وطوراً يروع
يقذف بالنارنج في بركة ... كلاطخ بالدم سرد الدروع
كأنها أكباد عشاقه ... يقذفها في لج بحر الدموع وقال:
أولع من طرفه بحتفي ... هل يعجب السيف للقتيل
تهيبوا بالحسام قتلي ... فاخترعوا دعوة الرحيل
 
عبد بني الحسحاس
سحيم عبد بني الحسحاس ابن هند بن سفيان بن نوفل بن عصاب بن كعب بن سعد بن عمرو بن مالك بن ثعلبة بن مروان بن أسد بن خزيمة، يكنى أبا عبد الله. وهو زنجي أسود فصيح، توفي في حدود الأربعين للهجرة، وهو القائل:
أشعار عبد بني الحسحاس قمن له ... عند الفخار مقام الأصل والورق
إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق عن ابن سلام قال: أتي عثمان بن عفان رضي الله عنه بسحيم فأعجب به، فقيل له: إنه شاعر، وأرادوا يرغبوه فيه فقال: لا حاجة لي به، إن (1) الشاعر لا حريم له، إن شبع شبب بنساء أهله وإن جاع هجاهم، فاشتراه غيره، فلما رحل به قال في طريقه، وكان الذي اشتراه رجلاً من نجد والذي باعه مالك الحسحاسي :
وما كان ظني مالكي أن يبيعني ... بمال ولو أضحت أنامله صفرا
أشواقاً ولم تمض لنا غير ليلةٍ ... فكيف إذا سار المطي بنا عشرا
أخوكم ومولى ما لكم وربيبكم ... ومن قدر بي معكم وعاشركم دهرا
فلما بلغهم شعره رقوا له واشتروه، فأخذ حينئذ يشبب بنسائهم ويذكر أخت مولاه، فمن قوله فيها وكانت مريضة :
ماذا يريد السقام من قمرٍ ... كل جمالٍ لوجهه تبع
ما يرتجي خاب من محاسنها ... أما له في القباح متسع
غير من لونها وصفرتها ... فارتد فيه الجمال والبدع
لو كان يبغي الفداء قلت له ... ها أنا دون الحبيب يا وجع
وعن المدائني قال: كان سحيم يسمى حية، وكانت لسيده بنت بكر، فأعجبه جمالها وأعجبته، فأمرته أن يتمارض ففعل، وعصب رأسه، فقالت للشيخ: اسرح أيها الشيخ بإبلك لا تكلها إلى العبد، فكان فيها أياماً، ويجتمعان، ثم إن سيده قال له: كيف أنت؟ قال: صالح، قال: فاخرج في إبلك العشية، فراح فيها، فقالت الجارية لأبيها: ما أحسبك إلا قد ضيعت إبلك إذ وكلتها إلى حية! فخرج في آثار إبله، فوجده مستلقياً على قفاه في ظل شجرة، وهو يقول :
يا رب شجوٍ لك في الحاضر ... تذكرها وأنت في الصادر
من كل بيضاء لها كعثب ... مثل سنام البكرة المائر
فقال الشيخ: إن لهذا شأناً، وانصرف فقال لقومه: اعلموا أن هذا قد فضحكم، وأنشدهم شعره فقالوا: اقتله فنحن طوعك، فلما جاء وثبوا عليه فقالوا له: قلت وفعلت، فقال لهم: يا أهل الماء والله ما فيكم امرأة إلا أصبتها إلا فلانة فإني على موعد منها، فلما قدموه ليقتل قال :
شدوا وثاق العبد لا يفلتكم ... إن الحياة من الممات قريب
فلقد تحدر من جبين فتاتكم ... عرق على جنب الفراش وطيب
فقتلوه. وكان سحيم في لسانه عجمة.
 
وجيه الدين المناوي
ضيا بن عبد الكريم، وجيه الدين المناوي؛ قال الشيخ العلامة أثير الدين أبو حيان إنه كان عنده علم بالطب والأدب، وكان أصم، رأيته بالقاهرة وجالسته بالمشهد، وأنشدي من شعره مقطعات، فمن ذلك قوله:
بروحي معبود الجمال فما له ... شبيه ولا في حبه لي لائم
تثنى فمات الغصن من حسدٍ به ... ألم تره ناحت عليه الحمائم
وله:
من كان يشكو في الفؤاد حرارة ... فعليه بالعطار غير مقصر
في ثغره ماء اللسان مروق ... عطر وفي وجناته الورد الطري
وله:
لا غرو أن صاد قلبي ... هذا الغزال الربيب
أشراك جفنيه هدب ... بها تصاد القلوب
وفيه أوصاف حسنٍ ... يروق فيها النسيب
فطرفه المتنبي ... بالسحر وهو حبيب وله أيضاً:
قربت كأس الراح من خده ... أزف معطاراً لمعطار
قال لي الندمان هذا الذي ... يسعى إلى الجنة بالنار
وله أيضاً:
سألت الغصن لم تعرى شتاءً ... وتبدو في الربيع وأنت كاسي
فقال لي الربيع على قدوم ... خلعت على البشير به لباسي
وقال:
قد دبق القلب بدبوقه ... وجن منها قهو مفتون
واعجبا للحب من فعله ... بشعرةٍ قيد مجنون
وقال:
جاء من لحظه بسحرٍ مبين ... بفتور من جفنه وفنون
وثنى قده الصبا في تثني ... هـ فوا خجلة القنا والغصون
قمر بعت في هواه رشادي ... بضلالٍ ولست بالمغبون
لا عجيب أني ضللت بليل الش ... عر لكن تيهي بصبح الجبين
فيه ما تشتهي النفوس من الحس ... ن وتلتذه لحاظ العيون
سال دمعي إذ سال في خد من أه ... وى عذار كالمسك للتزيين
فعجبنا من سائلين غني ... بنضار وسائلٍ مسكين
ويك يا سعد ذر قديم حديثٍ ... عن أناسٍ وخذ حديث شجون
كل حسن النام دون الذي أه ... وى وكل العشاق في الحب دوني
قسماً بالقدود مالت من التي ... هـ وما في أغصانها من لين
وسهام الألحاظ ترمي بها الأص ... داغ عن قوس حاجبٍ كالنون
ودلال الحبيب والوصل والتي ... هـ وحكم الهوى بها من يمين
لا تناسيت بالملام عهوداً ... أحكمت عقدها علي يميني
لو تناسيتها لضاق مجالي ... في اعتذاري إلى وفاء ودين
 
طلحة النعماني
طلحة بن محمد بن طلحة النعماني أبو محمد، من أهل النعمانية ؛ كان فاضلاً عارفاً باللغة والأدب والشعر، ورد إلى بغداد وخرج منها إلى خراسان وأقام ببلادها مدة.
قال ياقوت في معجم الأدباء: سمعت أبا عمرو عثمان ابن البقال بخوارزم يقول: كنت أنا والشيخ أبو محمد طلحة نمشي ذات يوم في السوق، فاستقبلنا عجلة عليها حمار ميت يحمله الدباغون إلى الصحراء ليسلخوا جلده، فقلت أنا:
يا حاملاً صرت محمولاً على عجله ... وافاك موتك منتاباً على عجله
ومضت على ذلك أيام قلائل، فلقيني السيد أبو القاسم الفخر ابن محمد الزيدي فحكيت له هذه القصة، ففكر ساعة وقال:
والموت لا تتخطى الحي رميته ... ولو تبطأ عنه الحي أزعج له
ومن شعر النعماني:
ألقت قناع الحسن بعد شماس ... ورنت بناظرتي مهاة كناس
عبث الدلال بعطفها فتمايلت ... عبث النسيم بناعم مياس
فرأيت غصن البان يثنيه الصبا ... من فوق حقف الرملة الميعاس
منها في المديح:
الجاعل الأموال جنة عرضه ... والمستعان به على الإفلاس
عرفت فضائله بعرف نجاره ... والزند يعرف من سنا المقباس
وأورد له محب الدين ابن النجار في تاريخه:
صد بعد اللقا وأبدى القطيعة ... من غدا قلب كل صبٍ مطيعه
شادن مقلتاه غربا حسامٍ ... جفنه الجفر والحجاج القبيعه
كل وقت تبدي اللواحظ منه ... غارةً في القلوب جد فظيعه
كم أسالت من جفن صب محب ... حين أصمته دمعه ونجيعه
خدعة حربه تراه إذا را ... م قلوب العشاق أبدى الخديعه
أظمأ الخصر منه ردف ثقيل ... ضامن أن يذيبه ويجيعه
لفع الحسن وجهه وكساه ... حلةً زان وشيها تلفيعه
كم نهيت الدموع في ساعة التو ... ديع أن تظهر الهوى وتذيعه
كان يدني الخيال والليل قد ج ... ر إلى الصبح قطعه وهزيعه
يا بديع الجمال في كل يومٍ ... فعلة منك بالقلوب بديعه
تنفث السحر إن نظرت بطرف ... لا يداوي الدرياق عجز اللسيعه
أقسمت مقلتاك بالغنج منها ... أنها لا تقيل قط صريعه
رب ليلٍ قطعته بك لهواً ... آمناً من تفرقٍ وقطيعه
غار بدر السماء لما رآني ... لاثماً شبه وجهه وضجيعه
قال العماد الكاتب: ورد طلحة هذا إلى البصرة في زمان الحريري صاحب المقامات، وكتب إليه رسالته السينية نظماً ونثراً، وكانت وفاته بعد العشرين والخمسمائة، رحمه الله تعالى وإيانا.
 
أعلى